وضع القرآن القواعد الأساسية لحقوق النصارى، وقد جاء تطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم العملي لها بمنزلة البيان والتوضيح؛ لكي لا يبقى مجال لاجتهادٍ متشدِّدٍ يُسيءُ إلى النصارى.
وقد كان الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم وأرضاهم- من أكثر المسلمين قُربًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم(الذي جاء رحمة للعالمين ورحمته شملت الانسان مهما كان وكذا الحيوان) لذا كانوا من أكثر الناس تمسُّكًا بحقوق النصارى، وهم الذين واجهوا التطورات الجديدة في الحياة اليومية باجتهاداتٍ جريئةٍ، تصبُّ كُلُّها في مصلحة الذميين.
ويتميَّز عصر الخلفاء الراشدين بأنَّه أفضل فترات التاريخ الإسلامي بعد عصر النبوة؛ حيث تولَّى الحُكم كبار الصحابة المقرَّبون من النبي صلى الله عليه وسلم مِمَّن شَهِدَ لهم بالسابقة والفضل، والبشارة بدخول الجنة، يعاونهم في إدارة البلاد أعدادٌ من الصحابة العدول، والذين مثَّلوا النخبة في مجالات الفكر، والسياسة، والإدارة، والاقتصاد، والقيادة العسكرية.
وقد شهد عصر الراشدين عدَّة متغيِّرات ومستجدَّات لم تكن موجودة في عصر النبوة، ومن هذه المستجدات حركة الفتوح الإسلامية التي بدأها الخليفة الأول أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في أُخريات حكمه، ثم واصلها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم مَنْ جاء بعدهما، وترتَّب على ذلك أن حَكَمَ المسلمون أقطارًا عديدة بعد فتحها، منها: الشام، والعراق، ومصر، وغيرها من المناطق؛ ومن ثَمَّ بدأ احتكاك المسلمين بسكان المناطق المفتوحة، ومنهم النصارى[1].
ولقد كان من أُولَيَات الوصايا التي تكَلَّم بها الصِّدِّيق -رضي الله عنه- في أول فترة خلافته هي وصيته إلى الجيش الإسلامي المتَّجه لفتح بلاد الشام، وفي هذه الوصية يُعلن الصديق -رضي الله عنه- أن منهجه الأخلاقي مع غير المسلمين -وإن كانوا محاربين- سيسير على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الصديق رضي الله عنه: "يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشرٍ فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فَرَّغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له"[2].
وقد جسَّد ذلك ما ذكره ابن عساكر في سيرة ابن فاتك الذي شهد فتح دمشق، من أنه تولَّى قسمة الأماكن بين أهلها بعد الفتح، فكان يترك الرومي في العُلُوِّ، ويترك المسلم في أسفل؛ لئلاَّ يضُرَّ بالذمي[3].
وها هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يمرُّ ذات يوم ببابِ قومٍ وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عَضُدَه من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟! قال: أسأل الجزية والحاجة والسِّنَّ.
فأخذ عمر -رضي الله عنه- بيده، وذهب به إلى منزله؛ فرضخ له بشيء مما في منزله، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه، أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرَم؛ { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...(60)}(التوبة). والفقراء: هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية، وعن ضُرَبائِه[4].
وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هذا هو الذي وصف جوستاف لوبون دخوله القدس، وتسامحه مع النصارى فقال: "ويُثبت لنا سلوك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مدينة القدس، مقدار الرفق العظيم الذي كان يُعامل به العربُ الفاتحون الأمم المغلوبة -والذي ناقضه ما اقترفه الصليبيون في القدس بعد بضعة قرون مناقضةً تامَّة- فلم يُرِد عمر أن يُدخِل مدينة القدس ومعه غير عددٍ قليلٍ من أصحابه، وطلب من البطريرك صفرونيوس أن يُرافقه في زيارته لجميع الأماكن المقدسة، وأعطى الأهلين الأمان، وقطع لهم عهدًا باحترام كنائسهم وأموالهم، وبتحريم العبادة على المسلمين في بِيَعِهِم".
فماذا فعل الصليبيون النصارى الكاثوليك بعد ذلك بقرون؟
كانت بداية المأساة المفجعة يوم حطت أولى الحملات الصليبية جحافلها الباغية في تراب الطهر والعفة سنة 1099 ميلادية – 492 هجرية,متبرقعة بثوب الدين والمقدسات,غير آبهة ولا مشفقة على العربي أيا كان معتقده,لإعتبارهم أن مسيحيي الشرق والمسلمين شركاء في (الكفر والهمجية),طقوسهم الهرطقة والجحود,لدرجة أن بطريريك القدس فر الى مصر ليعيش في حماية الفاطميين ومن معه,عوضا عن منعهم الأقباط من الحج,وفرضهم على المسيحيين الأرثوذكس ضريبة العشر,بعد أن جردوهم من كنائسهم وحلوا مكانها الكنائس اللاتينية.هذا حالهم مع المسيحيين,فكيف إذن مع المسلمين؟.
لعل أكثر ما يفزع هو ما رواه غوستاف ليبون في كتابه (الحضارة العربية),أن الصليبيين ذبحوا في بيت المقدس وحده ما يزيد عن ستين ألفا,وقبله ابن الأثير ذكر انه (لبث الإفرنجة في المدينة اسبوعا يقتلون المسلمين,حتى أنهم قتلوا في المسجد ما يزيد عن سبعين ألفا),وسجل مجير الدين الحنبلي في كتابه (الأنس الجليل في تاريخ القدس و الخليل),أن الصليبيين أنذروا من تبقى من المسلمين وحاصروهم في الحرم الشريف مدة ثلاثة أيام للخروج من المدينة,وجمعوا من اليهود من طالته أيديهم في الكنيسة وأحرقوها عليهم,وهذا ما جاء في (تاريخ دمشق) للقلانسي,وفي (النجوم الزاهرة) لإبن تغري بردى.
نعود لليبون,نقلا عن الرهبان والمؤرخين الذين تابعوا وحضروا الحملات الصليبية,تحديدا الحملة على القدس,وكانوا شهودا على المذبحة,على لسان الراهب روبرت),واصفا ما حدث في بيت المقدس...,( كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل,كاللبؤات التي خطفت صغـارها,كانوا يذبحـون الأولاد والشباب,ويقطعونهم إربا إربا,ويشنقون أناسا كثيرين بحبل واحد بغيـة السرعة,وكان قومنا يقبضـون كل شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعا ذهبية,فيا للشره وحب الذهب,كانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث).
وتحدث الكاهن ( ريموند أجيل) مفاخرا...
(حدث ما هو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسوار القـدس وبروجها,فقـد قطعت رؤوس بعضهم,كان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم,وبقرت بطون بعضهم,فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار,وحرق بعضهم في النـار,فكان ذلك بعد عذاب طويل,وكـان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم,فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم,ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا.
ثم وصف مذبحة مسجد عمر رضي الله عنه قائلا...
(لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في- هيكل سليمان-,وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك,وكانت الأيدي المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها.ثم عقد الفرسان الأتقياء مؤتمرا أقروا فيه إبادة سكان القدس,فأفنوهم في ثمانية أيام,ولم يتركوا شيخا ولا امرأة ولا ولدا).
ويذكر ستيفن رنسيمان صاحب كتاب ( تاريخ الحروب الصليبية)...
(وفي الصباح الباكر من اليوم التالي اقتحم باب المسجد ثلة من الصليبيين,فأجهزت على جميع اللاجئين اليه,وحينما توجه قائد القوة,ريموند أجيل,في الضحى لزيارة ساحة المعبد أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه,وتركت مذبحة بيت المقدس أثرا عميقا في جميع العالم,وليس معروفا بالضبط عدد ضحاياها,غير أنها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود,بل إن كثيرا من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث).
هذه صورة وجيزة عما حدث حينها,وقد أجمعت كتب التاريخ على أن الصليبيين كانوا يتباهون بغوص خيولهم في دماء المسلمين,وشويهم للأطفال والتمثيل بالرضع (وهذا ما يحدث اليوم),مغتصبين ومدمرين كل ما طالته أيديهم الآثمة.
والسؤال هو هل فعل المسلمون مثل هذا مع النصارى من قبل ليكافئوا بهذه الهمجية والقسوة التى لا يوصف بها الا الغيلان والمسوخ والتي لا تقدر عليها حتى اقسى الحيوانات المفترسة
لقد فتح سيدنا عمر بن الخطاب القدس صلحا وبدون ان تسيل قطرة دم واحدة والعهدة العمرية مشهورة لمن اراد قرائتها ولم يحدث في تاريخ البشرية ان حدث ان اصحاب دين يقاتلون من اجله قد تسامحوا الى هذه الدرجة مع اصحاب الديانات الاخرى ولا يرد هذا القول ولا يرمي الاسلام بالعنف والهمجية الا من اعمى الحقد والغيظ قلبه واستولت نار الحسد المستمدة من الشيطان عليه
وفي فجر الثاني من تشرين الأول / اكتوبر سنة 1187,الموافق 27 من رجب سنة 583 هجرية,أشرقت الأرض المقدسة بنور ربها وتنفس التراب الطاهر الصعداء,دخلت الجيوش الاسلامية قاطعة دابر الذين ظلموا واعتدوا,وربت ارض الرباط واهتزت,بغيث الرحمة ونسيم الحرية وجلاء الرجس عن ارض الأنبياء,وهنا وقف التاريخ إحتراما وإجلالا ساعة عطر المسلمين صفحاته بالياسمين,حين شهد كيف عاملوا تحت قيادة صلاح الدين الغزاة بعد الهزيمة.
ومما ذكر أن الناصر صلاح الدين ضرب على الرجال من الصليبيين مبلغ عشرة دنانير لقاء إخلاء سبيلهم وخروجهم من المدينة,خمسة للمرأة,ديناران للطفل,معفيا المعووز والشيخ والعاجز,سامحا لهم بحمل كل ما كنزوه من ثروة وأموال المسلمين سلبا وبطشا,ممهلهم مدة 40 يوما,حتى يتسنى لهم ترتيب أمورهم بروية,ثم تعهد بتأمين نساء الملوك والأمراء وحاشيتهم الى مقصدهم في مدينة صور على الشاطئ اللبناني,مرسلا سرايا من الجيش الإسلامي معهم خوفا من السلب وقطاع الطرق والانتقام,بل إن المؤرخين ذكروا بدهشة وتفخيم قوافل الكنوز التي حملها معه بطريريك القدس الأكبر حينها,وقد أثارت انتباه الجنود مطالبين الفاتح صلاح الدين بالإستيلاء عليها,فرفض قائلا اننا قوم لا نغدر ولا ننكث,ولم يتعرض لنصارى القدس ولا لكنائسهم,وها هي شاهدة الى اليوم على عدل العرب وحضارتهم المجيدة,بل سير الدوريات بكرة وعشيا,لتحميهم من اي ردة فعل ممكنة,ثم صرف للأرامل واليتامى من الصليبيين ما صرفه للمسلمين,وسمح بعد ثلاثة أيام للإفرنجة بالحج الى بيت المقدس بلا وجل ولا حرج,كذلك الأمر مع اليهود,وقد بعث يهود القدس بكتاب الى يهود العالم يخبرونهم عما آلت اليه أوضاعهم بعد الفتح الصلاحي كما نقل المؤرخ بن زيون دينور..(لقد رفع الله روح ملك الإسماعيليين,في سنة أربعة آلاف وتسعمائة وخمسة من الخلق (وفق التأريخ العبري),لتنزل فيه روح الحكمة والشجاعة,وهكذا جاء هو وجيشه من مصر,وحاصروا أورشليم,فسلمهم الله المدينة بين أيديهم,وأمر الملك أن ينادى بصوت عال في المدينة للكبار والصغار,معلما أهل القدس أن أي واحد يرغب من أبناء أفرايم,من الذين بقوا بعد المنفى الأشوري,والذين توزعوا في أنحاء الأرض,يمكنهم العودة إلى المدينة).
"ولم يكن سلوك عمرو بن العاص بمصر أقل رفقًا من ذلك؛ فقد عرض على المصريين حرية دينية تامَّة، وعدلاً مطلقًا، واحترامًا للأموال، وجزية سنوية ثابتة لا تزيد عن خمسة عشر فرنكًا عن كل رأس، بدلاً من ضرائب قياصرة الروم الباهظة؛ فرضي المصريون طائعين شاكرين بهذه الشروط"[5].
والواقع أن مصر عاشت قبل ذلك فترة حالكة السواد على يد المستعمرين البيزنطيين، والذين اعتبروا مصر البقرة الحلوب التي تُدِرُّ خيراتها إلى خزانة الدولة البيزنطية، وعانى سكانها المشقَّة والعنت في شتى مجالات الحياة.
ومما عاناه المصريون الخلافُ الحادُّ بين الكنيسة المصرية والكنيسة البيزنطية، واتخاذ المقوقس حاكم مصر كل الوسائل لصرف المصريين عن عقيدتهم، وقاسى المصريون جميع أنواع الشدائد(منها الحرق والشوي والإغراق في النيل سواء للرجال والنساء والاطفال) حتى تحوَّل كثير ممن لم يستطيعوا الهرب إلى المذهب البيزنطي، ومنهم بعض الأساقفة، وصمد كثيرون، ومن بينهم الأب مينا أخو البطرك بنيامين، أما البطرك بنيامين فقد هرب من بطش المقوقس، وظلَّ هاربًا حتى مجيء الفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه، وما إِنْ علم عمرو -رضي الله عنه- بقصته حتى أصدر له أمانًا، ونعم بالحرية والطمأنينة في ظلِّ الحكم الإسلامي هو وقومه من القبط .
وقد جاء العهد الذي أبرمه عمرو بن العاص -رضي الله عنه- مع أهل مصر، خير شاهد على حرص المسلمين على توفير كل سبل الحياة الكريمة للأقباط؛ فهم أحرار في عقيدتهم، وفي شعائرهم، وسائر شئون حياتهم.. وهذا هو نصُّ العهد:
"هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ومِلَّتِهم، وأموالِهِم، وكنائِسِهم، وصُلُبهم، وبَرِّهِم، وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك، ولا يُنتَقَص، ولا يساكنهم النُّوب (أي أهل النوبة)..."[7].
كما يشهد الواقع أن المسلمين عندما وطَّدوا أقدامهم في مصر أبقوا النظام الإداري كما كان عليه قبل الفتح الإسلامي، وأشركوا نصارى مصر في إدارة البلاد، في حين حُرِّمَ عليهم المشاركة في إدارة البلاد في العهود التي سبقت الفتح الإسلامي
لذلك,لم يقل غوستاف ليبون قوله المأثور عبثا,(لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب),فنحن لم نحرق ولم نقتل ولم نقيم معسكرات الموت الجماعي والإبادة العرقية,نحن ما قتلنا في الحرب العالمية الأولى 20 مليونا,ولا في الحرب العالمية الثانية 50 مليونا,نحن أصحاب تاريخ لم يعرف إلا الى الخير والطهارة والإستقامة والشرف سبيلا. واذا عادت الينا القوة مرة اخرى ( وهذا ما يخشاه الغرب ) فلن يرى منا العالم الا الخير والعدل والتسامح (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة واتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)
وقد كان الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم وأرضاهم- من أكثر المسلمين قُربًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم(الذي جاء رحمة للعالمين ورحمته شملت الانسان مهما كان وكذا الحيوان) لذا كانوا من أكثر الناس تمسُّكًا بحقوق النصارى، وهم الذين واجهوا التطورات الجديدة في الحياة اليومية باجتهاداتٍ جريئةٍ، تصبُّ كُلُّها في مصلحة الذميين.
ويتميَّز عصر الخلفاء الراشدين بأنَّه أفضل فترات التاريخ الإسلامي بعد عصر النبوة؛ حيث تولَّى الحُكم كبار الصحابة المقرَّبون من النبي صلى الله عليه وسلم مِمَّن شَهِدَ لهم بالسابقة والفضل، والبشارة بدخول الجنة، يعاونهم في إدارة البلاد أعدادٌ من الصحابة العدول، والذين مثَّلوا النخبة في مجالات الفكر، والسياسة، والإدارة، والاقتصاد، والقيادة العسكرية.
وقد شهد عصر الراشدين عدَّة متغيِّرات ومستجدَّات لم تكن موجودة في عصر النبوة، ومن هذه المستجدات حركة الفتوح الإسلامية التي بدأها الخليفة الأول أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في أُخريات حكمه، ثم واصلها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم مَنْ جاء بعدهما، وترتَّب على ذلك أن حَكَمَ المسلمون أقطارًا عديدة بعد فتحها، منها: الشام، والعراق، ومصر، وغيرها من المناطق؛ ومن ثَمَّ بدأ احتكاك المسلمين بسكان المناطق المفتوحة، ومنهم النصارى[1].
ولقد كان من أُولَيَات الوصايا التي تكَلَّم بها الصِّدِّيق -رضي الله عنه- في أول فترة خلافته هي وصيته إلى الجيش الإسلامي المتَّجه لفتح بلاد الشام، وفي هذه الوصية يُعلن الصديق -رضي الله عنه- أن منهجه الأخلاقي مع غير المسلمين -وإن كانوا محاربين- سيسير على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الصديق رضي الله عنه: "يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشرٍ فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فَرَّغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له"[2].
وقد جسَّد ذلك ما ذكره ابن عساكر في سيرة ابن فاتك الذي شهد فتح دمشق، من أنه تولَّى قسمة الأماكن بين أهلها بعد الفتح، فكان يترك الرومي في العُلُوِّ، ويترك المسلم في أسفل؛ لئلاَّ يضُرَّ بالذمي[3].
وها هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يمرُّ ذات يوم ببابِ قومٍ وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عَضُدَه من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟! قال: أسأل الجزية والحاجة والسِّنَّ.
فأخذ عمر -رضي الله عنه- بيده، وذهب به إلى منزله؛ فرضخ له بشيء مما في منزله، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه، أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرَم؛ { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...(60)}(التوبة). والفقراء: هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية، وعن ضُرَبائِه[4].
وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هذا هو الذي وصف جوستاف لوبون دخوله القدس، وتسامحه مع النصارى فقال: "ويُثبت لنا سلوك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مدينة القدس، مقدار الرفق العظيم الذي كان يُعامل به العربُ الفاتحون الأمم المغلوبة -والذي ناقضه ما اقترفه الصليبيون في القدس بعد بضعة قرون مناقضةً تامَّة- فلم يُرِد عمر أن يُدخِل مدينة القدس ومعه غير عددٍ قليلٍ من أصحابه، وطلب من البطريرك صفرونيوس أن يُرافقه في زيارته لجميع الأماكن المقدسة، وأعطى الأهلين الأمان، وقطع لهم عهدًا باحترام كنائسهم وأموالهم، وبتحريم العبادة على المسلمين في بِيَعِهِم".
فماذا فعل الصليبيون النصارى الكاثوليك بعد ذلك بقرون؟
كانت بداية المأساة المفجعة يوم حطت أولى الحملات الصليبية جحافلها الباغية في تراب الطهر والعفة سنة 1099 ميلادية – 492 هجرية,متبرقعة بثوب الدين والمقدسات,غير آبهة ولا مشفقة على العربي أيا كان معتقده,لإعتبارهم أن مسيحيي الشرق والمسلمين شركاء في (الكفر والهمجية),طقوسهم الهرطقة والجحود,لدرجة أن بطريريك القدس فر الى مصر ليعيش في حماية الفاطميين ومن معه,عوضا عن منعهم الأقباط من الحج,وفرضهم على المسيحيين الأرثوذكس ضريبة العشر,بعد أن جردوهم من كنائسهم وحلوا مكانها الكنائس اللاتينية.هذا حالهم مع المسيحيين,فكيف إذن مع المسلمين؟.
لعل أكثر ما يفزع هو ما رواه غوستاف ليبون في كتابه (الحضارة العربية),أن الصليبيين ذبحوا في بيت المقدس وحده ما يزيد عن ستين ألفا,وقبله ابن الأثير ذكر انه (لبث الإفرنجة في المدينة اسبوعا يقتلون المسلمين,حتى أنهم قتلوا في المسجد ما يزيد عن سبعين ألفا),وسجل مجير الدين الحنبلي في كتابه (الأنس الجليل في تاريخ القدس و الخليل),أن الصليبيين أنذروا من تبقى من المسلمين وحاصروهم في الحرم الشريف مدة ثلاثة أيام للخروج من المدينة,وجمعوا من اليهود من طالته أيديهم في الكنيسة وأحرقوها عليهم,وهذا ما جاء في (تاريخ دمشق) للقلانسي,وفي (النجوم الزاهرة) لإبن تغري بردى.
نعود لليبون,نقلا عن الرهبان والمؤرخين الذين تابعوا وحضروا الحملات الصليبية,تحديدا الحملة على القدس,وكانوا شهودا على المذبحة,على لسان الراهب روبرت),واصفا ما حدث في بيت المقدس...,( كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل,كاللبؤات التي خطفت صغـارها,كانوا يذبحـون الأولاد والشباب,ويقطعونهم إربا إربا,ويشنقون أناسا كثيرين بحبل واحد بغيـة السرعة,وكان قومنا يقبضـون كل شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعا ذهبية,فيا للشره وحب الذهب,كانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث).
وتحدث الكاهن ( ريموند أجيل) مفاخرا...
(حدث ما هو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسوار القـدس وبروجها,فقـد قطعت رؤوس بعضهم,كان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم,وبقرت بطون بعضهم,فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار,وحرق بعضهم في النـار,فكان ذلك بعد عذاب طويل,وكـان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم,فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم,ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا.
ثم وصف مذبحة مسجد عمر رضي الله عنه قائلا...
(لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في- هيكل سليمان-,وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك,وكانت الأيدي المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها.ثم عقد الفرسان الأتقياء مؤتمرا أقروا فيه إبادة سكان القدس,فأفنوهم في ثمانية أيام,ولم يتركوا شيخا ولا امرأة ولا ولدا).
ويذكر ستيفن رنسيمان صاحب كتاب ( تاريخ الحروب الصليبية)...
(وفي الصباح الباكر من اليوم التالي اقتحم باب المسجد ثلة من الصليبيين,فأجهزت على جميع اللاجئين اليه,وحينما توجه قائد القوة,ريموند أجيل,في الضحى لزيارة ساحة المعبد أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه,وتركت مذبحة بيت المقدس أثرا عميقا في جميع العالم,وليس معروفا بالضبط عدد ضحاياها,غير أنها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود,بل إن كثيرا من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث).
هذه صورة وجيزة عما حدث حينها,وقد أجمعت كتب التاريخ على أن الصليبيين كانوا يتباهون بغوص خيولهم في دماء المسلمين,وشويهم للأطفال والتمثيل بالرضع (وهذا ما يحدث اليوم),مغتصبين ومدمرين كل ما طالته أيديهم الآثمة.
والسؤال هو هل فعل المسلمون مثل هذا مع النصارى من قبل ليكافئوا بهذه الهمجية والقسوة التى لا يوصف بها الا الغيلان والمسوخ والتي لا تقدر عليها حتى اقسى الحيوانات المفترسة
لقد فتح سيدنا عمر بن الخطاب القدس صلحا وبدون ان تسيل قطرة دم واحدة والعهدة العمرية مشهورة لمن اراد قرائتها ولم يحدث في تاريخ البشرية ان حدث ان اصحاب دين يقاتلون من اجله قد تسامحوا الى هذه الدرجة مع اصحاب الديانات الاخرى ولا يرد هذا القول ولا يرمي الاسلام بالعنف والهمجية الا من اعمى الحقد والغيظ قلبه واستولت نار الحسد المستمدة من الشيطان عليه
وفي فجر الثاني من تشرين الأول / اكتوبر سنة 1187,الموافق 27 من رجب سنة 583 هجرية,أشرقت الأرض المقدسة بنور ربها وتنفس التراب الطاهر الصعداء,دخلت الجيوش الاسلامية قاطعة دابر الذين ظلموا واعتدوا,وربت ارض الرباط واهتزت,بغيث الرحمة ونسيم الحرية وجلاء الرجس عن ارض الأنبياء,وهنا وقف التاريخ إحتراما وإجلالا ساعة عطر المسلمين صفحاته بالياسمين,حين شهد كيف عاملوا تحت قيادة صلاح الدين الغزاة بعد الهزيمة.
ومما ذكر أن الناصر صلاح الدين ضرب على الرجال من الصليبيين مبلغ عشرة دنانير لقاء إخلاء سبيلهم وخروجهم من المدينة,خمسة للمرأة,ديناران للطفل,معفيا المعووز والشيخ والعاجز,سامحا لهم بحمل كل ما كنزوه من ثروة وأموال المسلمين سلبا وبطشا,ممهلهم مدة 40 يوما,حتى يتسنى لهم ترتيب أمورهم بروية,ثم تعهد بتأمين نساء الملوك والأمراء وحاشيتهم الى مقصدهم في مدينة صور على الشاطئ اللبناني,مرسلا سرايا من الجيش الإسلامي معهم خوفا من السلب وقطاع الطرق والانتقام,بل إن المؤرخين ذكروا بدهشة وتفخيم قوافل الكنوز التي حملها معه بطريريك القدس الأكبر حينها,وقد أثارت انتباه الجنود مطالبين الفاتح صلاح الدين بالإستيلاء عليها,فرفض قائلا اننا قوم لا نغدر ولا ننكث,ولم يتعرض لنصارى القدس ولا لكنائسهم,وها هي شاهدة الى اليوم على عدل العرب وحضارتهم المجيدة,بل سير الدوريات بكرة وعشيا,لتحميهم من اي ردة فعل ممكنة,ثم صرف للأرامل واليتامى من الصليبيين ما صرفه للمسلمين,وسمح بعد ثلاثة أيام للإفرنجة بالحج الى بيت المقدس بلا وجل ولا حرج,كذلك الأمر مع اليهود,وقد بعث يهود القدس بكتاب الى يهود العالم يخبرونهم عما آلت اليه أوضاعهم بعد الفتح الصلاحي كما نقل المؤرخ بن زيون دينور..(لقد رفع الله روح ملك الإسماعيليين,في سنة أربعة آلاف وتسعمائة وخمسة من الخلق (وفق التأريخ العبري),لتنزل فيه روح الحكمة والشجاعة,وهكذا جاء هو وجيشه من مصر,وحاصروا أورشليم,فسلمهم الله المدينة بين أيديهم,وأمر الملك أن ينادى بصوت عال في المدينة للكبار والصغار,معلما أهل القدس أن أي واحد يرغب من أبناء أفرايم,من الذين بقوا بعد المنفى الأشوري,والذين توزعوا في أنحاء الأرض,يمكنهم العودة إلى المدينة).
"ولم يكن سلوك عمرو بن العاص بمصر أقل رفقًا من ذلك؛ فقد عرض على المصريين حرية دينية تامَّة، وعدلاً مطلقًا، واحترامًا للأموال، وجزية سنوية ثابتة لا تزيد عن خمسة عشر فرنكًا عن كل رأس، بدلاً من ضرائب قياصرة الروم الباهظة؛ فرضي المصريون طائعين شاكرين بهذه الشروط"[5].
والواقع أن مصر عاشت قبل ذلك فترة حالكة السواد على يد المستعمرين البيزنطيين، والذين اعتبروا مصر البقرة الحلوب التي تُدِرُّ خيراتها إلى خزانة الدولة البيزنطية، وعانى سكانها المشقَّة والعنت في شتى مجالات الحياة.
ومما عاناه المصريون الخلافُ الحادُّ بين الكنيسة المصرية والكنيسة البيزنطية، واتخاذ المقوقس حاكم مصر كل الوسائل لصرف المصريين عن عقيدتهم، وقاسى المصريون جميع أنواع الشدائد(منها الحرق والشوي والإغراق في النيل سواء للرجال والنساء والاطفال) حتى تحوَّل كثير ممن لم يستطيعوا الهرب إلى المذهب البيزنطي، ومنهم بعض الأساقفة، وصمد كثيرون، ومن بينهم الأب مينا أخو البطرك بنيامين، أما البطرك بنيامين فقد هرب من بطش المقوقس، وظلَّ هاربًا حتى مجيء الفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه، وما إِنْ علم عمرو -رضي الله عنه- بقصته حتى أصدر له أمانًا، ونعم بالحرية والطمأنينة في ظلِّ الحكم الإسلامي هو وقومه من القبط .
وقد جاء العهد الذي أبرمه عمرو بن العاص -رضي الله عنه- مع أهل مصر، خير شاهد على حرص المسلمين على توفير كل سبل الحياة الكريمة للأقباط؛ فهم أحرار في عقيدتهم، وفي شعائرهم، وسائر شئون حياتهم.. وهذا هو نصُّ العهد:
"هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ومِلَّتِهم، وأموالِهِم، وكنائِسِهم، وصُلُبهم، وبَرِّهِم، وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك، ولا يُنتَقَص، ولا يساكنهم النُّوب (أي أهل النوبة)..."[7].
كما يشهد الواقع أن المسلمين عندما وطَّدوا أقدامهم في مصر أبقوا النظام الإداري كما كان عليه قبل الفتح الإسلامي، وأشركوا نصارى مصر في إدارة البلاد، في حين حُرِّمَ عليهم المشاركة في إدارة البلاد في العهود التي سبقت الفتح الإسلامي
لذلك,لم يقل غوستاف ليبون قوله المأثور عبثا,(لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب),فنحن لم نحرق ولم نقتل ولم نقيم معسكرات الموت الجماعي والإبادة العرقية,نحن ما قتلنا في الحرب العالمية الأولى 20 مليونا,ولا في الحرب العالمية الثانية 50 مليونا,نحن أصحاب تاريخ لم يعرف إلا الى الخير والطهارة والإستقامة والشرف سبيلا. واذا عادت الينا القوة مرة اخرى ( وهذا ما يخشاه الغرب ) فلن يرى منا العالم الا الخير والعدل والتسامح (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة واتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)