تاريــــــــــــــــخ الطــــــيـــــــــــــران

المتألق

الي جنة الخلد ان شاءالله
عضو مميز
إنضم
14 يوليو 2008
المشاركات
844
التفاعل
12 0 0
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إلى كل من يعشق الطيارين تفضل​

1-
المعلق:
لم يكن العالم العربي المسلم "عباس بن فرناس" أخر إنسان جرب التحليق في الجو متشبهًا بالطير، ففي السادس من فبراير عام 1912 ومن على حافة المستوى الأول من برج "إيفل" في "باريس" قفز النمساوي "ريتشارد" الحالم بأن يكون أول رجل طائر، وفي ظرف دقائق تحطم الحلم حين ارتطم بالأرض محدثًا ثقبًا عمقه أربعة عشر سنتيمترًا.
أصبح الشاب "ألن ديفين" بطل الطيران الحر.. "إيكار" الجديد تيمنًا بـ"إيكار" الذي صار أسطورة التحليق منذ زمن بعيد، حين فكر مع والده بالهرب من سجن أحد معسكرات "بالي" المحصنة، وذلك بتثبيت أجنحة من الريش على سواعدهما بواسطة الشمع والهرب تحليقًا في الجو.
"إيكار" المسكون بفرحة التحليق في الجو سقط في البحر؛ حيث أذابت الشمس الشمع المثبت للجناحين، أما والده "جيبال" فقد عدل عن الفكرة ونال حريته بعد سنوات، وكانت هذه قصة "إيكار" الذي يعتبره البعض الضحية الأولى للطيران.
إن سر البطولة في فكرة الطيران هو حلم التحليق.. تحليق الإنسان الثقيل وهو على الأرض، وظلت الأفكار تدور حول تقليد الطائر، كل المحاولات الأولى والابتكارات كانت زاخرة بالغرابة، فالمخترعون منهم من وُصف بالمخبول، ومنهم من طال ذكره، ومنهم من لفه النسيان.
سجل التاريخ محاولات وأفكار الرسام الكبير "ليوناردو دافنشي" صاحب الخيال الفذ؛ حيث رسم جسمًا غريبًا طيارًا بعد دراسته لطائر الخفاش، رسومات "دافنشي" ومجسماته حُفظت في متحف "كلاوس لوس" يحدثنا عنها "جان سان بلو".
جان سان بلو:
إنها آلة غريبة لاحظوا الأجنحة. إنها مستوحاة من طائر الخفاش، إنه نظام الطيران بواسطة الأجنحة الخفاقة، فقد قال "دافنشي": يرفرف الطائر بأجنحته فيطير، فلماذا لا يفعل الإنسان ذلك؟!! في هذه الآلة ينبطح الرجل على بطنه، ويحرك بيديه مجموعة بكرات متصلة بأحزمة بدورها ترفع الأجنحة وبضربة من القدم فإن الأجنحة تهبط.
المعلق:
قام أحد الحرفيين الانجليز بإعادة تصنيع تلك الآلة المصممة عام 1495 كانت النتيجة أن "ليوناردو دافنشي" لم يجد الحل.
جان سان لو:
جرت بعد ذلك ثلاث محاولات مدهشة: الأولى: قام بها أحد الرهبان؛ حيث ابتكر مركبًا بأربع كرات من النحاس متصورًا أنه بإفراغ الكرات من الهواء سيرتفع المركب ذو الشراع والمجاديف، كان يأمل بالنجاح معتمدًا على أن وزن المركب سيكون أخف من الهواء.
المعلق:
"لويس السادس عشر" وفي قصر "فيرساي" حضر عرضًا لآلة جديدة كليًا، كثيرون شككوا بنجاحها؛ لأنها مصنوعة من الورق، أما أصحاب التجربة فهم الإخوة "ميلكو ليفييه"، والآلة هي "المنطاد".
جان سان لو:
كان المنطاد شيئًا غير مألوف كرة من أسفلها نسخن الهواء الذي بداخلها، والهواء الساخن أقل وزنًا من الهواء البارد، وبالتالي يرتفع المنطاد.
المعلق:
فضل الإخوة "ميلكو ليفييه" أن يرسلوا في الرحلة الأولى خروفًا وبطة وديكًا، ولما نجحت التجربة فكروا أن تتم بإرسال إنسان.
جان سان لو:
المتطوعان لأول رحلة جوية عبر التاريخ كانا "بلاترو دي توريزييه" و"ماركيز أريندا". وصل الجميع إلى منطقة قصر "ديلومايات". المنطاد جاهز وحالة الفرح تعم الجميع، حملا معهما ما يحتاجان من قش وصوف؛ وذلك لعملية الاحتراق. صعدا إلى المنطاد كما أفعل أنا الآن.
أشعلا جهاز احتراق الغاز واستمرا في وضع القش، فارتفع المنطاد منطلقًا في سماء "باريس"، والناس تسمروا في أماكنهم ذعرًا ودهشة فيما تساءل "ماركيز أريندا" لماذا هم كذلك؟! أخرج منديله الأبيض ولوح به فتحركت الجماهير. نظرات الذهول الصادرة عن "بلاترو" و"ماركيز أريندا" وهما أول من شاهد الأرض من عال ستتحقق للآلاف من ملاحي الجو بعدهم، لكن الذي وُلد الآن شيء آخر، إنها قصة البالونات.. المناطيد، إنها فكرة الشيء الأقل وزنًا من الهواء.
المعلق:
القرن التاسع عشر فُتن بقصة "الخمسة أسابيع في المنطاد"، بينما السيد "جول بارن" كان يحلم بالشيء الأثقل من الهواء، "الوابور الفاتح" سيطر على العالم بواسطة السفينة الطائرة.
شهد القرن التاسع عشر جهودًا كبيرة في التحليق، وكان الجهد منصبًا على الآلة الأثقل من الهواء. إنه عصر الآلات والآلة المطلوبة هي الطائرة، جميع الأبحاث والدراسات حُفظت في متحف الطيران في "باريس" حتى تلك المجسمات والنماذج القديمة والغريبة، من هذه النماذج "أريان" للانجليزي "ويليام هانسون" الذي طور الأفكار حول البنية والشكل واهتم بالزخرفة عام 1847.
دراسات حول الأجنحة قام بها عديدون الفرنسي "فليكس دي دومييه" عام 1857، والروسي "تير شاف" 1867، والضابط "رونارد" الذي تصور بأن زيادة الأجنحة أفضل وأثبتت التجارب لاحقًا أن هذه النظرية ليست صحيحة، مآسيً كثيرة سببتها هذه التجارب. "ألفونس بينو" وجد الحل في مروحية على شكل قطار مموه لم يسمع له أحد، فانتحر وهو في الثلاثين من عمره عام 1880.
إذًا من كان أول من حلق؟! الروس يؤكدون أنه "جاسكي" عام 1884 بآلة صنعها بنفسه، بالنسبة للفرنسيين كان "إيدار" أول من حلق عام 1890.
جان سان لو:
إنها أول طائرة نجحت في الإقلاع عن الأرض وعلى متنها طيار.
المعلق:
أمتأكد؟
جان سان لو:
نعم لا شك.
المعلق:
أكد لنا هذا أحد الرجال القدامى، مدير متحف "باريس" للطيران الجنرال "لي ساراك".
لي ساراك:
لقد اختار الشكل المقارب للخفاش، ولا أعرف السبب، تلاحظون هنا شكلاً يشبه أصابع اليد، أربعة مع الإبهام، مثني هنا إلى الداخل في الخلف هناك شيء يشبه الكتف، هذا الجزء قريب من متوازي الأضلاع قابل للثني.

المعلق:
هل كان هذا جديًا أم لا؟ على كل "إيدار" كان مهندسًا ميكانيكيًا مميزًا. "كليمان أيدار" مخترع عبقري تذكروه عندما ترفعون سماعة الهاتف، فاختراعها يعود له، كان مبدعًا بخيال خلاق، هذا جسم الآلة الوطواط أعده المهندس "شامسونج" والتي جُربت في قصر "أرماند دي ليه" في التاسع من أكتوبر عام 1890 قرب "باريس".
لم يكن المحرك العادي قد عُرف فقام "إيدار" بصنع محرك بخاري صغير رباعي الاسطوانات وبقوة عشرين حصانًا وهيكل مقاوم للصدمات، قام "إيدار" وأمام المشاهدين بالإقلاع بآلته لمسافة خمسين مترًا ولارتفاع سنتيمترات عن الأرض، ولم تكن التجربة ناجحة.
بعد سبع سنوات من العمل المتواصل قدم "إيدار" آلته الطموحة بمحركين وجهازين بخاريين بقوة عشرين حصانًا، عرضها ستة عشر مترًا، ووزنها أربع مائة كيلو جرام فقط.
في الرابع عشر من أكتوبر عام 1897 في معسكر "ساتوري" قام "إيدار" بعرض آلته على الجيش الفرنسي، كانت هذه التجربة آخر فرصة له لتمويل مشروعه من الجيش الفرنسي، حيث قال: سيكون سيد العالم من سيكون سيد الطيران؟
شغل المحرك البخاري والمراوح التي تشبه ريش طائر غريب، خلال لحظات من بدء التجربة في الخامسة والربع فشلت تجربته؛ إذ أقلع لمسافة ثلاثمائة متر، وبالطبع رفضت وزارة الدفاع المشروع.
مجسم تلك الآلة الوطواط موجود في مركز العلوم بمعهد الفنون والمهن، ووجوده ليس مربوطًا بنجاحه أو عدم نجاحه؛ إذ يعتبر محاولة لدفع الأمور بطريقة خاصة، اتضحت بتدشينه آلته بنفسه وهذا شيء رائع.
بعد "إيدار" وفي نهاية القرن التاسع عشر، أتت الطائرات الشراعية على يد السيد "أوتي ليليان تال" الذي وصفه "ألان أيفينيج": بأنه الجد الأول لكل الرجال الذين طاروا.
ألان أيفينينج:
إن أول من راودته الفكرة العبقرية في طرح السؤال الوجيه: لا تسأل كيف تطير الطيور، بل لماذا تطير الطيور؟ هو "أوتي ليليان تال" والذي كان قد صنع عام 1891 آلة تشبه إلى حد بعيد هذه الآلة بمساحة عشرين مترًا وعلى شكل دلتا، صنعها بعد دراسات مضنية وبعد أن طرح سؤاله الذكي: لماذا تطير الطيور؟ لقد وجد الجواب على سؤاله حين قد راقب الطيور.
طائرات الألماني "ليليان تال" الشراعية، وطائرات الفرنسي "يوبان".. وضعت التصور الذي سيُستخدم لاحقًا في الطيران. إنه تقدم نوعي في نفس الوقت الذي حصل فيه تقدم في صناعة المحرك بطاقة الاحتراق، فمع هذين الاكتشافين ظهر الطيران إلى الوجود.
الأمريكي "صامويل لانكلي" أول من وضع محركًا بطاقة الاحتراق على آلة بهيكل جديد عام 1902 بعدها جرب آلته ذات المحرك بقوة خمسين حصانًا وبخمس اسطوانات.
الان ايفينينج:
قام بتجربة آلة تشبه الطائرة القاذفة وضعها على شيء يشبه الزورق، وعلى سطح مياه النهر، كانت فكرة غريبة لاعتقاده بأن الخسائر تكون أقل في حالة السقوط في الماء، انطلق فوق نهر "بوتوما" وسقط، وهذا لا يعتبر طيرانًا أبدًا.
المعلق:
أصبحنا قاب قوسين من الهدف، ففي "أمريكا" وهنا على شاطئ الأطلسي أقام اثنان من رواد الطيران هما الأخوان "رايت"، اختارا قرية الصيادين هذه "كيتي هوك" شمال "كارولينا"؛ حيث المناطق الحرجية، والأرض الرملية المنحدرة، والرياح القوية. أجل المخترعان النشطان مشروعهما لاختراع الدراجة الهوائية إلى الشتاء وعسكرا في هذا الكوخ الصغير.
لم يتغير شيء منذ عام 1903 جاءا للإقامة هنا، ولم تكن الحياة مريحة، عملا بجد دون كلل، كانا محاصرين بالمجهول وبمشاكل كثيرة تتطلب الحل تحت ضغط هاجس الخوف أن يصل غيرهما إلى الحل فيقعان في مشاكل كبيرة مع الصحف العالمية التي زوداها بمعلومات عن هذا المشروع. يريدان السبق أن يكونا أول من يطير بطائرة حقيقية بمحرك حقيقي داخل شيء مميز صغير في طريقه إلى الوجود لم يشاهد من قبل، إنه شيء جديد.
نحن الآن في ديسمبر 1903 إنهما ذاهبان لتجربة آلتهما. "ويلبر رايت" ستة وثلاثون عامًا وهو الأكبر يشارك أخاه "أوريفال" ذا الاثنين وثلاثين عامًا في كل شيء وهو ذو مستوى تقني هندسي مميز.
لنستمع إلى "أوريفال" على لسان الأمريكي "هابر هارد" الذي سخر حياته لدراسة ذكريات عائلة "رايت"، ارتدى بزة "أوريفال" وسيحدثنا عن الذي قاله "أوريفال" شخصيًا.
هابر هارد:
أنجزنا آلتنا عام 1903 في شهر ديسمبر، ستشاهدونها كيف كانت، هذه هي.. الشكل العام هو نفسه منذ ذلك العام، الجديد الذي طرأ عليها هو المحرك ذو الأربع اسطوانات، وبقوة اثني عشر حصانًا، ويزن ثمانين كيلو جرامًا، لم يكن محركًا جيدًا، ولم يزودنا أحد بأفضل منه؛ لذا قمنا بتصنيعه بأنفسنا. "الرادياتير" يسكب الماء لتبريد المحرك، لم تكن وسيلة ناجحة، وكاحتياط وضعنا خزان وقود إضافيًا وتلك الاسطوانة تحتوي على لترين من البترول؛ لزيادة وقت الطيران. المراوح في مؤخرة الطائرة تدور باتجاهات متعاكسة لاعتقادنا بأن هذا يساعد في جعل الطائرة مستقرة، تلاحظون تلك السلسلة. إنها تحول حركة المراوح إلى حركة معكوسة.
سأصعد إلى الآلة؛ لأشرح لكم عن بعض الأجهزة، عمومًا هو النظام نفسه الذي استنبطاه من الطائرة الشراعية، التحرك صعب بسبب هذه الأسلاك، كما تشاهدون لم يكن هناك مقعد على طائرتنا الأولى، بل يتم الطيران والجسم في حالة انبطاح، العتلات في هذه الوضعية بحركة صغيرة نغير وضعية الأجنحة ونحرك المقود الموجود خلفي.
حان الإقلاع.. هذا هو المدرج الذي ستقلع الطائرة منه في جو من الهواء، الذي يهب قويًا من الشمال الشرقي. الطقس بارد طبقة من الجليد تغطي الأرض. فكرنا بتأجيل المحاولة إلى وقت آخر، بانتظار تحسن الأحوال الجوية، لكننا في السابع عشر من ديسمبر والأعياد على الأبواب ولا بد من العودة إلى "بيتوك" لقضاء العطلة مع العائلة.
أخرجنا الطائرة، وفحصنا كل شيء، وأجرينا قرعة لتحديد من منا سيطير أولاً، كنت أنا أول من يطير. تشاهدون الآن الآلة على المدرج ستقلع بهذا الاتجاه، هذا أنا وتأكدت من كل شيء قبل الصعود، هنا أخي "والبر" الذي وضع الطائرة في الوضعية الصحيحة. قام بمساعدتنا بعض الأشخاص الذين يعملون في محطة الإنقاذ البحري، ومن بينهم السيد "دوف" والسيد "جوني مور"، وأحد أصدقائي السيد "جون دانييل" الذي تشاهدونه يحمل آلة التصوير خاصتي.
هذه الصورة التقطها حين كانت الطائرة تقلع ثم أسرع حيث المكان الذي وضع فيه هذا التذكار المنحوت من الصوان، حيث أقلعت الطائرة في ذلك الوقت.
المعلق:
كانت المرة الأولى في تاريخ العالم التي تستطيع فيها آلة وزنها أثقل من الهواء بمحرك وطيار أن ترتفع عن الأرض أن تطير، تاريخ الطيران بدأ عندها.
أول تحليق للطائرة كان في السابع عشر من ديسمبر عام 1903 ولم يدم هذا التحليق التاريخي إلا اثنتي عشرة ثانية لمسافة ستة وثلاثين مترًا، بعد عشرين دقيقة قام "ويلبر" بمحاولة قطع فيها ثلاثة وخمسين مترًا، المحاولة الثالثة نفذها "أوريفال" وتجاوزت ستين مترًا، وعند الظهيرة قام "ويلبر" بمحاولة استمرت تسع وخمسين ثانية، قطع خلالها مائتين وستين مترًا. وهذا كان كل شي لهذه الطائرة التي صنعها الأخوان "رايت"، واستحقت اسم "فلاير"، لكنها لم تحلق أكثر من سبع وتسعين ثانية إجمالاً.
في السنوات الخمس التالية عمل الأخوان "رايت" بلا كلل على تحسين آلاتهما؛ حيث توصلا إلى الطراز الأحدث وأسمياه "فلاير 3" كان طرازًا عمليًا متقنًا، لكن الأمريكيين لم يكترثوا لهما، فتوجها إلى الدولة التي سيصبحان فيها الأكثر شهرة.. "فرنسا".
عام 1908 وفي معسكر "أفور" قرب "مانس" قام "ويلبر" بعروض للطائرة "فلير 3"، الفرنسيون استهوتهم الآلة، وراقبوا أدق تفاصيل التحضير بدءًا من وصول الآلة إلى تجهيز المدرج وتثبيتها في حالة توازن، الشيء الجديد الذي ميز هذه التجربة هو السقالة التي تساعد الطائرة على الإقلاع.
قام "ويلبر" بأول طلعة حقق من خلالها ولأول مرة ارتفاع مائة متر، في السنة التالية قام ملك إيطاليا "فيكتور إيمانويل" بحضور العرض الذي أقامه "ويلبر رايت" قرب "روما"، شيء جديد حدث أيضًا لأول مرة، إنه صعود مصور صحفي على متن الطائرة، موضوع نادر يحصل لأول مرة التقاط صورة من الجو تظهر العمق السحيق وتظهر الأرض من السماء.
بعدها تلقى الأخوان "رايت" نبأ وفاة واحد من أكبر ممهدي الطريق للطيران، إنه الكابتن "فيرناند فيربر" صديقهما. لا نستطيع قول ما يكفي عما قدمه "فيربر" للطيران، فهو كما الأخوان "رايت" من تلاميذ "ليليان تال" و"شانوت".
المزيد عن الطيران والتحليق، وعن "فيربر"؛ سنعرفه في الحلقة القادمة بإذن الله..
__________________________________-
2-

المعلق:
توقفنا في الحلقة السابقة عند "فيرناند فيربار" صديق الأخوان "رايت"، وتلميذ "ليليان تال" و"شانوت".. خريج مدرسة الهندسة والمدفعية، وهو صاحب أسلوب علمي ميز به بدايات الطيران. طار على متن الطائرات الشراعية منذ عام 1901 متنقلاً من طراز إلى آخر، أقلع للمرة الأولى من أوروبا على متن طائرة بمحرك عام 1905.
وكانت تجاربه ارتبطت بإحدى الشخصيات المدهشة من الأغنياء البرازيليين المقيمين في "فرنسا" والمدعو "سانتوس دومو"، وهو ابن ملك القهوة. توصل عام 1906 إلى الآلة الأثقل من الهواء، وبما أنه شخصية مميزة فلن يقدم إلا الشيء المميز؛ لهذا لم تكن طائرته كبقية الطائرات.
سانتوس دومو:
الطائرة التي تشاهدونها هنا تسير باتجاهنا، المؤخرة هناك حيث المراوح هذا يعني أن المحرك ذو دفع أمامي، موقع الملاح في المقعد الذي يشبه السلة هناك. إنها حجرة التحكم بالآلة والطيار في داخلها.
المعلق:
حقق "سانتوس" هدفه في الثالث والعشرين من أكتوبر عام 1906 وحقق في الثاني عشر من نوفمبر ثلاثة أرقام قياسية مجتمعة، المسافة مائتان وعشرون مترًا، المدة إحدى وعشرون ثانية، والسرعة واحد وأربعون كيلو مترًا في الساعة، لكن الطائرة لم تكن ثابتة وبالتالي لم تكن الحل الأمثل.
لم يُحبط "سانتوس" أكثر عندما تأكد أن الأمور لن تسير على ما يرام، بل أوقف العمل في تلك الطائرة نهائيًا، لكنه أخذ محركها وصنع آلة أخرى مختلفة كليًا، وكل الاعتقاد بأنه توصل إلى نتائج أفضل.
إنها طائرة "دي موازيل" صغيرة ومسطحة بعرض خمسة أمتار، وطول ثمانية أمتار، وبقوة خمسة وثلاثين حصانًا. أفكار "سانتوس" أُخذت في الحسبان رغم غرابتها في عالم الطيران، نجحت الطائرة إلى حد ما، والبرهان على ذلك طيرانها المستمر المنتظم بواسطة الأجنحة التي زودت بها.
لم تكن الطائرة التي صُنعت في "أمريكا" عام 1907 سيئة أبدًا، كذلك استطاع السيد "آل هامر" في "الدنمارك" أن يطور آلته بعد جهد مضني، وقد لوحظ تأثير "سانتوس" في الطائرة التي صنعها الألماني "أندي كرافت" والتي تشبه إلى حد كبير الطائرة "دي موازيل".
عام 1907 و1908 كانا عامرين بأبحاث الطيران في العالم، ففي الولايات المتحدة ظهرت طائرة "جون بوب"، وطائرة "هانتون" والتي كانت باكورة إنتاج منظمة التجارب الأمريكية التي أسستها مجموعة من تجار "نيويورك"؛ لنزع احتكار عائلة "رايت" في هذا المجال، فاستعانوا بمهندس شاب يُدعى "كلينت كاردس" لتأسيس صناعة كبيرة، لكن التجربة الأولى كانت متوسطة النتائج. تعقيدات طائرة "هانتون" جعلت الطيارين يترددون في قيادتهم.
كلينت كارديس:
يجب تحريك هذا المقود إلى الأمام أو سحبه للخلف؛ لجعل الطائرة تصعد وتهبط، وحتى لتحريك الدفة في مؤخرة الطائرة ولجعل الطائرة تجنح إلى اليمين أو إلى اليسار يجب تحريك الأجنحة هكذا، إنها طريقة أطراف الأجنحة، طريقة بدائية.
المعلق:
أنستطيع الطيران بهذه المحركات؟
كلينت كارديس:
سأحاول، الطقس ليس ملائمًا هذا اليوم، الرياح قوية وقد لا أستطيع الارتفاع، ولكنني سأحاول، الطائرة ليست متوازنة تمامًا، وليس من السهل السيطرة عليها.
المعلق:
سميت "هانتون"؛ لأنها كالحشرة تتحرك في كل الاتجاهات، كانت حركة القيادة معقدة، وأول من صوب تلك الحركات هو الفرنسي "روبرت أسنوت بارتوري" جمعها في مقود واحد، وهو عصا القيادة، الذي يحرك الطائرة إلى الأمام والخلف والجانبين، هذا الاكتشاف الجوهري وضعه "أسنوت" على طائرته "هوري" الطائرة أحادية السطح على الخطوط الجديدة.
لم يتقدم الجميع في الاتجاه نفسه، فقد شغل الإقلاع العمودي الباحثين. المهندس "لويس بريكيت" البالغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا تمكن في "فرنسا" من الإقلاع بطائرته المسماة "جيرو كلاف" والتي كانت أقرب إلى دراسة الحصيد منها إلى الهيلكوبتر.
حاول شاب آخر من الرواد الأوائل يُدعى "هنري فابير" من مدينة "مارسي" الطيران على الماء، وذلك باختراعه طائرة مائية تشبه البعوضة وضعها على عوامات.
جرت على نهر السين عام 1905 أول محاولة طيران لطائرة ذات سطحين لها عوامات وبها وسائد بمحرك صنعها شاب فرنسي من مدينة "ليون" مقدام ومبدع، لم توقفه العقبات، يُدعى "كابريان فوزان" كان عمره خمسة وعشرين عامًا.. يتذكر لنا حياة مخترع عبر التاريخ.
كابريان فوزان:
مرت علينا أوقات عصيبة عرفنا فيها طعم الجوع، وكنا إذًا لم نتلق طرود الطعام من إحدى أخواتي -والتي تسكن منطقة "بيري"- كنا نعاني الجوع، استنتجت أنا وأخي بأنه عندما تكون المعدة خاوية، فإن العمل يصبح صعبًا، والحركة تتباطأ، وأعتقد بأن الأعمال الجيدة لا تتم عندما تكون المعدة خاوية؛ لذلك علينا أن نأكل.
المعلق:
لم يمنعه هذا من استمرار العمل مع أخيه "تشارل" وتحقيق أول طلعة إلى مدينة "باكاتيل" في السادس عشر من مارس عام 1907، بعدها حصل الأخوان "فوزان" على دعم مالي لتصنيع طائرة "الهنري فارمان" بطل الدراجات الهوائية وسباق السيارات.
بنظرة العامل المجد، وابتسامته، وحضوره الأكثر رصانة من كل رجال الكاوبوي؛ قام "فارمان" في يناير 1908 وعلى متن طائرته التي صنعها الأخوان "فوزان" لتحقيق دورة كاملة مقفلة في الجو لمسافة كيلو متر.
كابريان فوزان:
أعتقد أننا تعانقنا طويلاً، ولم نعتقد حينها أن نحقق شيئًا غير متوقع.
المعلق:
كانت انطلاقة قوية للأخوين "فوزان"، بعدها قاما بصناعة الطائرة لأحد هواة الطيران الانجليز اللورد "برابازون" والذي سماها الطير المهاجر. ربح "برابازون" جائزة إحدى كبريات الصحف البريطانية "ديلي ميل" والبالغة ألف جنيه في ذلك العصر، والتي خُصصت لمن يقطع أول ميل في دائرة مقفلة.
بعدها أصبحت الجوائز مطمح الجميع، فقد قرر أحد أبطال سباقات السيارات المشهورين ويُدعى "موريس تابوتو" شراء الطائرة. "تابوتو" سجل حديثه حول تلك التجربة بعد أن بلغ من السن مبلغه.
موريس تابوتو:
لا أشعر بالأسى؛ لأنني عاصرت مرحلتين: مرحلة غزو الجو، ومرحلة غزو الفضاء، وهذا حظ ممتاز وتوفيق من الله -تعالى-. هناك اختلافات كبيرة بين غزو الجو وغزو الفضاء، غزو الجو كلف حياة الناس غاليًا، ونال العاملون فيه مالاً وفيرًا، وغزو الفضاء لم يتح فرصًا كثيرة لكسب المال، من حصلوا عليه كانوا قلة، كان أقل تأثيرًا في الناس من غزو الجو، الذين كانوا ينتظرونه منذ أيام "ريكار".
كنا أقرب لرجل الشارع الذي يحلم بالطيران، ولهذا أُنفق المال الوفير، فالجميع مهتم بالطيران، "إنني أريد أن أطير" هذه العبارة نسمعها منذ ألفي عام، لذلك في الواقع كان هناك فرق بين غزو الفضاء وغزو الجو.
المعلق:
نشاهد آلات غريبة كهذه الطائرة التي تُدعى "بريستول بوكسكيت" تحلق فوق السهول الانجليزية ويملكها "فارمان"، الرجل هنا يعرف كيف يحلق ويهبط، يتحرك في الهواء، ويدور حول البنايات.
"تابوتو" حدثنا عن النقود، بينما "ديزمون بيل روز" ملاح تلك الآلة لا يبغي إلا السعادة.
ديزمون بيل روز:
إن التحليق في الجو شيء خلاب. إنه تحليق حقيقي؛ لأن الطيار يطير في الهواء الطلق على سرعة خمسين كيلو مترًا في الساعة، حيث يلتحم بالطبيعة ومع الطيور. في الحقيقة كان ينتابني دائمًا قليل من الخوف، لم يمنع هذا من أن البعض مات، كان أولهم في مجال الطيران الملازم "سالبري" عام 1908 في "أمريكا"، وبعده توفي ثلاثة عام 1909، وتسعة وعشرون شخصًا عام 1910.. التقدم يكلف غاليًا، خاصة عندما تلوح في الأفق فائدة، بدأت المصانع الصغيرة تظهر مجموعات حرفيين وعمال ذوي خبرات متعددة، خاصة في فرنسا، حيث ظهر الآلاف من المشدودين إلى مجال الميكانيكا.
قسم كبير من صناعة الطيران نشأ في منطقة "بورت مالوت"، و"بيلا ريت" كان يبيع المصابيح في شارع "دورات"، "كاروس" كان يبيع السيارات في شارع "جراند أرمي"، "فارمان هنري" كان يفعل نفس الشيء وشقيقه يبيع السيارات، ولكن في جادة "باريان"، "موران" يبيع السيارات المستعملة هناك أيضًا، "نيو بول" يبيع سيارات مستعملة، جميع هؤلاء نشأوا في "بورت مالوت".
***************************************************​
المعلق:
في "أمريكا" نال "كلينت كيرتيس" المرتبة المميزة مع مجموعة من محبي الطيران، قام بصناعة طائرة جديدة أسماها "كيرتيس بوشير"، ذات محرك دفع أمامي، كعادته قادها بنفسه في أول طلعة، سيقودها اليوم بدلاً منه المزارع "دالي كريكاس" من "ويسكانسون"، وهو الذي سهر الليالي ليصنع من جديد تلك الآلة التي قادها دون صعوبة.
كان "كيرتس" قلقًا من كيفية الإثبات للأوربيين من أنه يستطيع أن يقدم الأفضل، حلم باختبار العصر، وهو أن يقطع بحر "المانش"؛ حيث قدمت "الديلي ميل" جائزة بقيمة خمسة وعشرين ألف فرانك ذهب، المنافس الأخطر كان السيد "لاتان" بطائرته "أنطوانيت" ويبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، وهو وسيم وغني.
دخل معظم السباقات العنيفة بشكل مجنون، كسب من السيارات، وصيد الحيوانات المتوحشة، والطيران. حصل على مساندة قوية من "يولني باباسور" أحد المصنعين العباقرة والذي وضع في الخدمة أول محرك فرنسي هو المحرك "أنطوانيت" بقوة خمسين حصانًا، "أنطوانيت" هو اسم ابنة ممول المشروع السيد "كاستين كيرت".
كان "لاتان" في الأول من يوليو 1909 جاهزًا ليقوم بمحاولته قرب منطقة "كالي" برفقة بعض الفضوليين، أقلع في السابع عشر من يوليو عند الفجر على متن "أنطوانيت" فوق بحر "المانش"، وبعد عشر دقائق كان "لاتان" وآماله في البحر وتم التقاطه. توفي "لاتان" بعد سنوات متأثرًا بجروح في بطنه أصابه بها جاموس بري؛ وذلك أثناء رحلة صيد في "الكونغو".
تعلقت أمال الفرنسيين بـ"لويس بلاريوت" صانع مصابيح السيارات، كانت آماله شفافة، ابن السبعة والثلاثين عامًا شاهدوه وهو يجرب آلته المبنية من الخشب والورق والتي تُدعى "بلاريوت". نجح في الارتفاع إلى ستين مترًا في العاشر من أغسطس عام 1907 وفي السابع عشر من سبتمبر حقق مائة وأربعة وثمانين مترًا، وفي نوفمبر تحطم، لكنه صعد على عكازيه إلى طائرته يوم الواحد والعشرين من يوليو 1909 في منطقة "كالي".
"جان ساليس" وصديقه "مارسيل" أمامكم، "جان ساليس" الذي على يمين شاشتكم سخر حياته لصنع الطائرات الأكثر شهرة، وليصنع سرب الذكريات أعاد هنا الطائرة "بلاريوت 6" إلى مزرعة "كرينو" قرب "كالي" أي في نفس المكان الذي كان فيه "بلاريوت".
"بلاريوت" الابن "جان" يحدثنا عن تلك المخاطرة، حيث قام بالعودة إلى المكان الذي يحلم به منذ الطفولة.
بلاريوت الابن:
هذا المكان يعود بي في الذاكرة إلى أيام والدي، ويجمعني بمن عايشوا عائلتي، المزارع "كرينو" هو الذي آوى في ذلك العصر هذا المخبول من عائلتي مع معداته، ولكنني لا أدري كيف جرت الأمور في العائلة، مع التفكير بأنه مخبول، وهو لم يكن يسمح لنا باعتباره كذلك. كنا نعتقد أنه في النهاية سينجح، صحيح أنه لم يحالفه التوفيق في بادئ الأمر؛ حيث تحطمت بعض الطائرات، لكن العائلة قامت بدعمه ماديًا؛ لأنها تعرف بأنه مثابر وواثق من نفسه.
بساطة لوحة التحكم شيء مذهل، بالأحرى لم تكن هناك لوحة تحكم، كان الطيار يطير على سجيته، الشيء الوحيد الذي يأخذه في الاعتبار هو إلهامه أثناء الطيران أولاً، ثانيًا: إلمامه بقواعد الطيران، وثالثًا: إمكانية الطائرة.
سأشرح قليلاً عن تلك الطائرة، هذا محرك الأجنحة، لكي تنحرف الطائرة يمينًا أو يسارًا؛ يجب الضغط على هذا الجهاز في هذا الاتجاه أو ذاك، مثلاً عند الضغط هنا يتحرك الجناح ويجعل الطائرة تستدير إلى اليسار. في الطائرات الحالية أطراف الأجنحة هي التي تتحرك، بينما في السابق الجناح كله يتحرك، تمامًا كما اتضح قبل قليل، إذًا بشرح بسيط كان يمكن معرفة طريقة السيطرة على الطائرة.
المعلق:
الثالثة وخمسون دقيقة، كل شيء جاهز، هذا هو مخطط الرحلة مكتوب بخط "بلاريوت"، الإقلاع المتوقع في الرابعة وخمس وثلاثين دقيقة، في مكان يُدعى "لابراد"، وعلى بعد ثلاثة كيلو مترات من "كالي" توجد في البحر نسافة وسفينة خفر لمتابعة الطائرة ونجدتها في حالة الضرورة، تحضيرات الرحلة جاهزة، تخوف "بلاريوت" من المسافة التي سيقطعها فوق البحر، لكنه في الطرف الانجليزي سيحاول بطائرته ذات الخمسة وعشرين حصانًا أن يعبر فوق الشواطئ الصخرية لمنطقة "هوفر" ورياحها.
لويس بلاريوت:
هذا ما سأحاول القيام به بشكل عام.
المعلق:
سيحاول "جان ساليس" اليوم وبواسطة "بلاريوت 6" القيام بنفس الرحلة التي قام بها "بلاريوت".. الساعة الرابعة وعشر دقائق، أدار "بلاريوت" المحرك وترك الحرارة ترتفع، في الرابعة وخمس وعشرين دقيقة تأكد من كل شيء.
ولما ظهرت الشمس في الأفق حان موعد الإقلاع المحدد من قبل "الديلي ميل"، أقلع "بلاريوت" وأقلع "ساليس" في نفس الوقت، أعطى مراقب البحرية على الشاطئ إشارة لسفينة الخفر للانطلاق.
على متن الدراسة تتابع السيدة "بلاريوت" بقلق زوجها وقالت: انتابني الخوف الشديد وارتعدت فرائسي. أطلق القبطان الدراسة بأقصى سرعتها عبرت الطائرة فوقنا، وتساءلت في نفسي: وأنا أجهش بالبكاء، ما الذي سيحدث إذا سقط في الماء؟
قال "بلاريوت": "كنت أحلق بهدوء، لم تكن تنتابني أي مشاعر أو أحاسيس حقيقية، كان الهدوء فقط المقطوع بصوت المحرك يزودني بطاقة تجعلني أكثر صلابة في الوقت الذي كانت فيه عيناي مثبتتين على موزع الزيت ومستوى البنزين. لقد نجحت، ثم لاحت لناظري ثلاث سفن فجأة، وفي الوقت الذي كنت أصارع فيه الهواء شاهدت رجل يلوح بعلم مكون من ثلاثة ألوان".
صحافي يُدعى "شارل أونتان" كتب يقول: "أُجهشت بالبكاء كطفل.. هل أنا مخبول؟! هل أنا في حلم؟! إنها آلة طائرة!، وهناك رجل على متنها". قال "بلاريوت": "انتابني سرور عارم فلم أكن أقود الطائرة بل كنت مشدودًا إلى تلك الأرض".
كتب مراسل "الديلي أكسبريس" مقالاً بعنوان:"لم تعد بريطانيا جزيرة"، بينما صحيفة "المورنينج بوست" كتبت في صحفتها الأولى: "سيغير هذا بشكل جذري نظريات الحرب، وبالتالي سيهدد وسائلنا التقليدية في الدفاع".
إنه أول انتصار كبير للصناعات الفرنسية لانطلاقة كبيرة والتي بقيت لعشر سنوات وكانت الأولى في العالم، ما يقارب عشرين طائرة من "بلاريوت 6" مازالت موجودة وعاملة في العالم، منها تلك التي تحمل الرقم "56" وهو الرقم التسلسلي لخروجها من المصنع.
بلاريوت الابن:
سأريكم شيئًا يثير فضولكم، هذه شهادة "البريفييه" في الطيران الخاصة بوالدي، إنها تحمل الرقم "1".
المعلق:
في الحلقة القادمة نواصل الحديث عن ولادة الطيران..
3-

المعلق:
على مقربة من "نيويورك" سيحاول هذا الرجل واسمه "كول بانان" -أكثر طياري الولايات المتحدة جنونًا، وللمرة الأولى- الطيران بطائرة "يوريو 1910". منذ نصف قرن وهذه الطائرة المصنوعة من شادر وخشب الخيزران وأسلاك حديدية مهجورة في المخازن "كول بانان" قضى في صنعها عامًا بأكمله، وهكذا نجح في تشغيل المحرك القديم ذي الأربعين حصانًا.
الغاية بالطبع الحفاظ على تراث الأمس من أجل متعة الطيران والمغامرة، إنها لحظة الحقيقة، ها هو الفنان يطير دون مظلة للهبوط. وهكذا كانت ولادة الطيران وبدايته بهؤلاء الرجال.. وهذه الطائرات.
في البداية كانت هذه لحظة لقاء بين "رايت" و"بارمان" وزملائهما، مثل "بلير" قاهر "المانش" التقوا جميعهم في أسبوع الطيران في شهر أغسطس عام 1909 كان لقاءً يرفع معنويات هؤلاء الطيارين الرياضيين وأيقظ على الصعيد الآخر اهتمام الحكومة، هذا هو السيد "بالييه" رئيس الجمهورية الفرنسية جاء شخصيًا ليعبر عن مساندته لهذه الصناعة الحديثة، حيث بدأت المنافسة.
ففي "روسيا" جاء الفرنسيون ليعرضوا طائراتهم، وإلى "اليابان" جاء الأمريكيون يعرضون طائراتهم من نوع "كيبت"، للنجاح في بيع الطائرات لا بد من إثارة المشاعر، كالفوز في مسابقات عالمية والنجاح في سباق "باريس-مدريد" عام 1911.
"جول فيدرين" يلعب دور البهلوان في ساحة "سباستيان"، وقام بالدور على ما يرام؛ لأن طائرته متينة من نوع "موران"، وعرف "فيدرين" أنه في الصدارة فطار من الفرح وفاز بالشهرة، فقد أنجز مهامه في أربعة عشر ساعة بسرعة مائة وعشرين كيلو مترًا في الساعة.
كانت الطائرة أسرع من القطار ولا بد من دليل على تفوقها في السرعة وإمكانياتها بالتحليق فوق الجبال، وتمكن "جيو تشافيلز" من الطيران فوق جبال الألب، فالطائرة بمقدورها الربط بين القارات، وتمكن "رونان جاروس" من عبور المتوسط فلا بد من قهر المستحيل.
قفز بالمظلة وتخلى عن طائرته من طراز "بليريو"، ولكن ذلك زوده بفكرة أكثر جنونًا، وهي القيام بمناورات غير مسبوقة، ولم يجد ما يعيق رغبته تلك، وفي طائرة مغلقة فعل ذلك، وقد بلغ عدد المتفرجين عشرة آلاف متفرج، لقد أحس بفرحة عارمة؛ لأن الفوز كان كبيرًا لـ"بليريو" صانع الطائرة ودعاية واسعة لاسمه.. "بليريو للطيران".
كان ذلك عام 1912، أنتج السيد "بليريو" كتيبًا خاصًا له، وكذلك فعل "بارمان"، الذي شرع في تصنيع طائرات يتراوح ثمنها بين عشرة وثلاثين ألف فرانك، ولكي تتمكن من شرائها لا بد من أن تكون ثريًا.
الإيطاليون أول من استخدم الطائرات في الحرب عام 1911 خلال هجومهم على مناطق قريبة من "طرابلس"؛ حيث استخدموا "بليريو" و"ماكيو" و"تورو" وهي طائرات تهدد مواقع خصومهم، واستفاد الألمان من التجربة، ففي عام 1912 شكلوا ثلاثة أسراب للاستطلاع الجوي من طراز "فونج" و"بياتيك".
صنع البحارة الانجليز طائرات في مثل هذا المصنع الذي تم وضعه ضمن متحف السلاح الجوي الملكي في "لندن" الذي أقامه "جون تيلور"، والذي أضاع وقته هدرًا، فالمفروض أن ذلك تم في وقت سابق.
جون تيلور:
في ذلك الوقت كان هناك شعور بالأهمية في مجلس شئون الدفاع، فاعتادوا دائمًا أن يقولوا: دعوهم يتلذذون بطيرانهم ما داموا لا يتجهزون بالعتاد.
المعلق:
في "فرنسا" قال مدير شئون المدرسة الحربية العقيد "بوش": إن كل ذلك مجرد رياضة، وإن الطيران في الحرب لا قيمة له. "جورج بلانجيه" المهندس الشاب لم يكن موافقًا على قوله، وكان من الطيارين الشجعان، ورغم مرور ستين عامًا على ذلك الحديث ما زال عالقًا في ذاكرته، كيف كان من الصعب إقناع من أصروا على رأيهم؟!
جورج بلانجيه:
لقد أحاط الشك بالطيران كأداة استطلاع أولاً، ثم كأداة حربية ثانيًا، بعض الضباط ركزوا على عدم إمكانية تنظيم مسألة الطيران تحديدًا حين استخدام الأسلحة، وتحديد الأهداف مما قد ينجم عنه تحطم الطائرة أو سقوط أجنحتها.
المعلق:
ربما كان بعضهم مصيبًا في فهم تردد العسكريين خاصة عندما نرى طائرة مثل "كوردو روجيه" الذي لا زال يحمل بصمة الذكريات.
كوردو روجيه:
هذه طائرة صنعها الإخوة "كوردو"، حيث كانوا يعملون في مخلفات السيارات والطائرات، تبدو الطائرة هشة مدعمة بقضيبين من الصلب وألواح خشبية، ولم يشأ الطيار حبس نفسه في مقصورة أو قمرة قيادة، الطيار كان يخشى عدم التحكم بالقيادة، وبما يدور حوله.
الشعور أثناء قيادتها طبعًا ليس طبيعيًا، وقد تم تجهيزها بأجهزة زائدة لا تصلح ولا لزوم لها أبدًا، الطيار كان يعتمد على الظروف التقليدية في القيادة، كان يعتمد على الريح مثلاً والضوضاء وقطرات الزيت التي تصب على المحرك بين الحين والآخر.
وكانت هناك نظارات للحماية من رزاز الزيت، وكذلك كانت تُستخدم قطعة قماش لمسح النظارات، وكانت النظارات تُمسح باستمرار وبدونها لا يرى الطيار شيئًا.
المعلق:
إنها أعجوبة لا زالت تطير، على متن هذه الطائرة ذهب طيارو "فرنسا" إلى الحرب في الثاني من أغسطس عام 1914، الكابتن "بلانجيه" على متن طائرته كان يقوم بمهمة استطلاع، اقترب من الأرض ولاحظ حركة مريبة للجيش الألماني؛ فغير اتجاهه وسلك طريقًا إلى الشرق، وبلَّغ قيادة الجيش السادس.
طيارون آخرون سجلوا نفس الملاحظات منهم "لويه برجيه"، والملازم "فاتو" وتم تحويلها إلى الجنرال "جالينييه" ليعلم أن العدو قد حول اتجاهه. تغير مسار الحرب حيث أرسل "جالينييه" القوات، وشن "جافرين" الهجوم المعاكس وكسب المعركة، منذ ذلك التاريخ قدرت قيادة الأركان جهود الطيارين الذين أسهموا بتحقيق الانتصار.
هل كنت من المسئولين عن انتصار معركة مارن؟
بلانجيه:
نعم.. إذا شئت، كانت عمليات الاستطلاع الجوي تحت إمرتي، حيث كان لها الدور الفاعل في سير المعركة، جميع الأطراف المتحاربة كانت تحسب لطائرات الاستطلاع ألف حساب، ولكن كيف تسقط طائرة إذا كانت مسلحة؟! كانت طائرات "بليريو" تلاحقهم، لكنها دون فائدة.
المعلق:
في عام 1914 الطيار النمساوي "روزنبال" طار فوق المناطق المعادية، وأكثر الطيارين شهرة في ذلك الوقت هو "بيوتر ميسروك" كان مشحونًا بالغضب، وأحد ضباط القيصر انقض على طائرة الطيار النمساوي؛ فسقطت الطائرتان، وقُتل الطياران.
بعد ذلك بشهر وفي الخامس من أكتوبر عام 1914 شاهد طيار إحدى طائرات "فوازان" طائرة "فياتيك" كان اسمه "جوزيف فرانس" ويبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا، وهو الذي سيحدثنا عن ذلك.
الطيار جوزيف:
الطائرة كانت هنا، توجهت هكذا أعلى منها بحوالي مائتي متر، وهذا ساعدني في الانقضاض السريع حتى وصلت خلف طائرته، لا أظنه كان قد شاهدني.

المعلق:
رغم عدم السماح بذلك نصب "فرانس" على طائرته رشاشًا سبعة وأربعين طلقة، وهكذا حقق أول انتصار جوي في التاريخ؛ حيث قتل الطيار "شيشتينج" عشرين عامًا، والملازم "فانس جين" أربعة وعشرين عامًا.
الطيار جوزيف:
بعدها هبطنا في الحقول، احتشد الناس وقدمت لي إحدى السيدات باقة من الورود، لقد كنت في غاية الغبطة، لقد كنت بالفعل مسرورًا، فالإنسان في الطيران لا يشاهد القتلى على الأرض.
المعلق:
الآن سيجرب "فرانس" وزميله عملية قصف جوي، فحتى ذلك الوقت لم يكن الطيارون يلقون إلا بأسهم للدلالة على الطريق وأحيانًا بحجارة ذي علامات، مع نهاية عام 1914 بدؤوا بإلقاء القذائف القديمة والقنابل البدائية.
الطيار جوزيف:
كنا نحمل تلك القذائف القديمة لإلقائها على التجمعات المعادية ما أمكن، في تلك الفترة لم يكن سهلاً تحديد الأهداف من عالٍ دون مناظير، حيث يُكلف شخص بإلقاء هذه القذائف على الأهداف بشكل تقريبي.
المعلق:
تزايد نشاط الألمان لمجابهة الخطر الفرنسي، ففي نهاية عام 1915 كانت لدى الألمان حوالي خمسمائة طائرة مقاتلة، أسطول من الطائرات المتجانسة، يقودها شبان متحمسون من بينهم "فانس بيوستن" الذي مازال يذكر تلك الحقبة.
فانس بيوستن:
كانت العملية بالنسبة لنا شيئًا ممتعًا جدًا، وكان لا بد من الالتحاق بالطيران لقيادة الطائرات المقاتلة.
المعلق:
بطائراتهم التي رسموا عليها جماجم الموت خاض الألمان معارك فوق القوات الفرنسية وسيطروا على كل مكان في سماء فرنسا، لكن كل شيء تغير في فرنسا، غيره رجل هو الكولونيل "بايس" الذي حمل على عاتقه مسئولية تشكيل جيش قوي وحقيقي، تم اختيار القائد "بايس" لتنظيم عمليات القصف، وكان اختيارًا موفقًا وقد تمكن في ستة أشهر من تشكيل قوة من ثلاثة أسراب فيها من يلقي بالقنابل ومن يحدد الأهداف وهكذا نُظمت أول غارة على ألمانيا، لتنظيم عمل المقاتلات، اختار "بايس" رجلاً عنيدًا هو العقيد "دوروز" حيث أصبح طيارًا مشهورًا وأبدى حماسًا هائلاً.
كان اهتمامه منصبًا على تدريب الطيارين بكثرة، حتى وصل عددهم آلافًا في المدارس، من بين هؤلاء لمع نجم واحد منهم في بداية عام 1915 هل عرفتموه، إنه الفاكهي "اندريه لوجيه".
اندريه لوجيه:
لقد شدني الحنين إلى الطائرة، التي بدأت تعلم قيادتها بنفسي، وعليها تدرب العديد من الطلبة تحت شعارات الوطنية، كان ذلك هو عنوان الكتاب الذي رسمه "مارسيل جان جان" وكان أفضل من صور تلك اللوحات عن حياة هؤلاء الطيارين، كانت أعمارهم بين تسعة عشر عامًا وعشرين عامًا.
تم استدعائهم للالتحاق بثكناتهم كالآخرين، وأخذ الحماس يحدوهم في انتظار اليوم الذي يحلقون فيه على متن الطائرة، تمكنت من الطيران بسرعة وحينها كان تدريب الطيار يستغرق ثلاثة أشهر فقط، فعند دخولي مدرسة "كونتوا" في مايو تخرجت منها في الحادي والثلاثين من يوليو عام 1915.
قبل تعلم الطيران لا بد من القيادة بشكل مستقيم، وكان التدريب على طائرة ذات الأجنحة لا تسمح بالإقلاع، كنا نبذل جهدًا لمواجهة الرياح، وإذا صادفتنا هبة قوية على دفة الطائرة كنا نقوم بما يُعرف بالحصان الخشبي؛ حيث تدور الطائرة حول نفسها، وإذا لم يتمكن الطيار من إيقاف المحرك فالطائرة عرضة للتحطم، ولكن طائرة "كوردون 3" المكسوة بالقماش كانت تطير بشكل رائع، إنها طائرة خفيفة، قادرة على الطيران إلى أطراف الأرض، لذا كان الطيارون يرددون لمن أراد أن يموت في طائرة "كوردون"؛ ليس عليه إلا أن يحمل مسدسًا.
المعلق:
بعد أن أتقنوا فن الطيران تعلموا إطلاق الرصاص والرماية، المتطوعون.. جنود المدفعية القدامى.. الفرسان وغيرهم يحدوهم الأمل أن يصبحوا طيارين مقاتلين، وهكذا بدءوا بالتعرف على تسليح الطائرات بداية عام 1914 وكان إطلاق النار من الطائرات غير دقيق، خاصة مع طائرة بطيئة.
"بيير ديمو" حاول تركيب رشاش على طائرته بنفس فكرة الطائرة المقاتلة، ثم جرى بعد ذلك تركيب رشاش على الجناح يُطلق نيرانه فوق مجال المروحة، لكن ذلك لم يكن ملائمًا مع قيادة الطائرة، كان الرشاش مثبتًا في الأعلى، وله أداة تحكم سفلية عند الطيار، وليكون إطلاق النار أكثر فاعلية؛ تم تصميم عملية الإطلاق من خلال المروحة نفسها. "رونان جاروس" وضع على طائرته مروحة مدرعة، لكن فاعلية ذلك كانت قليلة.
الحل الحقيقي جاء على يد مهندس بولندي يعمل لدى الألمان، اسمه "انطونيو فوكر" إذ صمم المروحة التي تُخفي داخلها السلاح ويتم التحكم فيه من خلال عملية الدوران بشكل متزامن بين ريش المروحة، وهكذا يمكن إطلاق الرصاص عبر المروحة.
بعد هذا الاختراع جهز الألمان طائراتهم بالرشاشات التي قلما تخطئ أهدافها، هذا جعل الألمان سادة الجو، وعلى ارتفاع خمسة ألاف متر لم يكترثوا بالبرد ونقص الأكسجين، كانوا يبحثون عن طرائدهم الفرنسية.
ظل الألمان يحصدون الانتصارات وأصبحوا نسور الجو، واخترعوا مناورات قتالية جديدة مثل "ماكس ميليان" البالغ من العمر ستة وعشرين عامًا، والذي سجل خمسة عشر انتصارًا، "أوزفلت" الذي سجل عام 1915 أربعين انتصارًا، وكتب معاهدة الطيران المدني عام 1950.
هؤلاء الفرنسيون لا يدرون ماذا ينتظرهم؟!! في عام 1916 ضحى أغلبهم بنفسه في عملية الاستطلاع الجوي، أحدهم نجا بفضل الله، وكان نجمًا قبل الحرب كلاعب ملاكمة "جون كاربينتي" الذي طار في مهمة فوق "دومو".
جون كاربينتي:
كانت المهمة شاقة، والطقس كان غير ملائم، طرنا على ارتفاع منخفض، وعندما عادت كانت الطائرة مثقبة بالرصاص من جميع جوانبها، كنا نطير بشكل منخفض لجمع المعلومات وإبلاغها للقيادة.
المعلق:
هذه صورة من "دومو" وكالعادة دكتها القذائف صورة بشعة وعنيفة، عندما كانوا ينظرون من علٍ ظنوا بأنهم فقط من يُضحي بروحه لصالح الوطن، لكن الخطر يطال الجميع في الجو وعلى الأرض.
فلنستمع إلى شهادة شاهد عيان ممن بقى حيًا، إنه كولونيل "باردو".
الكولونيل باردو:
كيف تكون معنويات رجل نجا من ردم الخنادق، أو أمضى الليل بين الأنقاض، أو عانى من الجوع والعطش عدة أيام؟
المعلق:
مكان فسيح ترك الطيران الفرنسي فيه آثاره، الطائرة الرئيسية من طراز "جي دي نيو بورك" سرعتها تصل مائة وخمسين كيلو مترًا في الساعة بمحرك صغير قوته ثمانون حصانًا، جيدة التسليح، قادرة على المناورة في مواجهة الألمان، وتم تسجيل انتصار جديد للفرنسيين. ليس سهلاً أن يُكتب لك النصر، لكن الطيار "ديبان" غير مقتنع بذلك، ويُصر على إسقاط طائرة الخصم في منطقته.
الطيار ديبان:
كنا عند العودة نرى من لديه رصيد أكثر من الانتصارات؛ كي يقوم بدفع حساب الإفطار.
المعلق:
"جيلبير ساردي" سجل خمسة عشر انتصارًا.
جيلبير ساردي:
في الحرب لا مجال للعواطف، إذا لم تقم بإسقاط الخصم سيسقطك، لكن بعد انتهاء المعركة لا نحمل الكراهية.
المعلق:
الطيار المقاتل "أرماندو ترين" سجل خمسة عشر انتصارًا، لم يكن هؤلاء آخر ضحايا حلم الإنسان بالطيران والسيطرة، ولم تكن هذه المغامرات المجنونة إلا مقدمة لجنون لا محدود لعالم الطيران المعاصر.
تابعونا في الحلقة القادمة ....
************************************
منقول بعد إضافة تعديلات:biggrin::
 
4-
المعلق:
في هذه الحلقة نتابع تاريخ الطيران وأسراب المقاتلات التي يقودها طيارون لا مجال لديهم للعاطفة في المعركة، مبدأ عملهم: "إذا لم تسقط الخصم سيسقطك"، لكنهم كما يقول "جيل بيل ساردين": بعد انتهاء المعركة لا يحملون الكراهية. صحيح أنهم يجلسون كأرستقراطيين، لكنهم في الحرب يتناحرون. "ألفريد أرتو" سجل واحدًا وعشرين انتصارًا.
الفريد أرتو:
كانت معنوياتنا متأثرة بالحرب، وكان إصرارنا كبيرًا لتحقيق الهدف، إنهم مجانين نوعًا ما، هذا "بونجان" يبارك ضحاياه قبل القضاء عليهم، طيارون شجعان شخصيات مميزة، كهذا النسر الجوي "ناجي سير" الذي حقق خمسة وأربعين انتصارًا، و"نافار" الطيار المذهل، لقد كان يتمتع بشجاعة خارقة، كان يقود طائرته بعناد وكان مقدامًا.
"الديك" كان شعار تلك التشكيلات وكذلك "الصقر"، و"الشعلة"، و"اللقلق"، شعار "سبار 3" للقائد "بروكار"، الذي حدد تكتيكات الحرب وشكل مجموعة مقاتلة مطاردة تحت شعار "اللقلق" وهي مجموعة "جين مير".
مع نهاية عام 1917 سجل ثلاثين انتصارًا، وهكذا منحه الجنرال "فرانشيه" لقب ضابط في فرقة الشرف حيث كان نقيبًا مع أنه رُفض مرتين قبل الالتحاق؛ لأنه كان يبدو طفلاً أمام مدربه "بول تاسك".
بوك تاسك:
لقد كان شابًا مليئًا بالحيوية والنشاط، وكان أيضًا رقيقًا لو ركله أحد بقدمه لدفعه بعيدًا، ولكنه منذ التحاقه بالسرب أخذ يحصد الانتصارات، ونسج حول نفسه أسطورة الطيران؛ لأنه يعتقد أنه إذا لم يُعطِ الإنسان كل ما لديه فإنه لم يُعطِ شيئًا، في الحقيقة كان محاربًا عنيدًا وطيارًا مقدامًا بطائرته "لافيو شارل" الجديدة المختلفة عن الألمانية، محركها بقوة مائتين وعشرين حصانًا، وتصل سرعتها إلى مائتين كيلو متر في الساعة، إنها مزودة برشاشين لا يدعان فرصة لنجاة العدو.
أحد خصومه "جوزيف ياكوب" سجل واحدًا وأربعين انتصارًا لسلاح الجو الألماني، وقد نال الوسام الأزرق باستحقاق حيث حارب في "جين مير".
الفريد ارتو:
نعم.. لقد هاجمت "جين مير" لقد كانت مهمة شاقة جدًا، فلا أمل لطائرتنا، لكننا في النهاية انتصرنا؛ لأننا نعرف فن القتال بشكل جيد.
المعلق:
بعد إسقاط ثلاث وخمسين طائرة معادية اختفى "جين مير" في ظروف غامضة في أجواء "بلجيكا" يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 1917.
كانت السماء الفرنسية تعج بالأسراب الانجليزية من طائرات متنوعة مثل "بوب وكاميل" كلها تحت لواء القوات الجوية الملكية، صُنع منها حوالي ستة آلاف طائرة منها ما هو صعب القيادة والتحكم بمحرك فرنسي من طراز "رول" بقوة ثمانين إلى مائة وثلاثين حصانًا.
هذه "بريستول فايتر" التي سجلت عام 1917 تفوقًا بريطانيًا في صناعة المحركات على يد "رولز رويس". اسمعوا صوت هذه الطائرات اثنتا عشرة اسطوانة ومائتان وستون حصانًا، صوتها يدل على جودتها ميكانيكيًا، بتلك الطائرات أصبح لدى البريطانيون نسور جو.. "وليم بيشوب" الكندي سجل اثنين وسبعين انتصارًا، "ادوارد مانوكس" ثلاثة وسبعين انتصارًا، لم يشغل الانجليز أنفسهم ببطولات الجو فأشياء أخرى تدور في عقولهم، الكل يقوم بدوره على ما يرام، في خدمة الملك والوطن، ويشهد على ذلك العديد من نسور الجو البريطانيين، منهم "ليونارد ريشهورد"، الذي سجل اثنا عشر انتصارًا.
ليونارد ريشهورد:
لقد كان همنا الأول القيام بعملنا على أكمل وجه، وبكل دقة، كنا نطير وكنا نسقط أكبر عدد ممكن من الطائرات، كنت أتخيل نفسي أسجل أهدافًا في ملعب كرة القدم، أو أسجل أهدافًا في رياضة "الرجبي".
المعلق:
ألا يبدو ذلك غريبًا..!!
ليونارد ريشهورد:
لا غرابة في ذلك، لقد كنا صغارًا، ولم يكن يشغلنا حينها أي شيء، المهم هو قضاء الوقت.
المعلق:
أما الحلفاء الآخرون كـ"إيطاليا"، فكان خيارهم الأول القتال بروح معنوية عالية، القائد "تيتيني فرانشيسكو براكا" حقق أربعة وثلاثين انتصارًا، وجاء هنا ليشجع الشاعر "جابريل دوناميزيو" في إلقاء منشورات على فيينا تحت شعار "سخن رياح الحرية".
"البلجيك" تميزوا بالشجاعة والهدوء، أحد صقور الجو منهم كون صورة مضيئة، "إيلي كوبانز" تخصص بصيد المناطيد الألمانية المحمولة بالهيدروجين، لم يكن من السهل اصطيادها؛ لأنها محمية جيدًا.
إيلي كوبانز:
كنا نواجه أخطارًا كلفتني إحدى ساقي، ما العمل عندما تستدعيني قوات المشاة التي عملت فيها عامًا ونصف العام قبل أن أصبح طيارًا؟ علي طبعًا تلبية النداء، الطلقات كانت تخترق الغلاف الخارجي، لكن دون أضرار كبيرة. المراقب كان لديه مظلة للهبوط والجنود على الأرض يمكنهم التقاط المنطاد لإصلاحه وإرجاعه إلى قطاع آخر.
المعلق:
كان لا بد من طريقة للتخلص من ذلك الوحش، لذا سيستخدم "إيلي كوبانز" على طائرته "نيو بو" اختراع لأحد الضباط الفرنسيين النقيب "لوريو"، إنها مسيرة الصواريخ بشكل بدائي، لكنها دقيقة التصويب إلى حد ما. بتلك السهام النارية حقق الطيار البلجيكي نصره بتحطيم الكثير من المناطيد المعادية.
إيلي كوبانز:
عندما نجحت المهمة كنت أشعر بغبطة لا مثيل لها، وقررت تكرار التجربة، وهكذا تتم العودة لإكمال المهمة. إنها الحرب تسقط منطادًا ويكون الآخر غير بعيد، المناطيد الكبيرة كانت عدوًا لنا في يد الألمان، إذ صنعوا منها مائتي ألف؛ وبذلك شنوا أول عمليات القصف الليلي لـ"باريس" و"لندن".
المعلق:
كان ذلك الوحش يطير بسرعة خمسين كيلو مترًا في الساعة، وتستغرق المهمة من عشر إلى خمس عشرة ساعة مدفوعًا بمحرك ديزل، المقاتلات البريطانية تُطلق النار عليه وتقصفه أحيانًا ليسقط، والأحوال الجوية تتكفل بالباقي، تمامًا كحال هذا المنطاد الضخم الذي حط في منطقة "مارني".
تاريخ المناطيد مليء بالمآسي؛ لأنه ملئ بالعناد، والحديث عنها انتهى بعد عام 1917، حيث توجهت الأنظار إلى أشياء أخرى، لأن "ألمانيا" تصنع عدوًا جديدًا.
طائرة "فان فار" دخلت الحرب في الولايات المتحدة في السادس عشر من أبريل عام 1917، وشكلت عبئًا جديدًا على الحلفاء، طال انتظار الفرنسيين للقوات الأمريكية، رغم وجود قلة من الأمريكيين إلى جانبنا.
متطوعو هذه الفرقة بشعارهم رأس الهندي الشهير وبطلهم "سلاف بيري" الذي حقق سبعة عشر انتصارًا ومات دفاعًا عن "فرنسا"، "ويليام مونرو" حارب منذ عام 1915 مع الكنديين وكان يعكس الصورة الحقيقية للطيران الأمريكي، عام 1917.
ويليام مونرو:
كنا صفر اليدين، لم يكن لدينا شيء، استخدمنا العتاد الانجليزي، لم تكن لدينا طائرة واحدة، واضطر الإنجليز لتعليمنا الطيران وتزويدنا بالطائرات كذلك.
المعلق:
بعد دخولنا الحرب بثلاثة أشهر أخذت عجلة التصنيع تدور بسرعة مذهلة بكل الطاقات، وصُنعت أفضل طائرات الحلفاء، وخرجت أفضل خمس آلاف طائرات "تي إتش 4" من مصانعنا، منذ البداية بدأ تأهيل الطيارين وتم إرسال 2500 منهم إلى "فرنسا".
تم تشكيل خمسة وأربعين سربًا قتاليًا على الخطوط الأمامية بحوالي ثمانمائة طائرة ألقت بثقلها في الحرب في الوقت المناسب. ذلك هو الأهم للأمريكيين الذين استغلوا المهارات الفردية للطيار، كالرجل المناسب في المكان المناسب، المسألة ربما مسألة حظ، طيارون متميزون لم يتمكنوا من إسقاط طائرة ألمانية واحدة.
"ويليام لامبارد" أسقط اثنتين وعشرين طائرة ألمانية، إنه البطل رقم اثنين بعد الكابتن "إدريكين" الذي سجل ستة وعشرين انتصارًا، قال البعض: إن عدوه اللدود البارون الأحمر كان اسمه "مانفريد ريشتوفر" خمسة وعشرين عامًا، والذي سجل مع نهاية عام 1917 أكثر من خمسين انتصارًا.
لكن لماذا أسموه البارون الأحمر؟.. أحد رفاقه "فرانس جيوفوكين" يجيب على ذلك.
فرانس جيوفوكين:
أسميناه البارون الأحمر؛ لأنه صبغ طائرته باللون الأحمر رغم التحذير بأنه سيصبح هدفًا سهلاً، لكنه كان يجيب: "سألقي الرعب في قلوب الأعداء".
المعلق:
طائرته المفضلة كانت "فوكار دي إي 1" ومصممها "أنطوني فوكار" صممها خصيصًا لـ"مانفريد"، منذ بداية استخدامه لهذه الطائرة ظل الطيار الألماني وفيًا للون الأحمر، كانت أداة حربية فاعلة بمحرك متجانس متماسك، وهي بطول خمسة أمتار وثمانين سنتيمترًا، وعرض سبعة أمتار، سهلة التحكم رغم وزنها البالغ ستمائة كيلو جرام وسرعتها البالغة مائتي كيلو متر في الساعة. كانت كتلة من نار تحترق بها طائرات الحلفاء.
فرانس جيوفوكين:
للأسف لم يكن لدى الانجليز "مانفريد ريشتوفر" مماثل، كانوا يختارون خصومهم بدقة متناهية، والطائرات البريطانية المسقطة كانت بطيئة جدًا.
المعلق:
هل القيام بذلك مستحب؟
فرانس جيوفوكين:
لم أقل هذا.. إنها الحرب.
المعلق:
ماذا تعني بأنهم يختارون خصومهم بدقة متناهية، والطائرات المسقطة بطيئة؟
فرانس جيوفوكين:
أجل.. كانوا يهاجمون الطائرات البطيئة، لقد كانوا يهاجمونها فقط؛ لأنها كانت بطيئة السرعة، وقد كانت هدفًا محببًا لهم لسبب واحد؛ لأنها كانت بطيئة.
المعلق:
أحد طياري الحلفاء أسقط "مانفريد" بعد أن لاحقه بطائرته الحمراء، تلك الطائرة الحمراء المقاتلة صعبة الاصطياد، ولا ندري كيف مات؟!
هناك روايات عديدة؛ إحداها: في يوم الأحد الواحد والعشرين من أبريل عام 1918 طارد الملازم "براون" بطائرته "كاميل" طائرة "ريشتوفر" وحاول اصطيادها. شاهده "ريشتوفر" وهرب من مجال نيرانه، جهز هو الآخر رشاشه وهاجم خصمه، لكن "براون" كان الأفضل؛ حيث انقض على "ريشتوفر" ورماه برصاص قاتل. أُسقطت طائرته ذات الأجنحة الثلاثة عند قوات الحلفاء على مقربة من الفرقة الثالثة والخمسين المدفعية الأسترالية ونسب الفوز إليها.
تدافع الصحفيون والمصورون لمشاهدة حطام طائرة البارون الأحمر، ونظم له الاستراليون جنازة رسمية، كان آخر نسور الجو الذين غابوا عن الوجود. إنه آخر وداع وتحية لآخر الفرسان، فبعد ذلك انتهى كل شيء.
متحدث:
بعد "لامبارد" لم يظهر فرسان على الساحة الأمريكية، فلم أشاهد منهم أحدًا، إما أن تقتل أو تموت، وليس هناك خيار آخر، الموت أو الحياة.
المعلق:
انتهى عصر فرسان الجو، لكن "بيرمين لورنيج" أخذ مكان البارون الأحمر في الطيران الألماني، كان فظًا وعنيفًا مليئًا بالطموح، إنه نازي المستقبل. "أونيه فوند" كان من جيل الطيارين المقاتلين، وكنسور الجو الفرنسيين كان فنيًا جيدًا وراميًا محترفًا وسجل خمسة وأربعين انتصارًا.
متحدث:
كان يباغتهم. يقتنص الفرصة. ينقض ويصفي الخصم بثلاث أو أربع رصاصات يقتله ويولي هاربًا.
المعلق:
لا زلنا بعيدين عن زمن البطولات الفردية حتى الأسراب لم تحمل هذه الصفة، الآن نعيش تشكيلات جوية وقوة قتالية من ألفين وخمسمائة طائرة تتأهب لمعركة "سان ميجيل"، كان يقودها ضابط أمريكي هو الكولونيل "ويليام ميتشين" شهدوا عام 1918 بداية العمليات المشتركة بين الدبابات والطائرات.
ومن نجح فيها هم الألمان وليس الفرنسيين، كان عام 1918 عام القاذفات، هذه "شوباندر" تزن ثلاثة أطنان، و"كابرونيسي" تزن ستة أطنان بحمولة طن من القذائف. تقدم مذهل تم خلال السنوات الأربع.
أخيرًا جاءت "ماستودون" وزن ثمانية عشر طنًا، الطول عشرون مترًا، العرض ثلاثون، الحمولة سبعة أطنان، طيران متواصل لسبع ساعات، بمحركين قوة الواحد مائتان وستون حصانًا، وتستطيع حمل ثلاثين قذيفة، وزن الواحدة مائة وعشرون كيلو جرامًا، أي ما يزيد على أربعة أطنان من المتفجرات، ذلك ما بدأ بالفعل عام 1918.
أصبح الطيران اليوم يهاجم المدن والمصانع والسكان المدنيين هكذا أصبحت الحرب فعلاً حرب آلات وصناعة، فقد سجلت صناعة الطائرات أرقامًا مذهلة، صنعت ألمانيا خلال الحرب ثمانية وثلاثين ألف طائرة، انجلترا تسعة وأربعين ألفًا، وفرنسا واحدًا وخمسين ألفًا، كان متوسط تكلفة الطائرة سبعة عشر ألف فرانك عام 1918.
"لويه برجيه" صمم خمسة آلاف وخمسمائة طائرة من طراز "برجيه 14".. "هنري بوتيس" صانع الطائرات شاهد على ذلك العصر.
هنري بوتيس:
لقد كانت صناعة ممتازة وكانت صناعة هامة أيضًا، أُقيمت مصانع كبرى على يد كبار الصناع، مثل "بليرييه" و"جوردون" وغيرهم ممن كانوا يتمتعون بمراكز قوية، لم يشغلوا أنفسهم بضرورة التعجيل بخروج إنتاجهم لأنه مطلوب، لقد كانت فترة ازدهار بالنسبة لهم، وتأسفوا كثيرًا لأن الحرب كانت قد انتهت، ولأن الحرب أيضًا كانت تعني لهم الثراء.
المعلق:
عم الأسف والحنين كل من طار بالطائرات الحربية، نظروا إليها واستعادوا الذكريات، مثل "جوزيف ياكو"، وكلهم يحملون نفس الذكريات، مثل "أرماندو ترين".
أرماندو ترين:
الانطباع الذي تولد لدي في الجيش السادس كان شيئًا من السعادة بانتصار بلادي، وشيئًا من المرارة لأن كل شيء قد انتهى، غاب ذلك النمط من الحياة، كانت حياة جميلة، لقد توقفت لأسباب خاصة، وكل منا له أسبابه الخاصة، الطيار المقاتل على وجه التحديد يعشق مهنته، كنت حزينًا لانتهاء الحرب، لقد كانت حربًا شرسة، لكنها عادلة رغم قذارتها.
المعلق:
خمسة آلاف وخمسمائة طيار فرنسي، ستة آلاف وخمسمائة طيار انجليزي، أحد عشر ألفًا وأربعمائة طيار ألماني كانوا جميعًا يحلقون في الجو.
عندما فكر الإنسان منذ قديم الزمان بالطيران ثابر حتى وصل إلى الاختراع الرائع؛ رغم أنه قاتل فقد زوده بالسهام، ثم الرشاشات، ثم القنابل.
ترى هل كان يحلم "عباس بن فرناس" و"ريكار" بهذا؟ وهل كان الأخوان "رايت" سيصنعان الطائرة لو علما بأنها ستستخدم بهذا؟!! لكن الطائرات الآن صارت صناعة ناضجة بمعنى الكلمة.

_________________________________________
5-

المعلق:
"إسبانيا" عام 1937 ..
هؤلاء الطيارون ألمان ينتمون إلى فرقة "كوندور" الجوية، التي أرسلها "هتلر" لمساندة "فرانكو"..
في ذلك اليوم الموافق للسابع والعشرين من أبريل عام 1937 خرجوا في مهمة تاريخية على متن طائرتهم الجديدة من طراز "هينيك 111"؛ ليدشنوا مرحلة جديدة من القصف الجماعي للمدن التي لا دفاع لها. واليوم يتجهون إلى "جيرنيكا" خلفت الغارة 2500 قتيل، وهكذا انمحت عاصمة "باسكاي" عن بكرة أبيها.
وبعد الهدنة بعشرين عامًا، وانتهاء أكثر الحروب رهبة ودمارًا وصلنا إلى هنا.. كيف؟ من خلال الحديث عن نزع سلاح دون توقف، وعقد المؤتمرات حول إحلال السلام.
في برلين اندحر "هيندلبيرج" أمام "هتلر" ومساعديه، فبالنسبة لهم خاصة "جورينج" كان سلاح الجو هنا هو جيش المستقبل، مع أن النازيين لم يكونوا أول من سلح الطيران في ألمانيا، ففي عام 1925 درب العسكريون في جمهورية "فايمر" طياريهم في مواقع سرية وضعها الروس تحت إمرتهم.
في عام 1933 تحقق أكبر انتصار للطيران الألماني.. بين عامي 1914 و 1918 على يد "ارنست يوديت" الذي سجل اثنين وستين انتصارًا، ورغم مجازفته بحياته كان يحضر الاجتماعات ويظهر كأنه في خدمة الأيدلوجية النازية، وقال:"يجب حشد الشبان وإلحاقهم بالطيران الشراعي والقيادة الجوية". كان "يوديت" و"جورينج" من الشبان المتحمسين لألمانيا ومعهم جاء ميلاد السلاح الجوي الألماني.
أصبح "جورينج" مارشالاً ووزيرًا للطيران، لكن ذلك لن يمر دون متاعب والوزارة أقرت بذلك واعترفت به، وكانت نهاية مشروع الطائرة "أرادو 196".
تحمس "يوديت" بسرعة لأنماط جديدة من الطائرات الحديثة مثل "بلوم وفوث 141" فالمحرك على جانب والمراقب على الجانب الآخر من الطائرة؛ حيث سيرى بوضوح كما يقول المهندسون، لكن الطائرة كانت تطير بشكل سيء، وتم التخلي عن تلك الطائرة الغريبة بسرعة. كل ذلك آثار الانتقاد، ولم يعد "هتلر" مسرورًا، وانتهى الأمر بـ"يوديت" إلى الانتحار، ورغم ذلك خرجت له جنازة وطنية.
أصبح "ايهارد ميليتش" المسئول الأول عن التسليح الجوي، بعد أن كان مديرًا للشركة التجارية الألمانية "لوفتهانزا" وتمت ترقيته إلى رتبة مارشال ووزير دولة للطيران حيث برهن على أنه أكثر فاعلية من "يوديت"، دراسته وتأهيله التجاري أتاحا له إنشاء أسطول من الطيران التجاري.
وشجع "ميليش" شركة "فينيكل" وطائرة "في 33" وبعدها "جي 38"؛ حيث أصبحتا أكبر طائرات النقل التي تم تصنيعها، وبطائرة "في 38" قام "جوبلز" برحلة رسمية، أما هتلر فاستعمل "جينكز 52" التي كانت نجاحًا باهرًا. إنها طائرة متينة وقوية ظلت تطير في أجواء العالم حتى عام 1960 أو بعده بقليل.
كانوا يعتبرونها المناسبة لكل المهام، محركاتها الثلاثة من طراز "بي أم دبليو" بقوة ستمائة حصان، كانت تطير بسرعة مائتين وخمسين كيلو مترًا في الساعة، كان بمقدورها حمل عشرين رجلاً من المحاربين كما حملت زعيمهم الذي جاء ليناقش مع "موسوليني" كيفية مساعدة "فرانكو" الذي قام على رأس الجيش بانتفاضة ضد الجمهورية ويحتاج للمساعدة.
في يوليو عام 1936 كان أكبر استخدام لطائرات "جينكز 52" وكانت أول جسر جوي في التاريخ، في بضعة أيام أرسل "هتلر" عشرين طائرة من طراز "دي يو 52" من الجانب الآخر من جبل الطارق، المنطقة المتمردة، عشرة آلاف جندي عربي من المغرب جندهم "فرانكو" لتلك المهمة، وكانت تدخلهم حاسمًا. كانت طائرات "دي يو 52" المنتصرة الأولى في الحرب الإسبانية.
في الوقت نفسه تدخل "موسوليني" مباشرة إلى جانب "فرانكو"، فهو الذي قدم له العون الكبير في البداية خاصة طائرات "فيات سي إيه 32" حيث وصل إليه منها نحو أربعمائة طائرة، وهي طائرة صغيرة ذات سطحين وتحمل محركًا من طراز "فيات"، كانت تطير بسرعة ثلاثمائة وخمسة وسبعين كيلو مترًا في الساعة، هذا بالإضافة لكونها سهلة المناورة ويقودها أفضل الطيارين الإيطاليين الذين أُرسلوا إلى إسبانيا.
وتجلت قوتهم في الطيران الجماعي؛ حيث كان يقلعون في تشكيلات كبيرة كما الحال هنا في التشكيلة "كوكراشا". جهزت شركة "فيات" مجموعة الطيران المقاتلة المطاردة، التي تحارب إلى جانب "فرانكو"، وعلى متن طائرة "سي إيه" حقق البطل الوطني الطيار "يوكان جارسيا" تسعة عشر انتصارًا من الانتصارات الأربعين التي حققها الطيران.
في البداية لم يتم تحقيق الكثير حيث تم استخدام مجموعات قديمة من الطائرات الانجليزية والفرنسية التي حان وقتها للتقاعد، وفي عام 1937 أدخل الإيطاليون إلى الخدمة قاذفاتهم الأكثر تطورًا وتحديثًا ذات الثلاثة محركات المعروفة باسم "الصقر" والتي كان لها أثر تدميري كبير في معركة "جوادا لا جارا" مما أدخل السرور إلى قلب "موسوليني" مع أنه قام بتكريم الأرامل بعد أن مات نحو مائة من الطيارين الإيطاليين في الحرب.
وهكذا بدأت القوة الجوية الفاشية تزداد قوة وحققت المجد في "إثيوبيا" بعد أن استخدمت قنابل الغاز حسبما أكده الإثيوبيون أنفسهم، لقد فشلوا في حماية أنفسهم من الغاز، لم يكن لديهم إلا الشجاعة والرماح بمواجهة القاذفات الإيطالية. وتوجه "هيلا سيلاسي" إلى المنفى، وأعلن "موسوليني" إثيوبيا في العاشر من مايو عام 1936 أرضًا إيطالية.
استعرض في "فيراري" ألفًا من الطائرات وهو أكبر تجمع للطائرات لم يسبق له مثيل.
يجب أن يمتلك "الرايخ" جيشًا حاسمًا، وفي مصانع شركة "بافرواز" للطيران ومع نهاية عام 1936 برزت إلى الوجود طائرة مقاتلة حديثة ومتميزة تُعرف باسم "ميسر شميت 109".
جوبلز:
هنا "جوبلز" يهنئ "ميسر شميت".
المعلق:
أمام أبناء ألمانيا تقدم "جوبلز" بالتهنئة لمن صنع الطائرة، لأفضل المهندسين في ذلك العصر وهو "ويليام شميت" التقينا به في مدينة جميلة في "إسبانيا"؛ حيث تقاعد بسلام، ويقول ويليام.
ويليام شميت:
إنني أعتقد بأن سر نجاح تلك الطائرة يكمن في شكلها الديناميكي؛ لأنني درست كل قطعة فيها بتروي، لكي تكون بسيطة وخفيفة ما أمكن، كل ذلك لإتاحة المجال أمام الطائرة لأداء جميع المناورات بسهولة.
المعلق:
لقد لمس الجميع ما تحقق على جميع الخطوط الجوية من مستخدمات جديدة، هذه طائرة بسطح واحد بسيطة الشكل وبعجلات هبوط قابلة للطي، أما المحرك فكان أعجوبة من التكنولوجيا الألمانية من إنتاج "مرسيدس ديملر بينز دي بي 601" بقوة ألف حصان، فوق ذلك المحرك يوجد رشاشان من عيار سبعة ملليمترات ومدفع من عيار 20 ملليمترًا في ثقب بوسط المروحة.
لم يكن فيها متسع كبير للطيار والأفضل ألا يكون الطيار عريض المنكبين، لأن الطائرة تصبح مع الطيار كأنها قطعة واحدة، وذلك بعد أن يغلق على نفسه الباب الزجاجي الذي يُستخدم للمرة الأولى، حيث كان الطيارون في السابق معرضين للهواء مباشرة.
كان المحرك ينطلق فور التشغيل لتقلع الطائرة، رغم أن المحرك من طراز "جينكر" الأقل قوة والمروحة ذات الريشتين، لكن الطائرة كانت تؤدي وظائف رائعة في ذلك العصر، حيث بلغة سرعتها أربعمائة وخمسين كيلو مترًا في الساعة، بالإضافة إلى مرونتها المذهلة، كان بالفعل إنجازًا خارقًا.
يشرح لنا "ميسر شميت" السبب الذي دفعه ليقدم لـ"هتلر" وسيلة قتالية متقدمة، فيقول.
ميسر شميت:
بداية لم يبقى أمامي إلا الخضوع لنصوص اتفاقية "فيرساي"، ولم يكن باستطاعتي بناء شيء آخر غير الطائرة الشراعية والطائرات العادية الخفيفة، لم يكن مسموحًا غير ذلك، لكن الأمل ظل يراودنا بأن نكون أحرارًا بشكل كامل في ألمانيا، ونقوم بتصنيع كل ما نرغب فيه، من وجهة النظر هذه تمكنت من صنع كل ما يحلو لي ويسعدني أيضًا.
المعلق:
لقد حقق بالفعل السعادة لنفسه، فقد تم تصنيع خمسة وثلاثين ألفًا من تلك الطائرة، وهذه تم تصنيعها في إسبانيا، وظلت ضمن التشكيلات حتى الخمسينيات وهي تحمل محركًا انجليزيًا، قبل دخولها ضمن الأسراب المقاتلة أدخل الألمان إلى إسبانيا جميع طائراتهم من طراز "إم أي 109" كما كانت أربع وعشرون طائرة من طراز "ميسر شميت 109" عاملة هناك مع بداية ربيع عام 1937.
إذ شكلت المجموعة المطاردة ثمانية وثمانين التي كانت تنطلق من "أشبيلية" لتزرع الموت في المناطق الجمهورية، وهكذا كانت الحرب الإسبانية أكبر حقول التجارب لتلك الطائرات.
شكل الألمان جيشًا جويًا حقيقيًا يتكون من عشرين ألف رجل، وثلاثمائة طائرة، تحت اسم فيلق "كندور"، كان منهم الطيارون، والميكانيكيون، والملاحظون الجويون، والقيادة، ليس أمامهم الكثير من الوقت للتدريب وحالما ينتهون من ذلك يغادرون ليحل مكانهم طيارون آخرون.
وهكذا أخذ سلاح الجو الألماني يعتمد تكتيكات الحرب، ونظريات القصف والهجمات الأرضية؛ لمساندة قوات المشاة.. وطائرات "جورنييه 17" آخر ما أنتجته المصانع الألمانية والتي شاركت في المعارك نحو "مدريد".
فوق طرقات "كاستيل" كانت تلك الطائرات تهاجم القوافل الجمهورية بالرشاشات، لكن حكومة الجمهورية الإسبانية أخذت تدافع عن نفسها بعد فقدان الأمل وبمساندة الاتحاد السوفيتي. في عام 1937 ظهرت في سماء "إسبانيا" طائرات مقاتلة غريبة الشكل بمقدمتها المفلطحة أسماها الجمهوريون "الذبابة"، وأتباع "فرانكو" أسموها "الفئران"؛ لذا يأخذون احتياطهم بسرعة.
لقد زودهم الروس بنحو أربعمائة طائرة من طراز قديم "أوبوليا كوربوف 115"، وهذه هي آخر طائرة من هذا النوع، لقد عثرنا على أحد طياريها، كان "فرنسيًا" متطوعًا مع سلاح الجو الجمهوري الإسباني. هذه الطائرة أعادت به الذكرى حينما كان يحارب بها عام 1937، وكان يُدعى "ويليام لابوسييه"، وبسرعة أطلعنا على أهم ما فيها.
ويليام لابوسييه:
تلاحظون على هذا المحرك أربعة رشاشات، اثنان علويان واثنان سفليان بعيار سبعة ملليمترات، كانت العجلات سوفيتية، أما الأجنحة فكانت من الخشب والنسيج، أما جسم الطائرة فكان هيكلاً من المعدن، مكسوًا بنسيج قوي، تلاحظون الصفيحة المدرعة التي كان لها أثر فعال، بل كانت أكثر ما تم تصنيعه آنذاك فعالية.
لقد أبلت بلاءًا حسنًا في الحرب، هذه هنا مسددة الأهداف، وهذا هو الزناد الرشاش، كانت أولى الطائرات السوفيتية ذات السطح الواحد إن أمكن القول؛ حيث كانت أغلبت تلك الطائرات في تلك الفترة بسيطة التصنيع، لكن هذه كانت أكثرها دقة وتطويرًا، مقارنة بغيرها.
المعلق:
لم يدرك العالم وجود صناعة الطائرات الروسية إلا في الحرب الإسبانية وعلى متن طائرة "إي 15" تمكن الطيار السوفيتي "فلاديمير كوكنياكي" في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1935 من تحطيم رقم الارتفاع حتى ستة عشر ألف متر، مصمم الطائرة كان اسمه "نيكولاس بوليكاربوف"، الذي طور بعدها الطائرة "إي 16" التي تطير بسرعة أربعمائة وخمسين كيلو مترًا في الساعة، تلك الطائرة أرسلها الروس بكثافة إلى إسبانيا، كانت طائرة مفيدة وفاعلة، لكنها كانت صعبة كما يشرح ذلك "ويليام لابوسييه".
ويليام لابوسييه:
لقد وقع فيها كثير من الحوادث فمن بين أربعمائة وسبعين طائرة وصلت إلى إسبانيا، سقطت أربعمائة وسبع عشرة طائرة بشكل مأساوي في الحرب، فالمقدمة كانت لينة قابلة للتفسخ، وجهاز الهبوط كان هشًا.
كانت تاريخ الطيران السوفيتي في الثلاثينيات مليئًا بالحوادث، كانت تلك الطائرة حاملة العلم بالنسبة للنظام وشبه ناطق رسمي، كانت تحمل مطبعة وبطارية مكبرات للصوت لنشر القوانين والأفكار عبر أرجاء الاتحاد السوفيتي، ورغم محركاتها الثمانية بقوة سبعة آلاف حصان كانت تقلع بصعوبة.
في الثامن عشر من مايو عام 1935 تم تقديمها إلى "ستالين". أقلعت ترافقها مقاتلات "إي 4" في تلك اللحظة اقتربت إحدى الطائرات المقاتلة من طراز "ماكسيم جوركي" بشكل خطير، واصطدمت الطائرة الصغيرة بالأخرى العملاقة فتحطمتا معًا، ومات في الحادث تسعة وأربعون شخصًا، لكن ذلك الحادث لم يثن عزم "ستالين" ولا مصنع الطائرة "أندريه كوبولوف"، الذي صنع مئات طائرات النقل والقاذفات من طراز "إي إن تي 6"، وهي تزن عشرين طنًا وبمقدورها حمل ثلاثين من رجال المظلات.
كانت اختراعًا جديدًا ومثلاً للعالم حول تلك القوات المحمولة جويًا وإن كانت فنيات القفز غير مضمونة.
في عام 1937 كان "ستالين" يمتلك مائة وثماني وأربعين تشكيلة من القاذفة وستين تشكيلة من المطاردات، أي حوالي ثلاثة آلاف طائرة حينها كان في إسبانيا مائة وخمسون طيارًا روسيًا وثمانمائة طيار إسباني دُربوا في الاتحاد السوفيتي وشكلوا عشرين مجموعة مقاتلة وقاذفة.
وكانت لهم بطولات مثل "يوكان جارسيا" الذي أحرز أحد عشر انتصارًا، وكان معهم حفنة من طياري العالم لا يزال الكثيرون مشدودين إليهم بالحنين.



_____________________________________
6-

دون ويليام:
هذه بطاقة الملاحة الخاصة بي، الطيار "دون ويليام لابوشييه"، بطريق الصدفة في الحادي والعشرين من يونيو عام 1937 أخذت هذه الطائرة للقيام بالمراقبة فوق "الكالا"، وخلال عملية الاستطلاع أُصيبت الطائرة من قبل المقاومات الأرضية، وفي الثالث والعشرين من يونيو قمت بدورية على مطار قريب من "مدريد"، كان هجومًا على اثنتي عشر قاذفة أُصيب منها اثنتان وهربت واحدة، وتحطمت طائرة أخرى في البحر.
المعلق:
هل كان للطيار "مارلو" أهمية في الحرب الفرنسية الإسبانية؟
نعم.. لقد كانت له أهمية؛ لأنه شكل هيئة من المستشارين والطيارين الميكانيكيين المؤهلين، لتسيير العمليات القتالية على مدار ثلاثة أشهر؛ حيث بقيت هناك قرابة أربعة أشهر. وبعد رحيل مجموعة "مارلو" بقيت وحيدًا مع شخص آخر أظنه وصل إلى رتبة عقيد في الجيش الفرنسي كان اسمه "إنييف" لم يكن هنا.
ما الذي فعلته الديمقراطية الغربية للدفاع عن الجمهورية الإسبانية، وما الذي صنعته حكومة الجبهة الوطنية الحاكمة؟ أما الآخرون فلم يطرحوا القضية للنقاش، وفي الثامن والعشرين من مارس عام 1939 دخل "فرانكو" "مدريد" واستعرض فرقة "كوندور" التي قدمت له الكثير، وهكذا انتهى كل شيء وأصبح من الضرورة العودة إلى ألمانيا.
كان استعراض "هامبورج" الكبير في الحادي والعشرين من مايو عام 1939 شارك في ستة آلاف رجل من العائدين، قدم لهم "جورينج" التحية والتقدير، وكان برفقته آخر رئيس للفيلق الألماني الجنرال "ويليام رينج توبن" ابن عم بطل الحرب العالمية الأولى.
لقد تبلورت القوات الجوية الألمانية جيدًا في "إسبانيا"، وفي الرابع عشر من يونيو عام 1939 تقدم "هتلر" بالتقدير لجنوده. كان "هتلر" يمتلك أداة قتل هجومية فاعلة، تمكنه من غزو العالم. كانت تلك أداة الغزو النازي.
في البداية كانت طائرة "جونكرز 87" طائرة "ستوكا" الشهيرة. إنها ذات خصوصية مميزة، أجنحتها على شكل "دبليو" ولها جهاز هبوط قوي مثبت بشكل انسيابي من وسطه تسقط القنبلة التي تزن خمسمائة كيلو جرام، وصفارة تضخم صوت المحرك، كانت طريقة جديدة من الحرب النفسية.
طائرة "ستوكا" سوف تنشر الرعب في أرجاء أوروبا، منذ عام 1938 أخذ الطيارون يتدربون على المناورات الخطرة على متن طائراتهم من طراز "جونكرز 87 ايه" كانت المسألة بسيطة، لكنها في قمة العنف.
قلب الطائرة بزاوية عمودية والسقوط مباشرة بزاوية تسعين درجة، أخيرًا تنفصل القنبلة لتندفع بقوة ميكانيكية، بعيدًا عن المروحة وتصيب الهدف، وتظهر الغيمة السوداء، فيفقد الطيار وعيه لبضع ثوان.
الكولونيل "روديل" أشهر طياري الطائرة "ستوكا" يشرح كيف كان ذلك.
ردويل:
كان عمري اثنين وعشرين عامًا لم أكن ألحظ شيئًا غير عادي، كل ما يشغلنا هو إصابة الهدف، عندما أعود بالذاكرة فإنني أرى بأن ذلك كان ضارًا بالصحة، أما الآن فلن أفكر في ذلك.
المعلق:
في ماذا كان يفكر أفراد سلاح الجو الألماني؟ كانوا يفكرون كيف يفلحون في تدمير بولندا؟!! ففي الأول من سبتمبر عام 1939 دخلت أربع مجموعات مقاتلة بطائرات "ستوكا" الخدمة، لتعطي للعالم أجمع كيفية التنسيق مع الوحدات المدرعة للقوات الهتلرية وشنت طائرات "ستوكا" هجومها على الجيش البولندي، فالصفارات المريعة، ودقة التصويب برهنتا على فاعلية قوة الطائرة "ستوكا".
خلت الطائرات الفرنسية الحرب في الثالث من سبتمبر عام 1939 ضد ألمانيا، كانت فرنسا تمتلك ألفين وخمسمائة طائرة، منها ألف طائرة حديثة، ونحو ألف من الطيارين، قوة لا يُستهان بها، شكلت منها قيادة الأركان خمسين مجموعة مقاتلة، كانت الطائرة الرئيسية في سلاح الجو "مورال سافوييه 706" وهي طائرة قدرتها ضعيفة وبطيئة السرعة وسيئة التسليح.
صُنع منها خمسمائة طائرة إضافية وفي انتظار إنتاج طائرات أفضل منها طلبت فرنسا من أمريكا عدة مئات من طائرات "كيرس اتش 75" وهي طائرة قوية لكنها بطيئة وسيئة التسليح، ظهر جيل من الطائرات باسم "سنكازو" منها "بلوشي 151، و152" الاعتراضية كانت متينة وسريعة وثقيلة التسليح، كان إنتاجها نجاحًا باهرًا، أخيرًا جاءت "ديوتن 520" أفضل الطائرات المقاتلة، مثلما يشهد على ذلك "كاميل بليفو" أحد أبطال الحرب.
كاميل بليفو:
كانت طائرة تفوق الطائرات الأخرى في سرعتها ومزاياها المتعددة، كانت سريعة وسرعتها تدريجية، وكانت جيدة التسليح.
المعلق:
كانت لها منصة إطلاق ممتازة ومتطورة، كانت محكمة التصويب بمدفع من عيار عشرين ملليمترًا.
كاميل بليفو:
عند الطرف الأوسط للمروحة كان المدفع مثبتًا في المحور، وعلى كل جانب من الجناحين كان هناك رشاشان من عيار 7.5 ملليمترًا.
المعلق:
كانت طائرة "ديوتن 520" أفضل ما انتجه "اميل ديوتن" الذي أظهر عبقريته في التنظيم.
كاميل بليفو:
كان الإنتاج مائتي طائرة شهريًا، بدءًا من مايو عام 1940 كنا قادرين على إنتاج الضعف، أي أربعمائة طائرة شهريًا، كانت مصانع التروس تعمل ليلاً نهارًا، رغم عمليات التخريب وقلة التجهيزات سجل الإنتاج أرقامًا قياسية.
المعلق:
على مدار تلك الحرب ظل الجهد متواصلاً، فأنتجت مصانع "بوتيز" بسرعة الطائرة ذات المحركين المخصصة للاستطلاع والهجوم باسم "بوتيز 63" وتلقت "سنكازا" طلبًا لإنتاج ألف وثمانمائة قاذفة من طراز "ليوريه أوليفيه نيو 45" ذات المحركين، كانت تلك الطائرة أفضل القاذفات الفرنسية في ذلك الوقت وتتميز بصلابتها وسرعتها، كانت الصدمة الأولى عندما شن سلاح الجو الألماني هجومه في العاشر من مايو عام 1940.
لقد تدمير أغلب الطائرات الفرنسية على الأرض، والبقية أخذت تقاتل بشكل مستميت، في تلك الظروف المريعة كان التقدم الألماني سريعًا حيث كانت التشكيلات تغير مواقعها يوميًا، بينما أصابت الفوضى التشكيلات الفرنسية، وبطائراتهم القديمة قام طيارو مورال بالتحليق خمس مرات يوميًا لمجابهة طائرات "ميسر شميت" الألمانية.
تحطمت غالبية طائرات مورال الفرنسية خلال الهجوم، وقُتل في المعارك نحو مائتي طيار فرنسي، كان خمسة وسبعون منهم على طائرات مورال، أما البقية فكانوا على طائرات استطلاع وقاذفات ضحوا بأنفسهم أمام الألمان بشكل متهور، يقول "بيير بوت".
بيير بوت:
قد تشتعل الحرب في منطقة الشمال، والمنطقة القريبة من الأربيل أيضًا، وكذلك المنطقة المؤدية إلى سويسرا ثم منطقة الألب، لكن الألمان لم يهاجموا تلك المناطق مرة واحدة، فكان لكل واحدة طيرانها، والذي احتفظت به لنفسها، هكذا كان الوضع.
المعلق:
من كان السبب؟ الإيطاليون كما تقول الإشاعات، لكن ذلك لم يتأكد، كان الإيطاليون في حرب ضد فرنسا، مما أثار اندهاش الإيطاليين أنفسهم، يقول ابن المصنع الشهير "كابروني".
ابن كابروني:
بتفويض من الحكومة الإيطالية وقَّع أبي عددًا من العقود لتزويد فرنسا بعدد من الطائرات ذات المحركين، وكذلك الأمر بالنسبة لانجلترا، وتم إلغاء تلك الصفقة لأن الحرب نشبت بينهما، كان ذلك إحباطًا قويًا لأبي الذي كان على يقين بأن إيطاليا لن تدخل الحرب، حتى شهر مايو عام 1940 وافق موسوليني على تسليم الطائرات، وبلغنا مرحلة الجنون عندما تسلمت فرنسا طائرات "كابروني" من إيطاليا في السادس من يونيو عام 1940.
أي قبل نشوب الحرب بيوم واحد، مما شكل هذا صدمة للعالم، أتذكر عندما كنت طفلاً كان أبي يقول لنا في لحظة معينة.."هناك خطاب هام سيلقيه موسوليني" هُرع الجميع إلى المذياع لسماع الخطاب، وقد أعلن موسوليني بأن الحرب قد اشتعلت، لكن كيف بدأت الحرب ولدينا طلبيات يجب تسليمها للأعداء، ونشبت الحرب وحل الدمار على إيطاليا، لكن في شهر مايو عام 1940 أعطى موسوليني أبي ضمانًا بعدم نشوب الحرب كنوع من الحياد الودي مع ألمانيا.
ثم أدرك بأن الألمان على مقربة من باريس، وبأنه بعدة آلاف من القتلى يمكنه الحصول على حصته من المستعمرات الفرنسية والانجليزية، وهكذا دمرت الحرب إيطاليا كما دمرت "كابروني".
المعلق:
في الخامس عشر من يونيو حطم "لوجلاه" خمس طائرات إيطالية خلال خمس عشرة دقيقة، وسجل أحد عشر انتصارًا، ما لم يشاهده الفرنسيون ولم يعرفوا عنه أن طائرات فرنسية هناك وسط السماء وطيارون لازالوا يحاربون، حيث تم تسجيل أربعة وثلاثين انتصارًا، ويعلق "بوليبو" بالقول..
بوليبو:
لم تكن السماء خالية لا من الطائرات الألمانية ولا الطائرات الفرنسية، وكما تعرفون وقعت الحملة للأسف، والتي دمرت الطيران الفرنسي، الناس على الأرض كانت لديهم رهبة من الطيران الألماني وحسب اعتقادي في السابع من يونيو عام 1940 في منطقة "تريتل" ومن خلال تعداد طلعات الذهاب والإياب تم إحصاء نحو ثلاثة آلاف طائرة فرنسية في اليوم، لكن الناس على الأرض لم يروا منها شيئًان كان الناس يعتقدون عام 1940 أن الطيران الحربي الفرنسي معدومًا، كان ذلك اعتقادهم.
إن صديقي بلان سقطت طائرته حيث أطلقت المقاومات الأرضية النار عليه وظنوه مظليًا من الأعداء، أما أنا فسقطت طائرتي في ظهر نفس ذلك اليوم.
المعلق:
وماذا حل بك بعد ذلك وكيف تصرفت؟
بوليبو:
لم تكن معي أوراق لإثبات هويتي، سرت أمام العريف المسئول والحراب في ظهري مسافة كيلو مترين، والكل يقول لي أنت من الأعداء لقد أسقطتك المقاومات الأرضية، كنا قد أُسقطنا مع تسعمائة طائرة، وهذا ليس سيئًا.
المعلق:
جاء "جورينج" إلى "كاليس" لإعطاء تعليمات جديدة، وقرر "هتلر" غزو "انجلترا"، يجب أولاً منع الحركة البحرية البريطانية وفي الخامس والعشرين من يونيو أطلق "جورينج" هجومه بمائتين وخمسين طائرة من طراز "ستوكا" على بحر المانش.
كانت طائرة "هوكر هاريكان" أكثر سلاح الجو الملكي البريطاني شهرة، كان هناك ثلاثون سربًا مجهزًا، وكانت تطير بسرعة خمسمائة وعشرين كيلو مترًا في الساعة، ونشبت معارك حامية فوق بحر المانش، لم تفلح طائرات "ستوكا" كثيرًا؛ لذا تدخلت المجموعات الألمانية المقاتلة من طراز "ميسر شميت".
من ناحية الطيارين الألمان لم تكن هناك مشكلة، لأن الحرب الإسبانية والحملة على فرنسا أكسبتهم خبرة فائقة، كان من بينهم "ويرنر مولدرز" الذي سجل أربعة وخمسين انتصارًا، وأدولف سجل خمسين انتصارًا عام 1940.
لقد أكسبته طائرة "ميسر شميت 109" قيمته الحقيقية، تلك الطائرة كانت بمحرك أكثر قوة وتطير بسرعة خمسمائة وخمسة وسبعين كيلو مترًا في الساعة، إذ كانت تتفوق على طائرات هاريكان البريطانية.
كانت رمز فوز للطيار الشهير "جالان" وسارت الأمور على ما يرام بالنسبة لسلاح الجو الألماني، وانتقل "جورينج" إلى المرحلة التالية من الهجوم، ففي الأول من أغسطس عام 1940 شنت الطائرات الألمانية من طراز "ميسر شميت" ذات المحركين و"جنيكر 88" هجومها على مطارات الجنوب الانجليزي وألحقت فيها خسائر فادحة.
كانت المقاتلات البريطانية في حالة استنفار ومستعدة للمواجهة، لكن ما السر في ذلك؟ إنه الرادار، ذلك الاختراع الأساسي في تاريخ الطيران الذي اخترعه الانجليزي السير "روبرت واطسون" كانت موجات من الرادار تنعكس على معدن الطائرات ثم ترتد على الشاشة وتشير إلى تعداد طائرات العدو وأهمية قيادة سلاح الجو البريطاني.
عندما يصدر الأمر بالإقلاع فورًا يتسارع الطيارون إلى أفضل طائرات العالم، "فايترز"، "سوبر مارين"، "سبيت فاير" التي يحدثنا عنها الطيار الفذ الجنرال "جوني جونسون" بطل الأبطال في سلاح الجو البريطاني إبان الحرب، حيث يقول..
جوني جونسون:
إن أهم ما في الطائرة هو سهولة التعامل معها والمناورة بها، بمقدورها أن تلتف بشكل أفضل من جميع الطائرات التي شاركت في الحرب، عندما تكون في مأزق يمكنك أن تعود وتدور بها شكل سريع، بعيدًا عن دوائر الطائرات الألمانية، انظروا إلى التناسق الرائع لهذه الطائرات وتلك الخطوط الرشيقة.
نحن الطيارين نفضل دائما ونميل إلى الطائرات الجميلة.
المعلق:
في طلعتها الأولى في الخامس من مارس عام 1936 أظهرت طائرة "سبيت فاير" صفات مميزة، كان ذلك النجاح نتيجة جهود المهندس "ريجنال ميتشيل" الذي برز نجمه برسم الطائرات المائية السريعة في "كاسشنيدر".
في عام 1931 حقق "ريجنال ميتشيل" في انجلترا الفوز للمرة الثالثة بـ"سوبر مارين اس 6بي"، التي أخذت حينها شكل "سبيت فاير" والتي سجلت سرعة مهولة بلغت ستمائة وخمسين كيلو مترًا في الساعة.
طائرة "سبيت فاير" كانت زواجًا ناجحًا لرسم متكامل مع محرك رائع من "رولز رويس" باثنتي عشرة اسطوانة يتم تبريده بالسائل وبقوة ألف حصان، كانت ميكانيكيته بسيطة وسهلة، ولكن "جوني جونسون" يرى فيه عيبًا واحدًا يقول..
جوني جونسون:
عام 1940 لم يكن التسليح نموذجيًا في الطائرة، كان فيها ثمانية رشاشات، على كل جناح منها أربعة، لكن عيار تلك الرشاشات كان أقل من ثمانية ملليمترات، لم يكن بمقدور تلك الرشاشات اختراق الطائرات الألمانية المصفحة.
المعلق:
أصبحت الطائرات الألمانية مستعدة للمرحلة الثالثة من معركة انجلترا، ففي سبتمبر عام 1940 قرر "هتلر" و"جورينج" تغيير استراتيجياتهما فلم تتمكن القوت الجوية الألمانية من تدمير سلاح الجو البريطاني على الأرض، فكانت الخسائر كبيرة بالإضافة إلى كون النتائج غير مؤكدة، لذا أرسل الألمان طائرات "هيني كيلمي" أو أحد عشر إلى المدن الانجليزية ولو تمكنت من تدميرها مثل "وارسو" و"روتردام" لاستسلم الانجليز للألمان.
في السابع من سبتمبر عام 1940 قالوا إن بريطانيا لم تعد جزيرة، أما اليوم فقد جاءها الدمار من كل اتجاه، وقد أصبحت لندن تحت شدة القصف ليلاً ونهارًا، وتم تدميرها، لكن ذلك لم يفت في عضد الشعب البريطاني الملتف حول "تشرشل".
كان أنطوني بلانشي البالغ من العمر ثلاثين عامًا آخر من قاد الطائرة الأخيرة من طراز "سبيت فاير".
انطوني بلانشي:
كنا نحرك المقود بهذا الشكل.
المعلق:
في الخامس عشر من سبتمبر عام 1940 أقلع ما تبقى من طائرات "سبيت فاير" واكتشف الرادار أكبر تشكيلة لطائرات العدو لم يشهدها أحد من قبل تُقدر بألف قاذفة ألمانية تهاجم "لندن"، فتم إسقاط مائة وتسع وثمانين منها.
في الخامس عشر من سبتمبر عام 1940 كسب الطيران الملكي البريطاني معركة انجلترا فظل ذلك التاريخ ذكرى عزيزة على قلوب الشعب البريطاني، ما هو شعور الإنسان عندما يطير بطائرة "سبيت فاير"؟ يقول "أنطوني بلانشي".
انطوني بلانشي:
إنه شعور صعب لأنها طائرة غريبة، وذات حساسية عالية للتعليمات، أنا شخصيًا لست معتادًا على الطائرات السريعة جدًا إنها طائرة كبيرة جدًا، إنها طائرة كبيرة للألعاب البهلوانية ولكن في تلك الطائرة، ينتاب الطيار شعور طيب، لأنه يملك طائرة قوية، وأنه أيضًا يمتلك مساحة واسعة من الفضاء الفسيح جدًا.
المعلق:
هل لا تزال تفكر في طياري الحرب زملائك؟
انطوني بلانشي:
نعم.. وكيف أنقطع عن الماضي.
المعلق:
كيف لا يفكر في الماضي؟! وكل هؤلاء الطيارين في سلاح الجو الملكي الذين تجمعوا حول زعيمهم مارشال الجو "يور دوج" وأبطال مثل "ستانفورد تاك" الذي حقق تسعة وعشرين انتصارًا أو "دوجلاس بادين" الذي أحرز ثلاثة وعشرين انتصارًا وانتهى به الحال ببتر ساقيه والآخر مثل "سيلور مالاه" من "جورلاسي بيتر جاونسن" "جوني جونسون" الذي أنهى الحرب بثمانية وثلاثين فوزًا.
فهو يعرف جيدًا كيف يصبح الإنسان بطلاً.
جوني جونسون:
سر هذه الطائرة يكمن في معرفة تحديد مسافة الإطلاق، فليس بمقدورك تدمير طائرة للعدو على مسافة تزيد على مائتي متر الكثير من الطيارين يطلقون النار من مسافات بعيدة فيخطئون الهدف، فالأفضل الاقتراب لأقصى حد ممكن لتدمير العدو ثم الإفلات، هذا يتطلب شجاعة نادرة لأن الهجوم يستغرق مزيدًا من الوقت للاقتراب من الهدف.
حينها يكون الطيار نفسه عرضة للخطر، لكن الاقتراب كان ضروريًا ولا بد منه، البعض منا الذين اعتادوا صيد البط كانت المسألة بالنسبة لهم أكثر سهولة، لأننا عندما نطلق النار لصيد البط، نطلق أمامها، لذا استوجب علينا إطلاق النار أمام الطائرة الألمانية.
هذا ليس صيد بط، بل هو صيد لبني البشر، فهل يفطر من يطلق النار على الطائرة بطيارها؟ أم يتركز همه على الطائرة، لم أفكر مطلقًا بالإنسان الموجود بداخلها، أو في قتله، هدفي كان إسقاط الطائرة.
المعلق:
لم يكن في الجو غير الطيارين الشبان المزودين بالشجاعة مع زملائهم من الكومنولث الكنديين والاستراليين والإفريقيين الجنوبيين أما المشردون من أوروبا المحتلة من بولندا وبلجيكا وفرنسا وتشيكوسلوفاكيا فقد ظلوا مديدين لتشرشل وللطائرة الحربية.
 
تاريخ الطيران

تابع
7-
رونالدو لابوي:
هذا هو المقبض الذي هو فعليًا بين الأقدام، ويستخدم لإعادة تلقيم المدفع في حالة التعطل، يجب سحب هذا المقبض بكل قوة ونزع القذائف التي لم تنطلق، ونأمل أن تكون تلك اللحظة في ظروف ملائمة، تسمح من جديد باستئناف الرمي بشكل طبيعي.
هذا الزر يشغل الآلة، وهناك زر الأمان والخلاص لحظة القتال.
المعلق:
تتفوق المطاردة "ياك فلوف" في القتال على المقاتلة الألمانية "ميسر شميت 109"؛ حيث تستطيع الدوران بشكل سريع للانقضاض وتحقيق الضربة القاضية، ظهر على الحدود الروسية عام 1942 خصم عنيد، المقاتلة "فوكولف 190" طائرة يعرفها "رونالدو لابوي" جيدًا.
رونالدو لابوي:
إننا لا نحب تلك الطائرة بشكل خاص؛ لأنها قاسية جدًا، فهي تمتلك أربعة مدافع ورشاشين منها مدفعان من عيار عشرين ملليمترًا ومحركها يُبرد بواسطة الهواء، بقوة 1700 حصان، إنها طائرة مميزة في الارتفاعات، فهي ترتفع بسرعة وقدرتها على الارتداد فائقة، لهذا السبب نجدها دائمًا في الغلاف العلوي فوق الجميع، لقد كانت خطيرة جدًا في موقعها ذاك، وكان الطيارون باستطاعتهم الانقضاض بسرعة والاختفاء بسرعة.
المعلق:
قام الألماني "أدولف هافلاند" الذي أصبح قائدًا لسلاح الجو بتجربة الطائرة، وأطلقها خلف القاذفات الأمريكية التي بدأت شيئًا فشيئًا تضرب "ألمانيا النازية" وبكثرة.
أدولف هافلاند:
سلاحها عبارة عن مدفع رشاش من عيار عشرين ملليمترًا، طاقته حوالي من مائتين وخمسين إلى ثلاثمائة طلقة في الدقيقة، تضرب الهدف ولا يبقى شيء أمامها، في النتيجة كانت تخشاها القاذفات "بي 12" والقاذفات الروسية "بي 2".
المعلق:
عرف الأمريكيون بطائرة "فوك ولف"، لكنهم لم يكونوا مهتمين في البداية، كانت "أمريكا" لا تزال قوية وتستطيع أن تعوض كل الخسائر؛ حيث إنها بين عامي 1941 و1945 أنتجت مائتين وستين ألف طائرة، كان هذا رقمًا قياسيًا، شركة "البوينج" أنتجت اثنتي عشرة قاذفة ثقيلة "بي 17".
"بي 17" الطائرة الأقوى، أتت الفكرة من مداولات الجنرال "ميتشيل" خلال فترة العشرينيات قاذفة قادرة على تدمير مصانع ودفاعات مدن العدو، عرضها ثلاثون مترًا، وطولها خمسة وعشرون مترًا، ووزنها ثلاثون طنًا، لها أربعة محركات بقوة ألف ومائتي حصان، إنها السلاح القاتل للرايخ.
خيم اليأس على المحاولة أثناء العرض الذي قدمته القاذفة أمام المسئولين، انطلق نموذج منها مباشرة لضرب أحد المرتفعات.
خريف عام 1942 وفي إحدى قواعد الفرقة الثامنة في جنوب انجلترا حاول طيار "بي 17" شرح تفاصيل الهجوم، سيكون الهدف الميناء الألماني على بحر الشمال، مخبأ حاملات الطائرات والغواصات المرعبة.
كانت معركة "الأطلنطي" مرعبة، يجب تدمير الملاجئ والمصانع، هذا هو أمر الإقلاع، كل فرد يستطيع قراءة اسمه ومهمته، "كلانين"، "باترون"، "واتنر" من "ميل" اضبطوا الساعات، هذه الحركة كانت تعني الاستعداد، الفريق مؤلف من تسعة أشخاص: طيارين، قاذف، ملاح، عامل راديو، ميكانيكي، وثلاثة رجال لاستخدام الرشاشات، الطيار يصعد أولاً ويكون آخر من ينزل.
موقع رامي الرشاش في كرة دائرية متحركة تحت بطن الطائرة. يتأكد الميكانيكي من كل شيء، ثم يصعد على هذه الطائرة التي أُعدت لتلاءم خياله وخيال الفريق. كانوا يخرجون إلى "ألمانيا" كل يوم، الآن تستحق هذه الطائرة التي سمُيت بالسلاح القاتل اسم "جي 17 بي" وهي مدعمة ومسلحة بثلاثة عشر مدفع عيار 12.7 ملليمتر.
أثناء التحليق وللحماية من المطاردات المعادية يُطبق التشكيل الذي يُدعى الصندوق العلبة، والمربع، اثنتان وثلاثون طائرة تحمي بعضها البعض، هذا يعني أن باستطاعة أربعمائة وستة عشر مدفعًا ورشاشًا الرمي في وقت واحد.
العدو رقم واحد الذي واجهنا منذ تحليقنا في الأجواء الألمانية هو الطائرة "فلاج" والطائرة "دي سي إيه" بمدافعها عيار 88 ملليمترًا، التي كنا نشاهدها تومض مسرعة حول طائراتنا، يجب أن تستمر بشكل مستقيم، بعدها بدأت المطاردة، إنه الجحيم.
المصور "ويلر" كان يعمل بشجاعة في وسط الانفجارات، التقدير كل الذين قاموا بالتصوير في جميع حروبنا والمعارك الكبيرة، أغلبهم لم يعد. أمر المسئول عن الإطلاق بفتح أبواب الذخيرة، واستمر سيناريو الجنون للوصول إلى الهدف، صرخ المسئول عن الإطلاق: "أكثر إلى اليسار.. درجة واحدة"، أخذ المبادرة وكبس على الزناد.
في السنة الأولى من الإطلاق أُلقي حوالي مائة ألف طن من القنابل على ألمانيا هتلر، كان بعدها الهروب والعودة بمحركات إلى انجلترا، هناك ينتظرون بقلق، يعرفون أنه بعد كل طلعة يقومون وبذهول بتعداد عدد الطائرات العائدة، كيف هذا مستحيل، عشرة عشرون ثلاثون فقدت، المئات تُفقد أخر السنة.
تحول نصف الطائرات التي تعود إلى الخردة، الأرضية داخل الطائرات مغطاة بالدماء والموتى والجرحى، يجب تأمين الحماية للقاذفات بسرعة، أقلعت مجموعة من الطائرات الأمريكية المطاردة لتأمين تغطية دفاعية، "اللوكهيد بي 38" المضيئة يسميها الألمان الخبيثة.
***********************************​
الأمريكية "بي 51"، "موستنج" النسر المكار الأكثر رشاقة بين كل المطاردات الحربية، أجنحتها رقيقة كالشفرات تملك ستة مدافع رشاشة من عيار 12.7 ملليمتر، سرعتها سبعمائة كيلو متر في الساعة، وسهلة الاستعمال بشكل خارق للعادة.
الطائرة المشهورة "بي 47" "ساندر بورت" الصاعقة، إنها مختلفة كليًا، قد لا تكون الأفضل، لكنها بالتأكيد الأكبر، وزنها ثمانية أطنان، وهي كتلة من الحديد كما يقول الطيارون.
لسحب وزن كهذا يجب وجود محرك بقوة ألفين وخمسمائة حصان، لكن حين تحلق تصل سرعتها إلى ستمائة وثمانين كيلو مترًا في الساعة، وبها حقق الأمريكيون انتصارات كبيرة، تحمل هذه الطائرة علامة "hv" للكولونيل الفرنسي "كابريسكي". إنها قادمة من مهمة حراسة للقاذفات، لقد حققت انتصارها رقم 28.
يقول الكولونيل "كابريسكي" وهو من القوات الجوية الأمريكية..
كابريسكي:
الـ"بي 47" كانت تتحمل كمًا هائلاً من الطلقات، أجنحتها كانت قوية كالصخر تمامًا، تصل سرعتها إلى ثمانمائة كيلو متر في الساعة، ويساعدها محركها الضخم في تأمين الحماية لها، إنني أعشق هذه الطائرة، أعشقها لأنها كانت تعيدني سالمًا في كل مرة، إلا مرة واحدة، لم تكن غلطتها بل غلطتي أنا، كنت أحاول ضرب إحدى المطاردات الألمانية من علو منخفض، كنت منخفضًا جدًا حيث اقتربت من الأرض، وعندما ارتطمت بالأرض قلت الحمد لله لأنني بقيت حيًا، أما الآن فبمقدوري أن أهتم بالباقي.
المعلق:
أنهى "فرانسيس كابريسكي" الحرب وهو معتقل مع الآلاف من الطيارين الأمريكيين، غطى الحطام الأراضي الألمانية إنه منجم من المعادن المميزة.
صنع الألمان حوالي اثنين وتسعين ألفًا وستمائة وخمسين طائرة معظمها من القاذفات، أنتجت "جانكر" خمسة عشر ألف طائرة ذات محركين، وهي هجومية ومطاردة من نوع "جانكر 88".
أنتجت "ميسر شميت" نوعًا جديدًا متطورًا من المطاردة "جي 109 ميسر شميت"، التي تتخطى سرعتها سبعمائة كيلو متر في الساعة، كما أن الألمان بدءوا ينتجون طائرات ذات أربعة محركات، كطائرة "فوك ولف كوندور" التي أزعجت الحلفاء كثيرًا فوق الأطلسي، ولم ترعب جسامة الوضع المصنعين الألمان، لقد أنتجوا المئات من طائراتهم الضخمة " 323 ميسر شميت"؛ لنقل القوات والمؤن إلى "روسيا". إنها تستحق فعلاً اسم العملاق، تستطيع استيعاب وحدة عسكرية كاملة، من جنود المشاة مع آلياتهم وعتادهم.
بدأ الألمان عملية "الباسفيك" تحت اسم الإمبراطور، انطلقت في السابع من ديسمبر عام 1941 أسراب من المطاردات "زيرو" والقاذفات "فال" و"كيف" باتجاه "بيرل هاربر" قاموا بقصف القواعد الأمريكية في جزر هاواي بشكل عنيف. دمروا معظم سفن أمريكا، لكنهم لم يدمروا حاملات الطائرات التابعة لأمريكا والتي استجابت للنجدة.
كانت حاملة الطائرات "هابي" أول من عاد إلى "بيرل هاربر"، كان إقلاع قاذفة الطائرات "بي 25" من على سطح صغير لأحدى حاملات الطائرات أكثر المشاريع جنونًا، صاحب تلك الفكرة أحد أشهر الطيارين الأمريكيين خلال الثلاثينيات وهو "جيمي دولي تيل" الحائز على كأس "شنيدر" للقب رجل السرعات الخارقة.
كان هذا الحل الوحيد أمام المسافات الهائلة في المحيط الهادى، لم يكن هناك أي قاذفة قادرة على الوصول إلى اليابان، إنه أمر قاسي وزن القاذفة خمسة عشر طنًا، مسافة الإقلاع الطبيعية لها تصل إلى ألف متر.
لقد نجحوا لن تكون غارة جوية كبيرة، بعد القنابل على اليابان ثلاثون ثانية فوق طوكيو، ثلاثون ثانية كافية لتعيد الثقة للأمريكيين، إنهم بحاجة لها، ستكون الطريق طويلة للوصول إلى تلك الجزر، هل بمقدور اليابانيين مراقبة كل جنوب المحيط الهادى؟
القوات الجوية اليابانية قوية للغاية، منظمة ومزودة بطائرات متطورة جدًا عن مثيلاتها في تلك الحقبة، كان هذا اكتشافًا مذهلاً للأمريكيين، إنها صدمة مزعجة، خاصة تلك الطائرة الميتسوبيشي "إي 6" التي أصبحت مشهورة باسم "زيرو".
"الزيور" طائرة سهلة الاستعمال تستطيع الدوران على نفسها، وفي لحظة تصبح خلف العدو، يكمن سرها في وزنها الخفيف. تعمد المهندس الياباني "جيرو هوسيكوشي" بنزع كل دعائم التصفيح، وكل الأوزان غير المفيدة؛ حيث استطاع أن يجعل وزن تلك الطائرة ألفًا وخمسمائة كيلو جرام بقوة محرك 1100 حصان من نوع "ناكاجيما".
عرضها مع الأجنحة ثلاثة عشر مترًا، انسيابها مميز وذات مظهر مقطعي جميل معتنى بها للغاية، عنى الطيارون اليابانيون من عدم تصفيح طائراتهم، ولكن الطائرة "زيرو" كانت لها حركة دوران مدهشة، كما كانت تستطيع الطيران لمدة عشر ساعات متواصلة، مما يجعل اليابانيين يقومون بغارات ملفتة.
لقد كانت تلك الطائرة مسلحة تسليحًا قويًا، تملك مدفعًا رشاشًا عيار 20 ملليمترًا على كل جناح، فوق المحرك رشاشان يصل مغلاقهما إلى داخل حجرة الطيار، حتى يتمكن من تلقيمهما بالذخيرة عند الضرورة.
مع مثل هذه الطائرة ليس غريبًا أن يكون لليابانيين العديد من الطيارين الأبطال غير المعروفين في الغرب "نيشيزاوا"، "ياموتو"،" سوجيتا"، و"سابورو ساكاي" الذين لدى كل فرد منهم حوالي ثمانين انتصارًا.
قاد هؤلاء الأبطال أيضًا الطائرة "ناكاجيما هاياكوزا" الآلة الخفيفة والضعيفة التسليح والملائمة للظروف القاسية للشقلبة، كان لهم بدورهم طائرات تشبه الطائرات الأوروبية تُدعى "بواساكي هيلين" التي تملك محركًا واحدًا يشبه ذلك الذي في طائرة "ميسر شميت".
كما أنهم قادوا المطاردة الرهيبة "ميتسوبيشي ريديان" بمحرك ألف وثمانمائة حصان مصفحة ومسلحة بشكل قوي، وتصل سرعتها إلى ستمائة وخمسين كيلو مترًا في الساعة، استطاع اليابانيون خلال تلك الفترة من عام 1941 إلى 1945 وبجهد خارق من تصنيع سبعين ألف طائرة، ولم يستطع حلفاء ألمانيا تحقيق التوازن مع أمريكا.



________________________________________________________8-

المعلق:
وضع الأمريكيون عشرات حاملات الطائرات في الخدمة، ودفعوا إلى المعركة بستة آلاف طائرة من طراز "دوجلاس داون بليز"، وسبعة آلاف طائرة من طراز "كوترز سفاير"، وعشرة آلاف طائرة من طراز "جرومان أبينجاي" كلها من الطائرات القاذفة السريعة الفعالة مثل "الميدواي".
وجدت الطائرة الحربية من نوع "زيرو" أمامها لاحقًا مطاردات متطورة منها القطة المفترسة، وهي طائرة صغيرة وسريعة تحملت أعباء المعارك الأولى. الطراز الجديد الطائرة "تشانس بوكرسير" قد تكون الأجمل بين الطائرات في المحيط الهادي لأجنحتها التي على شكل "w" ومحركها بقوة ألفي حصان. أصبحت الطائرة "برومان هيلكاد" المطاردة الأكثر أهمية. إنها مصفحة ومسلحة بستة مدافع رشاشة، وسريعة جدًا.
واحد مقابل واحد، الطيارون اليابانيون اختفوا خاصة هناك في تلك المعركة الجوية التي حملت اسم رماية على حمام البحرية.
فوق منطقة "جوادا الكنال" إحدى الطائرات اليابانية من طراز "زيرو" أصيبت وكان يقودها الطيار الياباني "سابور ساكاي".
سابور ساكاي:
أصيبت طائرتي بطلقات الرصاص، كما أنني أصبت بطلقتين من عيار اثنى عشر وسبعة بالعشرة ميلي مترًا في رأسي، فقئت إحدى عيني وفتحت جمجمتي، وسال دمي بغزارة، كما أنني شعرت بشلل نصفي، ولكن طائرتي "الزيرو" استمرت في التحليق ونسيت كل شيء، وكان تفكيري منصبًا على شيء واحد وهو العودة إلى قاعدتي، وهكذا قطعت ألفي كيلو متر وأنا على هذا الحال.
المعلق:
ضربة أخرى قاسية تلقاها اليابانيون في 18 من أبريل عام 1943 اختفى الأميرال "ياما موتو" المخطط المميز للبحرية الإمبراطورية، وكان عائدًا من مهمة استطلاعية في جزر المحيط الهادي، حيث خرق الأمريكيون الشفرة اليابانية وعرفوا بيان الرحلة والتوقيت.
لقد وجدنا الطيار الأمريكي الذي أسقط بطائرته طائرة "ياما موتو". إنه الطيار "توم لام فيير".
توم لام فيير:
كنا نطير فوق الماء صاح أحدنا فجأة، هناك طائرتان من طراز "بيتيز" وست طائرات من طراز "زيرو" لم نتوقع وجودها كان شيئًا لم يصدق، وكأننا كنا على موعد.
المعلق:
تتبع "لام فيير" طائرات "البيتز" واستطاع إدراكها، وفي هذه اللحظة حدث شيء غريب وغير متوقع.
لام فيير:
كنت أحاول أن أجرب مدفعيتي حتى أتأكد أنها تعمل كما يجب، وخلال قيامي بذلك أصبته بشكل عارض، أردت إبقاء طائرتي خلفه، وعندما قمت بتجربة مدفعيتي أصيب محرك طائرته الأيمن، وبدأت الطائرة تحترق وتحطمت في الغابة.
المعلق:
اليوم أضحى "توم لام فيير" صحافيًا يحلم بما حدث معه في ذلك اليوم من أبريل عام 1943 حيث أنه بكبسة على الزر الأحمر قد غير مجرى الحرب.
لام فيير:
كنت مشوش التفكير لم أتردد لحظة بالإطلاق عليه، لأن الشخص الذي يخوض الحرب ضد بلدي كان يجب أن أرديه قتيلاً، لكن منذ ذلك الحين تعرفت على أناس كثيرين على بعض العائلات، إنها تجربة مهمة، في الحرب تقتل أحدًا دون أن تعرف من هو، لكنني علمت أن من قمت بقتله كان رجلاً يردد دائمًا: "أنه من الحماقة بمكان أن نقصف الولايات المتحدة الأمريكية"، لكنه كان عليه أن يطيع الأوامر، لقد اهتممت كثيرًا لأمر هذا الرجل، لقد كان غريبًا بالفعل، لكنني لم أكن سأتردد في ضربه مرة ثانية، ترى هل سأحصل على فرصة ثانية كما حصلت عليها مؤخرًا؟ هذا ما لا أعرفه.
المعلق:
تعرض الألمان عام 1944 لأفظع عمليات العقاب الأمريكيون في النهار والإنجليز في الليل يقصفون بواقع طن من القنابل في الدقيقة.
قال أحد الألمان ويدعى "جورنج": "لن تستطيع أي طائرة للعدو التحليق فوق ألمانيا أبدًا". لم يكن هذا إلا حديثًا مصورًا ساخرًا للقاذفات الإنجليزية، حيث كانت الطائرة "أفرولانكستر" تلقي حمولتها على "برلين" والمدن الألمانية كل ليلة.
"تيدل ويل هوجي" ميكانيكي تلك الطائرة يشرح لنا التفاصيل.
تيدل ويل هوجي:
إنها قنبلة تزن خمسة أطنان وبطاقة انفجار هائلة، طولها خمسة أمتار، تشاهدون من الجهة الثانية القنبلة ذات العشرة أطنان، والتي صنعت من قِبَل "بيرني والس".
المعلق:
"بيرني والس" خبير في المفرقعات أمضى معظم حياته في رسم آلات الموت الأكثر إيلامًا بشكل دقيق وبذكاء مميز. قنبلته دمرت السدود وأغرقت مركز الصناعة الألماني بالمياه. إنها قنبلة متزلجة وتكون فعالة جدًا بعد أن ترمى في الماء، أما القنبلة ذات العشرة أطنان فهي "البلوك فاستر" باستطاعتها وبضربة واحدة تدمير مجموعة من المباني.
أُلقي على "ألمانيا" خلال الحرب حوالي مليون وخمسمائة ألف طن من القذائف، استهلك في نقلها حوالي ستين مليارًا لـ"تربترواي"، لكن هل كانت إستراتيجية القصف في تلك الحرب مفيدة كما في غيرها؟ هل أوصل تدمير مدن "هامبورج" و"درسدن" لنهاية الحرب؟! وماذا عن المصانع الألمانية المقصوفة بأطنان من القنابل؟! هل دُفنت أم اختفت؟! لقد استطاعت تلك المصانع بين عامي 1944 و 1945 زيادة الإنتاج ثلاثة أضعاف من الطائرات والآليات والمدافع عن عام 1940، لم يشك كبار منظري الدمار في صحة تصرفهم.
ماريشال سلاح الجو "هاريس" سُمي بالقذيفة.
الرجال والطيارون والملاحون والقاصفون هل كان لديهم شك فيما ينفذون؟ طبعًا لا، إنها فكرة حديثة، مفارقة تاريخية أن يحصل تقريع للضمير في الحروب، دخلوا الحرب وقصفوا "هتلر"، لا يفكرون إلا بشيء واحد، ألا وهو: البقاء على قيد الحياة.
فقدت القوات الجوية لكل من بريطانيا وأميركا حوالي 100 ألف طيار العودة هي الأساس، لقد كان أولئك الطيارون الثلاثة ملاحو الطائرة "لانكستر" يعودون كل ليلة مع طائراتهم، يذهب "هاري" و"ستيف" و"ولتر" في مهمة مع بعضهم البعض كل يوم.
كل مساء يكون لديهم الإدراك نفسه.
انتبه لرأسك.
***********************************​
المعلق:
بنظرة اليوم الذي يقلق أكثر عندما ندخل في تلك الآلة هو أنها ليست من الماضي البعيد، ومع هذا تبقى هذه الطائرة ديناصورًا حقيقيًا.
ملاحو هذه الطائرة استمتعوا بوقت لما قبل التاريخ، خذوا بعين الاعتبار أن الرجل المكلف بالمدفع الرشاش الذي في الخلف يجب أن يبق ثمان ساعات في برجه الصغير في البرد وفي الظلام، هذا النظام استبدل بأزرار بعد نهاية الحرب، سرعة رجال القصف كانت تلعب دورًا في الحماية.
في عام 1944 كان على مستخدم الرشاش البقاء ثمان ساعات في غرفة بلاستيكية يتقرب المطاردات الألمانية، فهل كان ذلك صعبًا؟ يقول "ستيف": "إنني أعتقد أنه عندما نكون في ربيع الشباب كما كنا وقتها فإننا نعوض النقص بسرعة، مثلاً في الصباح التالي نكون بحالة جيدة وعلى استعداد دائم للخروج مرة ثانية. إنه جيل الشباب".
ولتر:
كنت الملاح. موقعي كان في مقدمة الطائرة، إنه عمل سهل، هذا كان مقعد الملاح، على الجانب يوجب راديو مع جهاز استقبال بمصابيح وبالطبع الترانزستور لم يكن معروفًا آنذاك، يقوم بطلب الاستغاثة في حال كان جهاز الاستقبال يعمل، الرامي موقعه في المقدمة أي في أنف الطائرة.
المعلق:
يجب على رجل القصف أن يملك قدرة متقنة على التصويب، بالفعل فإن الظلام فوق مدينة كبيرة يتطلب منه قدرة على التسديد، كانت طائرات الاستطلاع تحدد الأهداف بقنابلها المضيئة لم يكن يتوجب إلا الإطلاق بغزارة، هكذا كانت المهمات بعدها تبدأ رحلة العودة.
لم تعد إحدى طائراتنا في تلك الليلة هذا ما أعلنته وبشكل محزن النشرة الإعلانية، أين هو فريق الطائرة؟ هل نجا؟ إننا نسمع الكثير من الروايات، مثلاً: ذلك عامل الرشاش في طائرة "كانلستر" قفز بمظلته من علو خمسة آلاف متر وبقي حيًا، إنها ليست رواية من الخيال، بل لقد وجدنا هذا الرجل أتى معنا إلى نفس المكان الذي سقط فيه منذ أكثر من ثلاثين عامًا في تلك الغابة الألمانية، إنه "نيكولاس" وبصوت متزن وهادئ قص علينا الرجل مغامرته العجيبة.
نيكولاس:
كنا عائدين من غارة فوق "برلين"، وتخطينا منطقة الرادارات الألمانية، أصيبت طائرتي عندما اعترضتنا المطاردات الألمانية، حاولت فتح مظلتي، ولكن كان غلافها قد احترق.
المعلق:
أكان ذلك مرعبًا؟
نيكولاس:
نعم، لم أستطع تحمل النار، كانت الحرارة شديدة، فتحصنت في مقصورتي والأبواب كانت موصدة، كما أن خريطة الرحلة احترقت أيضًا ووجهي ويداي، وقلت في نفسي: حسنًا إنها النهاية، الأفضل أن أقفز من أن أبقى وأحترق حيًا، عندها أدرت مقصورتي وفتحت الأبواب وقفزت في الفراغ، وعندما هبطت وللوهلة الأولى ساد الهدوء بعد الضجيج، شعرت أنني سأسقط على رأسي، ثم قلت: حسنًا ربما أموت وهذا ليس مستحيلاً، ولا شيء يدعو للخوف، أما بالنسبة للسرعة فقد كانت محسوبة، يسقط جسم الإنسان بسرعة هائلة، وعندما يصل إلى الأرض يكون ميتًا، ولكنني حين شاهدت الأشجار تحيط بي أخذت بعين الاعتبار بأنني قد أنجو، وقد نجوت بالفعل.
ما الذي حدث بالتحديد؟ هل وقعت على تلك الأشجار من غصن إلى غصن حتى وصلت أخيرًا إلى التل؟
وصلت أخيرًا إلى التل الأصل وفروع الأشجار كانت متشابكة، مما جعلها تخفف من قوة الاندفاع الهائلة، حتى وقعت على الأرض، أول شيء فعلته عندما استرجعت الوعي والذاكرة وسط تلك الأشجار هو أنني نظرت إلى الفضاء لقد شاهدت النجوم تتلألأ من خلال الغابة، وقلت: الحمد لله ما زلت حيًا أرزق، كنت في حالة من النشوة، لقد احترق وجهي ويداي وظهري تمزق وأصبت بكدمات متعددة، اقتلع نصف شعري، ودخلت قطع الخشب والكثير من الأشواك في كل جسمي.
المعلق:
تلاحقت الضربات على ألمانيا أتت طائرات "هافيلان موسكيتو" بطلقة الخلاص فهي تطير بسرعة أكبر من المطاردات وتحمل قنابل أكثر من "بي 17" وهي مصنوعة من الخشب وتحلق في مستوى الغيوم، تتفادى رادارات العدو، وتقصف وترمي وتحرق كل شيء يتحرك في ألمانيا، التي أصبحت في موقف ميئوس منه، كان للألمان في الأول من يناير عام 1945 الخطوة الأخيرة، وليقوي الدفاعات استخدم "جورينج" كل ما تبقى لديه ضد الحلفاء، ما بقي له الكثير الطائرة الطائرات لكن دون البترول، والكثير من الطيارين دون خبرة، مدربون بسرعة يموتون بسرعة، القادة المدربون من بدايات الحرب ماتوا أيضًا.
حقق 258 انتصارًا ثم قتل بدوره، أرقام خيالية ومع ذلك فهناك الكثير منهم "ريك هارتنن" عمره عشرون عامًا حقق 252 انتصار رقم لا يصدق، حقق 150 طيارًا ألمانيا أكثر من 100 انتصار، وحقق 15 طيارًا أكثر من 200 انتصار، هل كانوا أفضل الطيارين؟
"بيري جرسترمان" قائد في السلاح الجوي الفرنسي، قاتل هؤلاء الطيارين الألمان ولديه الجواب.
بيري جرسترمان:
بالإمكان القول نعم، كان هذا على الحدود الروسية؛ لأن الطائرات الروسية كانت أقل إتقانًا لا لأن هناك الكثيرين من الذين حققوا الانتصارات على حدودنا بل لأنني أعرف الكثيرين ممن دخلوا المعارك منذ عام 1936 في "إسبانيا"، ثم في "بولونيا"، ثم "فرنسا"، ثم في معركة "لندن".
ذلك لأن القيادة الألمانية كانت قاسية جدًا؛ حيث إنها كانت تدفع شبابها إلى الموت، أما نحن فكنا نحال على التقاعد بعد أن نقوم بتسعين أو بمائة مهمة، بالنسبة لهم لا مجال للتوقف.
المعلق:
متى يعيشون حياتهم؟
بيري جرسترمان:
لم يعفو من مهماتهم، ومتى يعيشون حياتهم كان هناك منهم أناس ذوو خبرات خارقة، وفي كثير من الأحيان لا خيار لك عندما تلتقي بأحد الطيارين الألمان من ذوي الخبرة العالية أثناء معركة جوية، لن تكون لك إمكانية كبيرة للخروج حيًا. كنا نشعر بوجود حيوان متوحش يدور حولنا، وعندما يخامرك شعور من هذا القبيل تتخيل هكذا أشياء أثناء المعركة، تشعر برغبة في أن تتحاشاه وكأنه طاعون.
لم أستطع تحاشي هذا مرتين.. لقد أصبت مرتين مرة في 12 من مايو عام 1943، كنت في حالة شديدة من عدم الوعي الناتج عن التعب والإرهاق، لم أكن في حالة جيدة، لكن خلال 30 ثانية كنت أحلق، لكنني كنت خائفًا أيضًا، عندها قلت: لقد كان طيارًا ألمانيًا واحدًا، وكنا ثمان طائرات. قام بمناورة خداع واحد اثنان وثلاثة ثم أصابني، كاد أن يقتلني لأنه في لحظة توقف محرك طائرتي شاهدت إحدى الطلقات تنفجر في المقدمة، وبالتحديد تحت تلك الإشارة، لم أكن أقود طائرتي ذلك اليوم؛ لأنني عندما أُجبر على قيادة طائرة غير طائرتي تحدث لي مصيبة دومًا.
شيء غريب، شاهدت الطائرة تنفجر وشعرت بالضربة التي توقف فيه المحرك عن الدوران، ولأنني لم أتمكن من استخدام المظلة قمت بالانحراف، قام بالمرور من جانبي شاهدت الطيار جيدًا يمر من فوق طائرتي وطائرته مقلوبة، وبكل هدوء وعلى بعد عشرة أمتار مني حاول يائسًا أن يبطئ سرعته.. الخوف من أن أطلق النار عليه؛ لأن محركه كان في حالة دوران، عندما قام بسرعة بعملية الالتفاف.
عندما هبطت بالطائرة في مستنقع قرب بحيرة "دومير" غطى الوحل الطائرة، وخرجت منها كالمعتوه، نزعت المظلة وتزحلقت على الأجنحة ثم قفزت، لم أكن أصدق حينها بأنني كنت على قيد الحياة، وبعد ذلك بقليل شاهدت الطيار يقترب.. أجل لقد شاهدته، إنه قادم، سيطلق علي النار لم يكن لدي أدنى شك، لكنه لم يفعل، لم يفعل ذلك أبدًا.
المعلق:
تقول: إنه لم يفعل وأنت لم تفعل مثله، ولكن غيركم يفعلها؟!
بيري جرسترمان:
نعم، كما تعلم هنالك دائمًا أشخاص يتعطشون لجعل الحرب أكثر رعبًا مما هي عليه.
المعلق:
أيحصل هذا؟
بيري جرسترمان:
يحصل وفي كل المعسكرات.
المعلق:
حقق "بيير" أيضًا على متن طائرة "تيمب 6" العديد من الانتصارات.
انتهت الحرب لكن ما الوزن الذي لعبه الطيران في ميزان الحرب؟! دمرت القاذفات ألمانيا دون أن تسحقها، شلت الآليات العسكرية الأرضية، وسكك الحديد، والموانئ، وأسلحة العدو.
كان يلعب الطيران دورًا حاسمًا في المجابهة الضخمة، وكانت مبارزة المطاردات في السماء شيئًا متقنًا جدًا. "lb 1" طائرة القنابل النفاثة، طائرة "l 63 نيسر شميت" الصاروخية. طائرات "262 نيسر شميت" المطاردة النفاثة، لقد دخل الطيران في مرحلة جديدة، هل هناك ما يدل على ذلك؟
قام الطيارون اليابانيون في المحيط الهادي بإلقاء أنفسهم على حاملات الطائرات الأمريكية؛ لتدميرها بواسطة العمليات الانتحارية.
أخيرًا.. أقلعت طائرة تشبه الاسطوانة الفولاذية والتي تعد الأكبر باتجاه اليابان.. إنها الأقوى بين كل الطائرات.. إنها "lb 29" حملت أيضًا مرحلة جديدة، حملت الموت الذري.



__________________
9-


المعلق الأول:
باريس عام 1919 شهد قوس النصر أجمل الاستعراضات ألا وهو استعراض النصر، لكن الطيران فيه كان منسيًا ولم يكن ذلك عدلاً، لذا قرر الطيار "شارلي باترو" المرور بطائرته المقاتلة من طراز "نيوبور" من أسفل القوس.
لقد نجح أهالي لندن الذين أخذتهم الدهشة، هل كانوا يتوقعون مرور الطائرة من أسفل جسر القلعة، ولكن من ولماذا؟
"فيري فين" من أكثر الطيارين شعبية، وبطل المهام الخاصة في الحرب، ها هو يهبط على سطح أحد المحال الباريسية الكبيرة، كلهم كانوا يحلمون بتلك الإنجازات، ولم يعد أمام الطيارين سوى ذلك الحلم، بعد أن انتهت الحرب وأصبحوا أقل أهمية في عصر جديد خاصة وأنهم لا يجيدون مهمة سوى الطيران، وفي أرجاء العالم الفسيح هنا في أميركا كانوا يتنقلون من مدينة لأخرى مخاطرين بحياتهم فوق الجمهور المتناثر أو أمام أجهزة حديثة تتطلب منهم الكثير، هذا ما آل إليه مصير الطيارين.
عشيت تلك الاستعراضات البهلوانية، لم يتمكن هذان الطياران من الاحتفاظ بطائرتهما التي هوت محطمة، ولم يكفي هذا فالجمهور يطالب بالمزيد من الإثارة، لكن الحرب تلبي مطالب خدع سينمائية، هؤلاء الأموات كانوا أمواتًا حقًا، لماذا؟
ربما كان "فران" آخر هؤلاء الحمقى والوحيد الذي ظل حيًا، وطيلة سنوات متلاحقة قام بحركات طيران بهلوانية خطيرة للسينما، كان دائمًا يفلت بأعجوبة لكنه فقد ساقه، كما أن صديقه الحميم وأكثر الطيارين شهرة في السينما هو "بولمان" فقد حياته فيها، وحول ذلك يقول "فيران".
فيران:
صحيح أنا آخر الأحياء وآخر من مارسوا هذه المهنة، الجمهور يحب هذا؛ لأنه يحب الإثارة ولكن أتمنى أن يتذكروني ليس لتحطيم الطائرات بل لأني حافظت عليها دائمًا.
المعلق الأول:
في قرب العنابر قرب "هوليود" يقوم "فران" بصيانة الطائرات التاريخية وإبقائها صالحة للطيران، تلك السباقات كانت امتدادًا لسباق السيارات السريعة بين البوابات والأعمدة الضخمة التي بدأ تنظيمها منذ عام 1919، إلى هناك اصطحب "هاورد أوف" صديقه "ويليام فوكنر" حيث كتب هناك أحد أجمل مؤلفاته "بيلو" حكى فيها تلك التجربة المريعة.
بعد الطائرات المطاردة جاء دور القاذفات الضخمة المهيأة لقطع مسافات بعيدة، فقد أصبحت بلا عمل، وهكذا تولدت أفكار مجنونة كعبور الأطلسي، فمنذ عام 1919 وبتلك الأحجام الهائلة من النسيج والأخشاب كانوا يحلمون بعبور الأطلسي، مؤرخ الطيران "إيدمون بيتي" يحدثنا عن ذلك.
إيدمون بيتي:
هناك طرق متعددة لاجتياز الأطلسي والأمثل بينها هي طريقة الدائرة الكبيرة بمقدار خمسة آلاف وستمائة متر والأكثر أمانًا المرور بجزر الآزور والعودة عن طريق لشبونة، لذلك تكون المسافة 6400 كيلو متر، وثم طريق آخر هو البقاء على الأرض ما أمكن من "جرين لاند" و"أيسلندا" و"أيرلندا" حيث المسافة 6800 كيلو متر.
المعلق الأول:
هذه "بيكر" تتسع 2300 متر مكعب من الوقود، إنها أول أنواع أجهزة الاتصال، في 14 من يونيو 1919 انطلق "ألكوك" و"براون" من اليونان، وواجها عدوًا لدودًا.
المعلق الثاني:
إنه الطقس السيئ، وجدا نفسيهما على مستوى البحر حينها تعطل جهاز الاتصال حاولا المرور بشكل مرتفع ليمكنا من الرؤية، لكنهما قطعًا 19 ساعة من الطيران، منها 12 ساعة و 57 دقيقة فوق الماء، كان يقودان الطائرة غالبًا دون رؤية واضحة.
المعلق الأول:
لقد وصلا بصعوبة إلى "أيرلندا" صحيح أنهما حطما الطائرة، لكنهما تغلبا على الأطلسي حيث تحقق هذا الإنجاز عام 1919، لكن أحدًا لا يتذكره اليوم.
"تشرشل" سمح بمحنهما مكافأة 10 آلاف جنيه إسترليني، تقدمت بها الديلينيل، وفيما بعد قام "جون ألكوك" بعرض كيس سعته 197 رسالة أحضره من أميركا إلى أوربا، كانت مسألة مربحة جدًا لهواة جمع الآثار، لكن فكرة جديدة طرأت فورًا ألا وهي البريد المحمول.
منذ الشهور الأولى لعام 1919 نظم الطيران العسكري البريطاني خدمات نقل البريد بين باريس ولندن بطائرة "هابي لاند"، وكان الهدف هنا استخدام الإنسان والطائرات وكان النجاح فوريًا، حيث قامت مراكز البريد البريطانية بإجراء مماثل.
في أميركا "ويليام بوينج" الذي كان معتدًا بنفسه كصانع للطائرات أسس خطًا على طول ساحل الأطلسي، وبدأت الخدمات المنتظمة بالبريد.
إدمون بيتي:
أوجدت تلك فكرة جديدة تمثلت في نقل المسافرين، لكن هل الناس على استعداد لركوب الطائرات؟!
لم تكن موافقتهم سهلة أبدًا، كان ضروريًا انتظار بضع سنوات قبل أن يعلن الناس استعدادهم لركوب الطائرة، من أجل هذا قامت لجان دعائية ما الذي نراه في هذا الإعلان؟ نرى ثريًا من ذلك العصر ينظر إلى الطائرات ويتساءل إلى أي مدى سيرتفع مقارنة بتلك الطائرات؟ وخيال البرجوازي "جوزيف" يحيي بأثر رجعي أفكارًا قديمة، قال فيها: بالنسبة لي عام 1842 لم أعد أثق بالسكك الحديدية.
المعلق الأول:
كان لابد من بداية بطيئة لينة.
هؤلاء الطيارون الأفذاذ مثل "بولار" الأول على خط "باريس-بروكسل" كانوا يسحبون العالم خلفهم، ويشقون أوائل خطوط الطيران إلى "بلجيكا" و"انجلترا"، حيث أنشأ خط منظم إلى لندن، سنقص عليكم حكاية إحدى الرحلات: في ذلك اليوم على طائرة "فارمر جوليت" كان الطيار "ديوديني" قاصًا في بداية مهنته، والميكانيكي "موريس بولوند" الذي يقول:
موريس بولوند:
اطلعنا على الأرصاد الجوية وكان الطقس سيئًا ووصلنا إلى الجمارك، لم يكن ساعة الإقلاع إلا راكب واحد كانت صحفية سويدية بالإضافة إلى 1100 كيلوا جرام من الطرود، جلست الراكبة بين الطرود وكان لها مقعدها لكنها محاطة بالطرود، وانطلقنا واستغرقت الرحلة ساعة من الطيران قبل الوصول إلى "كوبي" على بعد 60 كيلو مترًا من نقطة الانطلاق، لم تكن الطائرة تتقدم في مواجهة الرياح، ووصلنا إلى "كوان" وهناك تبين لنا تسريب في الزيت، عندما كنا نطل في الجانب كنا نرى الزيت يقطر قرب أحد المحركات، كان الوقت غير ملائم، ولكننا هبطنا في "كوان" كأول نقطة هبوط للطائرة.
شددنا البراغي وكانت عملية لا تخلو من الإزعاج والقلق، وانطلقنا من جديد لنصل بعد 40 كيلو مترًا إلى "آبي فيل" ووصلنا الطريق ونحن نقول: لو بقينا على هذا الحال سنصل غدًا إلى الجانب الآخر، وعبرنا "آبي فيل" ورأيت الراكب تنظر إلى الأسفل، لربما أدركت أن الساحل لم يظهر بسرعة، كان في باريس فرع للشركة، وكانت الطائرة تقطع المسافة بين باريس ولندن في ساعتين ونصف الساعة، في حين استغرقت رحلتنا أكثر من ذلك، فما زلنا بعيدين عن لندن، اضطررنا بعد ذلك للعودة لأن البحر مليء بالزبد الأبيض، وعدنا إلى "آبي فيل" والريح من خلفنا تعصف بقوة، وبعد أن هبطنا سقط الثلج وحل الليل وكان البرد شديدًا.
الراكبة التي كانت معنا عهدنا بها إلى زوجة الحارس التي هيأت لها التدفئة حتى تمكنا من تغير زيت المحركات، وكذلك من تغيير الماء قبل انقضاء الليل، كان ضروريًا أن نملأ خزان الوقود وكان من المفروض إنجاز كل ذلك مبكرًا خاصةً التزود بالوقود، لم يكن معنا ما يكفي للوصول إلى لندن، وقلنا: لنأخذ ما هو موجود ونتزود ثانية في "نيمتز" على الجانب الآخر، وهكذا مع الصباح أيقظنا المسافرة وانطلقنا ووضعناها مجددًا بين الطرود والصناديق وأقلعنا، كانت رحلة عسيرة لكننا رغم ذلك نجحنا في العبور بسرعة نتزود بالوقود في "نيمتز" وتوقفنا وتزودنا بالوقود، ولكن مشكلة برزت أمامنا، أحد المحركات لم يكن يعمل بشكل طبيعي بعد أن تعطلت فيه إحدى الأسطوانات من مجموع تسع، وهكذا سرنا بجانب على تسعة سلندرات، وعلى الجانب الآخر بثمانية.
عندما أقلعنا كانت العاصفة الثلجية على حالها، وخلال عشر دقائق كنا في الجو نتقلب فوق الريف الإنجليزي.
كنا نشاهد الأشياء عن قرب ولكن المحرك الذي اعتمدنا عليه توقف كليًا، لم يكن أمامنا خيار، لابد من الاستمرار في الطيران، كان أمامنا مرعًا صغير ولم يكن بعيدًا فكرنا أن بمقدورنا الهبوط فيه، ولكن للأسف عندما اقتربنا منه لاحظنا وجود حاجز يقسم المرعى إلى قسمين، ولكننا واصلنا الهبوط, وعند الاقتراب أدركت أن الحاجز كبير كان مصنوعًا من عارضات السكك الحديدية واخترقنا الحاجز لنتوقف بعيدًا، تفقدنا الأضرار ووجدنا أن المروحتين قد تكسرتا ومقدمة الطائرة قد تهشمت، لكن الراكبة المسافرة تمكنت من الخروج بسلام.
في تلك اللحظة ظهرت أشياء مضحكة وقد وقعت بعد أن تجمع سكان المنطقة حولنا، حين كنت أنا و"كوتس" نُقوِّم الأعطال لنتمكن من الاتصال بلندن، المسافرة معنا بعد أن خرجت سالمة، كانت تعاني من بعض الكدمات، أخذت حقيبتها وجاء رجال الشرطة الإنجليز أخذوا قائمة بأسماء المسافرين، فوجدوا مسافرة وحيدة أين هي؟ لا يوجد أحد، وبعد أن تتبعنا الأخبار قالوا: إنها غادرت منذ فترة، غادرت ولم نرها ثانية، كانت المرة الرابعة التي تهبط فيها خلال رحلتها من باريس، أنا و"كوست" فكرنا في حالتنا منذ 24 ساعة، ونحن نقوم بأعمال الميكانيكا والتي لا يمكن احتمالها؛ لذا أحست الراكبة بالخوف، لربما تساءلت: إن كان باستطاعتنا أن نعيد الطائرة على عجلاتها لنقلع من جديد، على كل حال غادرت بلا رجعة.
***********************************************​
المعلق الأول:
ظهر جيل جديد من الطائرات الأكثر أمانًا كطائرة "نيو أوري أولي فاي 213"، وضاعفت أعداد الشركات هذا الملصق الدعائي الخاص متحف شركة الطيران الفرنسية، وأنشأ "جيم براو" خطوط "فارمن" نحو شمال أوروبا، أما "بيير كوشي" فقد جمع خطوط "باريس-لندن" تحت اسم "إيريون"، وبدوره أقام "ألبير دولا" خط "فرنسا-رومانيا" ليصل إلى أوروبا الوسطى، بعد موته تم استبداله بـ"موريس نوفيس" وبطائرات "الإيريوا" ذات الأربعة مسافرين.
افتتح "موريس" خط "بوخارست" ومدد الخط إلى "وارسو" بواسطة طائرة "كوردوا" ذات الثلاثة محركات، كان أول ناقل أوروبي يحط في "موسكو" في 16 من نوفمبر عام 1924 بعد أن خرجت "موسكو" لتوها من الحرب الأهلية.
بعد التفكير في الوصول إلى "سايجون" تكفلت شركة "إير أوريانت" بذلك، والشركة الأكثر شهرة هناك شركة "لاتي كور" صارت فيما بعد "إيروسبيسيال" كل شيء بدأ هنا في مدينة "تولوز".
المعلق الثاني:
كان "لاتي كور" يفكر في ربط أوروبا وأمريكا الجنوبية، وكخطوة أولى وصلت إلى "المغرب".
المعلق الأول:
لكن أي طائرة ستقوم بالمهمة؟ كانت "بريجي 14" التي كان منها الآلاف بعد احتياجات الحرب، كانت طائرة جيدة لحمل البريد، ولكن قطع مسافة طويلة كهذه بمحرك واحد ألا يعتبر محفوفًا بالمغامرة؟ لقيام هذه المؤسسة أختار "لاتي كور" الممول أحد الضباط الطيارين القدماء في الحرب، وهو "ديدي دورا" أخذ يسير ويغير بيد من حديد الطائرات والرجال على السواء، كانوا يقيمون في هذا الفندق منهم "الإسكندر باي" و"جندي فور".
في هذه الساحة الفسيحة وخرطوم الهواء القديم تنتاب الذكريات والأحاسيس الطيارين الباقين أحياءً من طياري "إيروسبيسيال"، لم يتبق سواها للأسف، أحد مساعدي "ديورات" السيد "موا" يتحدث عن أوائل طياري تلك الخطوط وكيف كانوا.
موا:
كانوا ضباطًا قدامى في زمن الحرب، وكان من عادتهم مواجهة الصعاب والتغلب عليها.
المعلق الأول:
كان "بايل" و"ديفور" من الأوائل قبل الآخرين.
ديورات:
كنت طيارًا مقاتلاً والتحقت بالخدمة قبل الهدنة بشهرين، تعرفت على "ديورات" الذي وظفني بين الأوائل عام 1921 على خطوط "لاتي كور"، أنا هو "ديورات" وقد تتساءلون: كيف كانت علاقتي مع الطيارين الجدد؟ لقد وجدت الحل بمعنى أن الطيار حين وصوله إلى "مونت برانت" كان يوجه عمليًا إلى الورشات ليعمل جنبًا إلى جنب مع الميكانيكيين.
المعلق الأول:
لم يكن "ديورات" يحب الطيارين البهلوانيين، فترة تدريبهم في تشرين تكون مفيدة لهؤلاء الشبان الملتهبين، لذلك كان "ديورات" يعمل على إيجاد طيارين حقيقيين، وهي طريقة نالت إعجاب الميكانيكي السيد "كيسان".
كيسان:
في ذلك الوقت لم يكن هناك فرق بين الطيار والميكانيكي، كانت روح الفريق هي السائدة، ذلك ما كان يرمي إليه "ديورات" بالفعل مثلما فتح الباب أمام خدمات البريد.
المعلق الأول:
تلك هي الكلمة الكبيرة مفتاح كل ما صنعه "ديورات" وفكرته المبهرة والمتمثلة في عالم البريد، والذي من أجله فقد المئات من الرجال حياتهم تحت شعار "لابد أن نذهب رغم المخاطر الجمة"، ولكن من أجل مَن ولماذا؟ من أجل البريد، "الإسكندر باي" ظل هو أيضًا على الساحة.
الإسكندر باي:
كنت أطير فوق السواحل الإسبانية على ارتفاع منخفض لسوء الأحوال الجوية، ذات مرة اختل توازن الأحمال واشتعلت النار بالطائرة فهبطوا في البحر حاولت السباحة كنت ألبس سترة مكنتني من البقاء عائمًا، لكنها لم تمكني من التقدم، عندها رأيت سفينة صيد تتقدم نحوي، انتظرت وبعدها بأيام عدت إلى "تولوز" والتقيت بـ"ديورات" الذي قال لي: هل كنت مضطرًا للهبوط؟ فأجبته: نعم، لكنني وددت الهبوط في البحر، فقال: ولماذا؟ قلت: وقع لي عطل فني، وبالفعل بعد العثور على حطام الطائرة تم انتشال جزء من "الكارتير" قد غار إلى الداخل وتحطم، وما لم تكن عندي أدلة أخرى لاعتبروني مخطئًا بل ربما كاذبًا.
المعلق الأول:
ماذا كان يفعل؟ هل كان يطرد الطيارين؟
الإسكندر باي:
نعم، الكثيرين منهم خصوصًا الذين لا يتسمون بالجدية.
المعلق الأول:
ويعلق "ديورات" على ذلك:
ديورات:
أعتقد بأنني جدير باللقب الذي تم إطلاقه علي، وهو "صاحب البريد"، أظن أنني لم أصل إلى سن النضج حينها للتفكير في ذلك، ولكن كل ما فعلته أنني عملت بجد وضمير.
المعلق الأول:
لقد حقق النجاح بالفعل سجل أسطورة في سجلات التاريخ، أسطورة البريد أسطورة لا تنمحي، وقد انضم إليه أناس أفذاذ مثل "نيمروز"، "جيومي"، "ساندكس بيري" سنتحدث عنهم فيما بعد.
عام 1925 شق الخط طريقه بصعوبة عبر المسافات البعيدة بينما شهدت أوروبا مولد شركات أخرى، حول ذلك يقول "إدموند بيتي":
إدموند بيتي:
كانت شركة "klm" ترمي للوصول إلى "باتفيا" إلى الهند الهولندية، أما "بلجيكا" فقد أنشأت شركة طيران "liri" وهي خطوط الملك "ألبير" والتي وصلت إلى هنا إلى قلب إفريقيا.
المعلق الأول:
عبر تلك المسارات الجوية أوجدت أوروبا القديمة رغبات استعمارية جديدة فقد أطلقت شركات الطيران الإمبراطورية طائرات تحمل 20 مسافرًا إلى "الهند" و"سنغافورة" وإلى "أستراليا"، كما كان الطيران بالنسبة للقادة السوفييت يعني المستقبل، إذ نظموا بسرعة كبيرة شركة طيران أسموها "بيبرواليت"، استخدمت في بداية الأمر طائرات زودهم بها الألمان مثل "جانجارد" "f 13" وكانت أول طائرة حديثة على الخط، كانت كلها مصنوعة من المعدن والصفيح المموج.
عام 1925 نظم السوفيت رحلة بين "موسكو" و"بكين" وعلاوة على تدشين الخط كانت تقام حملات دعائية قوية على متنها، وتعرفت شعوب الاتحاد السوفيتي على الطائرات، وقطع الطيارون "مثش ميديت" "بروموف" "توماشفسكي" نحو 12 ألف كيلو متر، كان حينها الوقت إنجازًا مهمًا، وعند وصولهم إلى الصين عام 1920 برهنوا على أن الطائرات السوفيتية بعيدة عن المنافسة.
كانت الرحلات الطويلة مغامرة مثيرة لابد أن نتخيلهم وهم يسافرون في مقصورات مكشوفة وعلى ارتفاعات منخفضة طيلة 30 ساعة من الطيران، مثل الأخوين "سميث" اللذين غادرا إنجلترا إلى أستراليا، ومثل البرتغالي "غابرا" و"كونينوا" والإيطاليين "فيراي" و"ماسي".
كان ذلك بطائرة سجلت رمز عصرها ألا وهي "بيرجي 19" وهي طائرة جيدة، نجح الطياران اليابانيين "هابي" و"كواشي" في الوصول إلى باريس بعد أن تعرفا على مسار "باريس-طوكيو" الذي استخدمه الكثيرون فيما بعد.
لن نتمكن من سرد كل هؤلاء المغامرين الذين سلكوا الخطوط الإفريقية مثل البلجيكيين "إيفري" و"دانوا" اللذين حققا نجاحًا في الدوران حول العالم، مثل الأمريكي "دوجلاس" وآخرين ذهبوا إلى القطب مثل "آمون ديسمن" و"فلاي بينت" أو الأدميرال "بيريل" بين عامي 1920 و 1926.
لكن لماذا كانت تلك الإنجازات؟ من أجل المال؟ ربما، كما لا نستبعد تحقيق السمعة والرفعة لبلادهم، لقد وجد الطيارون المتعة في الأجواء الفسيحة، ولكن المهمة نوع جديد من الاستكشاف والغزو، وتجاوز لأبعاد الذات لهؤلاء الطيارين، ذلك ما حققه الطيران في ذلك الوقت.
 
تاريخ الطيران

تابع
10-
المعلق:
استمر الإنسان في السباق مع التقدم ودخل التاريخ، أخذت صراعات الجنون في سنوات الجنون تدفع إلى الابتكارات في شتى المجالات.
في أمريكا كان هناك "بلانك باتشر" وبما جمع من نقود صنع لنفسه دراجة تعمل برد الفعل، لقد كان الأمر بسيطًا، كان يكفي الجري خلفها قليلاً وعلبة كبريت في اليد لإشعال الصاروخ لفترة وجيزة، ذلك المخترع العبقري من نيويورك أدرك أنه سيطير إلى عالم المجد، فهو الذي فجر ثورة الطيران العمودي.
أما أكثر المخترعات جنونًا فكان باسم المهندس "كابروني" عام 1921 كانت الطائرة المائية التي تزن 26 طنًا، وارتفاعها 10 أمتار، وطولها 30 مترًا وبثمانية محركات وتسعة أجنحة.
وهكذا كانت البداية في الرابع من مارس عام 1921 وعلى البحيرة الكبرى أجريت التجارب على الطائرة التي تمكن بها "كابروني" من عبور الأطلسي، يقول "كابروني" الابن:
كابروني:
لقد تحطمت الطائرة تقريبًا، لكن المحاولة وإن لم تكن ناجحة من الناحية عملية إلا أنها كانت ناجحة فنيًا، لأن والدي برهن على إمكانية الطيران بها بحمولة مائة راكب.
المعلق:
سنوات العشرينيات سجلت حلمًا قديمًا وهو الطيران مباشرة عبر الأطلسي من "نيويورك" إلى "باريس"، وكانت آخر المغامرات عام 1926.
قرر "فونك" في الحادي والعشرين من سبتمبر مغادرة "نيويورك" على متن هذه الطائرة، ذات الثلاثة محركات من نوع "سيكورسكاي" بقوة 1200 حصان، كان "فونك" ألمع الطيارين الفرنسيين خلال الحرب، سجل 75 انتصارًا، في السادسة صباحًا وجد "فونك" صعوبة في الإقلاع حيث كانت الطائرة محملة بأكثر من طاقتها وفيها تسعة آلاف لتر من الوقود.
في اللحظة الأخيرة وحتى نهاية المدرج حاول "فونك" الإقلاع ووقعت الكارثة، إلا أن "فونك" ومساعديه خرجا سالمين ومات زميلاهما الآخران محترقين.
بعد الحادثة بستة أشهر حاولا العبور ثانية في مغامرة تستدعي الاهتمام، متى سيغادر ذلك الطائر الأبيض؟ تهافت محبو الاستطلاع والصحافيون على "برجي" ومنهم مصور الوقائع "روبي بروت".
روبي بروت:
كنا نأتي في أيام عديدة وكانوا يقولون لنا: بأننا لن نغادر مساءً ولربما صباحًا، وهكذا يتم تأجيل الانطلاق، ولكننا أخيرًا عرفنا أن "نانجسي" وزميله "بولي" كانا في وضع مالي صعب.
المعلق:
لقد قررا الإقلاع في صباح الثامن من مايو عام 1927، كان الطقس باردًا والضوء يبعث على القلق.
قام "نانجسي" برسم جمجمة على الطائرة، كان ذلك شعاره في الحرب، لكن ذلك كان إشارة تعبر عن حالة القلق التي أثرت في جميع المشاهدين، كانت الطائرة من نوع "لوفاسي" تحمل هي الأخرى أكثر من طاقتها، وفيها نحو أربعة آلاف لتر من الوقود، لقد ظلت مأساة "فونك" عالقة في الأذهان، فهل سينجح في الإقلاع؟
أصبحت الساعة الخامسة وإحدى وعشرين دقيقة، وأقلع "نانجسي" وعليه الآن بمحرك قوته 450 حصانًا أن يواجه الرياح القوية التي كانت معاكسة لاتجاهه مما جعلت رحلة "باريس" لـ"نيويورك" أصعب من أي اتجاه آخر.
روبي بروت:
غادرا على نفس الطريق المرسومة، أي قوس الدائرة الكبيرة وذلك للوصول إلى الأرض الجديدة ونيويورك.
المعلق:
في باريس كان الانتظار أمام مكاتب الصحافة الصباحية، تجمهر الناس شيئًا فشيئًا ووصلت البرقية الأولى في الساعة السادسة وأربع دقائق، حيث قالت: إنهما عبرا فوق "إتريتا" على ارتفاع 200 متر، وساد بعدها الصمت طيلة 24 ساعة.
روبي بروت:
انتظرنا وظل سكان "باريس" ينتظرون الأخبار وأخيرًا جاءت الصحف، لقد نجحنا في الوصول سالمين.
المعلق:
رغم التفاصيل المثيرة والصور كان الخبر زائفًا، كان أكبر فشل صحافي في ذلك العهد، فلم تصل الطائرة ولم يصل "نانجسي" ولن يصل إطلاقًا، ترى ما الذي حدث؟
روبي بروت:
لم يكن معهما جهاز اتصال؛ لذا فقدا مصدر المعلومات، رغم أن أجهزة الملاحة كانت مضبوطة تمامًا، تكاثرت الأقاويل، لقد تم العثور في البحر على بعض حطام الطائرة، كان ذلك تزويرًا للحقيقة، أين هم إذن؟ هل أخذتهم العاصفة إلى الأرض الجديدة؟ ربما، أم أنهم سقطوا في بحر المانش؟ أمر محتمل، لا أحد يعرف حقيقة الأمر.
المعلق:
لكن شيئًا لم يمنع ذلك السباق الجنوني، قتيل تلو الآخر، وكارثة تلو الأخرى، بعد مأساة الطائر الأبيض بعشرة أيام تقدمت طائرة صغيرة بصعوبة فائقة فوق الأطلسي، كان الطيار وحيدًا على متنها، كان اسمه "تشارلي ليندبيرج" عمره 25 عامًا، كان ضابطًا في سلاح الجو الأمريكي سبق أن كان بهلوانيًا، ثم طيارًا للبريد، كان يتحلى بانضباط نال عليه التهنئة والتقدير، وكان يحلم بالمجد وعبور الأطلسي بين "نيويورك" و"باريس".
بعد حالات عديدة من الفشل، وبعد أن تمكن من جمع 15 ألف دولار لتمويل تلك العميلة بواسطة رجال أعمال من "سانت لويس" كان هدفهم تحقيق الدعاية لمدينتهم؛ إذ حملت الطائرة اسم "سبريت أف سانت لويس" وكلفت عشرة آلاف دولار، منها أربعة آلاف لمحرك بقوة 237 حصانًا وستة آلاف دولار ثمن الطائرة المصنوعة من خشب وأنابيب حديدية مكسوة بالقماش، كانت تزن نحو طنين وبطول أربعة عشر مترًا، قامت ببنائها شركة "راين سانديجوا" بكاليفورنيا.
كان "جون فاندر لاند" مدير الميكانيكية في مصنع "راين" وكانت طائرة الطائر الأبيض أجمل ذكرياته قبل خمسين عامًا، وهكذا عرض "جون" الطائرة على "ليندبيرج" فلاحظ أن الباب ضعيف جدًا، وأشار إلى أن لوحة القيادة كانت بدائية وصنابير الوقود تصل أحد الخزانات بالآخر، طلب "ليندبيرج" بنزعها لتقليل الحمل على الطائرة، وبدون مؤشر للوقود، قائلاً: إنه يفضل النظر إلى ساعته ليحسب بنفسه استهلاك الوقود.
أشرف "ليندبيرج" على الأعمال بأسرها، وأصر على أن يكون مقعده غير مريح بقدر المستطاع؛ كي لا يأخذه النعاس، الغريب في تلك الطائرة هو عدم إمكانية الرؤية إلى الأمام؛ لذا صنع "فاندر لاند" منظارًا أفقيًا لا يعطي إلا صورة ضبابية لما يحدث أمام المحرك، وهكذا كانت الطائرة تهبط.
جذب اليد إلى اليمين لانحناء الطائرة مما يسمح برؤية قليلة وتمنى أن لا يوجد ما يعيق هبوطه، وصلت الطائرة إلى "نيويورك" في الثاني عشر من مايو بعد أن أصبحت جاهزة للقيام برحلتها عبر الأطلسي، يقول "فان":
فان:
استغرق بناء الطائرة 60 يومًا، وكنا قلقين وعملنا ليل نهار لإنجاح رحلتنا عبر الأطلسي.
********************************************​
المعلق:
لابد أن نشير إلى أن 25 ألف دولار كان جائزة مناسبة، رجلان كانا ينتظران تحسن الأجواء وهما "فلارس شامبرلا" الطيار المعروف، و"ريتشارد بيير" الذي نجح في الطيران إلى القطب، وهكذا لم ينتظر "ليندبيرج" تحسن الطقس، ومع صباح العشرين من مايو ملأ خزانات طائرته بطنين ونصف من الوقود إضافة إلى وزن الطائرة، لهذا قرر "ليند بيرج" الإقلاع وحيدًا.
أطلقوا عليه لقب المجنون الطائر، لم يكن يحمل معه مظلة سقوط سوى بعض الشطائر والقليل من الماء، وفي الساعة السابعة وأربع وخمسين دقيقة حانت ساعة الإطلاق، "ليندبيرج" لم ينم تلك الليلة، وظل يفكر في الذين تحطمت طائراتهم حين الإقلاع نتيجة امتلاء الخزانات بالوقود، حول ذلك قال "فاندر لاند":
فاندر لاند:
لدى إقلاعه تمكن من تجاوز الأشجار الموجودة عند نهاية الممر فتنفس الجميع الصعداء، واحتمل الجميع في "برودواي" بالحدث السعيد، لقد كانوا يشعرون بالسعادة.
المعلق:
هل شعرت لاحقًا بالخوف؟
فاندر لاند:
لا لم يساورنا أي إحساس بالقلق.
المعلق:
كان "جون فاندر لاند" واثقًا؛ لأنه أنجز عمله جيدًا، إضافة إلى ضبط المحرك على أكمل وجه، حول ذلك قال "إدموند بيتي".
إدموند بيتي:
في البداية كل شيء صار على ما يرام؛ حيث اتخذ الطيار لنفسه مسارًا محددًا أوصله إلى الأرض الجديدة.
المعلق:
فوق المحيط بدأت المصاعب، لكن الإصرار كان يدفعه إلى الأمام.
إدموند بيتي:
كان المسار الذي رسمه لنفسه هو الخط المباشر، وقد وصل إلى مرحلة اللاعودة إما أن يعود أدراجه أو يواصل رحلته، كل شيء صار على ما يرام، وسقط المطر فيما بعد، وسقط البرد وتحول الطقس إلى حالة مرعبة من العواصف الثلجية التي يصل ارتفاعها إلى خمسة عشر مترًا على امتداد ثلاثة آلاف متر، لكنه سيحاول العبور فوقها أو من أسفلها، لكنه عبر من وسطها.
المعلق:
ظل في تلك العلبة نحو عشرين ساعة، وسط الآلات وضجيج المحرك، وبلا انقطاع كان ينحني إلى صمامات الوقود ليحول الاستهلاك من خزان إلى آخر، كان القلق يساوره إن كانت البوصلة تعمل بشكل جيد أم لا؟ لكنه ظل مستمرًا.
كان يتساءل في كل لحظة: هل بدأت أشعر بالنعاس؟ لا، العيون مفتوحة رغم غلبة النعاس، كان عليه أن يستمر مباشرة فوق البحر، كانت الأمواج تزيد على متر ونصف من الارتفاع.
وسط العاصفة قرر الهبوط قريبًا نحو الماء، وهنا كان نجاحه.
إيدموند بيتي:
شاهد قاربًا للصيد فهبط ودار حوله وسأل: هل هذه أيرلندا؟ لم يجب الصيادون؛ لأنهم ظنوا أنها مزحة، وعاد إلى اتجاهه من جديد، وواصل رحلته إلى "أيرلندا".
المعلق:
ثلاثون ساعة من الكفاح لابد أن يتماسك، فلم يبق أمامه إلا القليل ليصل إلى سواحل "فرنسا".
"لابورجي" اليوم السبت 21 من مايو عام 1927، لم يجرؤ أحد على تصديق ذلك، كان يطير فوق "فرنسا" بعد أن قطع "أيرلندا"، ما أعلنه الراديو شيء لا يصدق، احتشدت الجماهير في المطار الصغير وتوافد الصحافيون والمصورون مثل "روني بروج" الذي قال:
روني بروج:
شارف اليوم على نهايته ولإنجاز المهمة تم إحضار مولد كهربائي، كان هذا إنجازًا في ذلك الوقت وتم الحصول على ترخيص بتركيب الكشافات وظل الجميع ينتظر.
المعلق:
أضيئت الكشافات مع الديكور الملائم، كان الحشد كبيرًا، ما يزيد على مائة ألف متفرج في "بورجي" ومر الوقت وبدأت التساؤلات، هل كان الخبر كاذبًا؟ بين الجمهور كان هناك الكثير من المولعين بالطيران مثل "جون كلود" الذي سيلعب دورًا مهمًا في التاريخ، لكنه في تلك اللحظة ضاق ذرعًا بعد عشر ساعات من الانتظار دون فائدة، وعلى غرار بقية الفرسان أظهر الشاب "جون كلود" عدم صبره.
جون كلود:
كنا نتمشى هنا وهناك، وفقدنا مشاهدة أول إنتاج لـ"بين هوف" باختصار أضعنا يوم السبت هباءً، وفجأة في الساعة العاشرة وعشر دقائق مساءً سمعنا ضجيجًا فوقنا، إنها طائرة تتجه إلى الجنوب، على الفور قفزت فوق الحاجز واتجهت عبر الظلام نحو الطائرة التي حطت بعيدًا، وأخيرًا استطاعت رؤية الأضواء وعلى بعد ثلاثين أو أربعين مترًا كانت طائرة "سبريت أوف سانت لويس"، وعندما أحدثكم عن ذلك أحس بقشعريرة تنتابني بعد الحدث بخمسين عامًا.
لقد كنت مجنونًا وقفزت من السعادة وركضت خلفه، وكان في هذه الأثناء يسير ببطء، ثم لحقت به حتى وصلت قمرة القيادة، وكان لها زجاج متحرك، لقد سحبت الزجاج وكنت أول رجل هنا يشتم رائحة الزيت فيه، وكان ذلك وسط الظلام، شاهدت لوحة القيادة المضيئة، أمسكت بيده صرخت أنت أول رجل في العالم تصل إلى "بورجي" صرخت بكل قوتي، وأمسكت بيده وقبلتها، لربما قال: إنه سقط بين المجانين، المهم أنني أظهرت له حرارة اللقاء، وأخذت قبعته ولم يكن يرغب في ذلك، ولكنني شددتها بقوة ووضعتها تحت إبطي، وقلت له: هذه قبعة للذكرى، إنها تشبه قبعة "نابليون".
المعلق:
كانت الساعة العاشرة وعشرين دقيقة، وهبط "ليندبيرج" بعد 33 ساعة ونصف من الطيران، واقتحم الجمهور حوله والدرك والشرطة ولم يوقفه أحد، نظر "ليندبيرج" برهبة إلى ذلك الحشد المتقدم نحوه، حيث بدأ الناس بنزع القماش الذي يغطي جسم الطائرة وأجزاء من المحرك، كما سرقوا منه بطاقته ولم يعثر على تلك البطاقة الثمينة أبدًا.
وصل طياران فرنسيان هما "بتروياك" و"دولاق" لإخراج "ليندبيرج" من طائرته وانتزعاه من وسط الحشد، وذهبا به بعيدًا، صاح أحد الصحافيين الأمريكيين، إنه "ليندبيرج"، إنه بعينه، وحمله الجمهور على الأكتاف إلى مبنى المطار، كان السفير الأمريكي حاضرًا ينتظر رأى شخصًا أمامه يقول: أنا لست "ليندبيرج" أمر غريب من الذي هبط إذن؟ هل هذه مزحة ثقيلة؟ لا أحد يفهم ما وقع، لكن يقول "جون كلود":
جون كلود:
كان لدي البرهان، وذهبت إلى السفير أعطيته القبعة المصنوعة من الفرو، وكانت دافئة، كان مكتوب بداخلها "بوسطن"، وقلت له: الابن وصل وهو هنا: أخذت القبعة وتم فتح النوافذ وكان الجو جميلاً، كنا في الطابق الأول من مطار "بورجي" كنت ألبس سترة من الجلد وأنا على النافذة، وكان يخالجني شعور بالكبرياء كما لو كنت رئيسًا لأمريكا أو لأوروبا، زملائي كانوا يتساءلون ماذا يفعل "جون كلود" هناك، أخيرًا فهمت أن التصفيق والتهليل لم يكن لي.
ومع صراخ الناس جاء اتصال هاتفي، كان المتحدث الكابتن "فيس" كان يتحدث من مكان ما في المطار قال: "ليندبيرج" موجود هنا، لن نخبركم عن مكانه أبدًا.
فيس:
حاول الجميع رؤية "ليندبيرج" ولم نعثر عليه أما أنا فقد التقيته صباح الغد عند رئيس الجمهورية بقصر الإليزيه، كان برفقته سفير الولايات المتحدة.
المعلق:
كان "ليندبيرج" أشهر رجل في العالم يزور قصر الإليزيه، ذلك الشاب الأمريكي بدأ حياة جديدة قال: سأهبط على كوكب آخر، ولم يكن ذلك غريبًا عنه.
وصلت البرقيات بالمئات من أوروبا بأسرها، كان الاحتفال والاستقبال بفندق في مدينة "باريس" بهيجًا لا يُنسى، بعدها توجه إلى "بروكسل" ثم "لندن" و"نيويورك".
بالتأكيد لن ينسى التاريخ أناسًا في الطيران كهؤلاء، إنجاز كان له أثر لدى الناس؛ لذا ظل عبور الأطلسي تاريخًا حافلاً للبشرية جمعاء.
________________________________---
11-

المعلق:
إلى اللقاء. صاح "فرانشيسكوا بينيدا" الذي أصبح طيارًا شهيرًا على صوت معلق الوقائع الأمريكية بشيء من الغصة؛ لأن ذلك المكان القريب من نيويورك شَهِد بين عامي 1923 و 1929 ثمان وأربعون محاولة لعبور الأطلسي، فشلت منها 22 حالة، وسقط فيها 50 قتيلاً.
كل هؤلاء الذين سقطوا والذين نجحوا مثل "شامبرلاند" والأميرال "بيرد" نقدر لهم خطواتهم الرائعة فوق القارات؛ لأنهم أول من رسم المسارات والطرق عبر الفضاء.
المغامرة الأكثر غرابة لهذه الطائرة "بيرنر 191" المسماة طائر الكناري وقعت في أميركا، في أوائل يونيو عام 29 حاولت الطائرة الصفراء الكبيرة عبور الأطلسي، وجاءت الصحافة الأمريكية لتصوير الطاقم المكون من ثلاثة فرنسيين، رئيس الفريق في الوسط شاب يبدو مرتاحًا ويتكلم الإنجليزية بطلاقة، إنه رجل الأعمال والمال "آرمن لوتي" كما أنه أعد لنفسه نصًا لمرشد الملاحة "روني"، وللطيار "جان سولان" تمنى فيه العودة لهما بالسلامة.
وفي لقاء جمع "لوتي"، و"لوبيز"، و"سولان"، قال "لوتي": الطقس جميل والساحل في حالة مرضية نحن الآن على استعداد للانطلاق بعد انتظار طويل، نأمل هذه المرة النجاح، كل ذلك ما نتمناه، هيا بنا، أما "لوبيز" فقال: نحن سعداء جدًا؛ لأن الأحوال الجوية ملائمة ونتمنى الوصول إلى باريس سالمين، ورد "لوتي" قائلاً: هيا أنت يكفي هذا هيا، أما "سولان" فقال: أنا سعيد جدًا بالرحلة، وآمل الوصول إلى بيتي سالمًا.
في 13 من يونيو عام 1929 ومن أحد الشواطئ قرب "نيويورك" ستقلع طائرة الكناري، كان المشهد ذاته، طائرة ثقيلة بوقودها لا تستطيع الإقلاع، يوجد في الطائرة حمل زائد، كان راكبًا مُهربًا، وبعد الحادث بأربعين عامًا أبدى "آرمن لوتي" ارتياحه لما وقع:
أرمن لوتي:
التفت إلىَّ "لوبيز" وقلت له: هناك شخص في المؤخرة، فقال لي: لا تمزح فأريته قدمي الشخص البارزتين فغضب، فقلت له: لا يمكن أن تلقي به في الهواء، ولا يمكننا الهبوط ثانية بالشحنة التي نحملها، لو كان معنا مظلات لألقينا به، لكننا تركنا المظلات وقارب الإنقاذ كما تركنا المعاطف الثقيلة، وأذكر أن "لوبيز" سحب من قمرة القيادة برجًا كان يزن نحو 300 جرام لوضعه بين الأجنحة للتخفيف من وزنه.
المعلق:
هكذا وجدا نفسيهما بحمولة تزيد 80 كيلوجرامًا، لكنهما سينجحان في الوصول رغم الراكب المجهول الذي كان اسمه "آرثر بير"، شاب أمريكي عمره 25 عامًا، وكشف "لوتي" عن هوية المسافر قائلاً:
لوتي:
هذا شاب صغير حزنا عليه عندما شاهدناه في الطائرة، ولكونه أمريكي فقد أصبح صديقًا لنا، مع أنه شاب صغير وشجاع إلا أننا طلبنا منه توقيع وثيقة بعدم مطالبته بأي حقوق.
المعلق:
أما "آرثر" فقال:
آرثر:
كان إنجاز كبيرًا لي عندما صعدت إلى الطائرة، ولكن الإنجاز الأكبر كان حين هبوطي منها، لكنني مدين جدًا لهؤلاء الطيارين، وذلك لسماحهم لي بمرافقتهم في تلك الرحلة.
المعلق:
كانا أول فرنسيين يعبران الأطلسي من الغرب إلى الشرق على متن طائرة الكناري، لكن بعد "ليندبيرج" بعامين، أما في الاتجاه المعاكس "باريس-نيويورك"، فلم ينجح أحد، يقول "لوتي":
لوتي:
بالتأكيد ستكون مرحلة العبور من الشرق إلى الغرب جديدة نتمنى النجاح فيها، لكن ليس لدينا طائرات كما لا توجد بين الطائرات التي تُصنَّع حاليًا طائرة تستطيع القيام بتلك الرحلة ونرى منافسًا لنا وهو السيد "كوست" الذي نتمنى له النجاح.
المعلق:
"كوست" أكثر طياري الفريق الفرنسي شهرة وألمعية، كان أحد نسور الجو في الحرب العالمية الأولى، وكان من أوائل رواد الخطوط التجارية كما عمل طيارًا للتجارب، وسجل أول انتصار في عبور الأطلسي الجنوبي والدوران حول العالم، إلا أن "كوست" اختار في محاولته للطيران بين "باريس" و"نيويورك" الميكانيكي "موريس" الواقف إلى اليمين.
كانت طائرتهما نموذجًا من "بورجي 19" وأفضل الطائرات المغيرة في الثلاثينيات، سميت "سوبر بيدو"؛ لأن خزانها يتسع لخمسة آلاف لتر من الوقود، تسمح له قطع مسافة تسعة آلاف كيلومتر، كانت مجهزة بمحرك جيد به اثنتا عشرة اسطوانة وبقوة ستمائة وخمسين حصانًا، وقد أطلقا عليها اسم "علامة استفهام".
الأول من سبتمبر عام 1930 في الساعة التاسعة صباحًا في مطار "بورجي" كان الفرح والسرور على أشده، صعد "كوست" إلى مقعد القيادة وجلس "موريس" بهدوء في المقعد الخلفي.
موريس:
كان "كوست" أمامي، تفصلنا لوحة الأجهزة التي تتحكم في المحرك، كما أذكر هنا أيضًا أنني قمت بإصلاح ياقتي وإصلاح سترتي وسترة "كوست" أيضًا، وذلك ليكون مظهرنا جميلاً، ولكي نكون على أحسن حال في "نيويورك".
المعلق:
لم يكن يبدو عليهما الخوف من شيء ما، أما "موريس" فقال:
موريس:
عندما كنا نصافح آخر الأيدي كنا نقول للذين كانوا على الأرض: إلى اللقاء قريبًا، أما "كوست" فهو الآخر قال: إلى اللقاء قريبًا.
المعلق:
كانت انطلاقة الطائرة "علامة الاستفهام" في التاسعة وأربع وخمسين دقيقة، كان المحرك جيدًا وبعد ساعة كانا فوق بحر المانش وتوجها إلى الأطلسي، بعد سبع وثلاثين ساعة وسبع وثلاثين دقيقة وصلت الطائرة إلى "نيويورك" تلك هي إذن نتائج التقنية وما أحرزته من تقدم، ونتيجة الاتصال الدائم لجهاز الراديو والتأكد من سلامة مسارهم بالأجهزة الحديثة حققا أول عبور متطور حديث للأطلسي، هكذا لم تميز التقنية هذا الإنجاز بقدر ما تميز به دخول الطيران إلى عصر جديد.
مع ذلك لا يمكن إنكار تلك الأهمية؛ لأن "موريس" يحمل الكثير من الذكريات..
موريس:
في تلك اللحظة ملأت الجماهير أرض المطار وتخطى الناس الحواجز، وما يثير الدهشة تلك الصور التي أخذناها في ذلك الوقت، خاصة الكشافات، فقد ساد الظلام، وكان ضروريًا استخدام الكشافات والفلاشات لأخذ الصور.
المعلق:
بهذا الإنجاز أصبح من حق "كوست" و"موريس" تنظيم استعراض لهما في "بورجي" بفرح وحماس، كما ستشهد "بورجي" انتصارات الطيارين على مدار الثلاثينيات، أما الطيار الأمريكي "ويلي" ومساعده "هارولد" فقد أنجزا الدوران حول العالم في ثمانية أيام، والروسيان "جرومو" و"دانيلين" فقد ربطا "موسكو" مع "لوس أنجلوس" والقطب، أما "هاورد" فقد دار حول العالم في إحدى وتسعين ساعة.
خلف ديكور الاحتفال وفي ظل الأبطال هناك مئات الطيارين المجهولين الذين بدءوا مسيراتهم بشكل هادئ ومستمر، وبالعمل الجدي اخترعوا وطوروا دراسات الأرصاد الجوية، وبها انطلقوا إلى رحاب السماء الفسيحة.
للمرة الأولى عام 1930 ربطت شركة "فرانس كونتيننتال إير ترانسبورت" طرفي أميركا من الساحل إلى الساحل، ومن الأطلسي إلى الهادي بطائرات ثلاثية المحركات، صنعتها شركة السيارات "فورد" التي نسخت طائرة "الفوكارد" ثلاثية المحركات.
كان عبور "أميركا" من طرف لآخر يتطلب خمسة أيام بالقطار، أما اليوم فتكفي ست وثلاثون ساعة، بهذا أصبح الطيران إنجازًا خارقًا في البلاد المترامية الأطراف مثل "روسيا" و"أميركا"، أما البريطانيون فذهبوا بعيدًا حيث وسعوا شبكتهم لتصل إلى "كراتشي" والكيب"، كما أن "فرنسا" هي الأخرى امتلكت في بداية الثلاثينيات شبكة أكثر اتساعًا يحدثنا عنها "إيدموند بيتي".
إيدموند بيتي:
كانت لدينا شركة "إير أوريانت" بخط ينطلق من "ميرجان" إلى "سايجون"، وشركة "سيدنا" وخطها الذي يصل إلى "القسطنطينية" و"أنقرة"، وشركة "إيرس بوسيال" التي تصل إلى أميركا الجنوبية.
*************************************​
المعلق:
لكن طائرات "إيرس بوسيال" لم تكن تعبر الأطلسي الجنوبي؛ لأن البواخر السريعة تكفلت بالمهمة، كان البريد يستغرق وصوله من "تولوز" إلى "سينتياجوا" ثمانية أيام، كانت مدة طويلة أمام طموحات المسئول الديناميكي الطموح "بيبي ديورا".
بيبي ديورا:
تقرر عبور المحيط الجنوبي بأسرع وقت ممكن، سنحت لنا الفرصة وسمحت الإمكانات، خاصة مع ظهور طائرة جديدة صنعتها شركة "لاتي كور" بـ"تولوز" وعرفت هذه الطائرة باسم "لاتي كور 28".
المعلق:
طائرة "لاتي كور 28" بمحركها "سبانو" المزود بطوافات تمكنت من عبور الأطلسي الجنوبي في الحادي عشر من مايو عام 1930، كان على متنها ثلاثة رجال، الطيار "جان ميرموز"، ومسئول الراديو، ومساعد الطيار "جان ديربي" الذي لا زال ذكرى "ميرموز" عالقة في ذهنه، حيث يقول:
جان ديربي:
كان "ميرموز" رجلاً ملتزمًا؛ لأنه كان مسئولاً عن خط أميركا الجنوبية، لقد سبقنا في الوصول إلى هناك عام 1930؛ لأن سمعته كانت مذهلة، كما أنه البادئ خلال رحلاته في "ريو دي جانيروا" وأميركا الجنوبية برحلات ليلية رغم الإمكانات المتواضعة.
المعلق:
كان "ميرموز" يبلغ من العمر 29 عامًا كان يواجه الصعاب برباطة جأش ومزاج هادئ، كان يتحلى بروح الفريق مع من يعملون معه، كذلك الشأن مع "هنري ديومي" البالغ من العمر 28 عامًا، هو الآخر كان طيارًا ذائع الصيت في شركة "إيروسبيسيال" وعين على خط "بيونس أيرس-سانتيجوا" وللذهاب من "الأرجنتين" إلى "تشيلي" كان عليه أن يقطع سلسلة جبال "الإنديز" الشهيرة التي يصل ارتفاع قممها إلى ستة آلاف وخمسمائة متر.
في الثالث عشر من يونيو عام 1930تحطمت طائرة "ريومي" بعد اصطدامها بالحواجز الصخرية، ونجا من الموت إلا أنه ضل طريقه بين الجبال فظل يمشي ساعات طويلة ليلاً نهارًا وسط الثلوج والبرد القارص، كان يقاوم اليأس والتعب والنوم القاتل لينجو بنفسه من الهلاك، قال بعدها: ما قمت به لا يمكن لأي حيوان في العالم القيام به، عاد للطيران ثانية فوق سلسلة جبال الإنديز ثلاثمائة وثلاث وتسعين مرة.
وعلى الجانب الآخر خط "سانتيجوا" كان مدير الشركة لمناطق أميركا الجنوبية "أنطوان لوسا".
كان "إيكسبيري" طيارًا وكاتبًا، كان ينقل البريد في رحلات ليلية، كانت له مؤلفات تعالج أوضاع الشباب في ذلك الوقت، عبر رحلاته ومغامراته المثيرة تجلت له أخلاقيات العمل وقيمة الإنسان الذي ظل متمسكًا بها، فكتب في البداية: إن الأرض تعطينا عن أنفسنا علومًا لا تضاهيها جميع الكتب والمؤلفات، ولا يكتشف الإنسان ذاته إلا حين مواجهة الصعاب، كان "إيكسبيري" هو الآخر موظفًا لدى "ديديي ديورا" فكيف كان يُقيمه كإنسان وطيار ومسئول؟
ديديي ديورا:
كان "سانت إيكسبيري" يتسم بنقاء السريرة وطيب القلب، و"روميه" هو الذي نقل إلى "إيكسبيري" مفهوم الجهد والعمل، والذي لم يكن حينها على دراية كافية بذلك.
المعلق:
مرت "إيرو سبيسيال" في أزمة خانقة، واختفت بعد أن اشترتها أربعة خطوط فرنسية انصهرت معًا لتعلن ولادة الشركة الوطنية "إير فرانس".
هكذا قام وزير الطيران الجديد الشاب "بيير كوست" في السابع من أكتوبر عام 1933 بتقديم هذه المجموعة الجوية التي سيكون لها نجاح بالغ في المستقبل، كانت "إير فرانس" في بدايتها تمتلك أسطولاً مهمًا يضم بين طائراته واحدة تتسم بالغرابة، وتعرف باسم "قوس قزح 70" كانوا يعتبرونها أعجوبة، وكانت اختراعًا جديدًا راقيًا، لكنها كانت تطير بشكل سيء، فكسد سوقها، وأوقعت مصنعها "روني كوزمي" في حالة من الفقر، مما دفع به إلى الانتحار، وذلك بعد أن فاز بشيء من الشهرة عام 1934، حين شارك "ميرموز" في قطع المحيط الأطلسي الجنوبي.
أصبح "ميرموز" رئيس الطيارين في شركة "إير فرانس" حيث تحلى دومًا بالشجاعة لدفع عجلة العمل إلى الأمام.
كان "ميرموز" في أوجه وشعبيته واسعة، كانت لحظة ركوبه إلى "بيونس أيرس" لحظة غامرة، كما استقبله وزير الطيران ومن خلفه فرنسا بأسرها تعتز وتحتفي بنجاحه. كان "ميرموز" مُحبًا للعمل تدفعه أحاسيس الواجب، وذلك جزء من قناعاته، كان يفكر بنقاء وكان مخلصًا كطيار، كل ذلك لم يجد التفهم الصحيح، مما دفع بـ"ميرموز" للانضمام إلى جانب الكولونيل "دولا روك"، ويُعلق "جان ديربي" بالقول:
جان ديربي:
"ميرموز" ذاع صيته بسبب شعبيته؛ لأنه كان مخلصًا في عمله، ورغم انضمامه إلى الكولونيل "دولا روك" إلا أن اهتمامه بالطيران لم ينقطع وظل يشعر بالألم لما وصل إليه؛ لأنه ظل متمسكًا بالدفاع عن مصالح الطيران.
المعلق:
في السابع من ديسمبر عام 1936 غادر "ميرموز" للمرة الرابعة والعشرين لعبور الأطلسي الجنوبي، كان مفتشا عامًا لـ"إير فرانس" ورغم مهامه ظل يقود الطائرات، وفي وسط المحيط الأطلسي أرسل برقية مفاجأة قال فيها: انفصل الذيل الخلفي، وساد بعدها الصمت إلى الأبد.
إيري فرانس:
الافتراض الأقرب للواقع لدى العارفين بالطائرة، قالوا: إن المروحة الخلفية إلى اليمين انفصلت، وبحكم اندفاعها قطعت الذيل وسقطت الطائرة كالحجر في البحر، لقد كان فقدانه خسارة كبيرة لنا ولكل من عرفوه كذلك.
المعلق:
شهد الطيران حوادث عديدة محزنة في الثلاثينيات، كان العالم أجمع يبحث في أسبابها والعلاج الناجع لها، في أميركا شدد الخبراء على الآثار الناجمة عنها، في حين أعادت فرنسا النظر في جوانب تصنيع الطائرات، في منطقة "نيس" وعلى مقربة من قرية "تورانوس" قام الطيار "ألبير سوفان" بتجربته، وإن كان التصميم الذي اختاره متواضعًا.
في هذا الوسط الصخري الحاد العميق قرر الدخول بطائرة مزودة بأجهزة خاصة وضع لها أجنحة طائرة شراعية، ومع إعطائه الإشارة قام زملاؤه ورغم الشعور بالضيق بدفع الطائرة إلى الفراغ فاصطدم الذيل بالحواف، وسقطت الطائرة إلى القاع مما تسبب في كسر ذراع الطيار، ورغم ألمه الشديد عبر "ألبير سوفان" عن سعادته نتيجة تجربته، وطلب من رفاقه إشعال النار في حطام الطائرة.
وبغض النظر عن قيمة الاختراع أمام هذا العمل الجريء والشجاع لابد لنا أن نتوجه بالتحية لهؤلاء مثل "ألبير سوفان" والذين عبر المخاطرة بحياتهم قرروا البحث عن وسائل الأمان والحماية في الطائرات، لم يكن طيارو التجارب قِلة، كما أن الطائرات تحت تصرفهم كانت كثيرة.
"ديسريوا ياك" كانت تسجل تجارب لمحركات تخضع لقوانين صارمة في السلامة، "دوريس" المتطوع صاحب نظرية المحكمة كان أول من أطلقها إلى رحاب الفضاء وكم من آخرين على دربه.
في عام 1932 تم تشكيل أول هيئة فنية لطياري التجارب، كانت مجموعة من الرجال الشغوفين بركوب الطائرات التي تتسم بطابعها الخطر، أحد هؤلاء الطيارين التجريبيين كان الطيار "جاك لوكار".
جاك لوكار:
لم يكن طيارو التجارب أغبياء بل كانوا أفضل الناس في معرفة إن كانت الطائرة تصلح للاستخدام أم لا، كانوا يصدرون أحكامًا حسنة وسيئة، وكان عليهم تسجيل كل ما يشاهدونه والتمييز بين محاسن الطائرة وعيوبها، لم تكن لدينا محركات جيدة وأقلها سوءًا كانت من طرازي "جنوم" و"روم 2" حيث أجهزة الديناميكية الهوائية كانت سيئة جدًا والذيول كانت قصيرة، والطائرة غير مركزية التحكم، وقد أثار ذلك الكثير من التساؤلات.



***********************************************
12-



المعلق:
طائرة الجيل "وبكنا "ev 21" ظهرت عام 1933 وخصصت لحمل مدفع بعيار 75 ميليمترًا، ومنذ التجربة الأولى للطيران أدرك الطيارون أنها مجهزة بكل شيء، لكنها لا تصلح للطيران، يقول "جاك لوكار":
جاك لوكار:
كانت عبارة عن ماكينة هزازة، ولم يكن بالاستطاعة حينها إلغاء الحواف البارزة أو المنصة الطائرة وتم الاستغناء عنها.
المعلق:
تم الاستغناء عن الكثير من الطائرات مثل "شاليمودوا" قبل أن يكتشف المهندسون تدريجيًا خفايا الديناميكية الهوائية، وبدأت المشاريع الكبيرة في فرنسا عند "بوردن" عندما رسم المهندس "ريبارت" سلسلة من الطائرات، ونتيجة التصميم الجديد أخذت أجسام الطائرات أشكالاً نحيفة وجميلة والأجنحة أصبحت رقيقة، وأصبح جهاز الهبوط قابلاً للشد، وتجاوزت السرعات بين 200 إلى 400 كيلومتر في الساعة، المهندس "مارسيل ريبارت" أحد عباقرة الطيران اختصر سره في كلمات بسيطة.
مارسيل ريبارت:
كنت حاسمًا في مقاومة المؤخرات الخارجية على الطائرة، لم أحتمل تعرض الطائرة لأي منها، لابد أن أجد حلاً، لم أحتمل رؤية الرافعة في الخارج ولا أي شيء آخر خارج جسم الطائرة.
المعلق:
كانت هناك فتاة طيارة عمرها عشرون عامًا اسمها "هيلين بوشي"، وعلى متن طائرة من طراز "كوتبورا فال" كانت تؤدي استعراضات مذهلة وقد حطمت الرقم القياسي للسرعة للإناث بتجاوز 400 كيلومتر في الساعة، و"رولان توتا" ذات الجرأة الخارقة، والرجل العصفور "كلين سو" الذي شد قلوب الناس إليه، للأسف كل ذلك انتهى بشكل سيء.
بدأت فكرة الطيران الشعبي تطفو على السطح، فاقترح أحد صغار الصانعين وهو "هنري ميني" صناعة طائرة سهلة الانقياد حتمًا لا يريدون الطيران، كانت عبارة عن دراجة في الهواء فأسماها "قملة الفضاء" وهو اسم يروق كثيرًا للسيد "ميني" الذي قال:
هنري ميني:
ينتابني شعور غامر لا أستطيع وصفه وتمكنت من شرح طريقة تشغيل هذه الطائرة في الجو، إنها طائرة مبتكرة تبرهن على أنه بالإمكان الطيران بدون الوسائل الأخرى المتعارف عليها.
المعلق:
وماذا عن المسافة؟
هنري ميني:
ربما باستطاعتها ذلك، ولأن شكلها سيء أسميتها القملة الصغيرة.
المعلق:
لقد تكاثرت إلى نحو 300 طائرة لا يزال بعضها يطير حتى الآن كهذه التي يمتلكها هاو بلجيكي "فيرناند موزي" شخصية غريبة وطائرة غريبة، وبالفعل كانت قملة الفضاء طائرة خطرة ولا زالت، ولتسهيل تداولها لدى الجمهور لابد من مزايا وخبرة واسعة في قيادة الطائرات، يعتبر ذلك "فيرناند" هينًا:
فيرناند موزي:
إنها طائرة يمكن أن تتاح للجميع، يكفي أن يتعلم الإنسان كيف يهبط بها؛ لأنها تطير بنفسها، إنها سهلة القيادة.
المعلق:
سهلة القيادة مسألة فيها نظر، لكنها منذ عام 1934 إلى عام 1937 وهو تاريخ منعها من الطيران قتلت تلك الطائرة نحو عشرة طيارين بأجنحتها.
هذه الطائرة الصغيرة شاهد على عصر مليء بالإرادة الطيبة والحماس، كان عصر الجبهة الشعبية حيث قررت الحكومة الاشتراكية تأميم الصناعة الجوية "إيميل دوتين" أحد أرباب الصناعات الجوية يتحدث إلينا.
إيميل دوتين:
في قرارة أنفسنا لم نكن نؤيد فكرة تأميم صناعة نشطة وجديدة كصناعة الطائرات الأفضل تأميم صناعة الدبابات والشاحنات، ولكن تأميم مصانع الطائرات بالنسبة لي كان خطأً فادحًا وكان إجراءً مبكرًا لأننا كنا بصدد القيام بالعديد من المشاريع التي كانت قيد الدراسة.
المعلق:
ويقول "مارسيل دوسوي" حول التأميم:
مارسيل دوسوي:
ما ينقص الشركات الوطنية هو روح الاستمرار لدى رؤسائها؛ لأن روح الاستمرار لديهم لا تتعدى الجانب الشخصي، من الطبيعي لدى شركة تغير رئيسها كل عامين أن لا تصل إلى نتائج هامة في صناعة الطيران، أظن ذلك هو السبب الرئيس أما أنا فأدير شركتي منذ أربعين عامًا ولدي نمط معين من التدريب، لكن المسئول الذي يأتي هنا لفترة عامين ثم يعزل ماذا بالإمكان أن نطلب منه أن يفعل؟ ماذا؟
المعلق:
لتفادي مثل هذا الإجراء المحبط اختارت الحكومة عددًا من رؤساء الشركات الوطنية خاصة ملاكها السابقين مثل "هنري بوتيز".
هنري بوتيز:
في الحقيقة لم يتغير الواقع كثيرًا؛ لأن المصانع ظلت تحت إدارة بعض المدراء الذين لم يتغيروا، لذا لم يحدث تغير كبير، وأنا كذلك عندما طلبوا مني البقاء على رأس الشركة لم يحدث أي تغيير أيضًا.
لم يحدث تغير جذري في مؤسستنا خاصة إدارة المصانع؛ لأنني المسئول الإداري والمدير الفني العام وبذلك لم يتغير موقعي بعد التأميم.
عمل الجميع بروح الفريق وأنتجنا طائرات عديدة بل ربما أكثر من ذي قبل، والدولة زودتنا بالكثير من المواد والعتاد والإمكانات التي كان يفتقدها بعض المصنعين أمام الاحتياجات الضرورية في ذلك الوقت.
***************************************​
المعلق:
عبر السنوات الثلاثينيات ظل الحلم مستمرًا في عبور الأطلسي، وبتأسيس خطوط للركاب وأخرى تجارية سجل الألمان أول إنجازاتهم في بناء طائرة مائية عملاقة "دوروني Dox" من إبداع "كلود دوروني" حفيد أحد الفرنسيين الهاربين إلى ألمانيا، وبأحد محركاته ذات الاثنين وخمسين طنًا ترك بصماته على تاريخ الطيران، كان يلزم اثنا عشر محركًا بقوة ستمائة حصان ليُقلِع بتلك الطائرة من أوروبا إلى أميركا.
في الداخل كانت أشبه بالسفينة منها إلى الطائرة كانت هناك غرفة للآلات وماسورة تمر عبر الجناح تتيح المجال للميكانيكي للإشراف على المحركات وإصلاحها أثناء الطيران، كانت الطائرة "dox" ترتفع حوالي 500 متر لتحية بناية الإمباير ستيت، وفوق نيويورك مرت الطائرة عن جسم ألماني كبير المنافسة الكبيرة "جرافزبلن" التي تعود إلى أوربا، في ذلك الصراع فوق الأطلسي هي التي سجلت الفوز، الطائرة الكبيرة سهلة الانقياد مريحة وآمنة ودون ضوضاء كهذه "lz 127" أسموها "زبلن" تكريمًا للصانع الألماني، وعندما نقول عنها الوحش لم نكن نبالغ، كان طولها 236 مترًا بعرض 33 مترًا، ينفخ فيها 75 ألف متر مكعب من الهيدروجين ويمكنها ابتلاع أربع طائرات "بوينج 747" الحالية.
هل كانت سفينة؟ نعم سفينة هوائية تنزلق على طول المحيط، يقوم طاقمها المكون من 40 شخصًا بالإشراف على ذلك الوحش الهائل، لكن هناك شيء يبعث على القلق، وهو الهيدروجين الذي يحمل الطاقة في الهواء لكونه غازًا قابلاً للاشتعال وخطيرًا جدًا، لكن إجراءات الأمان والسلامة كانت مشددة حيث يشعر الركاب طيلة أربعة أيام من الرحلة بالطمأنينة في تلك الكابينة الكبيرة ذات الجدران المغطاة بالحرير، وبابتسامة عريضة يمكننا إرسال التحية إلى سفن الأطلسي القديمة كان الوصول إلى ألمانيا لحظة احتفالية وانتصارًا للتكنولوجيا الألمانية، وبالفعل كانت لحظات الوصول احتفالية بالنسبة لقائد الطائرة "هيجوا إكنير".
نتخيل اليوم كيف كانت تلك المناطيد كان يلزم بناء عنابر عملاقة تتسع لها، تعتبر من أكبر ما صنع الإنسان كالعنابر المخصصة لهذين العملاقيين الأمريكيين "أركون" و"ماكو" بسعة 182 ألف متر مكعب، كانت طائرات تستطيع حمل ست طائرات مقاتلة من عصرنا الحالي، لكن تلك الطائرات العملاقة كانت عرضة للأخطار، فبعد أيام من رسو طائرة "أرونج" ضاعت تلك الطائرة في إحدى العواصف ومات فيها 73 شخصًا، وفي الثالث عشر... قليل اختفت طائرة "ماكو" هي الأخرى لكن المسألة لم تقف عند هذا الحد، ففي عام ثلاثين أدخلت بريطانيا إلى الخدمة "r 101" بحجم 150 ألف متر مكعب، هذا كل ما تبقى من الطائرة الإنجليزية "r 101" قبل أن تتحطم، كان ذلك المنطاد الموجه يطير فوق "بوفي" على ارتفاع منخفض واستيقظ الناس على صوت محركاته فخرجوا لمشاهدته، بينما كان ينساب بهدوء وسط الليل الدامس والممطر، كل شيء كان على متنه على ما يرام إلى جانب طاقمه مكون من 42 شخصًا، أرسل الألمان أكبر المناطيد فوق الأطلسي "هيندر بيرج" بسعة 200 ألف متر مكعب، وبعد 63 رحلة عبور وصل "هيندر بيرج" إلى نيويورك في السادس من مايو عام 1937، وفجأة أصابت ذلك المركب الجوي حالة من الهياج، ووقع انفجار وصراخ ومناظر مريعة.
سقط في الحادث 42 قتيلاً، هل كان عملاً تخريبيًا فكرة لم تكن مستبعدة لكونه يحمل عمل ألمانيا الهتلرية، وكانت تلك نهاية هذا النوع من الطائرات ذات الخطورة الفائقة، بعد تلك الكارثة اختفت تلك المناطيد من سماء العالم، وأصبح من الضروري البحث عن وسائل الأمان والعودة إلى الطائرات المائية والبحث عن الوسائل لتعزيز فعاليتها.
برز أمام الإنجليز حل غريب ألا وهو وضع طائرة فوق الأخرى، الطائرة المائية تحمل الأخرى فوق الأطلسي ثم تكمل الثانية الرحلة، كانت هذه حلم أحد المهندسين اللامعين، أخذت قدرة الطائرات تتحسن وأوزانها تزداد، وتم تصنيع الطائرة المائية الضخمة بأربعة محركات مثل "شورت S 23" فخر الطيران الملكي.
في عام 1938 أدخل الأمريكيون طائرتهم "كليبر" إلى الخدمة والطائرة الوثيرة لـ"بان أميركان إير ويز" التي تربط "نيويورك" بـ"ميرجان".
وبالفعل سجلت الطائرات المائية نجاحات باهرة على أكثر من صعيد وفي العالم أجمع خاصة "فرنسا" حيث برزت مشاريع كثيرة العديد من المشاريع في فرنسا أصبحت قيد الدرس، هذا هو أكثرها أهمية كما يبدو لنا "فيترا بيس" قرب "فيرساي" هناك بحيرة صناعية أنجزت في القرن السابع عشر ووسعت تلك البحيرة إلى الغرب لإتاحة مساحة طيران تبلغ ثلاثة آلاف متر كانت تلك بمثابة الخط السريع الغربي، بالإضافة إلى الخط الكهربائي الذي يمر قربه وهما مدخلان أكثر استحسانًا بالنسبة لغيرها في العاصمة، هذه الخطوط المهمة لتلك المشاريع الضخمة جعلت باريس على مسافة بضع ساعات من نيويورك وجعلت من العاصمة الفرنسية ملتقى الخطوط والمواصلات العالمية، لكن شيئًا من كل هذا لم يتحقق، بعد أربعين عامًا لم يعد هناك من يتحدث عن الطيران المائي والقليل من الطائرات التي لا زالت تعمل في أميركا تجوب بعض البحيرات أو تقوم بسقاية الغابات الفرنسية كطائرة "كندا إير" الجميلة.
لكن ما الذي حدث؟ ولماذا اختفت الطائرات المائية؟ "جان دابري" رفيق "ميرموز" كان يقودها يقول لنا:
جان دابري:
نعم كنت أقودها كثيرًا، لكن التاريخ برهن على أن الطائرة المائية لا تصلح كسفينة ولا تصلح كطائرة أيضًا.
المعلق:
لم يكن ذاك جوابه الوحيد في مكان ما في أميركا عام 1936 برز إلى الوجود المنافس الحقيقي للطائرة المائية "دوجلاس C 3" كانت طائرة تتمتع بشروط السلامة والراحة والهدوء والانتظام بالإضافة إلى عامل السرعة، بالنسبة لهذا الاختراع هناك رجلان أولاً "جيفرلاند" كان عمره 27 عامًا، يقول اليوم: هذه الطائرة تبلغ من العمر ضعف سني، لكن الذي صنع تلك الطائرة وحقق الشهرة والمال عبر خطوط فضائية عالمية واحد من أكبر مصنعي الطائرات في العالم هو "دونالد دوجلاس" اليوم لم يعد في ذلك المصنع الذي يحمل اسمه، "دونالد دوجلاس" ما هو سرك؟
دونالد دوجلاس:
لم أعثر على الفكرة المناسبة وحدي بل عثرت عليها أنا والفريق بأكمله، فهذه الطائرة فيها كل مستلزمات الطائرة العصرية من رسم وتصميم فريدين، كل هذا بجهد الفريق.
المعلق:
أما "جيم" فيقول:
جيم:
هذه الطائرة جميلة بأجنحتها الكبيرة، لقد امتلكت أول جهاز هبوط قابل للطي، محركاتها من طراز "برايس" بقوة 1200 حصان، هذا النوع من المحركات يمكن الاعتماد عليه، وهذه الطائرة هي واحدة من أولى الطائرات ذات الأجنحة المنخفضة والقوية، هذه الطائرة مثلاً طارت 75 ألف ساعة، أي ما يعادل الدوران حول العالم 600 مرة، وكانت تطير طيلة ثمانية أعوام.
المعلق:
أيمكن أن تطير بها أمامنا؟
جيم:
نعم.
المعلق:
تلك هي الطبيعة البسيطة لهؤلاء الذين يعتبرون الطائرة كالدراجة، قمرة قيادة كبيرة ونوافذ واسعة كالقطار تتسع لأربعة وعشرين مسافرًا على مراحل ألفي كيلومتر أي ما يقارب 300 كيلومتر في الساعة يقودها طياران وبرفقة مضيف واحد، أولاً وقبل كل شيء هناك قائمة التحكم والمراقبة.
قبل الإقلاع يتم التأكد من كل شيء، ولقد بدأت تلك القائمة مع اختراع هذه الطائرات منذ أكثر من أربعين عامًا، طريقة القيادة هذه تتسم بالدقة والضمير المهني كل ذلك يخدم شروط السلامة.
 
تاريخ الطائرات

تابع
13-


المعلق:
في فيلم …جدار الصوت أظهر "ديفيد لين" ماذا يعني "ماك 1" في مرحلة ما بعد الحرب، على لوحة القيادة يبين "الماك" العلاقة بين سرعة الطائرة وسرعة الصوت، "ماك 1" سرعة الصوت، كان إنجازًا من المستحيلات في ذلك الوقت.
لقد بدأ ذلك إثر الأبحاث التي قام بها المهندس "بودار" حيث بدأت عمليات التجارب على أنواع الصواريخ، لكن الزلاجات لم تجعل المهمة يسيرة.
"أوبيل 129" "جيستبو إيبل" صانع السيارات الألماني الشهير قام بتجربة "فرانك فورت" فزودها بستة عشر صاروخًا، بعد محاولات عديدة تمكنت الطائرة من بلوغ سرعة 150 كيلوا مترًا في الساعة لم يكن نجاحًا يعتد به من المهندسين الذين اشتغلوا في المشروع كان "ليبيش" الذي قرر عام 41 بناء "ميسر شميث 163 كوميت" بلغت سرعتها ألف كيلوا متر في الساعة، وشكلت خطرًا بالغًا على الحفاء والطيارين أيضًا، لأن فنيات الطائرة الصاروخية لم يتم إتقانها بعد، والروس سيدخلون التجربة ذاتها، طيار التجارب "فاجشيفانجي" يستعد في الخامس عشر من مايو عام 42 للإقلاع وللمرة الأولى في طيارة صاروخية بعد لحظات وسيلقى حتفه.
كانت التجارب خطيرة ولابد من بديل، رجل الصناعة الإيطالي "كابروني" والمهندس "كامبيلي" عثرا عام 40 على الحل البديل، والمتمثل في محرك بمروحة تدور داخل الطائرة خلف الطيار يحقن بالوقود نحو المروحة لتكوين شحنة ينتج عنها اندفاع، لكنها لم تكن كافية، ما نسعى إليه في عالم الحرب هو الذهاب أسرع مما يصل إليه الخصم، حتى ذلك الوقت لم يكن معروفًا غير المروحة التي تدور لولبيًا في الهواء، أما الصاروخ فعبارة عن اسطوانة مغلقة عند نقطة معينة، وتحتوي على مواد متفجرة كالغاز السائل أو البارود، عند الانفجار يندفع المحتوى إلى الخلف بقوة، وهكذا يتجه الصاروخ إلى الأمام بسرعة خارقة، تم تحقيق تقدم حقيقي على صعيد محركات التيربوا الذي نعبر عنه بهذا الرسم، اسطوانة يكون فيها الدخول من هنا والخروج من هنا، كومبريسور ضاغط وله ريش تدور وتساعد على دوران الكومبريسور الضاغط بفعل محرك صغير، ويمتد من المروحة محور يربط الكومبريسور بالتوربين، وبينهما غرف احتراق عبارة عن اسطوانات أصغر حجمًا يتم فيها حقن الوقود، وتزود بنظام إشعال يساعد على احتراق المزيج من الهواء والوقود الذي يعبر غرف الاحتراق، وتبدأ عملية التشغيل عندما يعمل المحرك الصغير وتبدأ دوران الكومبريسور ويعبر الهواء إلى غرف الاحتراق ويحمل الوقود فينفجر، ويرتد بقوة إلى التوربين مما يولد اندفاعًا شديدًا يؤدي إلى انطلاق الطائرة إلى الأمام كما يعمل كذلك على دوران التوربين الذي يعود بدوره لتشغيل الكومبريسور وتظل الحركة مستمرة دون انقطاع.
كان الإنجليز عمالقة صناعة هذا النوع من المحركات "فرانك ويلتون" قام بأول تجربة عام 30، لكن هذا النوع من محركات التيربوا شكل خطرًا على محيطها، في 15عشر من مايو عام 41، أقلعت طائرة "جلوستر" للمرة الأولى، ولم تتجاوز سرعتها 450 كيلوا مترًا في الساعة فتم الاستغناء عنها فورًا.
بعد عام فقط أقلعت "ميسر شمث 262" في 18 من يوليو عام 42 هي أيضًا كانت تنقصها القوة رغم محركها القوي، ورغم ذلك مع نهاية عام 44 انطلق بها الطيارون الألمان للحرب، وبعد الحرب أخذ بعض طياري الحلفاء يقومون بتجربتها، من بينهم "بيري كلوستر مان".
بيري كلوستر مان:
إقلاعها كان صعبًا وكنا نرى نهاية الممر ونود أن نسرع بها ولكن دون فائدة، حاولنا أن تكون سريعة الإقلاع ولكنها تصعد ببطء، أحسسنا بأنها تسير بأقصى جهدها في الهواء، ثم تبدأ بعد ذلك بالتجاوب مع متطلبات الطيار في القيادة والمناورة, لقد كانت فعلاً شيئًا رائعًا، وكان ذلك خلال المعارك، وقد لفت أنظارنا عبور الكوميت أمامنا.
*****************************************************​
المعلق:
برهن "أوتان" بشكل مطلق سيطرة الطائرات النفاثة على الأخرى ذات المراوح، ودخلت طائرة "جلوستر" الإنجليزية الخدمة متأخرًا عام 45.
بعد فترة وجيزة سجلت "جلوستر ميتور" أثرًا بارزًا في تاريخ الطيران، في السابع من نوفمبر عام 45 حطمت الرقم القياسي العالمي في السرعة، حيث سجلت 977 كيلوا مترًا في الساعة، أي بزيادة 260 كيلوا مترًا عن الرقم الذي تم تسجيله قبل الحرب، وهنا كانت البداية الحقيقية للمحركات النفاثة.
جاء الأمريكيون بشكل متأخر فقد نجحوا في صناعة أول طيارة نفاثة "بيل 59" عام 42، لكن هذه الطائرة لم تلبي طموحاتهم، في العاشر من يونيو عام 44 ظهرت طائرة "كوك هيد بي 80 شوتنج ستار" حيث حطمت رقم السرعة الذي سجلته "متيور" وسجلت 1300 كيلوا متر في الساعة، وضمن هذا السباق على السرعة دخل الروس لأخذ دور لهم.
تم تكليف "ألكسندر ياكوباليف" بتصنيع أول طائرة نفاثة سوفيتية، وقام طيار "ميخائيل يوفانوف" بأول تجربة للطيران بها في 24 من أبريل عام 1946.
هذه هي "ياك 15" "ياك 3" بمحرك ألماني لكنه سينفجر على المدرج وتم تصنيع "ياك 15" بأعداد كبيرة حيث تم تسليح القوات السوفيتية بها.
في فرنسا كانوا يحاولون اللحاق بالركب، وكانت آلاف الطائرات الألمانية المحطمة في كل مكان وتم إنشاء المصانع لاستغلال ذلك الحطام والانطلاق من جديد.
في الحادي عشر من نوفمبر عام 46 تم تحقيق إنجاز في ذاكرة التاريخ، أول طلعة جوية للـ"SC" أو "C200" "تري 2" لم تكن سيئة، لكن بعد الروس بستة أشهر ظهرت أولى الطائرات الفرنسية النفاثة إلى الوجود.
ولحق بها على الفور طراز مذهل لسبادوا التي سجلت 1000 كيلوا متر في الساعة، وهكذا دخل الجميع عصر المحركات النفاثة لكن الطيارين نتيجة السرعة المذهلة يعانون من اهتزاز الطائرة ويصبح التحكم بها صعبًا للغاية، ولم يكن يعرف لذلك سبب إلا الآن، حيث تتولد حول الطائرة موجة صدمات كانوا حينذاك الوقت يحاولون فهم ما يحدث، لذا كان من الضروري الاستمرار في المحاولة وتجربة طائرات أكثر سرعة.
كان الإنجليز أول من واجهوا جدار الصوت بدائرة "BH 8" لـ"رونديل" وهي طائرة للتجارب، في 15 من مايو عام 46 كان الاستعداد لطلعتها الجوية الأولى.
"هولا بيلاند" أكثر صانعي الطائرات شهرت في العالم صعد لهذه الطائرة الغريبة هذا هو ابن ذلك الطيار "جون دولا بلاند" لقد فقد "دولا بلاند" ابنه في حادث "موسكيتوا" أما الثاني فقد تكفل بطائرة "BH 108" في 27 من سبتمبر عام 46.
شرع "دولا بلاند" في تصنيع طائرة أخرى لطيار تجارب آخر، وهو بطل الحرب "جون كانن جان" وما الذي يمكن أن يؤكده ذلك الطيار؟
ما الذي كان باستطاعة والد "دولا بلاند" أن يؤكده؟
دولا بلاند:
لقد كان الأب لكنه المؤسس الحقيقي لشركة "دولا بلاند" كان رجلاً متجددًا ذكيًا ومتغيرًا اعتبر فقدان ولده من إحدى تجاربه المريرة التي تمكن من تجاوزها لأن ألمعيًا مثله يعتبر صانع طائرات من الرواد الأوائل.
********************************************************​
المعلق:
قرر الأمريكيون أن يكونوا أول من يخترق جدار الصوت، لذا صمموا طائرة نفاثة من طراز "بيل إكس" ولتوفير الوقود أقلعت مربوطة أسفل طائرة "B 29".
في 14 من أكتوبر عام 47 وعلى ارتفاع خمسة آلاف متر فوق قاعدة "ميروك" بـ"كاليفورنيا" نزل الطيار ليلتحق بطائرته، كان عمره 24 عامًا واسمه "شيكيجل" من فيرجينيا بالجنوب الأمريكي، طيار مقاتل سجل 12 انتصارًا جويًا، وتم إسقاطه لكن المقاومة الفرنسية أنقذته وتكفلت بسلامته.
انزلق الطيار إلى الأسفل ولم تكن الطائرة حينذاك مزودة بمقاعد النجاة المقذوفة.
عمل مثل هذا يتطلب شجاعة فائقة وظل الطيار ينتظر اللحظة الحاسمة، تم إسقاطها لتعتمد على ما بها من وقود قليل وتصرف بسرعة أشكل الطيار أربعة محركات صاروخية باندفاع تصل قوته إلى ثلاثة أطنان من الأرض لم نكن نرى غير اللهب والدخان الصادرين عن الطائرة وفجأة سمعنا صوتًا أقر إلى الانفجار وللمرة الأولى سمعنا انفجار اختراق حاجز الصوت.
بعدها أخذ الطيار في الهبوط متأرجحًا متقلبًا زاهيًا بهذا الانتصار الرائع.
أصبح "شيكي جيل" أول طيار يخترق جدار الصوت، "شيكي جيل" هل سررت بأنك الأول؟
شيكي جيل:
لا، ليس هذا ما تتصوره، عندما رأيت المؤشر يقفز عرفت أنني تجاوزت موجة الصدمة وشعرت حينها بسعادة غامرة بعد سلسلة التجارب العسيرة، لم يخالجني شعور بالخوف، ولكنني كنت قلقًا نوعًا ما على حياتي، وكنت على وشك فقدان السيطرة على الطائرة، أو السقوط عموديًا أو على ظهر الطائرة، وعندما تراجعت عن سرعة حاجز الصوت أحسست بالراحة وتنفست الصعداء.
المعلق:
كان أول أوروبي يخترق جدار الصوت هو الإنجليزي "جون ديري" في السادس من سبتمبر عام 48، "جون ديري" كان أصغر طياري التجارب وأكثرهم وسامة، بعد أربعة سنوات أخذ يمارس هذه الهواية على مرأى من الجمهور.
في السادس من سبتمبر عام 52 وأمام مئات آلاف من المتفرجين أقلع "جون ديري" بقوة صاروخية إلى الفضاء الفسيح، في ذلك الوقت كانت تقنيات جدار الصوت على حالها، ذلك ما شرحه الطيار بالمايكرفون.
جون ديري:
أطير بسرعة فائقة وأرتفع إلى أعلى قدر ممكن تجاوزت جدار الصوت، احذروا.
المعلق:
وانفجرت طائرة "جون ديري".
في 13 من نوفمبر عام 52 كان "روجي كابنتي" أول طيار فرنسي يخترق حاجز الصوت على متن طائرة من طراز "مسيي" وبدوره سيلقى حتفه، لكن خلال تجربته لطائرة أخرى على غرار "كوستيا أوزانوف" الطيار المقدام، ولا يتسع الوقت لتعداد من سقطوا، ثمن يجب دفعه مقابل السباق الجنوني مع السرعة.
كوستيا أوزانوف:
لقد فقدنا الكثير من طياري التجاري في ذلك الوقت، لأن وسائل السلامة المتبعة حينئذ كانت بسيطة وبدائية، أظن أننا بدأنا بفقد 18 طيارًا، وجميع ممرات القاعدة تحمل أسماءهم.
*********************************************************​
المعلق:
وهكذا اضطر العالم لمعرفة ردود أفعال الطائرات والطيارين على وجه الخصوص، هذا الإنجليزي أصبح حقلاً للتجارب، حيث سيتم وضعه في مقصورة تتعرض لنفس المؤثرات الخارجية التي يتعرض لها الطيارون خلال مناوراتهم في سرعات عالية جدًا، هنا مقياس السرعة المعروف بـ"G" الذي يمثل فيه "1 G" قوة الجذب الأرض الطبيعية، وبسرعة "5 G" يصل وزن الطيار خمسة أضعاف وزنه الطبيعي، وهنا على الطريقة الأمريكية أكثر من قدرة احتمال الجسم على ذلك، وهذا هو الطيار السوفيتي الطيار "شيريانوا".
تم اختراع المقعد المقذوف للنجاة حيث تقذف كمية من البارود بالطيار إلى الخارج بقوة، وتم تصميم التجربة على الطائرة الأحدث تجهيزًا، يمكن للطيار القفز من طائرة تطير على ظهرها.
تواصلت التجارب وتعددت أشكال وأنواع الطائرات، وظهر في فرنسا عائلة من الطائرات الحديثة، إنها طائرات "لودوا".
"روني لودوا" صنع طائرة متميزة وحديثة، فقد رسم وصمم وضع هذه الطائرة بإتقان فني متميز، واليوم يتحدث عن هذه الطائرة أفضل الخبراء ابن "روني لودوا".
ابن "روني لودوا":
كانت الأولى والأكثر جمالاً كان الطيار يجلس في هذه المقصورة ولأن القدرة فيها على الرؤية كانت محدودة، فإنها تتطلب طيارًا مغامرًا لركوبها، هنالك كما ترون هنا نوافذ جانبية وسفلية أيضًا مع وجود هذه المقصورة القاذفة لا يحتاج الطيار إلى القفز بالمظلة، فالمقصورة ذاتها يمكن استخدامها كمظلة، يصل الطيار إلى الأرض بمقصورته، الأجنحة هنا كما ترون رقيقة جدًا، تحمل ألف لتر من الوقود، أما جهاز الهبوط فإنه بسيط جدًا، ولأن الطائرة لم تكن تقلع وحدها فإنه كان يتم حملها على ارتفاع شاهق ويتم حينذلك إلقائها بسرعة 300 كيلوا متر في الساعة حينها يبدأ الطيار بالانطلاق، وهنا يوجد المحرك في الداخل سترون كم كانت هذه الطائرة بسيطة في صناعتها، لم تكن بها قطعة متحركة ولإدراك ذلك لابد من النظر إلى الطائرة من الخلف، وإذا نظرتم لن تجدوا شيئًا وهنا يكمن السر، تقوم أجهزة الاحتراق بحقن الوقود في التيار الكهربائي في ذلك الأنبوب لذلك لابد من تيار هوائي، لهذا يتم حمل الطائرة على أخرى مروحية بسرعة 300 كيلوا متر في الساعة، وهنا يتم إطلاقها وتشغيل المحرك مما ينتج عنه قوة اندفاع تصل إلى طنين، تطلق الطائرة في الجو بسرعة 900 كيلوا متر في الساعة.
المعلق:
بعدها صمم "روني لودوا" أربعة أنواع مختلفة من تلك الطائرة، وللتخلص من الطائرة الحاملة صمم طائرة "صفر 22" بمحرك نفاث وقوة دفع قوية.
في ديسمبر عام 56 أقلعت الطائرة "صفر 22" بقدراتها الذاتية، كانت طائرة رائعة تفوق سرعة الصوت باقتدار، وكانت السبب في إعطاء صناعة الطائرات الفرنسية دفعة قوية وتم التخلي عن الطائرة واعتبر "لودوا" أنه وصل إلى النهاية.
_______________________________________
وأخيرا
الأخيرة
14-



المعلق:
أعطى اختراع الطائرة النفاثة نتائج مبهرة في نماذج أخرى من الطائرات مثل "لوجرفوا" التي صمتت في نفس الفترة، وبها اخترق "أندري تيركا" حاجز الصوت حيث طار بسرعة اثنين مارك، أي ضعف سرعة الصوت، لكن طائرة "جري فوا" أيضًا تم التخلي عنها، وتصارع صانعوا الطائرات في اختراع أنواع أكثر خصوصية مثل "لوتريدا" الطائرة الاعتراضية الصاروخية، في الوقت ذاته واصل الأمريكيون تجارهم على طائرة "X" وصنعوا بالـ"X2" في الثالث والعشرين من يوليو عام 56 بلغت سرعتها ثلاثة آلاف كيلوا متر في الساعة، وهذا يرفع درجة حرارتها من الخارج، عند تلك الدرجة يبدأ المعدن بالانصهار.
جرى تصنيع "X3" من الحديد القوي بسرعة تعادل ثلاثة أضعاف سرعة الصوت، تلتها "X4" نموذج من الطائرات دون ذيل، ثم "X5" بأجنحته ممتدة إلى الخلف، كل تلك التجارب كانت الغاية منها عسكرية في تلك الفترة من الحرب الباردة كان السباق لإيجاد الطائرة الأكثر فعالية في الحرب.
أكثر الدروس المستفادة من تجارب الطائرة "VX1" هو اكتشاف قدرة التحكم في الدفة الخلفية للطائرة، لذا استوجب تغيير زاوية الدفاع تماشيًا مع سرعة الصوت وهذا ما دفعني للتركيز على أهمية ذلك، لقد اكتشفنا هذا الأمر خلال الحرب الكورية.
المعلق:
كوريا بين عامي 50 و 53 فصل جديد من الحرب الجوية بين طائرات مقاتلة تتميز برد الفعل طائرة "نورث أميركا F86 سابر" تطير بسرعة ألف كيلوا متر في الساعة وتحمل أسلحة تقليدية منها ستة رشاشات عيار اثني عشر وسبعة من عشرة ميليمتر، الطيارون في الحروب السابقة الذين كانوا يواجهون طائرات "ميرسر شميث" أو "صفر" التقوا في كوريا، وكذلك كان شأن "فرانس جابريسكي" أحد صقور الجو الذي حقق 28 انتصارًا جويًا وعاد إلى الخدمة مجددًا ليحقق ستة انتصارات أخرى.
فرانس جابريسكي:
لقد كان نمطًا جديدًا في الحرب، إذا ما التقينا وجهًا لوجه، وكان ذلك كثيرًا ما يحدث، وإذا ما قررنا الالتفاف حول العدو على شكل دائرة، كان ذلك يستغرق نحو 45 كيلوا مترًا.
المعلق:
لكن واجهة الحرب الأخيرة ظلت دائمًا على حالها لم تتغير، طائرة "السابر" بسرعة ألف كيلوا متر في الساعة كانت تلحق بخصومها وتطلق عليهم نيران رشاشاتها، وهكذا أسقطت طائرات "لوسابر" سبعة آلاف من الطائرات المصنوعة في روسيا، وسقط ثمانون طائرة "لوسابر" لماذا هذا التفوق المذهل؟
فرانس جابريسكي:
كان هناك طيارون صينيون لكن المدربين كانوا من الروس، وأنا متأكد أنني في بداية المعارك تقابلت مع طيارين روس لأنهم كانوا عدوانيين جدًا ولديهم رغبة هجومية قوية، لكنهم كانوا يهربون بعد ذلك، بالتأكيد في الحرب الكورية، كان هناك طيارون روس التقينا بهم في المعارك الجوية، فلم يكونوا كلهم من كوريا أو من الصين، كنا نستمع على بعض الموجات في الراديو النداءات باللغة الروسية.
*****************************************​
المعلق:
كانت كوريا مجال للتجارب سواء بالنسبة للطيارين الروس أو الأمريكيين طائراتهم كانت "ميج 15" مزيجًا من الأبحاث الألمانية وبمحرك إنجليزي وهيكل روسي بالكامل، تلاها تصنيع "ميج 17، 19" التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
في عام 56 ظهرت طائرة "ميج 21" و"سوخوي 9"، و"ميج 21" التي تطير بسرعة "مج 2" طائرة متميزة تم استعراضها أمام "جورتشوف" وبرفقته صانع الطائرة "نيكويا".
ظهرت الـ"ميج 21" في حرب أخرى هي حرب فيتنام، على متنها كان الطيارون الفيتناميون بعد تلقي تدريباهم في الاتحاد السوفيتي يحققون انتصارات مذهلة، وهذا الكونداوي البالغ من العمر 25 عامًا والذي سجل 13 انتصارًا جويًا، لقد أصبح الصاروخ اليوم سلاح الطائرة، وهذا "كاي 13" صناعة سوفيتية، بواسطة هذه الصواريخ تمكنت الطائرات السوفيتية من مواجهة الطائرات الاعتراضية الأمريكية من طراز "ماكدونالد فانتون" معركة، طائرة "فانتوم" بسرعة ألفي كيلوا متر في الساعة حددت هدفها بالراداد على بعد كيلوا مترين أطلقت صاروخ "صايد واندر" الذي يلاحق مصدر الحرارة في الطائرات المعادية.
وتحولت المعارك الجوية بين الطائرات الأسرع من الصوت إلى معارك متبادلة على شاشات الكمبيوتر والرادار والإلكترونيات، وظهر عدو لدود للميج الروسية وهو الطائرة الفرنسية "ميراج 3" فمنذ خروجها من مصانع داسوا عام 55 تم تصنيع نحو 1300 نموج منها وكانت أكبر نجاح تحققه صناعة الطائرات الفرنسية.
هذه الطائرات جاءت مباشرة بعد الحرب من طراز "DC4" و"DC6" تاريخ في سجل الماضي لهذه الطائرة التي قطعت أطول مسار لها بين باريس وحتى نيويورك كانت من أحلام الخمسينيات، وبعد أن حقق الطيران تحققا ملحوظًا تم التوجه إلى النقل العمومي للأفراد بشكل كثيف ففي عام 49 صنع الإنجليز طائرة "بريستوا البرافازوا" كان وزنها 131 طنًا، تعمل بثمانية محركات بقوة 2500 حصان لدفع تلك الآلة الهائلة إذ لم يكن حينها محركات عملاقة لدفع تلك الطائرة الضخمة، وتم التخلي عن "برافازوا" بسرعة؛ لأنها كارثة اقتصادية، لكن ذلك لم يقلل من حماس الإنجليز، ففي عام 52 صنعوا طائرة مائية ضخمة من طراز "ساندر سبرنسنز" تزن 150 طنًا ومجهزة بعشرة محركات قوتها 3800 حصان، صحيح أنها طائرة جميلة لكنها هي الأخرى كارثة اقتصادية.
على نفس هذا الطراز السيئ جاءت الطائرة الأمريكية العملاقة هياكل ضخمة تتسع لسبعمائة راكب وكلفت 25 مليون دولار، ثمن باهظ حتى بالنسبة لملياردير مثل "يوكس" الذي قادها للمرة الأولى والأخيرة رحلة استغرقت ألفي متر لا أكثر.
أما الإنجليز الذين وقفوا على درب النجاح فقد واصلوا تجاربهم ودخلوا مرحلة النقل الجوي مبكرًا جدًا فخرجت "دولا بيدند كوميد" عام 49، طار بها للمرة الأولى طيار التجارب "جون كالينجام" أقلع فيها في السابع والعشرين من يوليو، ثلاث سنوات من التجارب، كانت الطائرة النفاثة فيها على ما يرام، واستخدمتها أكبر شركات الطيران العالمية، شركة الطيران البريطانية "BOAC" استخدمت تسع طائرات "كوميت" لرحلاتها الجوية عام 52، كانت تطير بسرعة ثمانمائة كيلوا متر في الساعة، إنه انتصار بمعنى الكلمة، وللأسف تحطمت إحدى طائرات "كوميت" في كالاكوتا وأخرى في روما، بينما غاصت الثالثة في البحر المتوسط."جون كالينجام".
جون كالينجام:
لقد كان صعبًا علي أن أفهم حقيقة ما حدث رغم أننا كنا قد أجرينا العديد من التجارب الحثيثة على بناء الهيكل قبل طيران "كوميت" للمرة الأولى، وضمن برنامج الطيران هذا كنا دائمًا نتابع ما يحدث حتى النهاية، نتابع ذلك باستمرار.
*******************************************************************​
المعلق:
رغم ذلك لابد من العودة إلى الصفر فقد جند "دولا بيدند" فريقه للعمل من جديد، وتم وضع جسم لطائرة "كوميت" في خزان كبير وعرضوه لأكبر قدر ممكن من الضغط، وهكذا تم اكتشاف الخلل، حيث إن المعدن على مقربة من الأجنحة لم يقاوم ضغط المقصورة.
جون كالينجام:
إن الأمان النسبي الذي تتمتع به الطائرات الحالية قد تحقق بفضل الجهود المضنية، وكذلك بفضل التجارب التي قمنا بها لفهم أسباب تفسخ المعدن في أجسام الطائرات، وجميع الطائرات التي قمنا بصناعتها في إنجلترا وأوروبا والولايات المتحدة زودناها بالمعلومات المتوفرة عن تلك الحوادث واستفادت منها.
المعلق:
ماذا تعني بالأمان النسبي لطائرات اليوم؟
جون كالينجام:
إن معرفة قوانين الضغط داخل المقصورة الداخلية للطائرة يجب أن تتوافق مع شروط بناء الطائرة.
المعلق:
لقد قلت: الأمان النسبي، لكنني أرى من وجهة نظري أن الأجدر بك أن تقول: الأمان المطلق؟
جون كالينجام:
لا من الصعب تحقيق الأمان المطلق لأنه غير موجود، لذات فالأفضل أن نقول: الأمان النسبي.
المعلق:
كان الروس أول من حقق الفوز في صناعة الطائرات النفاثة لنقل الركاب حيث ظهرت طائرة "كوبوليف 104" عام 55، ما أذهل الغربيين هو قوة المحركات، فبينما كانت طائرة "كوميت" تتمتع بقوة دفع تبلغ اثنين طن كان "كوبوليف" مجهزة بقوة دفع تصل إلى ستة أطنان، وهكذا سجل الروس تقدمًا ملحوظًا في هذا المضمار والجدير بالذكر أن هذا التقدم جاء نتيجة أبحاث عسكرية صنعوا خلالها طائرات عملاقة للنقل والقصف الجوي.
سجل الفرنسيون فوزًا باحتلال المرتبة الثانية حينما اخترعوا طائرة "كارافيل" وطارت للمرة الأولى في 27 من مايو عام 55 هنا من "تولوز" محركان في نهاية الطائرة كان الأمر بسيطًا وسجل ثورة حقيقة في صناعة الطائرات، كانت ميزة هذا الاختراع ظاهرة في استقرار الطائرة وتفادي الضوضاء فيها، هذا إضافة إلى جمال شكلها الذي نال الإعجاب، كان ذلك أول نجاح لطائرة تجارية فرنسية في فترة ما بعد الحرب، فقد تم تصنيع 271 طائرة "كارافيل" استخدمها 37 شركة طيران في العالم، هذا النجاح يعود إلى المهندس "بيير ستا".
بيير ستا:
في الحقيقة هذا النجاح يعود إلى كثيرين خصوصًا أصدقائي القداماء وهم "سكولا" و"دوجي" و"دالما" وغيرهم لم يحضروا معنا.
المعلق:
أنتم إذن فريق الكارافيل؟
بيير ستا:
ذلك هو الفريق، على طاولة الشروحات والتجارب كنا نناقش ونرى الرسومات، وهكذا جاءت فكرة تركيب محركين على الجانبين، كان ذلك في أول ديسمبر عام 1951 كان ذلك أول اختراع لذلك النوع من المحركات في فرنسا أذكر جيدًا أنني رأيت إحدى الصحف الأمريكية بعد نشر صور طائرات "الكارافيل" وقالت: إن الفرنسيين يصنعون اليوم ما سيصنعه العالم غدًا.
**********************************************************************​
المعلق:
بعد نجاح "الكارافيل" قام صانعوا الطائرات بوضع المحركات في الخلف، كل ذلك نتيجة لجهود "إييروس بيسيال"، ظهرت سلسلة من الطائرات تقليدًا للكارافيل فات 111، "BC9" و"اليوشن 62" و"بيكاريسب BC10 " وغيرها، لماذا لم تصنع فرنسا تلك الطائرات؟ بالتأكيد كانت فرصة لا تعوض لفرنسا.
سجل الأمريكيون المرتبة الثالثة لصناعة "لافيل" ففي الخامس عشر من يوليو عام 64 حلقت أولى طائرات "بوينج 707" في الفضاء تلك الطائرة بمحركاتها الأربعة تحمل 150 راكبًا بسرعة 950 كيلوا مترًا في الساعة فوق الأطلسي.
حولت تلك الطائرة فكرة النقل الجوي ذاتها، وبعد أن اشترتها جميع الشركات العالمية غزت "البوينج 707" أرجاء العالم، وتم اختصار الزمن، ها نحن في نيويورك بعدها كل شيء صار بسرعة هائلة، قامت "بوينج" بتصنيع أكبر الطائرات وهي "بوينج 747" كانت بداية النقل الجماعي الكثيف أي 400 راكب، ولحقت بها طائرات مماثلة، مثل "تراي ستار" و"الإيرباص".
بتلك الطائرات ظهر ديكور جديد من الحديد والمعدن لتتشكل بداية حضارة السباق مع الزمن، إن كل شيء تغير خاصة مع اختراع التلفزيون وتطور وسائل الاتصال وتحول العالم إلى بلدة واحدة هذا هو ما صنعه الطيران.
أين كان؟ وأين أصبح؟ طائرات عمودية رأسية تختصر مسافات الممرات المكلفة فمنذ بداية الخمسينيات بدأت الولايات المتحدة بتسجيل نجاح لحمل هذا الوحش بالمراوح، ولحق بهم الإنجليز بهذا الهيكل الطائر الذي سمي "رولز رويس" يتكون من محركين وكتلة من الحديد، لحق بهم فيما بعد الروس "يوري جيرناييف" أحد أكثر الطيارين الروس جرأة، قام بقيادة المحرك النفاث، ومات في فرنسا بعدها ببضع سنين في حادث مروحية خلال مقاومة حريق في إحدى الغابات.
هذه الفكرة قادت الروس لاختراع طائرة مطاردة تقلع أفقيًا، في فرنسا دخلت "سيدما" المغامرة بهذا الهيكل الطائر، أما "داسوا" فقد صمم طائرة "بيلزاك" وهي نسخة من الميراج بمحركين عامودين، لكنه حل معقد، ولم تستمر الطائرة طويلاً، وواصل الإنجليز كذلك تجاربهم واخترعوا طائرة "هارير" التي شهدت بدايات صعبة، لكنها نجحت في النهاية وتم تصنيعها بكثرة لصالح القوات الجوية الملكية والولايات المتحدة الأمريكية، حيث شكلت أسرابًا للإقلاع عموديًا، مشهد غريب، هكذا تمكنت تلك الطائرات مثل "هارير" من الإقلاع من وسط مدينة نيويورك لكن مشكلة الضوضاء القوية لم يجدوا لها حلاً، وعلى مدار السنوات الماضية ظل الكل يحلم بالجناح الطائر الفكرة النابعة من الخيال العلمي، ففي الولايات المتحدة منذ عام 50 تم تصنيع طائرات وهي قاذفة بثمانية محركات عرض أجنحتها 60 مترًا وتزن 100 طن، لكنها تؤكد لنا أهمية الأبحاث التي أدت إلى وجودها.
كان اختراعها مبكرًا وقررت السلطات الأمريكية التخلي عن المشروع كما لو كان يثير خوفهم، لكن ذلك كان بمثابة صدمة قوية لمخترعيها المهندس "جون نورتروب".
جون نورتروب:
تلقينا تعليمات مباشرة بتدمير جميع النماذج من الطائرة، فقطعناها وبعناها كخردة.
المعلق:
ألم تكن الحلم الكبير في حياتك؟
جون نورتروب:
نعم كانت كذلك، كانت أكبر حلم في حياتي، ولكننا فيما بعد وبعد دراسات مستفيضة طورنا طائرة النقل تلك، والتي أصبح الجميع يعرفها اليوم.
******************************************************************​
المعلق:
استمرت صناعة الطيران إلى حدود وآفاق بعيدة، في الثالث عشر من أكتوبر عام 67 صعدت طائرة "X15" فوق كاليفورنيا، وللمرة الأولى فوق الغلاف الجوي، وسجلت سرعات لم يسبق لأحد الوصول إليها، 7170 كيلوا مترًا في الساعة، وعلى ارتفاع 108 آلاف متر، وبذلك دخل الطيران عالم الفضاء.
في مايو عام 77 تم إنشاء قاعدة جوية في الاتحاد السوفيتي أغلب الطائرات فيها تحمل شعار "أنتونوا" وهي طائرة نقل ثقيلة لحمل العتاد، كان بينها أيضًا إحدى أكبر الطائرات على الإطلاق "لانيتي" التي تزن 230 طنًا.
عند النظر إلى هذه الطائرات العملاق ندرك أن من صممها وصنعها هو آخر عمالقة صناعة الطائرات اسمه "بوليك أنتونوا".
كم طائرة تطير في العالم "أنتونوا"؟
أنتونوا:
نحو 14 ألف طائرة.
المعلق:
هذا رائع، هل أنت مسرور وفخور بذلك؟
أنتونوا:
نعم، أنا سعيد جدًا، لكن أمامنا الكثير من العمل.
المعلق:
أظن أن هذه آخر اختراعاتك.
أنتونوا:
نعم هذا صحيح، لكنها من النوع الصغير.
المعلق:
هل هي فعالة؟
أنتونوا:
أجل فعالة جدًا، إنها مفيدة وتفتح بسهولة، تفضل بالدخول، نحن سعداء بهذه الطائرة، هذه غرفة القيادة.
المعلق:
هذه هي سعادة صناعة الطائرات تخطر الفكرة في البال لتصميم محرك أو آلة ثم يبدأ الانطلاق بها في الأفق الفسيح.
أنتونوا:
نأسف كثيرًا لاختفاء الكثيرين من المبدعين في عالم صناعة الطيران، هذا أمر مؤسف فعلاً، أتذكر جيدًا "لويب ليريوا" "فارما" "لويب بيرجي" "دوجلاس" وغيرهم، والآن هنالك شركات عالمية ولا أعرف بالضبط من يقوم بتصنيع الطائرة حاليًا.
المعلق:
من يقوم بتصنيع الطائرات حاليًا؟ هو الكمبيوتر، آلات تصنع آلات أخرى، يبدو لنا وكأن جميع الطائرات متشابهة، نطرح الأسئلة على الكمبيوتر ونعطيه المقاييس لكنه في جميع بلاد العالم يعطي نفس الأجوبة، ما هو إذن آخر حلم لصانع الطائرات؟ بماذا تحلم؟
صانع طائرات:
كما يحلم الغالبية، أحلم بالريف، وأحلم بالصداقة أحلم بالابتعاد عن الضوضاء.
المعلق:
صانع روسي مهم أيضًا هو "أندري توبوليف" الذي أمضى حياته في مزرعته قرب موسكو، بمساعدة ابنه "أليكسي" كان الحماس يحزوه للدخول إلى عالم الطيران النفاث، وفي بداية عام 69 جاء لمشاهدة إقلاع طائرة "توبوليف 144".
بعد أن عمل مع "جوكوبسكي" في بداية القرن شاهد ذلك اليوم قبل موته، اليوم بين لندن وباريس تطير "الكونكورد" كل يوم.
منذ ذلك الصباح في الثالث من ديسمبر عام 1903 الذي طار فيه "الأخوان رايت" كم المسافة التي قطعاها؟ منذ بداية تلك الطائرة المصنوعة من الخشب والقماش بوزن 200 كيلوا جرام ووصولاً إلى هذه الطائرات العملاقة التي تزن 180 طنًا والتي تطير بسرعة 2300 كيلوا متر في الساعة أي قصة جميلة هذه التي لا تصل إلى نهايتها مع تلاحق الأجيال، اطلعنا على أنماط السرعة التي تضاعفت بشكل مذهل وعند النظر إلى هذه النفاثة نتساءل: إلى أين سيكون مصير الطيران في المستقبل؟ لكن اندهاشنا سيظل إلى الأبد.
_________________________________
وفي النهاية الله يعطيني الف عافية :eek:
وطبعا الله يعينكم على قراءة الموضوع
بصراحة انا ما قرأته كله لكن بإذن الله سأقرا كل يوم عنصرين
وأرجو أن يفيدكم
أخوكم المتواضع: المتألق
 
الموضوع منقول لكن ليس كله
وأنتظروا الفيدوهات
 
عودة
أعلى