معهد واشنطن: صراعُ الأيديولوجيات يُهدِّد ليبيا
ذكر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في دراسة له مؤخرًا أن "ليبيا دولةٌ منقسمة يهدّد العنف الذي يئزّ فيها منذ وقتٍ طويل بالفوران، بعد أن امتد القتال الفاتك الذي كان محصورًا في الماضي ببنغازي إلى العاصمة طرابلس". وبالتالي أخليت السفارة الأميركية بسرعة في 26 يوليو، كما حثت الدول الأخرى مواطنيها على مغادرة البلاد.
وأكَّدت الدراسة التي أعدَّها كل من أندرو أينجل وأيمن قرادة، أنَّ القتال المحتدم في طرابلس منذ 12 يوليو
بين ميليشيات إسلامية متشدّدة أتت من معقل الإخوان المسلمين في مصراتة وحلفائهم من شمال غربي البلاد، وبين ألوية قوميّة مجهّزة ومدرّبة من الزنتان وهجوم ميليشيات مصراتة على المطار، أدّى
إلى تدمير 90 % من الطائرات على الأرض ما يساوي خسارة بقيمة 1.5 مليار دولار أميركي، الأمر الذي يُشكِّل منعطفًا سوداويًّا لليبيا وازدياد إمكانية خوض البلاد حربًا أهليّة قبليّة شبيهة بحرب العام 1936 مرّةً أخرى.
التاريخ يُعيد نفسه
وبيَّنت الدراسة أنَّ القتال في بنغازي واضح نوعًا ما،
فالخلايا المتطرفة تتّبع حرب العصابات محاولةً استبدال نظام الدولة بنظامها غير الليبرالي. غير أنّ الوضع في شمال غربي ليبيا أكثر تعقيدًا بكثير، لا بل يشبه التصارع على النفوذ السياسي الذي تصوّره الدراما التلفزيونية، إن أضيفت إليه الأسلحة الثقيلة.
وأوضحت أن الانقسامات القبلية ولّدت، تاريخيًّا، في تلك المنطقة الحرب الأهلية الحديثة الأولى في ليبيا بين قبائل أساسية كقبيلة ورفلة "التي حاربت مصراتة" وقبيلة المشاشية "التي حاربت الزنتان". واصفة ما يجري بأنَّ التاريخ يعيد نفسه. على عكس ذلك، مالت القبائل في ليبيا الشرقية إلى التجانس الاثني والتوحّد السياسي كما ظهر في مواجهة القوات الإيطالية الاستعمارية كجبهةٍ واحدة في الماضي ومؤخرًا، في تحالفها الائتلافي مع قوات حفتر ضدّ الإسلاميين والمتطرفين.
وأضافت الدراسة أن المشهد الدولي يُشكل عاملاً حديثًا مهمًّا آخر، قائلة: "يُفترض أنّ
الإمارات العربية المتحدة ومصر تدعمان القوميّين، بينما تدعم ت
ركيا وقطر والسودان الإسلاميين الذين يعتمدون على مصراتة، أي أنّ الحرب للسيطرة على طرابلس تمثّل أيضًا حربًا بالوكالة لتيّاراتٍ إقليمية على نطاق أوسع".
دوافع القتال
ذكرت الدراسة أنَّ اتجاهات سياسية عدّة ساهمت في تأجيج الاشتباكات الأخيرة. أولاً، شملت
حالة الجمود السياسي. المؤتمر الوطني العام الذي كان على وشك أن يُحل واعتمدت عليه عملية الدولة الانتقالية إلى الديمقراطية. ثم تمّ انتخاب 120 مرشّحًا مستقلاً و80 مرشحًا آخر من اللوائح الحزبية خلال انتخابات حرة وعادلة أجريت في 7 يوليو 2012. ولاقت النتائج ترحيبًا بارزًا مع فوز تحالف القوى الوطنية بتسعة وثلاثين مقعدًا ليصبح الأكثر تمثيلاً في المؤتمر الوطني العام، يليه حزب العدالة والبناء التابع لجماعة الإخوان المسلمين الحائز بسبعة عشر مقعدًا. إلا أنّ الدراسات أظهرت
أنّ المرشحين التابعين لأحزاب الإسلام السياسي والسلفيين المستقلين تمتَّعوا بهامش ولو بسيط يفوق الأصوات الممنوحة للمرشحين المستقلين التابعين لـ"تحالف القوى الوطنية"، حتى أن بعض التقديرات أشارت إلى أن 80 % من المرشحين المستقلين المتوقّعين كانوا من الإسلاميين أو المحافظين دينيًّا. واستطاعت أحزاب الإسلام السياسي استمالة الفاعلين غيرهم عادةً كجماعة الأمازيغ مثلاً من خلال الوعد بمنحهم حقوقًا ثقافيّة أوسع، كما استغلّت أحزاب الإسلام السياسي النزاعات القبلية والإقليمية والإثنية لتهميش المعارضة. وفي نهاية الأمر، لم يجد تحالف القوى الوطنية عددًا كافيًا من المرشحين المستقلين يتحالف معه.
واستطردت الدراسة: "إنَّ المرشحين المستقلين الإسلاميين والسلفيين
أسسوا من ثم التكتل السياسي الثالث من حيث الحجم ألا وهو
كتلة الوفاء، وقاد الكتلة المتشددة هذه عبدالوهاب قايد، وهو عضو سابق في (الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة). أما أخوه أبو يحيى الليبي فكان مسؤولاً ثانيًا في تنظيم القاعدة قُتل في هجوم شنته طائرة من دون طيار في باكستان عام 2012. ودفعت تلك العوامل وغيرها حفتر إلى اتهام قايد وزميله عضو المؤتمر الوطني العام محمد بوسدرة بدعم الإرهاب".
ولّدت الأزمة السياسية آثارًا كارثية في ليبيا حيث تغيب المؤسسات والقواعد والإجراءات الديمقراطية.
آثار كارثية
بالإضافة إلى ما سبق، ولّدت الأزمة السياسية آثارًا كارثية في ليبيا حيث تغيب المؤسسات والقواعد والإجراءات الديمقراطية. من هنا، وبعد تعثّر تسجيلها النجاحات في البرلمان بالطرق العادية،
استخدمت الكتلة الإسلامية الثورية أساليب خارجة عن القانون كي تفرض سنّ تشريعاتٍ تساعد على تطبيق برنامجها الخاص، وأشهرها قانون العزل السياسي في العام 2013.
وتخبر طرفةٌ أنَّ أحد الثوار قام بسحب صاعق قنبلة يدوية في مكتب رئيس الوزراء علي زيدان في خلال مشاوراتٍ حول القانون ركيك الصياغة الذي يمنع الأفراد من المشاركة في الحكم إذا ربطتهم أي صلة، ولو أبسطها، بالنظام السابق. هذا وأضرّ القانون المذكور الدولة إلى حدٍّ دفع منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى حثّ الليبيين على رفضه.
وفي الواقع، أدَّى سنّ القانون بالعديد
من الفاعلين في الحكومة إلى الاستقالة كما أضعف تحالف القوى الوطنية إلى حدٍّ كبير.
إعاقة إعادة بناء جهاز الأمن القومي
سمح بالتالي غياب قوة موازنة فعالة من طرف "تحالف القوى الوطنية" لبرنامج أحزاب الإسلام السياسي في "المؤتمر الوطني العام"
بإعاقة إعادة بناء جهاز الأمن القومي الناشئ في ليبيا. وعلى سبيل المثال، منح الإسلاميون في ديسمبر 2013 رئيس "المؤتمر الوطني العام" نوري أبوسهمين صلاحيات قائدٍ أعلى غير محدّدة بوضوح بعد أن طالب بها في أغسطس.
وسمحت تلك الصلاحيات له بمخالفة رئيس الوزراء على زيدان وبتطبيق البرنامج الإسلامي مباشرةً، ولم تنته كما افترض بعد شهرٍ من تطبيقها بل سرعان ما أهمِل بند الزوال.
هذا وروّج الإسلاميون الميليشيات الإسلامية في "المؤتمر الوطني العام" وجعلوها شرعية ومولوها، قالبين القوانين السابقة التي تحمّل القوات الحكومية الرسمية مهمة ضمان أمن البلاد.
كما سعى التكتل الإسلامي إلى تعيين قادة تابعين له داخل الجهاز الأمني. فقد أصبح عضو الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة السابق خالد الشريف مسؤول جهاز الحرس الوطني الليبي ووكيل وزارة الدفاع، وذلك بعد الثورة بفترة وجيزة. كما تم تكليف عضو كتلة "الوفاء
" صلاح بادي لاحقًا رئيسًا للاستخبارات العسكرية. ويعرف بادي بسوء سلوكه في "المؤتمر الوطني العام" فقد ضرب بشكلٍ فاضح ممثلة في المؤتمر مرةً، وشارك أتباعه في مجزرة غرغور في طرابلس نوفمبر 2013. أمّا مؤخرًا، فقاد بادي الهجوم على مطار طرابلس.
المشاكل الأمنية التي تدفع للقتال
وبصرف النظر عن مشاكلات بنغازي التي تحظى بتغطية واسعة، تزامنت سيطرة الأحزاب الإسلامية المتزايدة على الحكومة الليبية الشكلية مع ازدياد الاضطراب وانتشار عمليات الاختطاف في طرابلس. ولا ترى القوات القومية في هذا التزامن صدفةً، وبالإضافة إلى
تضاعف الهجمات على الوسائل الإعلامية التي تنتقد الإسلاميين ومخططات خطف المواطنين الليبيين العاديين المنتشرة بكثرةٍ، تمّ اختطاف عدة مسؤولين رسميين ومن بينهم:
- رئيس الوزراء السابق زيدان في أكتوبر 2013 الذي اتهم عضوي "المؤتمر الوطني العام" محمد الكيلاني ومصطفى التريكي بالاشتراك في العملية وذلك بعد أن أطلق سراحه•
- خمسة دبلوماسيين مصريين وموظف بالسفارة في يناير2014، واضطرت القاهرة في المقابل
إلى إطلاق سراح قائد "غرفة عمليات ثوار ليبيا" الإسلاميين الذي تبنّى عملية اختطاف زيدان.
- دبلوماسيَّان تونسيَّان في شهري مارس وأبريل 2014 اختطفتهما مجموعة إسلامية•
- سفير الأردن في شهر أبريل 2014، واضطرت عمان في المقابل إلى إطلاق سراح عميل في تنظيم "القاعدة".
الفوضى الخطرة
يرى القوميون الليبيون أنّ الإسلاميين يتشاركون جميعهم هدفًا واحدًا أخيرًا، وهو إقامة خلافة إسلامية. وتقول عبارة شائعة قومية إن الإسلاميين لبسوا ثوب الديمقراطية موقّتًا وخلعوه مؤخرًا تبعًا لأدائهم الضعيف في انتخاب لجنة صياغة الدستور والمجلس النيابي الجديد الذي يأتي ليخلف "المؤتمر الوطني العام". أمّا بعد أن أيّدت الزنتان وعدة قبائل أخرى أساسية "عملية الكرامة" كما إجراءات دفاعية متعددة، أصبح من الممكن ظهور معارك في شوارع العاصمة شبيهة بمعارك بنغازي.
وترى الدراسة أنَّ التصعيد هذا يُدخل ليبيا في حلقة مفرغة خطيرة، إذ يدّعي كل طرفٍ التحدث باسم الأمة، بينما يعاني من تناقضاتٍ داخلية. فالحصرية القبلية الظاهرة تعيق القوميين ومنهم الزنتان، بينما بدأ العنف المستمر يصعّب التفرقة بين الإسلاميين دعاة الديمقراطية ودعاة العنف.
وأيّد على سبيل المثال أعضاء بارزون في جماعة الإخوان المسلمين الهجوم على مطار طرابلس واعترفوا مؤخرًا بأنّهم لن يسهموا في كسر حدّة التوترات إن لم يتم "القضاء" على حفتر.
أمل ليبيا الوحيد.. حوارٌ وطني فعلي
وذكرت الدراسة أنَّ أمل ليبيا الوحيد على الصعيد الداخلي يكمن في إحداث تقدّم من خلال إقامة حوارٍ وطني فعلي، كما من خلال دور لجنة صياغة الدستور والمجلس النيابي المنتخب الجديد إن قبل بهما الإسلاميون والثوار الآخرون.
أما على الصعيد الخارجي، فترى الدراسة ضرورة إصرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجموعة أصدقاء ليبيا وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، على فرض وقف إطلاق نار فوري وانسحاب الميليشيات من العاصمة، وذلك بشكلٍ مشابه للتقدّم المحدود الذي تمّ تحقيقه ضدّ الميليشيات بعد مجزرة غرغور. وتسمح مبادرة كهذه للموظفين الأميركيين بالعودة إلى العاصمة لكي يتاح لواشنطن التعاون بشكلٍ أفضل مع حلفائها لمراقبة وقف إطلاق النار وإقامة صلة مع لواءي الزنتان ومصراتة. كما ويجب الضغط على الدول الأخرى التي تزود الوكلاء الليبيين بالدعم المادي من دون اتّباع المسار الرسمي الليبي الصحيح.
يجب الضغط على الدول الأخرى التي تزود الوكلاء الليبيين بالدعم المادي من دون اتّباع المسار الرسمي الليبي الصحيح.
وأخيرًا، على الولايات المتَّحدة العمل مع أعضاء المجلس النيابي المنتخب الجديد في طرابلس بغية وضع آلية تسمح بإجراء رقابة لوقف إطلاق نار يدوم فترةً أطول، كما تسمح بنقل السيطرة على بعض المؤسسات من الميليشيات والألوية العسكرية المتمحورة حول القبائل إلى الدولة