شكل اكتشاف السلاح الناري منعطفا في التاريخ العسكري، إذ ساهم في اختزال القدرات العددية التي كانت مطلبا ملحا في الجيوش، إلى قدرة نوعية، تمثلت في إسقاط أكبر عدد من الضحايا، لنموذج سلاح البنادق، وقدرة تدميرية-خارقة- لسلاح المدافع التي كانت قادرة على دك أقوى دفاعات الحصون والقلاع التاريخية.
في المغرب، عرفت الدولة الوطاسية، -بحسب «حوليات أصيلة»- أول استعمال للسلاح الناري في الحروب سواء منها الداخلية، التي خاضتها الدولة الوطاسية لاستتباب أمور حكمها بالمغرب، أو بمناسبة تصديها للغزو البرتغالي والإسباني للسواحل المغربية، فلم يتردد المغرب في تبني التقنية القتالية الجديدة التي اخترعها الأوربيون بعد أن طوروا تركيبات متفجرة شديدة، مستفيدين في ذلك من الثورة العلمية وعلوم الرياضيات، حيث تؤكد المصادر التاريخية تأليف مصنفات باللغة العربية تشرح بدقة كيفية صهر وصنع المدافع وكذا قذائفها المتنوعة، إضافة إلى تصاميم هندسية لتلك المدافع، والبنادق التي صنعت وطورت بأوراش تصنيع السلاح بالمغرب حتى بداية القرن العشرين.
هذا في الوقت الذي عرف فيه عهد الدولة السعدية، استعمالا مكثفا للأسلحة النارية عرف أوجه مع معركة وادي المخازن، حينما أزال السعديون بانتصارهم الباهر دولة البرتغال من على خريطة شبه الجزيرة الإيبيرية، متفوقين في التخطيط العسكري المحكم، ودعم المدفعية التركية. وقد سبق وأن قاموا بتشييد مصانع السلاح وجلبوا العمال الأجانب، مثل الأوربيين والأتراك للسهر على إنتاج حربي دائم من الأسلحة النارية، عن استجلاب الخبرة التركية، يحكي صاحب (تاريخ تطوان ج2، ص 266). «ومن أنواع السلاح الذي كـان يستعمله الحسن الأول زيادة على المدافـع المهاريس « العـدة الرومية» وهي مكاحـل مركبة فيها توافلها قدرها ألف وستمائة وعشرون مكحلة تخرج أبخاشها بالحبـة الرومية... و 410.000 من الحبة المذكورة وعشرة قناطـر من البارود ومائة قنطار من ملحة ومدفعين. وكانت القنابل تصنـع عام 1181هـ/ 1767م على يـد الأتراك».
بحكم وتيرة الحروب التي عرفتها الدول المتعاقبة على حكم المغرب في مواجهتها القوى الخارجية، وعلى رأسها القوتان البارزتان وهما إسبانيا والإمبراطورية العثمانية سعى المغرب جاهدا إلى ضمان كفاية من الإنتاج الحربي وخلق «فابركات» مختصة في صناعة السلاح الناري. فقد أنشأ أحمـد الوطاسي بساحـة القصر الملكي بفاس الجديد معمـلا لصنع المدافع والبندقيـات والبارود.
كمـا أنشأ المنصور معملا جديدا هو «دار العدة» قرب القصبـة بمراكش
وهذا المعمل هو الذي زود جيش عبد الله الغالب بمعدات فرقة المدفعيـة (مناهل الصفا/ ص 42 و210).
أما في عهـد السلطان سيـدي محمد بن عبـد الله، كانت البنادق وأنـواعها من الأسلحة البيضاء كالخناجر والرمـاح في تطوان وفاس ومكناس والبارود في مراكش وفاس، وقد أسس مصانع لتذويب نحاس المدافع، وجلب لذلك الخبراء من الاستانـة، وقد أسس أيضا مصنعـا للقنابل في تطوان بلغ وزن القنبلة المصنوعـة فيه قنطارين اثنين، كما توزعت البلاد إلى مناطق عسكرية وبلغت قلاعها المنتشرة على العهد الإسماعيلي ستة وسبعين قلعة موزعة بمختلف نواحيه، في حين جهزت وحدات مدفعية ( الطبجية ) بالبطاريات العصرية، وأصبح المشاة يستخدمون الأسلحة المصنوعة بفاس، بينما تذكر الوثائق الرسمية أن الأسطول البحري في عهد سيدي محمد بن عبد الله تجاوزت مراكبه الخمسين قطعة، من بينها ثلاثون ( فركاطة ) تضم ستين قائدا وسبعة آلاف من البحارة والرماة .
كيف تعرف المغرب على السلاح الناري؟ وماذا كانت أبعاده العسكرية والسياسية؟ ولم أدى إهماله وسياسة تصنيعه؟ أسئلة ضمن أخرى تجدونها في الملف التالي.
هكذا اكتشف المغاربة الأسلحة النارية
وظف السلاطين المغاربة مرتزقة أجانب لاستعمالها خوفا من سقوطها في يد العامة
قدم محمد المهناوي-الباحث المختص في تاريخ الأسلحة النارية بالمغرب، مراجعة نقدية لما هو متداول من حديث عن ضعف الوطاسيين وعجزهم العسكري، وتفوق السعديين عليهم بفضل احتكارهم ملكية السلاح الناري. واستعرض، اعتمادا على نص «حوليات أصيلا» المترجم أخيرا، القدرات العسكرية التي كانت للبرتغاليين –آنذاك-المحتلين لعدد من المدن والمراكز الساحلية المغربية. وبين، أن الوطاسيين أصروا على امتلاك السلاح الناري لجهاد البرتغاليين في البداية ومقاومة السعديين بعد ذلك. وكانت موقعة المعمورة سنة 1515م مناسبة أسهمت فيها المدفعية الوطاسية في إفشال حملة برتغالية، مما كان له الوقع الحسن على معنويات ملك فاس وأهلها. وكان الوطاسيون قد أقاموا وحدات متخصصة في إنتاج السلاح الناري، كما تعهدوا بالعناية الفائقة بالعناصر الأجنبية المكلفة بهذا الإنتاج والساهرة عليه.
وهكذا، لم يكن السعديون أول من اعتمد الخبرة الأجنبية في إنتاج السلاح الناري، بل كانوا مجرد مقلدين للتجربة والخبرة الوطاسيتين في هذا الباب. كما أن هذا الاعتماد على اليد العاملة الأجنبية وعلى المهارات غير المغربية لم يساعد على تبلور وتطور صناعة حربية «وطنية».
الــعهد المرينــي
خلال النصف الثاني من المائة 7 هـ ، شرع المغاربة في استعمال الآلات القاصفة التي تقذف الكرات الملتهبة، وترمي الحصون والأسوار، وقد تم استخدامها على يد ثلاثة من ملوك الدولة المرينية في أربع معارك، كانت الأولى في عهد يعقوب بن عبد الحق المريني عند حصار سجلماسة عام 672 هـ / 1273 م، قال ابن خلدون لدى حديثه عن هذا الحصار:
«ونصب عليها – يعقوب المريني على سجلماسة – آلات الحصار: من المجانيق والعرادات وهندام النفط القاذف بحصى الحديد، ينبعث من خزنة أمام النار الموقدة في البارود، بطبيعة غريبة ترد الأفعال إلى باريها».
ونقله الناصري معلقا عليه: «وفيه فائدة، أن البارود كان موجودا في ذلك التاريخ، وأن الناس كانوا يقاتلون به ويستعملونه في محاصراتهم وحروبهم يومئذ».
أما المعركة الثانية، فقد كانت بمناسبة دفاع أبي الحسن علي بن أبي سعيد المريني عن الجزيرة الخضراء جنوب إسبانية سنة 746 هـ / 1342، حيث ورد في «حضارة العرب»: الترجمة العربية: «وتثبت مخطوطات ذلك الزمن، أن الأسلحة النازية شاعت بين العرب بسرعة، فاستخدموها على الخصوص للدفاع عن مدينة الجزيرة التي هاجمها الأدفونش الحادي عشر سنة 1342 م – 742 هـ، وجاء في تاريخ الأدفونش الحادي عشر أن مغاربة المدينة – يقصد المرينيين – كانوا يقذفون بكثير من الصواعق على الجيش، فيرمون عليه عدة قنابل كبيرة من الحديد كالتفاح الكبير، وذلك إلى مسافة بعيدة من المدينة، فيمر بعضها من فوق الجيش، ويسقط بعضها عليه».
في حين كانت المعركة الثالثة، حين التقى أبي عنان بن أبي الحسن المريني، في حربه مع بني زيان ملوك تلمسان، ويستفاد هذا من بيتين اثنين جاءا في قصيدة لابن الخطيب، خاطب بها أبا عنان عقب الانصراف من بابه في غرض السفارة، وقد تعرض في القصيدة لاستصراخه لفائدة الأندلس، وجاء فيها هذان البيتان:
والروم فارم بكل رجم ثاقـب يذكى بأربعها شواظ لهيب بذوابل السلب التي تركت بني زيان بين مجــدل وسليــب
والمعركة الرابعة كانت بدورها، في عهد أبي عنان – أيضا – في حصار بجاية، حين ذكرت ذلك إحدى المخطوطات التاريخية (مخطوطة المكتبة الملكية بالرباط رقم 3267 ) وهي «فيض العباب» بصدد الحديث عن مناورة قام بها الأسطول العناني خارج بجابة وهذه عبارتها:
«وأتت – الأساطيل – من ألفاظها بكل متأجج الشواظ، يجول دويه بين الألسنة والألفاظ، مرسل في الجو ذؤابه كعقيقة البرق، منذرة للسامعين بالصدق، ومالئة بألهوبها ما بين الغرب والشرق»
هذا ويظهر أن أسطول سبتة – بالخصوص – كان مجهزا بهذه الأسلحة، فقد وصف ابن الخطيب هذه المدينة بأنها «ذات الأسطول الموهوب، المحذور الألهوب» ومما يؤكد هذا ورود كلمة الألهوب في هذا النص، بعدما رأينا «فيض العياب» – آنفا – يصف دخان النفط بالألهوب.
مهنيون مختصون في صناعة السلاح
ظهر بفاس في القرن 8 هـ - 14 م صناع اختصاصيون في آلات الحرب النارية، وقد جاء ذكرهم عند ابن الخطيب في «نفاضة الجراب» بعبارة «قادحي شعل الأنفاط ونافضي ذوايب المجانيق» وذلك ضمن الصناع الذين استدعاهم الوزير المريني عمر بن عبد الله الفودودي استعدادا لمرافعة جيش عبد الحليم بن أبي علي المريني، حيث كان يحاصر فاس الجديد وسلطانها تاشفين بن أبي الحسن المريني بتاريخ 7 محرم عام 763 هـ - 1362 م.
وهكذا تتبين البدايات الأولى لاستخدام الأسلحة النارية بالمغرب، مع تسمية مقذوفاتها «بالبارود» من طرف كل من ابن خلدون والناصري وزيدان.
أما عن الآلات القاذفة للبارود فقد رأينا تسميتها بالأنفاط عند مؤلف «فيض العباب»، تعبيرا عما صار يسمى – من بعد – «باسم المدفع»، وفي النصف الثاني من المائة التاسعة للهجرة، يتحدث مؤلف مغربي عن تجهيز مدينة طنجة – من طرف المعنيين المغاربة – بالأنفاط العظيمة والمدافع.
ولا شك أن هذه الأسلحة النازية، وهي البارود والمدافع والبندقيات، استلزمت ثلاثتها توفير معامل مغربية لإنتاجها، التي لم يعثر على إشارة لها، إلا في النصف الأول من المائة العاشرة هجرية، حيث بنى السلطان أبو العباس الوطاسي معملا للسلاح بالقصر الملكي من فاس الجديد، وصار يستخدم لإنتاج الأنفاط والبندقيات والبارود، زيادة على صناعة الأقواس والنبال وغير ذلك .
تعتبر الفترة السعدية العصر الذهبي لهذه الصناعة، حيث أن أقدم مدفع مغربي يرجع إلى عهد محمد الشيخ الأول عام 952 هـ. ثم تكاثر صنع هذا الجهاز فيما بعد، فقد هاجم عبد الله الغالب مدينة البريحة بأربعة وعشرين مدفعا في مقدمتها واحد يسمى ميمونة، وكان في غاية الكبر، وبعد هذا شملت بعض «محلات» محمد المتوكل أكثر من مائة وخمسين مدفعا..
ولما بويع عبد الملك المعتصم اهتم – أكثر – بإنتاج المدافع التي كان عارفا بصناعتها وأشرف – بنفسه – على إعداد نحو ثمانية منها . كما بنى المنصور السعدي «دار العدة» على مقربة من قصر البديع بمدينة مراكش، وهي التي يقول عنها الفشتالي : « وأما ما يفرغ مع الأيام من مدافع النار ومكاحلها بدار العدة المائلة قرب أبوابهم الشريفة من قصبتهم المحروسة... فشيء غصت به الخزائن السلاحية والديار العادية».
وقد كان ضمن جيش المنصور الذهبي 4 فرق مدفعية تسمى بجيوش النار أو عساكر النار، قال الفشتالي عنها: «والترتيب الذي جرى عليه العمل في عساكر النار بالحضرة: أن يتقدم – أولا – جيش السوس، ثم يردفه جيش الشرافة، ثم يردفهما العسكران العظيمان: عسكر الموالي المعلوجين ومن انضاف إليهم، وعسكر الأندلس ومن لبس جلدتهم ودخل في زمرتهم»:
المنصور الذهبي ينشئ مدافع العيدين
عرف عهد المنصور بناء أٍربعة عشر برجا مدفعيا تسمى «بستيونات»، وتواجدت بين أربع مدن مغربية، واحد منها في مدينة تازة، واثنان بمرسى العرائش، وتسعة تموضعت بأسوار فاس الجديد، واثنان خارج فاس العتيق على مقربة من باب الفتوح والباب المحروق، وقد كان هذا الأخير يعرف ببرج النار، تدليلا على مهمته المدفعية، ثم تطير السكان من هذا التعبير واستبدلوه باسم «برج النور».
وقد جهز السلطان نفسه هذه الأبراج الأربعة عشر بالمدافع وأسكن بها الحاميات المختصة، وكانت مدافع حصني فاس القديمة تقذف بالبارود والنار، وبــ»الكور» المعدنية والحجرية.
ويسجل أيضا، أنه في عهد المنصور، ظهرت بالمغرب عادة ضرب المدافع بمناسبة العيدين: عيد الفطر والأضحى، وعند ورود بشارة، قال الفشتالي عن مدافع فاس:
«وإذا استهلت رعودها في العيدين من المصلي أو لورود بشارة عظمى، فلا تسأل عن دوي الأرض وجفانها... ويمتد على البلدين ركام البارود كأنما هو ليل مطبق».
وبعد هذا السلطان ينتقل نشاط هذه الصناعة إلى أيام ابنه زيدان، وقد وظف هذا السلطان الأخير في بلاطه «الشهاب الحجري» كترجمان وكاتب باللغة الإسبانية، وقام هذا الأخير، بترجمة كتاب عن الإسبانية، في فن المدفعية وسمى الترجمة: «كتاب العز والرفعة والمنافع، للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع».
وقد جاء في خاتمة الكتاب عن السلطان زيدان أنه كان يبذل عطاء سخيا لمسيحي كشف له عن بعض أسرار الصناعة المدفعية.
لم يتوقف نشاط صناعة الأسلحة النارية نهائيا بعد وفاة زيدان، فقد أفاد مصدر أجنبي أن هولندا كانت تستورد من المغرب البارود وملحه، سيما خلال محاربتها للإسبان عام 1628 م.
بأمــر من السلطــان
نذكر كذلك، أن بعض المدافع السعدية مازالت موجودة، من قبيل تلك المنصوبة بحديقة عمالة مدينة طنجة، ومنها مدفع لمحمد الشيخ الأول، كتب في أعلاه بالخط المغربي: «صنع لمولاي محمد الشريف نصره الله نصرا عزيزا، وفي أسفله: عمل «منصور» العلج عام اثنين وخمسين وتسعمائة»، ومدفع آخر للسلطان زيدان، كتب عليه بالخط الشرقي الثلثي: «أمر بعمله عبد الله أمير المؤمنين مولانا زيدان المظفر بالله، ابن أمير المؤمنين مولانا أحمد، بن أمير المؤمنين مولانا محمد الشيخ أيده الله». ويتوسط هذه الكتابة شكل مستطيل يشتمل على علامة زيدان.
ونسجل – في خاتمة هذا العصر – أن الأدب المغربي ساهم بنصيب في تجميل بعض المدافع السعدية، فقد جاء في ترجمة محمد بن علي الوجدي الغماد الفاسي، ذكر أربع نتف شعرية من نظمه، كتبت على مدافع صنعت برسم المأمون السعدي أيام ولايته للعهد بفاس.
وفي العصر العلوي عمل السلطان محمد الثالث من أجل إحياء صناعة الأسلحة النارية والرماية المدفعية، واستقدم – لهذه الغاية – بعثة من الأستانة عاصمة الخلافة العثمانية، وقد وفدت هذه البعثة عام 1181 هـ / 1767 – 1768 م، وكانت تتركب من ثلاثين خبيرا توزعوا – حسب اختصاصاتهم – إلى أربع شعب:
- صناع السفن الحربية
- صناع القنابل المحرقة
- صناعة المدافع ومدافع الهاون
- اختصاصيون في الرماية بمدافع الهاون
وقد بعث السلطان المغربي بمعلمي المراكب الجهادية إلى العدوتين، فدخلوا دار الصنعة بالرباط وصاروا يشتغلون إلى جانب المعلمين المغاربة، ويلاحظ مؤرخ معاصر أن الأتراك كانوا أحكم صنعة، بينما تفوق المغاربة في تخطيط و تفصيل المراكب.
أما صناع المدافع ومدافع الهاون فقد أرسلوا إلى فاس، حيث أقاموا بها إلى أن أدركتهم الوفاة هناك، ولم يذكر الزياني ما إذا كانوا قد اشتغلوا بصناعة هذه الآلات، غير أن مصدرا أجنبيا يؤكد أن السلطان محمد الثالث أسس مصانع لتذويب نحاس المدافع وجلب لذلك خبراء من الأستانة.
وقد أسس السلطان نفسه مصنعا بتطوان لإنتاج القنابل الثقيلة تحت إشراف المتخصصين الأتراك، الذي تعلم منهم هذه الصناعة بعض التطوانيين، وقد يكون من إنتاج هذا العمل القنابل الضخمة التي استخدمت في حصار مدينة الجديدة لتحريرها من حكم البرتغال، ويصفها البعض بأنها على شكل قدور تزن الواحدة منها ما يزيد على القنطار .
أتراك مختصون في صناعة القنابل
في الوقت الذي لا تعرف فيه أسماء الاختصاصيين الأتراك في الشعب الثلاثة الأولى، وردت إشارات في المصادر التاريخية حول اسم كل من الاثنين المختصين في الرماية بمدافع الهاون، ويسمى أولهما بإسماعيل الدريزي، أما الثاني: فيعرف باسم «بابا سليمان الدريزي»، والحاج» سليمان البنباجي» على طريقة النسبة التركية إلى صناعة «البنب» التي هي القنابل المحرقة، وقد اشتهر هذا الأخير بالمغرب، وكان عارفا برماية المدافع ومدافع الهاون، قال الضعيف: «وهو الذي علم أولاد الرباط وسلا وغيرهم». والظاهر أن هذا هو الذي يقول عنه الزياني بعد ذكر مدينة رباط الفتح: «فكان يعلم بها الطبجية من أهل سلا والرباط وتخرج على يديه نجباء، ومن ثم توارث أهل العدوتين هذه الصناعة مدة»، ويذكر عنه الزياني – أيضا – أنه أبلى بلاء حسنا في فتح مدينة الجديدة.
وقد اشتهر في هذه الفترة وبعدها جماعة من الرماة المدفعيين: فكان منهم – في الرباط – المعلم العناية البعودي، وكان عارفا بضرب المهراس، وهو الذي ضيق على الإسبان في حصار سبتة أيام السلطان اليزيد، فقتلوه ومثلوا به في موقعة كانت يوم الخميس 24 حجة عام 1205 هـ - 1791 م.
وفي سلا، كان هناك ثلاثة مختصين في المدافع، الأول وهو الحاج عبد الله يعقوب المتوفى نحو عام 1200 هـ، قال عنه ابن زيدان، أثناء ترجمة محمد الثالث: «كان السلطان المترجم كلفه بسائر ثغور إيالته من مرسى مليلية إلى أطراف السوس، وأسند إليه سائر ما يرجع لأبراج الثغور ومدافعها ومهاريسها ومتعلقاتها: من بارود وكور وتنظيم رجال، وإصلاح أحوال، حسبما أفصحت عن ذلك ظهائره المولوية التي خاطبه بها، تاريخ أولها سنة 1177، وتاريخ آخرها سنة كان 1193م.
المغرب يصدر منتوجا حربيا
من مظاهر النشاط الصناعي لإنتاج بعض الأسلحة الحربية في أواخر العهد الوسيط، أن المغرب استطاع أن يصدر إلى الخارج أربعة آلاف قنطار من ملح البارود المصنوعة بالمغرب، في شكل مساعدة للدولة العثمانية.
كما أن نشاط هذه الصناعة انعكس أثره على ميدان التأليف، فظهرت – في العصر نفسه – دراسات رصينة بصدد الرماية المدفعية وأهم التقنيات المتعلقة بها، مثل مخطوط : «النشر اللائق نمو أراد الجهاد بالصواعق» لمؤلف مجهول الاسم كان يعيش أيام السلطان محمد الثالث (مخطوطة خ. ع. رقم د 1342. ومخطوطة المكتبة الملكية رقم 490)، وضعه باقتراح من بعض أصدقائه، وسجل في افتتاحيته ولوع هذا السلطان باستخدام القنابل المحرقة في المعارك الجهادية، وهو يصنفه في عشرة أبواب وخاتمة حسب المواضيع التالية:
- صفة تحضير ملح البارود
- طبيعة الأجزاء التي يتركب منها الفتيل، وهو الذي كانت القنابل توقد به في هذا العهد.
- طريقة صنع الفتيل
- طريقة معرفة سعة فم المدفع مقدار ما يوضع من البارود في نوع من المدافع
- كيفية وضع القنبلة في المدافع
- صفة جعل الفتيلة في القنبلة
- معرفة البعد الواقع بين المدافع والهدف المعين
- قواعد حسابية وهندسية موضوعية في البابين التاسع والعاشر
- خاتمة في توصيات للرماة.
مدفع الميمونة الذي حمى شواطئ المغرب
يعد أحد مفاخر الدولة والجيش المغربيين على مر العصور ..مدفع جبار صنعه المغاربة ولطالما دك حصون الأعداء من البرتغاليين والإسبان وجسد دقة الصناعة العسكرية المغربية، لأنه سبق عصره بعقود..
شارك سنة 1534 في معركة تحرير مدينة أسفي من البرتغاليين، ويقول المؤرخ البرتغالي (أندراد) إن السلطان مولاي أحمد الأعرج حاصر أسفي عام (1534م) بمحلة تضم تسعين ألف فارس وراجل وعشرين ألفا من الرماة لتقويض السور ومهاجمة المدينة، وكان مدفع «ميمونة» يقذف بــ»كويرات» من حجر ضخمة إلى حد أن المرء لا يمكنه أن يدير ذراعيه عليها وقد أرسلت إحدى هذه الكويرات إلى (لشبونة) حيث توجد في (كنيسة برار) وهي متواجدة الآن في المتحف العسكري بلشبونة .
لكن أهم مشاركة للمدفع المغربي الجبار (الميمونة) كانت في معركة وادي المخازن الشهيرة، وقد كان واحدا من بين أهم أسباب الانتصار في هذه المعركة حيث إن 20 وحدة من مدفع الميمونة التي شاركت في المعركة كانت كفيلة بسحق مقدمة الجيش البرتغالي المكونة من الفرسان والمرتزقة الأوربيين.
كان الميمونة في الواقع أكبر مدفع صنعه المغاربة في ذلك العصر..طوله ما بين 4 و 5 متر ويزن 12 طنا من النحاس الخالص وبمدى 1000 متر حسب بعض المصادر.
بفضل تقوية التجارة الصحراوية استطاعت الدولة المغربية في القرن السادس عشر الاستيلاء على تجارة الذهب والملح وهو ما انعكس على سياسة التسليح المغربية التي أصبحت تعتمد على التصنيع خصوصا في الأسلحة النارية والمدافع فتم استقطاب التقنيين الأجانب وخاصة المهندسين وصناع المدافع الأوربيين أو الأتراك..
ومن مظاهر تطور صناعة الأسلحة النارية والمدافع في المغرب في القرن 16 أن السلطان عبد الملك المعتصم الذي توفي –متأثرا بمرضه- في معركة وادي المخازن، أهدى إلى العثمانيين عشرين مدفعا يشتمل أحدها على تسع فوهات حسب صاحب» تاريخ الدولة السعدية «المجهول، يوجد حاليا بباب الجزيرة بالجزائر.
يذكر أيضا أن أحد نماذج المدفع موجودة في متحف (دار السلاح) في مدينة فاس وهو أول وأقدم متحف في العالم العربي بني سنة 1582م.
حرب إيسلي التي كشفت التراجع العسكري للمغرب
قامت هذه الحرب بين المغرب وفرنسا في 14 غشت من سنة 1844، بسبب مساعدة السلطان المغربي المولى عبد الرحمن للمقاومة الجزائرية ضد فرنسا واحتضانه للأمير عبد القادر، وهو الأمر الذي دفع الفرنسيين إلى مهاجمة المغرب عن طريق ضرب ميناء طنجة، حيث أسقط الهجوم ما يزيد عن 155 قتيلا ثم ميناء تطوان وميناء أصيلة. انتهت المعركة بانتصار الفرنسيين وفرضهم شروطا قاسية على المغرب. تمثلت هذه الشروط في استيلاء فرنسا على بعض الأراضي المغربية عقابا له، كما فرضت فرنسا غرامة مالية على المغرب ومنعها المغاربة من تقديم الدعم للجزائر.
تسمى الاتفاقية التي أنهت الحرب بــ» للا مغنية» وقعت سنة 1845 وقد أظهرت هذه المعركة مدى ضعف المخزن المغربي آنذاك. ومن بين شروط الاتفاقية، إبقاء الحدود بين إيالتي المغرب والجزائر كما كانت بين ملوك الترك وملوك المغرب السابقين، وترسيم المخزن وفرنسا الحدود بين المغرب والجزائر، فما كان غربي خط الترسيم فللمملكة المغربية، وما كان شرق الحد فللجزائر (الفرنسية). وكانت معركة إسلي النقطة السوداء في تاريخ المغرب إلى اليوم.
لتسديد فواتير وغرامات هذه الحرب، التجأ المغرب إلى الاقتراض من إنجلترا مقابل التنازل لها عن 25% من رسومه الجمركية، وبذلك أصبحت مداخيل المغرب الجمركية تحت مراقبة الأجانب. ففرضت بريطانيا على المغرب معاهدة تجارية سنة 1856 حصلت بموجبها على امتيازات ضريبية وقضائية.
وتتفق الأسطغرافيا المغربية الكلاسيكية، وكذلك المؤرخون المغاربة المعاصرون في جعل معركة إيسلي التي خاضها المغرب ضد فرنسا سنة 1844 ومعاهدة للا مغنية التي أبرمها المغرب عقب هذه المعركة التي كشفت المغرب عسكريا أحد أهم المداخل التي ترتب عنها خضوع المغرب للحماية الفرنسية والاسبانية، وذلك حينما توجه ابن السلطان وخليفته سيدي محمد لملاقاة القوات الفرنسية، على طريقتهم القتالية التقليدية. إذ كان الجيش المغربي يفتقر إلى التنظيم والتسلح بسلاح المدفعية وفرق المشاة، فاقتصرت قوته الأساسية على عناصر الفرسان. إذ تم اعتماد السرايا المشكلة أساسا من مقاتلين، ولا يتجاوز عدد السرية الواحدة ثلاثين مقاتلا، لينهزم الجيش المغربي سريعا ويسحق من طرف مدفعية الجيش الفرنسي في لحظة خاطفة، حسمت الحرب في وقت وجيز.
ويمكن أن نجمل ما كانت عليه الحالة السياسية قبيل معركة إيسلي فيما نقله صاحب الجيش العرمرم قائلا: «وحاصل الأمر أن هذا السلطان رحمه الله ( أي عبد الرحمان بن هشام) وجد الدولة قد ترادفت عليها الهزاهز، وصارت بعد حسن الشبيبة إلى قبح العجائز. قد تفانت رجالها وضاق مجالها..»