هل يقتحم الثوار والمنتفضين العراقيين العاصمة بغداد ؟؟
نظـــــــرة تحليليـــــــة للقتــــــال فــــــــي التضاريــــــس الحضريــــــة
نظـــــــرة تحليليـــــــة للقتــــــال فــــــــي التضاريــــــس الحضريــــــة
مجاميع وقوى كبيرة من المقاتلين جيدي التسليح ، يقفون الآن عند مواضع ونقاط قريبة من حزام العاصمة العراقية بغداد وخط دفاعها الأول (وربما الأخير) ويستعدون لإقتحام المدينة .. يضم هؤلاء بضعة مئات من المقاتلين الإسلاميين المتشددين الذين ينضوون تحت لواء الدولة الإسلامية في العراق والشام ومجاميع أخرى كبيرة من عناصر وأفراد العشائر العراقية المنتفضة على الحكم المركزي في بغداد والتي تضم الكثير من أفراد وضباط الجيش العراقي السابق الذين دربوا بشكل جيد من قبل مدربين عسكريين محترفين روس وعراقيين (يمتلكون خبرات متراكمة من حرب الثماني سنوات مع الجارة إيران) .
في الحقيقة العمليات في المدن والتضاريس الحضرية urban operations لا يعتبر خياراً سهلاً لأي قوة عسكريه أو شبه عسكرية . فلخوض هذا النوع من المعارك ، يستدعي الأمر متطلبات كثيرة من خدمات الإمداد والتموين logistics والقوة البشرية والدعم الناري . وكقاعدة عامة ، المدن غير المحصنة دفاعياً سوف تكون خاضعة للسيطرة مع بداية التقدم والزحف . أما المدن التي تعد دفاعاتها بشكل جيد فإنها تصبح "بندقة صعبة الكسر" filbert hard to be crack !! إن درجة نجاح المقاتلين الإسلاميين وثوار العشائر في إنجاز مهمتهم وإقتحام العاصمة ، تعتمد في أحد أشكالها على قدرتهم السريعة على تكييف قابلياتهم القتالية التكتيكية وخفة حركتهم في مواجهة قوات عسكرية حسنة التجهيز متحصنة داخل المدينة .
مما لا شك فيه أن فهم واستيضاح بيئة التشغيل العملياتية operating environment هي المفتاح الرئيس لفهم مكامن القوة والقابليات من جهة ، ونقاط الضعف والوهن من جهة أخرى . وفي هذا المجال ، تشير عقيدة التدريب في الجيوش الغربية الحديثة إلى ثلاثة أصناف أو فئات من تضاريس ساحة المعركة هي : التضاريس المرتفعة والجبلية mountains ، التضاريس المفتوحة والمتموجة open/rolling ، وأخيراً التضاريس الحضرية والمركبة urban/complex . تشكل التضاريس الجبلية (تشمل أيضاً الأدغال والغابات) بيئة فريدة تتطلب تدريبات ومهارات متخصصة specialized training التي هي خارج اهتمامنا الآن .. التضاريس المفتوحة والمتموجة تسمح لتشكيلات قوات الأسلحة المشتركة بالمناورة واكتشاف ومشاغلة الأهداف في المديات البعيدة نسبياً . حيث تكون ظروف المواجهة والإشتباك مختلفة تماماً عن خصائص القتال في التضاريس الحضرية (عادة ما تسجل حالات القتل الأولى من مدى الأسلحة الأقصى) . ويرى الكثير من المحللين أن ظهور الأسلحة دقيقة التوجيه precision weapons التي باتت متوفرة وفعالة جداً ، جعل أنظمة العدو الأرضية غير قادرة على البقاء في الصحاري والسهول المكشوفة وقلص من فاعليتها لحد كبير .. النوع الأخير أو التضاريس الحضرية والمركبة ، فهذه موصوفة ومميزة بحدتها وتجزئتها الشديدة ، حيث تحتوي تفاصيلها على منحدرات حادة مع تغييرات مفاجئة في الارتفاع ، بالإضافة إلى ممرات غير مباشرة وملتوية (تعرض تخفيضات في خط الرؤية البصرية line-of-sight) . في هذا النوع من التضاريس ، الوحدات والوحدات الثانوية تعمل على مشاغلة أهدافها في أغلب الأحيان مع قليل أو حتى بدون دعم متبادل ومشترك mutual support ، وعادة ما تكون الإشتباكات من مديات قريبة نسبياً .
سنسعى بداية لتحليل دقيق قبل العمل على رسم الاستنتاجات المستعجلة . فمن المهم أولاً دراسة حال المدينة نفسها وتفاصيل ظروفها ، التي هي ليست مماثلة لأكثر المدن الرئيسة الموجودة في دول العالم . بغداد مدينة معزولة بمميزات وسمات جغرافية واضحة المعالم ، مثل نهر دجلة Tigris River الذي يسمح للمدينة لكي تفرز إلى نطاقات وقواطع . المدينة ليست مكونة من "وديان حضرية" urban canyons (مصطلح يشير لتراكيب حضرية مع مظهر الطرق والشوارع وهي تقطع خلال القطع الكثيفة من التراكيب الإنشائية ، التي تسبب وتعطي انطباعاً بتأثير الوادي) فمعظم بغداد ممهد لاستيعاب مساكن إسمنتية من دورين فقط ومناطق تجارية منخفضة . هذه المباني المنخفضة بدون سراديب في الغالب ، لذلك هي لن تسمح للقوات النظامية المدافعة عن المدينة في عمل الكمائن ambush . وتكمن الخطوة الأولى والأهم لقوات المعارضة العراقية خلال الإستعداد لمعركة بغداد في الإستفادة وإستغلال تكتيكات الدفاع السيئة poor defensive tactics لقوات الجيش المدافعة (نحن هنا نتحدث عن فرضية) ، حيث يمكن في الحصول على موطئ قدم عند أطراف المدينة ، ليصبح بعد ذلك بالإمكان القيام بالخطوة التالية وهي التقدم في ظل بيئة متقلبة وشديدة التعقيد . بعد ذلك يتم التحرك نحو مركز المدينة بشكل منهجي ومنظم للسيطرة على المناطق الواحدة تلو الأخرى . المهاجمون العراقيون على الأرجح يجيدون إستخدام الأسلحة المضادة للدبابات قصيرة المدى anti-tank weapons والأسلحة الأخرى الخفيفة ، بما في ذلك قاذفات القنابل العاملة بالدفع الصاروخي RPG المنتشرة على نطاق واسع . قوات المعارضة غنمت أيضاً الكثير من الأسلحة الثقيلة التي تشمل المدافع وراجمات الصواريخ ، بل وحتى الأنظمة المدفعية والصاروخية المضادة للطائرات . لذا مبدئياً ، يمكن إستخدام نيران المدافع التقليدية conventional artillery بفاعلية كبيرة أثناء مرحلة التقرب من المدينة ومحاولة السيطرة على أطرافها . هذه الأسلحة ستوفر نيران دعم وإسناد مباشرة للمركبات والمشاة ، خصوصاً أن حشود نيران المدفعية المتجمعة يمكن أن تخلق أنقاضاً وحطاماً debris في المناطق ذاتها التي تريد القوة المهاجمة التقدم خلالها . النار المباشرة يمكن أن تستهل بأسلحة مثل : مدافع القوس ، قاذفات صواريخ متعددة الفوهات ، أسلحة الهاون مختلفة العيار التي غنم الثوار الكثير منها بعد تهاوي وسقوط قواعد القوات النظامية في الأنبار وصلاح الدين والموصل وغيرها من المناطق .
في المقابل تسعى القوات النظامية المدافعة عن المدينة لوقف تقدم هؤلاء ، خصوصاً مع دراية كاملة بتفاصيل وتوزيع تراكيب مدينتهم . لذا أحد الحلول المنطقية تكمن في محاولة حصر وحجز المهاجمين في الطرق والشوارع المملوءة في أغلب الأحيان بالعقبات الأرضية مثل الموانع والحواجز الأسمنتية ومواجهتهم بنيران الأسلحة الخفيفة بالإضافة لنيران المدرعات والدبابات والمدفعية الثقيلة ، وهنا يمكن الإشارة إلى أن معظم الجنود والوحدات العراقية لم تتلقى دورات تدريبية في أساليب وتكتيكات الحرب الحضرية (سلاح الطيران سيكون في هذه الحالة محيداً لأقصى حد وإستخداماته ستكون محصورة في بعض الضربات الجراحية) . محاولة القوات النظامية المدافعة عن المدينة توظيف دبابات المعركة الرئيسة في المناطق المبنية ستكون على الأرجح (كما هو الحال مع جميع الحالات المماثلة التي شاركت بها الدبابات) مقيدة ومعاقة restricted أيضاً بالمباني والإنشاءات وضيق الطرق التي تعرقل الحركة الكاملة للأبراج ومدافعها ، وذلك تحت تأثير الجدران المرتفعة والأشجار وعمدان الإنارة . قوات الثوار المهاجمة ستحاول التحرك سريعاً والإنتشار في أحياء يعرفون طبيعتها جيداً ، ومن ثم الإرتقاء إلى الطوابق والأدوار العليا في المباني ونشر القناصة ببنادقهم المزودة بمناظير تصويب دقيقة sniper rifles (عادة ما تعمل طلقات القناصة ومهما كان مصدرها ، على زرع الرعب الدائم في قلوب الجنود المدافعين) .. لقد أظهرت دراسات القتال في المدن الحاجة لتجهيز المقاتلين وإمدادهم بكميات كبيرة من القنابل اليدوية ، قنابل الدخان ، شحنات هدم وسحق الجدران ، الحبال والأربطة مع خطافات التثبيت grappling hook لدخول المباني ، وأخيراً وليس آخراً السلالم خفيفة الوزن والتي أصبحت أيضاً تجهيز ثمين جداً لقيادة الهجمات . لقد فوجئت القيادة العراقية وأحرجت لدرجة كبيرة عندما أدركت الحدود التي استغل بها مقاتلو المعارضة قابليات الهواتف النقالة ، مواقع التواصل الإجتماعي ، وآلات تصوير الفيديو الخفيفة لكسب "حرب المعلومات" information war .. لذا قررت تحييد وتقييد بعض هذه الأدوات !!
دراسات حديثة عن طبيعة القتال والمعارك في التضاريس الحضرية أظهرت تأثير توظيف بعض الأسلحة المستخدمة . لذا قادة الفرق والكتائب على جميع المستويات يجب أن يدرسوا العديد من العوامل عند اختيار أسلحة وأفراد مجموعاتهم . من هذه النتائج التي أكدتها الدراسات :
* مديات الاشتباك في هذه التضاريس عادة ما تكون قريبة ، وإن ما نسبته 5% فقط من الأهداف المنشودة تكون على مسافة تتجاوز 100 م . في حين تكون نسبة 90% من الأهداف على مسافة منظورة ومباشرة تقل عن 50 م ، ويمكن لهذه أن تصل لنحو 35 م فقط .
* زمن الاشتباك في الغالب يكون محدود وسريع ، بحيث يجب تبديل وتغيير موضع الرمي بسرعة كبيرة . كما سيتم توجيه رشقات من نيران المدافع الرشاشة نحو المباني والتراكيب الإنشائية المعينة كنقطة إطلاق أو حتى تلك المشتبه بأمرها .
* الدخان الناتج عن احتراق المباني ، غبار الإنفجارات ، ظلال المباني المرتفعة ، قلة الضوء النافذ لداخل الغرف .. كل هذه الأمور تؤدي لتخفيض الرؤية reduce visibility وزيادة الإحساس بالعزلة بالنسبة للقوات المتقاتلة . للحد الذي تكون مع الأهداف الصغيرة المتحركة ، حتى القريبة منها ، أهداف غامضة وغير واضحة المعالم ، ناهيك عن تلك التي تخفيها التراكيب والإنشاءات الصناعية .
* القتال في التضاريس الحضرية يميل لكونه مشوشاً في أحيان كثيرة ، خصوصاً مع هجمات الوحدات الصغيرة من عدة محاور متقاربة ومتلاقية . هنا يكون العدو في حالة إرباك من إصابات النيران الصديقة ، ويحرص في أغلب الأحيان على الاهتمام بمراحل تخطيط العمليات ، وتعديل إجراءات المراقبة بشكل مستمر لتخفيض هذه الأخطار . كما يتم التأكيد على الجنود والقادة ، ضرورة المحافظة على الوعي والإحساس الموقعي لتجنب القتل الصديق .