لماذا الرسول قدوتنا / أ.د عبد الرحمن البر

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,781
التفاعل
17,898 114 0


لماذا الرسول قدوتنا

الأستاذ الدكتور عبد الرحمن البر

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، له الحمد على ما هدانا إليه من نعمة الإسلام ، وما شرَّفنا واختصنا به من اتباع سيد الأنام ، سيدنا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم السلام .

وبعد ؛ فقد أمرنا الحق جل وعلا باتخاذ أعظم خلقه وأشرف رسله قدوة وأسوة ، فقال جل وعلا:
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً (21)}(الأحزاب) ، وقد امتلأت حياة هذا النبي القدوة والرسول الأسوة صلي الله عليه وسلم بأسباب الخير التي يتشوَّف لها العاقلون ، ويحرص عليها الموفَّقون ، ويسعى في تحصيلها المفلحون ، فما من لحظةٍ من لحظاته ، ولا كلمةٍ من كلماته ، ولا حركةٍ من حركاته ، ولا سكنةٍ من سكناته ، إلا وهي تعليمٌ وتربيةٌ وتوجيهٌ ، فهي حياةٌ في غاية الثراء العلمي والإيماني والروحي الذي لا غنى عنه لهذه البشرية .

ومن تمام رحمة الله وكمال حكمته أنه حفظ هذه السيرة الزكية بما ألهم علماء المسلمين من قواعد للرواية ، تميز بها الصحيحُ من السقيم ، وعُرف بها الصدقُ من الكذب ، بحيث يستطيع الناسُ في كل عصر أن يقفوا على صورةٍ حقيقيةٍ واقعيةٍ لحياة هذا النبي العظيم ؛ ليتخذوا منه ومن حياته مثلاً أعلى هم في أمس الحاجة إليه.

على أنه مع كثرة الكتابات المتعلقة بسيرته صلي الله عليه وسلم فإن جانب الدراسة الموضوعية لهذه السيرة العظيمة لا يزال في حاجة إلى الكثير من الجهود التي تكشف كيف أنشأ هذا النبي العظيم صلي الله عليه وسلم إنسان العقيدة إنشاءً حضارياً جديدا مثيراً للدهشة والإعجاب ، بما وضع من توجيهات وطبق من أخلاق ارتفعت بالإنسان وارتقت به في كل المجالات ، وسمت به عن الإخلاد للظلم والجهل والتخلف ، وغرست فيه معاني الأخوة الإنسانية العظيمة، وموجبات الحياة الحرة الكريمة ، وطرائق السلوك الصالح الرشيد.

إن هذه الدراسة الموضوعية للسيرة جديرة بأن تكشف للبشرية عامة وللمسلمين خاصة عن عظمة هذا النبي العظيم ، وشمول سيرته ودعوته وكفايتها لإنتاج مجتمع عظيم يسعد الدنيا ويسعد بها ، ويصنع الحياة الفاضلة النبيلة ، وهذا ما يجعل الدراسة الموضوعية للسيرة المطهرة اليوم اشد ضرورة وإلحاحاً ، فما كانت الدعوة الإسلامية في عصر من العصور أحوج إلى هذا النمط من الدراسة منها في هذا العصر .

وفي هذه السلسلة إن شاء الله تعالى أتناول بعض جوانب القدوة في حياة الرسول القدوة صلي الله عليه وسلم ، وأسأل الله العظيم أن يعينني على إتمام هذه السلسلة التي كانت في الأصل مجموعة من المحاضرات ألقيتها في ظروف مختلفة وفي أماكن مختلفة ، ثم رأيت أن أجمعها وأرتبها لتكون زاداً لي ، وشيئاً أقدمه لم ينتفع به من إخواني وأحبابي والناس أجمعين .

وإني لأعتبر هذه السلسلة من أعظم القربات التي أتقرب بها إلى الله تعالى ، وأسأله سبحانه أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، والصدق في السر والعلن ، إنه على كل شيء قدير.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .


لماذا الرسول قدوتنا

الحمد لله رب العالمين، لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين وقيوم السموات والأراضين ومالك يوم الدين، لا خير إلا في طاعته، ولا عز إلا في التذلل لعظمته.

وصل الله وسلم على خير خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله، سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، و السراج المنير، الذي قال فيه ربه تبارك وتعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)} (الأنبياء)

نسأل الله عز وجل أن يحشرنا خلفه، وأن يجعلنا وراءه في الدنيا والآخرة..

أما بعد أيها الأخوة الأحبة..

فنعيش في هذه الرسالة مع الحبيب المصطفى والنبي المجتبى صلي الله عليه وسلم، ذلك الذي أمرنا ربنا تبارك وتعالى أن نقتدي به، فقال جل وعلا:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً (21)}(الأحزاب)

أيها الأحبة...لا يصلح أحد في هذه الحياة أن تكون سيرته هادية للناس جميعا إلا الحبيب صلي الله عليه وسلم، كل من مر على ظهر هذه الأرض من الأنبياء والعظماء والعلماء والحكماء، لا تصلح سيرهم التي نقلت إلينا والتي هي بين أيدينا، أن تكون قدوة هادية لكل الناس، إلا الحبيب صلي الله عليه وسلم، وهذا أمر يحتاج إلى تفصيل.

السيرة الصالحة للتأسي:

السيرة التي يصلح أن يتأسى بها البشر جميعا، على اختلاف أجناسهم وأصنافهم وأعمالهم وطوائفهم، وعقولهم وأحوالهم، لابد أن تتوفر فيها أربعة شروط، حتى تصلح لأن يقتدي بها كل الناس:

الشرط الأول:
أن تكون سيرة صحيحة وليست قصة مخترعة ولا مؤلفة، إنما تكون حقائق حصلت على الأرض، وحفظها الرواة، ونقلت إلينا ولم يؤلفها أحد.. بحيث إذا أردنا أن نقلدها قلدناها؛ لأنها حصلت، وليست حدثا اخترعه أحد القصاص أو ألفه إنما هو واقع..

الشرط الثاني :
أن تكون سيرة ثبت لصاحبها ونُقل عنه الكمالُ في كل شيء: لأننا نريد قدوة، فيجب أن يكون القدوة هو أسبقَ الناس في كل مجال يُطلَب أن يكون قدوة فيه.
فإذا أردت أن تقتدي به في أخلاقه؛ فلا بد أن يكون أحسن الناس أخلاقا.
وإذا أردت أن تقتدي به في السخاء، فلا بد أن يكون أسخاهم يدا.
وهكذا، في الشجاعة.. وفي كل صالح من الأخلاق والأعمال والأقوال، لابد أن يكون هو الأول دائما في كل هذه الصفات، لا أن يكون هو الأول في جانب والثاني في جانب آخر.. لابد أن يبلغ الكمال في كل شيء؛ حتى يصلح أن ينظر الناس إليه فيتأسوا به..

الشرط الثالث:
الشمولية : أن تكون هذه السيرة صالحة لكل شخص في كل مكان على كل حال، بحيث تصلح للعربي وغير العربي، للكبير والصغير، للآباء والأبناء، للحاكم والمحكوم، للغني والفقير، للمريض والصحيح، للمسرور والمقرور.. لكل الناس، حتى إن الإنسان في كل لحظة يستطيع أن يقول: أنا سأقتدي برسول الله صلي الله عليه وسلم في هذا، في كل لحظة، وفي كل وقت، وعلى كل حال. وبهذا تصلح السيرة أن تكون سيرة هادية، يجد كل الناس فيها كل ما يحتاجون إليه.

الشرط الرابع:
الواقعية:وهو أن تكون المبادئُ التي دعا إليها صاحبها مبادئَ واقعيةً، وليست مثاليةً، طبقها على نفسه، وأوجد جيلاً استطاع أن يطبقها، حتى إذا أردنا أن نقتدي وجدنا أمامنا شيئًا عمليّاً، لا خياليّاً، ولا مثاليّاً فوق الواقع، إنما لابد أن تكون سيرةً واقعيةً؛ بحيث يمكنني ويمكنك، ويمكن كل إنسان أن يطبقها.

والآن، تعالوا لنرى من الذي توفرت في سيرته هذه الشروط

لن نجد على الإطلاق إلا سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم..

فإذا أخذنا الشرط الأول وهو الصحة والثبوت التاريخي، فلا توجد قصةٌ على هذه الأرض لنبيٍّ أو عالمٍ أو حكيمٍ أو ملكٍ ثبتت بشكلٍ صحيحٍ، ولدينا أسانيدُ على صحة كل ما حصل فيها، إلا سيرة النبي صلي الله عليه وسلم، ولو بحثت في سِيَر الأنبياء، فلن تجد سيرةً كاملةً أبداً، ولا شيئاً صحيحاً إلا ما جاء به القرآنُ أو جاءت به السنةُ.

كيف كتب اليهودُ سيرةَ سيدنا موسى مثلاً؟،
وكيف كتب النصارى سيرةَ سيدنا عيسى مثلا؟

هل -وهم يكتبون- كان لديهم قواعدُ؛ بحيث يميزون الأخبارَ الصحيحةَ من غيرها؟، أم كانت تُكتَب بلا قواعدَ واضحةٍ للتميُّز؟!

الحقيقةُ التاريخيةُ تقول إنه بعد وفاة سيدنا موسى بمدة، وبعد وفاة سيدنا عيسى أيضا بمدة، تم كتابة سِيَرِهم بشكلٍ لا تتوفرُ فيه الصحةُ ولا الثبوتُ التاريخيُّ، ولا يستطيعُ الباحثُ المنصفُ أن يقدّم برهاناً على أن ما كتبه أولئك الكاتبون خضع لقواعدَ سليمةٍ تضمن صحته!!

ولك أن تتصوَّر أنَّ النصارى كتبوا أكثرَ من ثلاثمائة إنجيل!!

مع أن الإنجيلَ الذي نزل من عند الله تعالى واحدٌ، وهو كلمة الله عز وجل، وهذا حُرِّف وبُدِّل وضُيِّع، أما الأناجيلُ الثلاثُمائة التي كتبوها فهي عبارةٌ عن (ثلاثمائة) شخص كتبوا قصة سيدنا عيسى!!. كل واحدٍ من هؤلاء كتبها بطريقة تختلف عن الآخر؛ فامتلأت بالأساطير والخرافات والأوهام!!؛ ولذلك تجدها متناقضة، وذلك لأن كل شخص يكتب ما سمع ولم يسأل أحد منهم عمّن يسمع منه إن كان صادقا أو غير صادق؟!! ولذلك نجد في كثير من هذه الكتب وهذه القصص، كلامًا لا نثق بأنه ثبت، وليس عندنا دليل على أنه حصل إلا ما جاء في كتاب الله، وما جاء في سنة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم..

لكن تعال لسيرة الحبيب صلي الله عليه وسلم.. من أول يوم بدأ النبي صلي الله عليه وسلم فيه الرسالة، أدرك المسلمون أنهم يجب أن يحفظوا هذه السيرة، وعلمهم الله عز وجل أن يكونوا صادقين في نقل الأخبار: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)}(الحجرات).

وأمر النبيُّ صلي الله عليه وسلم كلَّ مَنْ سمع أو رأى منه شيئا أن ينقلَ إلى غيره ما سمع وما رأى، وذلك حين قال صلي الله عليه وسلم: « بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آَيَة »([1])،
وحين قال: « لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ »([2])،
وحين قال: « تَسْمَعُونَ مِنِّى، وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ »([3])؛ أي من شاهدني وأنا أفعل شيئًا، أو سمعني وأنا أقول شيئا؛ فلا بد أن ينقله، ومن سمع منه فعليه أن ينقل عنه.. وهكذا.

وألهم ربُّ العزة العلماءَ المسلمين من أول يوم ألا ينقلوا كلَّ ما يسمعون بلا ضابط، بل لا بد أن يكون الذي تُنقل روايته راوياً معروفاًبالصدق والأمانة.

وشيء آخر مهم.. هو تمام العقل والحفظ؛ أي لو أن الراوي نسي بعض الشيء؛ فلا تُقبل روايته، وإذا حدثتْ له حالةٌ من الوهم واختلطتْ عليه المسائلُ؛ فلا نقبل روايته..

فقد ألهم الله علماء المسلمين منذ الصدر الأول من الصحابة وضع قواعد محكمةٍ وأصولٍ دقيقةِ لقبول الأخبار وردِّها، تطورت -فيما بعد- إلى علم واضح المعالم راسخ الجذور هو «علم مصطلح الحديث» الذي يبحث في أسانيد الأخبار ومتونها؛ لتمييز المقبول من المردود والصحيح من الضعيف، وتوفَّر على هذا العلم ألوفٌ الحُفَّاظ من العلماء، الذين ميّزوا أحوال مئات الألوف من الرواة الذين نقلوا الأخبار، وحفظوا تراجمهم، ونقدوا مروياتهم، ووضعوا ألقابا مميِّزة لكل فئةٍ على حسب حال كلِّ راوٍ من الثقة أو الضعف، كما وضعوا ألقاباً للمرويات على حسب صحتها وضعفها والأسباب الباعثة على التصحيح أو التضعيف.

وعلى ضوء هذه القواعد المحكمة صُنِّفت كتبُ السيرة والسنة فلم تَدَع شاردةً ولا واردةً تتصل بحياته صلي الله عليه وسلم، ولا شيئاً يتصل بها من قريبٍ أو بعيدٍ إلا تضمنتُه بطونُها، وحفظته أسفارُها مدوَّنا مسنداً، وبلغت تلك المصنفات عدداً يصعب حصره.

وخذ مثالاً بسيطا، يريك كيف كان علماء المسلمين يتحرّوْن قبل أن يكتبوا شيئا عن النبي صلي الله عليه وسلم ويتتبعون الرواة ليكشفوا الصادق من غيره:

أحد الأئمة ويسمى شُعبة بن الحجاج وكان يوصف بأنه «أمير المؤمنين في الحديث»، هذا الرجل كان يعيش في الكوفة -حررها الله من أهل الرجس والضلال- وردت عنه قصة عجيبة في التثبت نقلها ابن عساكر في تاريخ دمشق([4]) بسنده إلى نصر بن حَمَّاد الورَّاق قال:
كنا قعوداً على باب شعبةَ نتذاكر، فقلت: حدثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: كُنَّا نَتَنَاوَبُ رِعْيةَ الْإِبِلِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلي الله عليه وسلم، فَجِئْتُ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم حَوْلَهُ أَصْحَابُهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: « مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَاسْتَغْفَرَ اللهَ إِلَّا غَفَرَ لَهُ » فَقُلْتُ: بَخٍ بَخٍ! فَجَذَبِني رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي فَاْلَتَفَتُّ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: الَّذِي قَبْلُ أَحْسَنُ. فَقُلْتُ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: « مَنْ يَشْهَدْ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ قِيلَ لَهُ: ادْخُلْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتَ ».
قال: فخرج شعبةُ فلَطَمَنِي ثم رجع فدخل. قال: فتنحَّيْتُ من ناحيةٍ، قال: ثم خرج فقال: ما له يبكي بعدُ؟ فقال له عبد الله بن إدريس: إنك أسأتَ إليه. فقال شعبة: انظر ما يُحَدِّث! إن أبا إسحاق حدثني بهذا الحديث عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: فقلت لأبي إسحاق: مَن عبدُ الله بنُ عطاء هذا؟ فغضب ومِسْعَرُ بن كُدَامٍ حاضرٌ، قال: فقلتُ له: لَتُصَحِّحَنَّ لي هذا أو لأحرقن ما كتبتُ عنك!.
فقال لي مِسعر: عبدُ الله بنُ عطاء بمكة. قال شعبة: فرحلت إلى مكة لم أُرِدْ الحجَّ، أردتُ الحديثَ، فلقيتُ عبدَ الله بنَ عطاء فسألتُه، فقال: سعدُ بن إبراهيم حدثني. فقال لي مالك بن أنس: سعدٌ بالمدينة لم يحجَّ العام. قال شعبةُ: فرحلتُ إلى المدينة فلقيتُ سعدَ بنَ إبراهيم فسألتُه فقال: الحديث من عندكم، زيادُ بن مِخْرَاقٍ حدثني. قال شعبة: فلما ذكر زياداً قلت: أيُّ شيءٍ هذا الحديثُ؟ بينما هو كوفيٌّ إذ صار بصْريّاً إذ صار مدنيّاً!.
قال: فرحلت إلى البصرة فلقيتُ زيادَ بن مِخْرَاقٍ فسألتُه فقال: ليس هو من بَابَتِكَ (يعني حاجتك، أي ليس من الأحاديث التي تطلبها) قلت: حدِّثْنِي به. قال: لا تريدُه! قلت: حدِّثْنِي به. قال: حدَّثَنِي شَهْرُ بنُ حَوْشَبٍ عن أبي رَيْحَانَةَ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم.

قال شعبة: فلما ذكر شهرَ بنَ حَوْشَبٍ قلتُ: دَمِّرْ على هذا الحديث. لو صحَّ لي مثلُ هذا عن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان أحب إليَّ من أهلي ومالي والناس أجمعين.

فهذا شعبة -رحمه الله- ظل يبحث حتى وجد علة الحديث، ووصل لمن اخترع هذا الكلام وعرفه.. بهذه الصورة ثبتت السيرة.

إذن السيرة التي بين أيدينا والتي تخص رسول الله صلي الله عليه وسلم صحيحة، ونستطيع أن نتأكد من صدق وقائعها، فعندما نقول: إن الحبيب المصطفى صلي الله عليه وسلم، خرج إلى غزوة بدر مجاهداً ، ولما رأى كثرة الأعداء اسْتَقْبَلَ صلي الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: « اللهمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهمَّ آتِني مَا وَعَدْتَنِي، اللهمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ » فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ.. إلى آخر القصة

عندما نسأل عن صحة هذه القصة، فإننا نجزم بأنها ثبتت بأدق طرق الثبوت، وهي صحيحة في صحيحي البخاري ومسلم.([5])

وعندما أقول لك: إن النبي صلي الله عليه وسلم كان يمشي وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حتى أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ الله الَّذِي عِنْدَكَ . فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.

حين أطلب منك التأسي به صلي الله عليه وسلم في هذا الموقف، وتسألني عن صحة هذه الرواية، فإنني أقول لك: هي صحيحة بالأسانيد([6]).

إذن! عندما نقتدي بهذه السيرة، فإننا نقتدي بسيرة صحيحة ثابتة، ووقائع حصلت، وليست قصة ملفقة، ولا مُؤلفة، ولكنها قصص واقعية حقيقية حصلت في يوم من الأيام لرسول الله صلي الله عليه وسلم؛ ولهذا فهي السيرة الوحيدة الصحيحة التي تصلح لأن تكون قدوة.

لكن.. عندما يقولون: إن سيدنا موسى عليه السلام في موقف من ا لمواقف حدث له كذا وكذا، وأريد أن أتأسى به، فأسأل عن صحة هذه القصة، فلا يمكن أن أتأكد من صحتها، إلا إن كان النبي صلي الله عليه وسلم، أخبر بها أو كان القرآن تحدث عنها.

بينما أهلُ كلِّ دينٍ يفتقدون هذا في قصصهم الكثير، فلا دليلَ لديهم على صحة هذه القصص.
فعشر السنين التي قضاها موسى عليه السلام في مدين ليعمل فيها مع الرجل الصالح مهراً لابنته، ماذا حدث فيها؟!!
لو أن أي أحد أخبرنا بما حدث في هذه السنين، فلن نستطيع أن نتأكد من صدق هذا، ولا يوجد لدينا دليلٌ على صدق هذا الكلام.

بينما سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم، من أول يوم لآخر يوم، قد ثبتت ثبوتا صحيحا؛ فهل في العالم دين احتاط أهله مثل هذا الاحتياط، واهتموا مثل هذا الاهتمام، بكل ما يتعلق بأمر نبيهم وهدايته؟ وهل أُلِّف في هذا الباب تأليفٌ أكثر صحةً وأعظم ثقةً وتثبتا مما حصل مع سيرة النبي الأكرم صلي الله عليه وسلم؟ وهل حفظ التاريخ من تفاصيل حياة نبيّ من الأنبياء عليهم السلام أو عظيم من العظماء مثل الذي حفظه من سيرة محمد صلي الله عليه وسلم؟ كلا ، والله .

إذن هذه السيرة هي السيرة الوحيدة التي تصلح أن تكون قدوة، وهذا الشرط الأول، يؤكد لك أن الرسول صلي الله عليه وسلم هو الوحيد الذي يصلح أن يكون قدوة.

يتبع

([1]) الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء:باب حدثوا عن بني إسرائيل 6/496(3461).

([2]) الحديث عن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب: العلم:باب ليبلغ الشاهد منكم الغائب 1 /199(105).

([3])عن ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه أبو داود بإسناد صحيح في كتاب: العلم، باب: فضل نشر العلم 3/321 (3659)، وأحمد 1/321(2945)، وصححه ابن حبان 1/263 (62)، والحاكم 1/95، ووافقه الذهبي.

([4])ج19/ص 216 -217 .

([5]) انظر: البخاري، في كتاب: المغازي، باب: إذ تستغيثون ربكم، 7/287 (3953)، ومسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر 3/1383 (1763).

([6]) انظر: البخاري، في كتاب: فضل الخُمس، باب: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْخُمُسِ وَنَحْوِهِ 6/251 (3149)، ومواضع أخرى، ومسلم في كتاب: الزكاة، باب: إعطاء من سأل بفحش وغلظة 2/730 (1057).

عن موقع على بصيرة
 
الشرط الثاني أو الصفة الثانية، وهي صفة الكمال، فماذا تعني صفة الكمال؟

تعني أن الشخص الذي نتأسى به لا بد أن يكون تصرفه في الصغيرة والكبيرة هو الكمال المطلق، ولا يوجد هذا على الكمال والتمام إلا في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك فإنه حين تقدم إلى الناس بدعوته؛ قدَّم لهم نفسه قبل أن يعرض عليهم مبادئَ رسالته، وكان أسبقُ الناس إلى الإيمان به أكثرَهم معرفةً به، وقرباً منه، وخبرةً بحاله.

ولفرْط ثقته صلى الله عليه وسلم بنفسه فإنه أَذِن -بل أمر- لكلَّ مَن رأى أو سمع منه شيئاً أن يبلغه للناس، سواءٌ ما صدر عنه في بيته، أو في مسجده، أو في حربه وجهاده، أو في قعر حجراته، وسواءٌ كان من خصوصياته أوْ لا، وسواءٌ كان في حالة ظَفَرٍ وانتصارٍ وقوةٍ، أو في حالة إخفاقٍ وابتلاءٍ وضعفٍ، دون أن يخشى قالةَ السوء عنه؛ لأنه أبعدُ الناس عن السوء، ليس في حياته ما يُعاب ، سرّاً ولا جهراً.

شخصٌ إذا أردت أن تقول للناس : أنفقوا وتأسَّوْا به في الكرم؛ ستجد في سيرته من القصص الصحيحة ما يؤكد لك أنه لم يسبقه في هذا أحدٌ على الإطلاق. غيره صلى الله عليه وسلم جادوا بما في أيديهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم جاد بما ليس في يده.. بما لم يكن يملكه بعد!!

فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « مَا عِنْدِي شَيْءٌ وَلَكِنْ ابْتَعْ عَلَيَّ (اشتر على حسابي)، فَإِذَا جَاءَنِي شَيْءٌ قَضَيْتُهُ »
فقال عمر: يا رسول الله، قد أعطيتَه فما كلَّفك الله ما لا تقدر عليه،
فكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم قولَ عمر،
فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله، أنفقْ ولا تخفْ من ذي العرش إقلالا.
فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعُرف في وجهه البِشْرُ لقول الأنصاري، ثم قال: « بِهَذَا أُمِرْتُ »][1]).

كان له خمس المغانم، يتصرف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث شاء، ومع ذلك كان يُنفقه كله، ويبيت الليلة والليلتين والثلاث، وليس في بيته طعام، والشهر والشهرين، ثلاثة أهلة، ولا يُوقَد في بيته نار.

وعندما نتكلم مثلا عن عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمهما قيل عن الناس المشهورين بالعفو؛ سنجد أن عفوه صلى الله عليه وسلم فوق كل ما يتصور الناس، فقد آذاه الناس وعذبوه وطردوه وأخرجوه من بلده، ولما رجع فاتحا مظفرا، ووقفوا جميعا بين يديه، قال:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟
قَالُوا: خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ.
قَالَ: « فَإِنّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ ». ][2])

صلى الله عليك يا رسول الله.. عفو لا يدانيه فيه أحد.

حتى المرة التي ضاقت فيها صدورُ أصحابه؛ حين رأوْا كبد حمزة وجسمه قد مُزّق ومُثّل به وبغيره،
وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ-أي لنزيدن- عَلَيْهِمْ. قَ
الَ أُبَيّ بن كَعبٍ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ (126)}(النحل)، فماذا فعل الحبيب صلى الله عليه وسلم؟ رضي بالصبر،
وقال: « كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً »، وقال: « نَصْبِرُ وَلَا نُعَاقِبُ » ][3])،
وجاءه بعد ذلك قاتلُ حمزة وأسلم، وقبل إسلامه!! فهل رأيت مثل هذا العفو.

وها هو صلى الله عليه وسلم وقد رجع مِنْ بَدْرٍ مُنْتَصِراً، وَقَدْ قَتَلَ الله تَعَالَى مِنْ قُرَيْش مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، أَقْبَلَ عُمَيْرُ بن وَهْبٍ حَتَّى جَاءَ إِلَى صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ،
فَقَالَ صَفْوَانُ: قَبَّحَ الله الْعَيْشَ بَعْدَ قَتْلَى بَدْرٍ.
فقالَ عُمَيْرٌ: أَجَلْ، وَالله مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ بَعْدُ، وَلَوْلا دَيْنٌ عَلَيَّ لا أَجِدُ لَهُ قَضَاءً وَعِيَالِي وَرَائِي لا أَجِدُ لَهُمْ شَيْئًا، لَدَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَلَقَتَلْتُهُ إِنْ مُلِئَتْ عَيْنِي مِنْهُ، فَإِنَّ لِي عِنْدَهُ عِلَّةً، أَقُولُ: قَدِمْتُ عَلَى ابْنِي هَذَا الأَسِيرِ،
فَفَرِحَ صَفْوَانُ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ، وَعِيَالُكَ أُسْوَةُ عِيَالِي فِي النَّفَقَةِ، إِنْ يَسَعْنِي شَيْءٌ وَنَعْجَزْ عَنْهُمْ.
فَحَمَلَهُ صَفْوَانُ وَجَهَّزَهُ بِسَيْفِ صَفْوَانَ فَصُقِلَ وَسُمَّ، وَقَالَ عُمَيْرٌ لِصَفْوَانَ: اكْتُمْنِي لَيَالِيَ،
فَأَقْبَلَ عُمَيْرٌ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ بَابَ الْمَسْجِدِ، وَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ، وَأَخَذَ السَّيْفَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ، وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنَ الأَنْصَارِ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَيَشْكُرُونَ نِعْمَةَ الله، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ عُمَيْرَ بن وَهْبٍ مَعَهُ السَّيْفُ فَزِعَ مِنْهُ، فَقَالَ: عِنْدَكُمُ الْكَلْبُ، هَذَا عَدُوُّ الله الَّذِي حَرَّشَ بَيْنَنَا، وَحَزَرَنَا لِلْقَوْمِ (يعني قَّدر عددنا يوم بدر وعرَّف قريشا به) فَقَامَ عُمَرُ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَذَا عُمَيْرُ بن وَهْبٍ قَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ مَعَهُ السِّلاحُ، فَهُوَ الْفَاجَرُ الْغَادِرُ يَا رَسُولَ الله، لا تَأْمَنْهُ،
قَالَ: « أَدْخِلْهُ عَلَيَّ »، فَدَخَلَ عُمَرُ وَعُمَيْرٌ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَحْتَرِسُوا مِنْ عُمَيْرٍ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ وَعُمَيْرُ بن وَهْبٍ، فَدَخَلا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَمَعَ عُمَرَ سَيْفُهُ،
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: « تَأَخَّرْ عَنْهُ »
فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ حَيَّاهُ عُمَيْرٌ: أَنْعِمْ صَبَاحًا، وَهِيَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ،
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:« قَدْ أَكْرَمَنَا الله عَزَّ وَجَلَّ عَنْ تَحِيَّتِكَ، وَجَعَلَ تَحِيَّتَنَا السَّلامَ وَهِيَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ »
فَقَالَ عُمَيْرٌ: إِنَّ عَهْدَكَ بِهَا لَحَدِيثٌ.
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: « قَدْ بَدَّلَنَا الله خَيْرًا مِنْهَا، فَمَا أَقْدَمَكَ يَا عُمَيْرُ؟ »
قَالَ: قَدِمْتُ فِي أَسِيرِي عِنْدَكُمْ، فَقَارِبُونِي فِي أَسِيرِي، فَإِنَّكُمُ الْعَشِيرَةُ وَالأَهْلُ،
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: « فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي رَقَبَتِكَ »،
فَقَالَ عُمَيْرٌ: قَبَّحَهَا الله مِنْ سُيُوفٍ، فَهَلْ أَغْنَتْ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ؟ أَنَا نَسِيتُهُ وَهُوَ فِي رَقَبَتِي حِينَ نَزَلَتُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ لِي غَيْرَةً،
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: « اصْدُقْنِي مَا أَقْدَمَكَ »،
قَالَ: مَا قَدِمْتُ إِلا فِي أَسِيرِي،
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:« فَمَا شَرَطْتَ لِصَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ »، فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الله وَأَشْهَدُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله، كُنَّا يَا رَسُولَ الله نُكَذِّبُ بِالْوَحْيِ، وَبِمَا يَأْتِيكَ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَفْوَانَ فِي الْحِجْرِ كَمَا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ أَخْبَرَكَ الله بِهِ، فَآمَنْتُ بِالله وَرَسُولِهِ وَالْحَمْدُ لله الَّذِي سَاقَنِي هَذَا الْمَقَامَ...» الحديث. ][4])

ماذا يفعل أي زعيم مهما كان واسع الصدر، عندما يتمكن ممن يحمل خنجرا مسموما ويريد اغتياله؟!! هل يمكن أن يتسع صدره لمثل هذا العفو الرائع؟!
قد نعرف سيرة زعيم من الزعماء، ويكتب مذكراته مثل فلان وفلان. لكن هل حياة هؤلاء في داخل بيوتهم، ومع خواص أصحابهم بهذا النقاء الذي يحاولون إظهاره؟ كلا؛ فعندما يختلف أحدهم مع صاحبه، تخرج كتب ومقالات بها أشياء لا تُتصور! تكشف لك عن شخصية لا تساوي فتيلا ولا قطميرا.

لكن كلما اقتربت من شخصية الحبيب صلى الله عليه وسلم، تجد الكمال في أبهى صوره.

فهل تتصور أحدًا من الناس أيا كان يقول لكل من يعاملهم: يجب عليكم أن تنقلوا كل شيء رأيتموه مني!!. لأنه ليس لديه أبدا ما يُخفيه عن الناس أبدا. تسع نسوة، عشن معه صلى الله عليه وسلم، في وقت واحد، ولم تخرج واحدة تذكر عيبا من عيوبه صلى الله عليه وسلم، لا في حياته ولا بعد مماته. كانوا يتكلمون عما يحدث حتى في الفراش، فلا تسمع من إحداهن شيئا يعاب به صلى الله عليه وسلم على الإطلاق.. بل كلما تحدث الأقربون منه، تحدثوا حديث المحب الذي لا يرى عيبا أبدا.

هذه أمثلة بسيطة، وهناك العديد من الأمثلة في كل مجالات العظمة والشموخ، تثبت أن الكمال لا يوجد إلا في سيرته صلى الله عليه وسلم.

وليس معنى هذا أن الأنبياء لم يكونوا كذلك. لا، فقد كانوا جميعاً في أعلى درجات الكمال، ولكن لم يثبت عندنا من سِيَر الأنبياء في كل المجالات ما يكفي من القصص الثابتة لتقديمه لكل الناس ليتأسوْا به، ولكن هناك العشرات من القصص عن الحبيب صلى الله عليه وسلم، في كل خلق من الأخلاق.

أعداؤه لا يجدون له عيبا: كلنا نعلم أن قومه وأعداءه-مع استفراغهم جهدهم في محاولة الوقوف على دخيلة من دخائله، أو على شيء يؤاخذونه به -لم يظفروا بشيء، حتي السنوات الأربعون التي قضاها بين مشركي مكة قبل البعثة، يعاملهم في أمور الحياة ليلاً ونهار، اجتازها الرسول صلى الله عليه وسلم وخلص منها سالما نقيا، لم يُصِبْه شيءٌ مما يصيبُ عامة الناس، حتى لقبوه «الصادق الأمين»، ومع شدة خلاف قريش له، وسلوكهم كل سبيل في محاربته وإيذائه، فإنهم لم يستطيعوا أن يقولوا شيئا في أخلاقه وصدقه وأمانته، بل كانوا يستودعونه أماناتهم. فكانت أحواله وشؤونه وهديه ظاهرةً لجميع الناس، استوى في ذلك أحباؤه وأعداؤه.

لما جاءته الرسالة، عرض على قريش نفسَه قبل أن يعرض رسالته، فقال وقد صَعِدَ عَلَى الصَّفَا ونَادَى عَلَى بُطُونِ قُرَيْشٍ: « أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟»
قَالُوا: نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا،
قَالَ: « فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » الحديث ][5]).

هذا قبل النبوة، لم يجربوا عليه الكذب؛ ولذلك تجد أن هرقل كان ذكيا، عندما تسلم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يدعوه فيه إلى الإسلام، فطلب من أعوانه أن يبحثوا عن رجل من قريش؛ ليسأله عن محمد صلى الله عليه وسلم، فوجدوا أبا سفيان، فجاءوا به، وقال هرقل لأصحاب أبي سفيان: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلَ عَنْ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ.وسوف أقص عليكم جزئية واحدة من الحوار الطويل الذي دار بين هرقل وأبو سفيان.

سأل هرقل أبا سفيان: كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ عَلَى الْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟
قال أبو سفيان: لَا.
فعاد هرقل ليقول: سَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى الله][6]).

حياته مكشوفة: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكمال في كل شيء، حتى بعض المستشرقين: أعظم معجزة لهذا النبي هي حياته؛ لأنها مكشوفة للشمس وليس عنده ما يُخفيه.
كانت حياته وسيرته مكشوفة، حتى بعض الأشياء التي فعلها وعاتبه الله عليها لم يكتمها.

أنتم جميعا تعرفون قصة السيدة زينب بنت جحش، لما جاء زيد بن حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، أريد أن أطلق زينب! والله عز وجل أخبره صلى الله عليه وسلم أن زيداً سوف يطلقها وستتزوجها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا زيد، أمسك عليك زوجك واتق الله. فينزل القرآن الكريم:
{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ...(37)}(الأحزاب).

تقول السيدة عائشة ويقول سيدنا أنس في هذه الآية: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ][7]).

وعندما عاتبه الله تعالى في القرآن الكريم على ما فعله مع ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: { عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءَهُ الأَعْمَى (2)}(عبس) ثم خرج فأخبر الناس بهذه الآية][8])،ليس عنده ما يخفيه، فكل حياته من أولها إلى آخرها كمال في كمال.

حياته في الجاهلية معصومة:حتى عندما هَمَّ صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ببعض ما كان أهل الجاهلية يفعله من اللمم ؛ عصمه الله من ذلك.

فها هو صلى الله عليه وسلم يقول:
« مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَهُمُّونَ بِهِ إِلَّا لَيْلَتَيْنِ، كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا...» الحديث في نزوله مكة مرتين للسمر، ونومه حتى أيقظته الشمس، إلى أن قال: « فَوَاللهِ مَا هَمَمْتُ، وَلَا عُدْتُ بَعْدَهَا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى أَكْرَمَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنُبَوَّتِهِ » ][9]).

هذا هو الكمال، ولن تجد سيرة في التاريخ بلغ صاحبها الكمال في كل شيء غيرها، ولهذا فهي وحدها التي تصلح أن تكون قدوة، أما سِيَر غيره من الأنبياء والعظماء والكبراء فيستحيل أن تجد أحدا يصلح أن تكون حياته كلها قدوة، وقد بلغ الكمال في كل المحاسن إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قد تجد أحدهم تقدّم في جانب من الجوانب، ولكن في جانب آخر لا بد أن يكون هناك تقصير.

وقد تجد عن بعض رسل الله -صلوات الله عليهم أجمعين- بيانا لبلوغهم الكمال في جانب من الجوانب، فإبراهيم بلغ الكمال في جوانب كثيرة، لكن عندما أقول مثلا: كيف يكون التاجر مقتديا بسيدنا إبراهيم عليه السلام؟ فلن أستطيع أن أحصل على سيرة لسيدنا إبراهم نقتدي به فيها في تجارته، مع التأكيد أنه كان أحسن الناس في معاملته، ولكن لم يبلغنا عنه قصة نستطيع أن نقتدي بها فيه. ولكنك تجد في سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، ما تقتدي به في كل شيء، ففي تجارته مثلا، يقول السَّائِب بن أبي السَّائِبِ رضي الله عنه:
أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم،َ فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيَّ وَيَذْكُرُونِّي،
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: « أَنَا أَعْلَمُكُمْ » يَعْنِي بِهِ،
قُلْتُ: صَدَقْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! كُنْتَ شَرِيكِي، فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ لَا تُدَارِي وَلَا تُمَارِي][10]).

تجارته حتى قبل بعثته في مال خديجة رضي الله عنها، يحكي من كان معه، كيف كان صلى الله عليه وسلم نقي اليد، حسن المعاملة في تجارته.

وهكذا في كل الجوانب تجد كمالًا مطلقًا.

والآن تعالوا بنا إلى الشرط الثالث، وهو الشمولية:
وهي تعني أن تكون حياة الأسوة من الخصب والغنى بحيث تسع الناس زماناً ومكاناً وأشخاصاً بالقدوة والهداية، وذلك ما لم يتوفر لسيرة بشرٍ على الإطلاق إلا لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهى وحدها التي يجد فيها كلُّ أصنافِ الناس وطبقاتهم وفئاتهم القدوة في كل زمانٍ ومكان.

فالحاكم أو الأمير أو الرئيس يجد في السيرة النبوية الزكية زاده وقدوته في أصول القيادة والسياسة وإقامة العدل، والمحكوم يجد في السيرة زاده كذلك.

وقل مثل ذلك في القضاة والخصوم، وفى الجنود والمحاربين، وفى الأغنياء والفقراء، وفى التجار والزُّراع والصناع، وفى الدعاة والمصلحين، وكل طوائف المجتمع، فكل أولئك إذا اتخذوا من السيرة المباركة أسوةً وقدرةً وجدوا فيها النور الذي يُسْتَضاء به في ظلمات الحياة، والمثل الأعلى الذى تنشده الإنسانية.

وإذا كانت حياة كل واحد من هؤلاء تختلف عن حياة الآخر، وإذا كان لكل منهم أحوال وأعمال تتقلب عليه بتقلب الظروف، بين قيام وقعودٍ ومشيٍ، وأكلٍٍ وشربٍ، ونومٍٍ ويقظةٍ، وضحكٍ وبكاءٍ، وفرح وترح، وسرور وحزن، وارتداءٍ للملابس وخلعٍ لها، وتعلُّمٍ وتعليمٍ، وعبادةٍ لله ومعاملةٍ للناس، وضيافةٍ وتضيّفٍ، وغير ذلك من الأعمال والأحوال التي تطرأ عليْه، وهو في ذلك قد يكون أباً أو ابناً أو جداً، أو زوجاً أو عزباً، كما تعتريه الأعمال القلبية والخلال النفسية، كالعزيمة، والشجاعة، والرضا، والصبر، والشكر، والتوكل، والتضحية، والقنا عة، والإيثار، والجود، والتواضع، وغيرها من الخصال، وهو في كل ذلك محتاجٌ إلى القدوة الهادية النافعة، والأسوة الكاملة ممن سبق له العمل بكل ذلك.

إذا كان الأمر كذلك فإنه لن يجد كلُّ هؤلاء المثالَ الكاملَ في كل أحوالهم إلا في حياة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد عاش كلَّ تلك الأحوال، وكان فيها المثالَ العاليَ الذي لا يُلحَق، والعَلَم الذي نصبه الله للدلالة على مكارم الأخلاق وحميد الصفات، فلا يوجد قائد دولة أو معلم أو مصلح رأته الدنيا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذي استطاع أن يقودَ الأمةَ قيادةً حكيمةً ، وأن يطبق في التربية والإصلاح مشروعاً عظيماً ومنهجاً مستقيماً ، فتح الله به الدنيا على يديْه وعلى يديْ أمته.

عاش صلى الله عليه وسلم غنيا، ورأينا كيف كان ينفق من ماله بلا حساب، وعاش فقيراً ولو شاء أن تسيل معه جبال الدنيا ذهبا وفضة، لسالت. وكان لا يدخر لقوته، ولما أدركه الموتُ، كان يقول لأهله وهو في سكرات الموت:إن هناك سبعة دنانير عنده، ويدلهم على مكانها، ويأمرهم بإخراج هذه الدنانير، ثم يُغمى عليه، ثم يفيق فيسأل: ماذا فعلتم بالدنانير؟!! صلى الله عليك يا رسول الله!!.

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم فقيراً، فكان يمر عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار، ولا يأكل إلا التمر والماء. ومرت عليه أيام ربط فيها الحجر على بطنه من شدة الجوع، ومرت عليه أيام لم يجد فيها ما يأكله وعنده تسعة أبيات يمر عليها فلا يجد طعاما في أي منها، فيصوم ويصبر! فيعلم الفقير كيف يصبر، والغني كيف يشكر.

كان أباً ، وعلم الآباء كيف تكون التربية، فهو رحيمٌ يُقَبِّل الأولادَ ويَحْنُو عليهم ويَعِظُهم ويُعلِّمهم برفق.

يجلس ومعه عمرُ بن أبي سلمة، وهو صبيٌ صغيرٌ، و يَده تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ له رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «
يَاغُلَامُ سَمِّ الله وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ »
قال عمر: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ][11]).

ويروي أَبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِساً،
فَقَالَ الْأَقْرَعُ:إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا،
فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: « مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ » وفي رواية: « أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ الله مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ » ][12]).

يقف على المنبر خطيباً، فيشاهد الحسن والحسين وهما أطفال، يتعثران، فينزل من على المنبر يحملهم ويرجع مرة أخرى.

ويصلي بالناس إماماً، فتأتي أمامة بنت أبي العاص، بنت السيدة زينب رضي الله عنها، فيحملها صلى الله عليه وسلم على كتفه، فإذا ركع وضعها، فإذا قام حملها!!

ويعلم الصغير ويعلم الكبير كيف يكون أبا وزوجا.

وإذا أردت أن تتأسى به قاضيا مثلا، فإنك تجده صلى الله عليه وسلم ينصح القاضي ويقول: « لاَ تَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَان » وعندما تقضي لا بد أن تقضي بالعدل، وإن استطعت أولاً أن تصلح بين الخصمين، فلابد أن تصلح بينهما، وإذا لم تستطع، فلا بد أن تقضي بالحق.

وهناك العديد من القصص في ذلك، فهذا الزُّبَيْر بن العوام رضي الله عنه كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي شِرَاجٍ مِنْ الْحَرَّةِ كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كِلَاهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِلْزُّبَيْرِ: « اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ »
فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ!
فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: « اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ » ]أي أشبع أرضك بالماء أولا، وهذا هو العدل، لأن الماء يمر على أرضه أولاً) فَاسْتَوْعَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ حَقَّهُ لِلْزُّبَيْرِ، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ فيه سَعَةٍ لَهُ وَلِلْأَنْصَارِيِّ، فَلَمَّا أَحْفَظَ ]يعني أغضب)الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم اسْتَوْعَى لِلْزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ.
قَالَ الزُّبَيْرُ: وَالله مَا أَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إِلَّا فِي ذَلِكَ { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ..(65)}(النساء)
[13]).

هنا يعلِّم النبي صلى الله عليه وسلم القاضي، أن ينزع من نفسه كل المعاني النفسية، فلا يقول القاضي: إني أحب فلانًا أو أكره فلانا، يقول الله تعالى: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)}(المائدة).

وهكذا .. لو أردت في أي مجال من مجالات الحياة وفي كل أحوالها أن تؤلف كتابا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فستجد أن حياته صلى الله عليه وسلم على قصرها كانت هداية وقدوة لكل شخص في كل حال، فقد تزوج وطلق، وحارب وسالم، وعادى ووالى، وباع واشترى، وفعل كل شيء. وثبتت عنه في ذلك قصص تصلح أن تكون قدوة.

ولكن تعال إلى غيره من العظماء.. بل من الرسل مع كمالهم صلوات الله عليهم أجمعين، فإذا وجدت أحدهم بارزا في مجال من المجالات، فلن تجد في سِيَرهم المحفوظة ما يصلح لأن يكون قدوة في المجالات الأخرى.

فإذا أردتَ أن تتعلم من سيدنا عيسى عليه السلام معاملة الزوجات؛ فإنك لا تستطيع أن تتعلم منه ذلك لأنه لم يتزوج.

وإذا أردتَ أن تتعلم من سيدنا موسى عليه السلام تربية الأولاد؛ فلا تستطيع أن تتعلم منه ذلك؛ لأنك لا تجد في القصص التي وردت عنه عليه السلام كيف كان يعامل الأولاد.

وإذا أردتَ أن تتعلم من سيدنا إبراهيم عليه السلام ماذا يفعل عند لقاء العدو ومواجهته فلن تستطيع ذلك؛ لأننا ليس لدينا في سيرته أنه كان قائداً للجيش أوخاض أية معارك.

إذن، لكي نأتي بقدوة تصلح لجميع البشر فإننا لن نجد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يثبت عن أحد في كل المجالات قصص صحيحة ثابتة تشهد بكماله في كل أحواله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما الشرط الرابع فهو الواقعية:

حتى تصبح السيرة الثابتة الكاملة الشاملة صالحةً للتطبيق والهداية، فلابدّ أن تكون سيرةً واقعيةً ممكنة التطبيق في حياة الناس، وهذا ما امتازت به سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سائر السير، وتتبين واقعيتها من خلال نقطتين:

الأولى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمر بشيء إلا ويفعله، فكان أكثرَ الخلق التزاماً بالتكليفات التي دعا إليها، وأعظمَهم تطبيقاً لها في كل مجالات العبادات والأخلاق والمعاملات، وكان أوضحَ الناس مثالاً، وكان أصدق الناس عملاً بما يدعو إليه ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ).

الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم ارتفع بأصحابه إلى تطبيق ما دعا إليه، حتى سما بهم السموَّ الذي لم تعرفه البشرية في تاريخها إلا لماماً.

وكتب السيرة ملأى بالنماذج العظيمة والمواقف الرائعة في ذلك كله، سواء في سيرته صلى الله عليه وسلم أو في سيرة الجيل الذي ربّاه على عينه، فكان كلُّ فرد منهم آيةً من آيات نبوته ودليلاً من أدلة صدقه، بل معجزةً ظاهرةً دالةً على كمال رسالته صلى الله عليه وسلم.

وهذا ما لا يتوفر في سيرة أحد من الأنبياء أو المصلحين من قبله ولا من بعده صلى الله عليه وسلم، فعندما يقول النصارى مثلا: إن المسيح عليه السلام يقول: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ويقول: باركوا لاعنيكم وأحبوا أعداءكم. فهل طبق هذا الكلام أحدٌ منهم في السابق أو في هذه الأيام؟! لا والله، وإنما واقعهم يقول: إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فاضرب خده الأيمن والأيسر والوجه والقفا، ومزقه مزقا! حتى فيما بينهم في الحروب العالمية وغيرها.

لكن..تعال للحبيب صلى الله عليه وسلم، تجد أنه أتى بدين واقعي، لا يكلفنا فوق ما نطيق، وفي هذا الجانب مثلا تجد الآية { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)}(الشورى)

ويعلمنا أن العدل يقتضي مقابلة السيئة بعقوبة مثلها، وأن العفو عن المسيء درجة عالية تحتاج عزيمة أمضى وصدراً أوسع ، ويدعونا إلى استخدام تلك الدرجة العالية من الإنسانية في موضعها اللائق مع من يستحقها ، وذلك بأن نعفو ونصفح عن المؤمن الذي زلَّ زلةً، وأخطأ خطأً، ولا نعفو ونصفح عن الكافر الذي يحارب دين الله، يقول تعالى:
{ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الله مَعَ المُتَّقِينَ (36)}(التوبة)، ويقول سبحانه: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ..(149)}(البقرة).

أي: حينما يكون الكلام مع الكفار الذين يحاربون دين الله، فلا يعقل أن نقول: باركوا لاعنيكم وأحبوا أعداءكم!! وإنما يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ..(1)}(الممتحنة)، وهذا هو الكلام المنطقي، أننا لا نتخذ عدو الله وليا، يقول سبحانه:
{ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}(الممتحنة). ويقول عز وجل :
{ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}(المائدة). ويقول عز من قائل :
{ لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ..(22)}(المجادلة). ويقول تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ (24)}(التوبة).

وهذا هو الكلام المنطقي. أن أعفو عن أخي إذا زل زلة.. قال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِم ..(54)} (المائدة).

فعندما يخطئ فيّ أخي المسلم، أقول له: سامحك الله، وأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أُوذي بأكثر من هذا، فأنا أصبر.

أما أن يضربني عدوي، فأقول: أنا صابر وأسامحه ، وأتمسك بما يسمونه -زوراً-السلام؛فهذا ليس من المنطق ولا من العقل!!

والمشكلة أن الأمة حين تتنكب طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد أن الناس قد قلبوا الآيات، فبدلاً من أن نتمثل قوله تعالى : { أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ...(29)}(الفتح)، نجد العكس من ذلك، أشداء على المؤمنين رحماء على الكافرين!!، وبدلا من أن نتمثل قول رب العزة: { أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ ..(المائدة: 54)، نجد العكس من ذلك، يقف المسلم أمام الكافر باحترام وأدب وهيبة ويتلطف في الكلام في الوقت الذي يتجبر فيه على إخوانه المؤمنين! فأين المنطق في هذا؟!وقد قال الله تعالى: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ..(40)}(الشورى).

لم يكن البشير النذير صلى الله عليه وسلم يضيع حقا للأمة عند عدوها، فبمجرد أن نقض يهود بني قينقاع العهد، وكشفوا سوءة المرأة المسلمة؛ حاربهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم مباشرةً وأجلاهم عن المدينة، وأيضاً يهود بني النضير نقضوا العهد وأرادوا قتله صلى الله عليه وسلم، فحاربهم وأجلاهم عن المدينة. كذلك يهود بني قريظة نقضوا العهد وحالفوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاربهم وأجلاهم عن المدينة.

وعندما بدأ اليهود في خيبر يؤلبون القبائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعدون العدة لملاقاته، غزاهم وأخرجهم.

وعندما كانت قريش تكيدُ له و للمسلمين كان صلى الله عليه وسلم يخرج مباشرة لحربهم وقتالهم ، قال تعالى: { وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ..(36)(التوبة). هذا هو المنطق الطبيعي.

عندما يأتي مسلم ويسيء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم يقول له: عفوت عنك.. نعم؛ لأن العفو هنا دليل على كرم النفس.

أما العفو عن الأعداء فهو دليلٌ على الذل، ودليلٌ على الهوان؛ ولهذا كان منطقُ الإسلام في كل ما يدعو إليه منطقياً واقعياً يتعامل مع حقائق الأشياء، لا يطلب منك فوق ما تستطيع، ولا يكلفك بمثاليات لا يمكن تطبيقها أبدا.

فالله تعالى كلفنا بتكليفات بإمكاننا أن نفعلها، ونهانا عن أشياء ما أسهل الامتناع عنها، وما نهانا عن شيء إلا وفي تركه مصلحة، وما أمرنا بشيء إلا وفي فعله مصلحة.

تعال إلى سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، فستجدها تطبيقًا عملياً للمباديء التي دعا إليها. فعندما قال الله عز وجل: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 8 )}(المائدة)، فإن النبى صلى الله عليه وسلم طبق العدل حتى مع المخالفين! وقال كلمة الحق حتى على أتباعه من المسلمين،
وإذا أردنا مثالا، نجد القرآن يقول له صلى الله عليه وسلم :
{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرْ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)}(النساء). فلا يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالهوى ولا يستجيب لمن يريد خداعه عن الحق.وكذلك علم أصحابه تطبيق هذه القيمة؛ حتى نأخذ المثل.

عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ الله بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُودِ خَيْبَرَ، قَالَ: فَجَمَعُوا لَهُ حَلْيًا مِنْ حَلْيِ نِسَائِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: هَذَا لَكَ، وَخَفِّفْ عَنَّا، وَتَجَاوَزْ فِي الْقَسْمِ!
فَقَالَ عَبْدُ الله بْنُ رَوَاحَةَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَالله إِنَّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ الله إِلَيَّ، وَمَا ذَاكَ بِحَاملِي عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ، فَأَمَّا مَا عَرَضْتُمْ مِنْ الرَّشْوَةِ فَإِنَّهَا سُحْتٌ، وَإِنَّا لَا نَأْكُلُهَا.
فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ][14]).

فقال سيدنا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه كلمة تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ربَّى جيلا نوّر الدنيا وأضاء وجه الحياة، وهذا هو العدل، حتى مع المخالفين .

وهكذا كانت سيرته صلى الله عليه وسلم واقعية عملية، طبقها على نفسه، وربى أصحابه على تطبيقها.

أمرنا الإسلام بالاعتدال والواقعية ، ولم يأت بمبادئ خيالية لا يستطيع الناس تطبيقها، ولا برهبانية النصارى، التي قال الله سبحانه عنها: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ..(27)}(الحديد). إنما جاء بدين حق يسهل على الناس تطبيقه، يدعو إلى أخذ الدنيا مع العمل للآخرة، قال تعالى:
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ (77)}(القصص).

خاتمة : هناك إذن أربعة شروط يجب أن تتوفر في سيرة من نريد أن نقتدي به، وهي لم تثبت إلا في سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم:

أولها: الثبوت، فهي سيرة صحيحة وليست قصة مخترعة.

ثانيها: أنها سيرة كاملة فيها الكمال المطلق، صاحبها بلغ الكمال في كل شيء، بلغ الكمال في كل المحامد، في أي مجال تريد أن تقتدي به ستجده في القمة.

ثالثها: الشمولية، فالسيرة تصلح لكل الناس، فأي إنسان يريد الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالسيرة قدوة له، كما ذكرنا.

رابعها: الواقعية، أي أنها سيرة واقعية، بمعنى أن ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، كان أمرا واقعيا طبقه على نفسه وربى عليه أصحابه، ويسهل علينا تطبيقه.

بهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وحده هو القدوة، وهذا معنى قول المصلحين الصالحين. «الرسول قدوتنا»

فلا توجد قدوة تصلح لسائر البشر، عند هذا ولا ذاك، غيره صلى الله عليه وسلم.
فالسيرة التي تصلح للقدوة هي سيرة حبيبك صلى الله عليه وسلم، فأين أنت من التطبيق العملي لهذه السيرة الكريمة؟!!.
هذا ما يجب أن نتداعى إليه، وأن يأمر بعضنا بعضا به.

ونسأل الله العظيم كما رزقنا الإيمان به في الدنيا ولم نره، أن يرزقنا يوم القيامة شفاعته، وأن يحشرنا خلفه.

وفي الختام: هذه بشارة لمن يتبع الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولمن يتخذه قدوة: رب العزة يقول في محكم كتابه:
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)}(الإسراء).

أي أنك يوم القيامة تدعى خلف مثلك الأعلى، فإن كان هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنك ستجد نفسك في الصف وراءه، وتدخل من باب أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يقول فيه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: « بَابُ أُمَّتِي الَّذِي يَدْخُلُونَ مِنْهُ الْجَنَّةَ عَرْضُهُ مَسِيرَةُ الرَّاكِبِ الْمُجَوِّدِ ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَيُضْغَطُونَ عَلَيْهِ حَتَّى تَكَادُ مَنَاكِبُهُمْ تَزُولُ »][15]).

وبشارة أخرى كريمة يخبرنا بها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، عندما جاءه رَجُلٌ إِلَيه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: « الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ »][16]).

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله مَتَى السَّاعَةُ؟
قَالَ: « وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ ؟»
قَالَ: حُبَّ الله وَرَسُولِهِ.
قَالَ: « فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ » .
قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : « فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ » .
قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ][17]).

فهلم يا أخي الكريم نجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا في كل شيء؛ حتى نُحشر خلفه، ونُدعى وراءه، ونُدعى به يوم القيامة.

بل هلم بنا ندعو الأمم كلها والناس جميعا للاقتداء به والاهتداء بهديه الكريم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء للناس قاطبة، وحفظ الله دينه وسيرته التي شملت كل ما يحتاجه كل إنسان في قضايا الإيمان والعبادة والمعاملات والآداب والأخلاق، بصورة واضحة قابلةٍ للتحقيق والتطبيق بلا حرج ولا عنت، في توافقٍ تام وانسجامٍ كاملٍ مع الفطرةً والعقل، مع الإيمان الكامل بكل من سبق من الأنبياء والرسل.
وذلك مما يشهد لعالمية هذا الدين، وعالمية سيرة صاحبه صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمّ فإن سائر الأمم مطالبة بالإيمان به، والاقتداء بسيرته، والاهتداء بهداه.
والله ولي كل توفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

إنتهى

عن موقع على بصيرة

الهوامش
([1]) أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية، ص 146 (362)، وغيره.

([2]) انظر: سيرة ابن هشام 2/412.

([3]) أخرجه الترمذي، وقال حسن غريب، في كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النحل، 5/279 (3129)، وأحمد (21279).

([4]) أخرجه الطبراني في الكبير 17/56 (117) عن عروة مرسلا وحسّن الهيثمي في المجمع 8/286 إسناده

([5]) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب: وأنذر عشيرتك الأقربين 8/501(4770).

([6]) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة 6/109(2941).

([7]) أخرجه البخاري عن أنس في كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء 13/403(7420)، ومسلم عن عائشة في كتاب الإيمان بَاب مَعْنَى قَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى }(1/160(177).

([8]) القصة عن عائشة عند الترمذي في كتاب التفسير، سورة عبس 5/402(3331).

([9]) الحديث عن علي أخرجه البيهقى في الدلائل 2/33- 34 بإسناد حسن، وصححه ابن حبان 14/169- 170 (6272)، والحاكم 4/245 على شرط مسلم، ووافقه الذهبى.

([10]) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب: في كراهية المراء 4/260 (4836).

([11]) أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب: ما جاء في التسمية على الطعام 9/521 (5376)، ومسلم في كتاب: الأشربة، باب آداب الطعام والشراب 3/1599(2022).

([12]) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، بَاب رَحْمَةِ الْوَلَدِ وَتَقْبِيلِهِ وَمُعَانَقَتِهِ 10/426 (5997)

([13]) أخرجه البخاري في كتاب المساقاة، بَاب شِرْبِ الْأَعْلَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ5/39 (2362) ومواضع أخرى، ومسلم في كتاب الفضائل بَاب وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ صلى الله عليه وسلم 4/1830 (2357).

([14]) أخرجه مالك مرسلا في كتاب المساقاة، ما جاء في المساقاةص703. وأخرجه أحمد موصولا بسند حسن عن جابر (14953).

([15]) أخرجه الترمذي في كِتَاب صِفَةِ الْجَنَّةِ، بَاب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ 4/590 (2548).

([16]) أخرجه البخاري عن ابن مسعود في كِتَاب الأدب، بَاب عَلَامَةِ حُبِّ الله عَزَّ وَجَلَّ10/577 (6169).

([17]) أخرجه مسلم في كِتَاب البر والصلة والآداب، بَاب الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ 4 /2032 (2639).
 
عودة
أعلى