لم يكن الاستفتاء الإسكتلندي الذي دعت اليه حكومة القوميين في اسكتلندا في 18 سبتمبر الماضي، إلا نتاج سنوات من صراع مكتوم بين تيارات عديدة تمثل تحديات بالداخل البريطاني، الذي ما هو الا جزء من كل أوروبي، فأوربا ليست الكل المدمج الذي يختزله بعض أيدولوجيينا في كلمة الغرب، قدر ما هي فضاء تنوع وثر ملئ بالمكونات والتنوعات، التي تمثل مكونا اصيلا من هويته و تركيبته الديموغرافية و السكانية ..
ولذلك تبدو محاولة الاستقلال الاسكتلندية رغم عدم نجاحها، مع نتائج هذا الاستفتاء، مجرد قمة ظاهرة لجبل جليد أوروبي من صراع القوميات والإثنيات المطالبة بالاستقلال، ويخشى المحللون من تدحرج الجليد في شكل كرة تكبر على منحدر السياسة الأوروبية لتجرف دولا تالية (مثل اسبانيا وفرنسا وبلجيكا) تعاني من مطالب بالانفصال لدى مكوناتها المتعددة، وتعيد صياغة خريطة الاتحاد الأوروبي في السنوات القليلة القادمة.
أسكتلندا وصراعا منتظرة:
الجار الشمالي لانجلترا و المكون الرئيس لقوام المملكة المتحدة كان دائما في صخب حول الهوية و تحديد المصير، عبر تاريخ طويل من الشد و الجذب مع انجلترا القوية و التي ورثت صراعاتها المملكة المتحدة بعد ان صارت إسكتلندا جزءا منها بموجب قانون الوحدة عام 1707، و كعادة الصراعات حول الهوية بصفة عامة، والاوروبية منها بصفة خاصة، فهي تتخذ عادة شكل موجات تتصاعد في لحظات تاريخية فارقة، و تهدأ في احيان كثيرة اخرى.
¸لم تشذ إسكتلندا عن القاعدة، وجاءت التطورات السياسية الاخيرة بها تجسيدا صريحا و تطبيقا مباشرا لاصولها، فاسكتلندا كجزء من المملكة المتحدة تتمتع بمظاهر حكم ذاتي اكتسبها ساستها عبر قرون طويلة من الشد والجذب حول الهوية الاسكتلندية السياسية منها وجود حكومة محلية تنتخب دوريا كل اربعة سنوات و مجلس نيابي ينتخبه الاسكتلنديون، وتقرر من خلاله سياسات الاقليم كجزء من كيان اكبر تمثله المملكة المتحدة ومركز ثقلها انجلترا.
كان الهوى الانتخابي للاسكتلنديين يميل دائما لحزب العمال البريطاني، و لم تكن مصادفة ان يكون رئيسه لفترة طويلة و رئيس الحكومة البريطانية توني بلير الاسكتلندي الاصل و المولد، و الذي لعب بدوره دورا حيويا في ارجاء تلك المواجهة الفارقة التي نحن بصدد رصد تبعاتها في الاسطر القليلة القادمة .
لم يكن الاستفتاء علي استقلال إسكتلندا وليد اللحظة، كما لم يكن ردا مباشرا علي قرار ما او اجراء اتخذته الحكومة المركزية في لندن، كرة من الثلج بدأ تشكلها منذ قرون طويلة، و كانت دائما في خلفية اي صورة سياسية لإسكتلندا، بدأت في التحرك منذ عشرينات القرن العشرين، وهو التاريخ الذي اتخذت فيه بريطانيا سياسة الوعود طويلة الامد بديلا لسياسة المواجهة خاصة بعد خروجها منهكة من الحرب العالمية الأولي وبدء أفول شمسها كقوة عالمية عظمى.
استخدمت بريطانيا نفس المنهجية مع مستعمرات كبيرة و هامة كمصر (دستور 1923) و الهند و جنوب افريقيا، ولم تأت اسكتلندا استثاء عن هذه القاعدة، و نالت أول وعد بريطاني حديث باستقلال سياسي واداري عن الجار القوي المهمين، و مرت تلك الوعود باختبارات كثيرة و عديدة لم تات في مجملها بحسم يتوق اليه كثير من اصحاب الاتجاهات القومية و اليمينية في اسكتلندا، وقد تعالت اصوات القوميين الانفصالية ودعمها انتخاب حكومية " اليكس ساموند" رئيسس الحزب القومي الاسكتلندي في عام 2007.
كانت علاقة غير متكافئة بين انجلترا و بقية اقاليم المملكة المتحدة، علي الأقل في نظر كل من الايرلنديين والاسكتلنديين وسكان ويلز، فعندما كانت بريطانيا هي المملكة التي لا تغيب عنها الشمس باشرت انجلترا ادارة المستعمرات ولم تحصل بقية اجزاء بريطانيا الا علي الفتات.
حتي عندما بدات انجلترا تعتمد سياسة المفاوضات طويلة الأجل لم تكن أسكتلندا أو أيرلندا استثناء من القاعدة بل تعاملت انجلترا مع طلباتهما بالحكم الذاتي بنفس طريقة إدارة أي مستعمرة في اي مكان في العالم، و هو ما جرح الكبرياء الأسكتلندي والأيرلندي، ذلك الجرح العميق الذي توارثته اجيال اليمين واسثتمرته في احيان كثيرة بالشكل الامثل . تحولت بريطانيا الي بيزنس جديد يعيد لبريطانيا امجادها وقت الاستعمار , الا وهو بيزنس تعدد الثقافات و كالعادة لعبت انجلترا الدور الرئيسس في استقطاب اثرياء المهاجرين من جميع انحاء العالم بصفة عامة و من الشرق الاوسط بصفة خاصة الامر الذي ازكي نار الشعور بالتهميش والخوف علي الهوية والتراث لدي بقية مكونات الكيان البريطاني , وكانت فرصة احزاب اليمين في اسكتلندا التي لا تتكرر كثيرا , والتي احبطت بعد ان استخدمت بريطانيا ممثلة في انجلتراثقلها السياسي الداخلي والخارجي لحيلولة دون وقع هذا الانفصال , وقد افلحت المحاولات في اللحظة الاخيرة لاعتبارات كثيرة تاتي السياسية والاقتصادية منها في المقام الاول .
أسبانيا وفيفا كاتالونيا:
إن المحاولة الفاشلة لأحزاب اليمين الاسكتلندي في الانفصال عن المملكة المتحدة، وإن لم تحقق هدفها في بريطانيا، فإن تضاغط موجاتها لن يتوقف عند حدود الشاطيء الشمالي لبحر المانش، فالقارة العجوز ذات التركيب الفسيفسائي عودنا تاريخها علي الوحدة الضمنية لمشكلاتها السياسية وان اختلفت المسميات والاقاليم واللغات و المكونات الثقافيةـ فأوربا مرت بنفس الاطوار تقريبا في وقت واحد وكأنما لا وجود لأي إختلاف عرقي او حضاري لدولها , بداية من عصر الاقطاع مرورا بعصر النهضة والثورة الصناعية ثم الحرب العالمية الاولي والثانية نهاية بعصر الوحدة الاوروبية والتكامل الاقتصادي والسياسي.
وفق الرصد الدقيق للدول الاوروبية المشتركة مع انجلترا في العرض الظاهر نجد تشابها كبيرا في الحالة الاسبانية والبلجيكية والفرنسية وصولا الي البولندية والتشيكية وحتي الأوكرانية . عودتنا القارة العجوز علي أن مشكلاتها، خاصة السياسية منها، تتشابه تماما مع قطع الدومينوما ان تسقط إحداها حتي يتوالي السقوط الي ان تنتهي الحركة لاخر قطعة في الصف، وعملا بهذا القاعدة المؤسسة لا تاتي الحالة الاسبانية باختلاف كبير عما جرى في بريطانيا.
أسبانيا هي المملكة ذات التاريخ الاستعماري الكبير والتي تولت قشتالة و أرجون عبء تحريرها من العرب ثم توحيدها و غزو العالم تحت رايتها حتي اصبحت اللغة القشتالية هي لغة المملكة، و نسبت لغتها (القشتالية) إلي أسبانيا ككل حتي اصبحت تسمي لغة اسبانيا الرسمية، وكأن اسبانيا تخلو من اي لغات أخري..
وهذا بخلاف الواقع الذي يعترف بوجود لغات أخرى داخلها، جليقية وباسكية و كتالونية و حتي برتغالية، و أغمض الطرف عن تعدد إيبيريا الثقافي والذي دفع فاتورته الأولى العرب و اليهود ثم سحب الحبل علي الجرار ليضرب اقاليم الباسك و جاليثيا(جليقية )، و كتالونيا والبرتغال، تلك الأخيرة التي تمكنت من الخروج المبكر عن الطوع الاسباني و بناء تراث استعماري و سياسي خاص بهاـ نظرت اليه بقية اقاليم اسبانيا و خاصة أكبرهم سكانا و أعرضهم ثراء كتالونيا بمنطق المنافسة الطموح.
يمتد تاثيركاتلونيا الثقافي والسكاني من جبال البرانس وخليج الباسكال شمالا وغربا مروا بجزر مايورقه و مينوركا و بالنثيا المتوسطية شرقا و جنوبا، وهي الإقليم الذي قاسى وعاني سكانه الامرين طوال اغلب فترات الحكم الأسباني والتي كانت اعتاها قسوة علي اهله فترة الديكتاتور الاسباني فرانكو والذي سجن كل من جاهر باستخدام الكتالونية كلغة للتعامل ,و عصف بحريات اهل الاقليم ومنع نسب اي حدث او شخصية او انجاز تاريخي او علمي او اقتصادي او سياسي الي كتالونيا، تلك الفترة العاصفة الحاسمة هي التي ولدت الرغبة الجامحة لدي أهل الإقليم في الانفصال خاصة وأنه إقليم ثري لا يحتاج الي المملكة الاسبانية في الدعم بل علي العكس فان اقتصاد اسبانيا يقوم ميزانه التجاري بشكل كبير علي التعاملات التجارية لمرافقه البحرية، وعلي ثقله الاقتصادي الصناعي منه والخدمي . و بحسب وكالة الانباء الكتالونية بلغ معدل دخل الفرد في كتالونيا هذا العام 2014، الذي يبلغ تعداد سكانه حوالي السبعة ملايين نسمة , 26412 يورو سنويا ,ومساهما بخمس حصيلة الاقتصاد الاسباني مجتمعا في العام المنقض.. أي أن 13% من سكان أسبانيا وهم المقيمون في كاتالونيا يقدمون 20% من ناتجها القومي وهو ما يمنح مطالب الاستقلال الكاتالوني زخما اقتصاديا مهما .
وفي هذا النسق فإن الرغبة الانفصالية لإقليم كتالونيا والتي بدأت تتبلور في مطلع القرن العشرين , و اجلتها الحرب الاهلية الاسبانية 1936-1939 , ثم قضى عليها حكم الديكتاتور الاسباني فرانكو حتي نهاية سبعينات القرن العشرين، لا تحتاج إلي سعي القوميين باحزابهم الرئيسة في اقناع سكانه بجدوى بناء دولة مستقلة عن مدريد , فالفاصل اللغوي والثقافي والجغرافي حاضر بكل ملامحه في هذا الكيان المتحفز للسير علي خطى اسكتلندا و بفاعلية اكبر وبهامش نجاح حتمي , الأمر الذي تقاومه مدريد بكل السبل وباستماتة لن تجدي كثيرا علي المدى الطويل. وقد جاء استفتاء عام 2006 والذي اقره قرابة 74% من سكان الاقليم بمثابة العلامة الفارقة علي رغبة الكتالونيين الجامعة في الانفصال، وهو الاستفتاء الذي فسرته مدريد علي أنه موافقة من الكتالونيين علي مجرد تعديل وضعهم كأمة داخل الامة الاسبانية دون الانفصال عن النظام السياسي، وهذا التفسير ايده فيما بعد حكم المحكمة العليا الاسبانية في عام 2010 حيث تسبب في مظاهرات جامحة و قياسية في اقليم كتالونيا قدرته جريدة الموندو الاسبانية وقتها بانه قارب النصف مليون متظاهر .
وبنظرة سريعة علي احدث استطلاعات الرأي التي اجريت في الإقليم منذ عام 2011 وحتي عام 2013 بحسب جريدة الموندو واسعة الانتشار في اسبانيا و حتي في الاقليم فان رغبة سكان الاقليم تتزايد تجاه الانفصال حيث كانت النتائج في كالاتي :
في 2011 وافق 44% من السكان علي الانفصال في حين عارضه نصف هذا العددـ اما بقية العينة المستطلعة، فاختاروا المنطقة الرمادية من قرار حاسم.
ثم تصاعد التأييد للانفصال في عام 2012 حيث وافق علي الانفصال 51% فيما عارضه 22%
ووصل التأييد للانفصال رقما قياسيا في اي استطلاع راي تم قبل 2013 علي نفس الفكرة حيث أيد 55.6% من سكان الاقليم الانفصال في حين عارضته أقلية قوامها 23% من سكان الاقليم.
الوجع الفرنسي أزمة الإلزاس:
اما فرنسا فليست بمنأى عن اجتياح كرة الثلج الاسكتلندية في طريقها جنوبا، ففرنسا هي الوجع الاكبر في الجسد الاوربي، حيث كانت أزمة الإلزاس واللورين إضافة الي اقليم الغابة السوداء سببا متكررا في اندلاع الحرب مع الجار الالماني منذ عام 1870 مرورا بالحربين العالميتين، ولاتزال مناطق في شمال شرق فرنسا، يتحدث سكانها اللغة الألمانية عرضة لسيطرة التيارات القومية و طرح استفتاء يعرض الانفصال عن الكيان الفرنسي، و الذي ينظر له كثيرا علي إنه كيان استعمار نتج عنه وضع ثقافي و جغرافي شاذ لابد من تصحيحه في وقت ما، خاصة في ظل المعطيات الاقتصادية الاوروبية الحالية والتي تظهر فيه الماكينة الالمانية كمضخة عملاقة تضخ الدماء في الشرايين الاوربية الاقتصادية المتصلبة في اطراف القارة العجوز الجنوبية والغربية , و اغراء العودة الي الحضن الالماني القوي لا يمكن اغفالة .
بلجيكا وأزمة الفلاميش:
و تعرج كرة الجليد غربا الي الجار البلجيكي حيث أزمة الفلاميش و متحدثي الفرنسية و التي كثيرا ما يشبها علماء الجغرافيا البشرية بالنار تحت الرماد، فانفصال الجزء المتحدث للهجة من لهجات اللغة الهولندية و المسمي بالفلاميش علي ارض الواقع عن الجانب الفرنسي لا تخطئه العين، و فكرة الانفصال و تكوين كيان مستقل يتمتع بالحكم الذاتي واردة لا يمكن إنكارها تزكيها تلك الأزمة الإقتصادية الطاحنة التي تعاني منها اوروبا.
ان تأثيرالانفجار القومي الاسكتلندي والذي لم يكتب له النجاح في انفصال اسكتلندا عن الكيان البريطاني, لن يتوقف عند مجرد رفض سكان الاقليم للانفصال، ولكن تبعاته ستمتد لتهز جميع ارجاء القارة العجوز، والتي تعاني صراعا ثقافيا هاديء الوتيره في غربها، وملتهبا متعدد الأطراف والمصالح في شرقها متمثلا في الأزمة الأوكرانية، و سيمتد تأثير هذا الاستفتاء لسنوات طويلة قادمة.
في 2011 وافق 44% من السكان علي الانفصال في حين عارضه نصف هذا العددـ اما بقية العينة المستطلعة، فاختاروا المنطقة الرمادية من قرار حاسم.
ثم تصاعد التأييد للانفصال في عام 2012 حيث وافق علي الانفصال 51% فيما عارضه 22%
ووصل التأييد للانفصال رقما قياسيا في اي استطلاع راي تم قبل 2013 علي نفس الفكرة حيث أيد 55.6% من سكان الاقليم الانفصال في حين عارضته أقلية قوامها 23% من سكان الاقليم.
الوجع الفرنسي أزمة الإلزاس:
اما فرنسا فليست بمنأى عن اجتياح كرة الثلج الاسكتلندية في طريقها جنوبا، ففرنسا هي الوجع الاكبر في الجسد الاوربي، حيث كانت أزمة الإلزاس واللورين إضافة الي اقليم الغابة السوداء سببا متكررا في اندلاع الحرب مع الجار الالماني منذ عام 1870 مرورا بالحربين العالميتين، ولاتزال مناطق في شمال شرق فرنسا، يتحدث سكانها اللغة الألمانية عرضة لسيطرة التيارات القومية و طرح استفتاء يعرض الانفصال عن الكيان الفرنسي، و الذي ينظر له كثيرا علي إنه كيان استعمار نتج عنه وضع ثقافي و جغرافي شاذ لابد من تصحيحه في وقت ما، خاصة في ظل المعطيات الاقتصادية الاوروبية الحالية والتي تظهر فيه الماكينة الالمانية كمضخة عملاقة تضخ الدماء في الشرايين الاوربية الاقتصادية المتصلبة في اطراف القارة العجوز الجنوبية والغربية , و اغراء العودة الي الحضن الالماني القوي لا يمكن اغفالة .
بلجيكا وأزمة الفلاميش:
و تعرج كرة الجليد غربا الي الجار البلجيكي حيث أزمة الفلاميش و متحدثي الفرنسية و التي كثيرا ما يشبها علماء الجغرافيا البشرية بالنار تحت الرماد، فانفصال الجزء المتحدث للهجة من لهجات اللغة الهولندية و المسمي بالفلاميش علي ارض الواقع عن الجانب الفرنسي لا تخطئه العين، و فكرة الانفصال و تكوين كيان مستقل يتمتع بالحكم الذاتي واردة لا يمكن إنكارها تزكيها تلك الأزمة الإقتصادية الطاحنة التي تعاني منها اوروبا.
ان تأثيرالانفجار القومي الاسكتلندي والذي لم يكتب له النجاح في انفصال اسكتلندا عن الكيان البريطاني, لن يتوقف عند مجرد رفض سكان الاقليم للانفصال، ولكن تبعاته ستمتد لتهز جميع ارجاء القارة العجوز، والتي تعاني صراعا ثقافيا هاديء الوتيره في غربها، وملتهبا متعدد الأطراف والمصالح في شرقها متمثلا في الأزمة الأوكرانية، و سيمتد تأثير هذا الاستفتاء لسنوات طويلة قادمة.