أجمعت جُلّ الكتب المهتمة بتاريخ الأندلس على الصورة المأساوية التي عاشها الموريسكيون، وهم العرب المتنصرون من بقايا الأمة الأندلسية المغلوبة الذين عاشوا تحت الحكم الإسباني بعد إرغامهم على التنصير زهاء قرن من الزمن، منذ سقطت غرناطة حتى أصدر الملك فيليبي الثالث في عام 1609م قرارًا بطردهم من إسبانبا، بعد أن يئست المحاولات المتعددة والمتعاقبة من تحويلهم عن دينهم واعتناق المسيحية ولكن دون جدوى، فاضطروا إلى مغادرة أراضيهم؛ إذ منحوا مهلة قصيرة فازدحمت الطرقات بهم واشتدَّ الإقبال على البواخر المنطلقة من السواحل الإسبانية نحو شمال إفريقيا وغيرها.
"وقد استقر هؤلاء في أنحاء مختلفة من إسبانيا والبرتغال والمغرب وتونس وفرنسا، بل وصل بعضهم إلى القارة الأمريكية".
ويرى د. الحسين بوزينب أن الموريسكي طرف إسباني انصهر فيه العنصر المغربي العربي بالعنصر الأوربي، ولذلك ليس في استطاعتنا اليوم أن نأتي بالبرهان القاطع على صفاء دم الإسبانيين الذين لم يشملهم قرار الطرد 1609م من العنصر المغربي العربي، كما لا نستطيع أن نبين صفاء دم من طردوا من العنصر الإيبيري. ومع هذا فإن بعض المؤرخين يغالطون حينما يقدمون الموريسكيين وكأنهم شعب عربي بقي في إسبانيا، لكن مفاهيم القرون الوسطى لم تكن تسمح بالتصرف بغير الطريقة التي تم سلوكها. وعلى أي حال، فإن المسلمين وهم الأغلبية واليهود هم الأقلية طُردوا من بلادهم وكأنهم أجانب.
وكان الفوج المطرود سنة 1609م هو الخامس حيث سبقه الفوج الأول سنة 1483م، والثاني سنة 1493م، والثالث سنة 1502م، والرابع سنة 1571م، والتاريخ يشهد على أن البشرية لم تعرف مأساة تماثل "مأساة الأندلس" التي تكبدها شعب مسلم كان يوجد في وطنه الأصلي، عمّره أسلافه لمدة 898 سنة، وكانوا يعتبرون أنفسهم من نبت الأندلس، وبالتالي فهم أصحابها الشرعيون. غير أن أزِمَّة الأمور قد فلتت من أيديهم، ولم تعد لهم قوة لاسترجاع ما ضاع.
وكان الملكان الإسبانيان قد تعهدا لمسلمي غرناطة بشروط وهي:
1- يمنح الملكان الكاثوليكيان الضمانة الكافية للمسلمين على أملاكهم وثرواتهم، وأن يبيعوا ويبتاعوا ويتبادلوا ويتجروا مع إفريقيا بدون أن يدفعوا ضرائب، أو الواجبات المفروضة عليهم من قبل القانون الإسلامي.
2- إن الملكين الكاثوليكيين باسمهما وباسم خلفهما مجبوران على احترام العادات الإسلامية على الدوام بترك مساجدهم وعدم منعهم من الأذان ومن الصلاة ومن تحبيس أملاكهم على مساجدهم لإقامة الشعائر الإسلامية، والحكم يبقى مستمرًّا بين المسلمين على يد قضاة مسلمين، حسب قوانينهم وعوائدهم الاجتماعية والمدنية من إرث وزواج كما كانت من قبل.
3- لا يتابع ولا يعاقب ولا يسب ولا يهان أو يتعرض بسوء لمن خالفوا القوانين وحاربوا ضد النصارى من قبلُ، أو كان له موقف معادٍ لهم.
4- يسمح للفقهاء بالاستمرار في التعليم بالمدارس العامة ويتقاضون مرتباتهم والصدقات والتبرعات المخصصة لهم من الأحباس لهذا الغرض.
5- أي مشكلة تحدث بين مسلم ونصراني ترفع لقضاة يحكمون فيها من الجانبين (قضاة مسلمون ونصارى)، وكل الموظفين أو المستخدمين المسلمين يستمرون في عملهم.
ولكن هل التزم الملوك الإسبان بما تعاهدوا عليه؟
لقد نقضوا العهد بعد ذلك، فكان الاضطهاد تلته حملة الإبادة والتهجير، واتخذت سمة الاستماتة والعنف داعية إلى وجوب إبادة المسلمين وإخراجهم من الأندلس مهما كلف الثمن.
ويصف المقري في كتابه "أزهار الرياض" وصفًا مؤثرًا ومؤلمًا لما حلَّ بالإسلام والمسلمين من طرف القساوسة الطغاة:
"فلو رأيتم ما صنع الكفر بالإسلام بالأندلس وأهليه، لكان كل مسلم يندبه ويبكيه، فقد عبث البلاء برسومه وعفى على أقماره ونجومه، ولو حضرتم من جبر بالقتل على الإسلام وتوعد بالنكال والمهالك العظام، ومن كان يعذب في الله بأنواع العذاب، ويدخل به من الشدة في باب ويخرج من باب، لأنساكم مصرعه، وساءكم مفظعه، وسيوف النصارى إذ ذاك على رءوس الشرذمة القليلة من المسلمين مسلولة، وأفواه الذاهلين محلولة، وهم يقولون: ليس لأحد بالتنصير أن يمطل، ولا يلبث حينًا ولا يمهل، وهم يكابدون تلك الأهوال ويطلبون لطف الله في كل حال".
وقد صرح أحد الموريسكيين: "لقد كنا مضطرين أن نُظهِر لهم ما كانوا يرغبون فيه منا، وعكس ذلك، فإنهم يسوقوننا إلى محاكم دواوين التفتيش بسبب اتباعنا الحقيقة، لقد حرمونا من الحياة والأملاك والأبناء، وزجوا بنا في سجون مظلمة لأتفه الأسباب. ونظرًا لأفكارهم السيئة أيضًا، فإنهم يبقوننا سنين عديدة، في الوقت الذي يستولون فيه على أملاكنا التي صادروها، ويستغلوننا، ثم يقولون: إن ذلك الفعل مبرر، وعلى ضوء ذلك فإنهم يخفون أفكارهم السيئة وسريرتهم المظلمة، أما أطفالنا فإنهم عندما يكبرون يافعين يربونهم على منوالهم ويصبحون مرتدين، أما إذا كبروا فإنهم يسعون إلى الهرب، إضافةً إلى ذلك فإن حكام دواوين التفتيش يفتشون عن كل الوسائل للقضاء نهائيًّا على هذه الأمة.
وأمام هذا التعنت وهذه المصادرة فقد وجد الموريسكيون في لغة "الألخميادو: AlJAMIADO" (وهي القشتالية المحرفة تكتب بحروف عربية) متنفسًا لتفكيرهم وآدابهم ولأدعيتهم وصلواتهم وكتبهم الدينية، وقد تركوا تراثًا أدبيًّا من النظم والنثر، وقد عثر على مجموعة من المخطوطات صدفة "في أكثر من مناسبة بعد إخفائها قديمًا في تجاويف جدران المنازل وبين السقوف وفي المغارات، وكذا في مخابئ أخرى، وهو أدب هجين تمتزج فيه العربية والإسبانية في شتى المستويات بشكل لا نظن أنه عرف قبل هذا بين اللغة العربية ولغات أخرى. وقد تمخض هذا المزيج عن نتاج معبر أيما تعبير، وممثل أيما تمثيل لكيان أصحابه ولهويتهم الثقافية، فهذه اللغة الموريسكية تعكس بوفاء كبير شخصية مجموعة إسبانية متميزة داخل الجزيرة الإيبيرية".
نتائج اضطهاد الموريسكيين !
وماذا كانت النتيجة إذن؟ إن إسبانيا لم تجن من هذه الاضطهادات المخزية إلا الضرر والتخلف عن مسايرة الركب الحضاري والثقافي والصناعي الذي عرفته أوربا.
ورغم كل المجهودات التي بذلتها الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية من أجل محو أي آثار للوجود الحضاري العربي والإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية، فإن سكان إسبانيا اليوم لا يجدون بدًّا من الإشارة إلى الحضارة العربية باعتبارها مرجعًا مهمًّا في حياتهم.
فقد عاش الرومان والقوط قرونًا في إسبانيا، فلا نجد في كتاباتهم شيئًا عن تميز لهذه البلاد بزراعة ولا فاكهة ولا خضرة أو تدبير للماء.
كما تجري على ألسنة الإسبانيين اليوم مئات الكلمات ذات الأصل العربي يستعملونها في مجالات حياتهم (الفلاحة، التجارة، الحرف، البناء والعمارة، المهن والوظائف، الملابس...).
وتجدر الإشارة إلى أن شخصية "الموريسكي" تسللت إلى الأدب الإسباني، فقد استلهم فيه الأدباء (شعراء وكتاب القصة والرواية والمسرحية) قصائدهم وقصصهم ورواياتهم ومسرحياتهم، وذلك في عصره الذهبي، وقد خصص د.حسن الوراكلي دراسة مهمة عن ملامح من صورة الموريسكي في الأدب المسرحي الإسباني.
خرج الموريسكيون من إسبانيا وتركوا فيها حضارة لا يمكن أن تموت، يجني منها الإسبانيون ملايين الدولارات عن طريق السياحة.
وبالنسبة لأولئك الذين اختاروا الإقامة في المغرب، فقد وجدوا فيه كل عناية وترحيب في كل مكان نزلوا به (تطوان، شفشاون، فاس، سلا، الرباط، وبعض بوادي شمال المغرب)، وقد استفيد من خبرتهم ومهاراتهم في سائر مرافق الحياة اليومية، سواء تعلق الأمر بالفلاحة والتجارة أو بالشئون الثقافية والعلمية. وقد حافظت تلك الجماعات على أسمائهم وألقابهم الأندلسية حتى اليوم، ومنهم من احتفظ بمفاتيح منازلهم التي حملها أجدادهم على سبيل الذكرى، نذكر منهم "الغرناطي، الراندي، وبيصة، وابن عبدون، وعذرون، وبرهون، والحضري، وبيرميجو، وهراندو، وقشتول، ومرينون، وقشتيلو، ولقاش، وبلانكو، وأندلسي، وطنانة، وبلامينو، والرندة، وكليطو، وبريطل، وجوريو، واشماعو، وكراكشو، وغيرهم".
وقد قام الباحث محمد بن عزوز حكيم بتوثيق الألقاب والأسماء التي كانت تتخذها أسر موريسكية نزلت بتطوان (شمال المغرب) وهي أسماء قشتالية أصلاً، أو هي قشتالية نطقًا، عربية أصلاً، أصبحت أسماء لأسر عربية مسلمة أريد لها أن تكون قشتالية.
وكان لاستقرار الأندلسيين في المغرب الأثر الكبير في ازدهار حركة العلوم والآداب والفنون والمعمار والصناعة.
أما عن مصير اليهود الإسبان الذين صدر في حقهم مرسوم الطرد من بلادهم التي عاشوا فيها قرونًا طويلة، فقد استطاعوا في السنوات الأخيرة وتحت ضغط إمبريالي صهيوني وإسلامي تشهيري أن ينتزعوا من الحكومة الإسبانية اعتذارًا رسميًّا وعلنيًّا عما صدر من حكم تسبب في طردهم من إسبانيا، دون الإشارة ولو بكلمة على الصعيد الرسمي الإسباني إلى ما لحق بالمسلمين، رغم أنهم كانوا أكثر عددًا من اليهود. وكان الباحث المغربي محمد بن عزوز حكيم قد وجه رسالة إلى الملك الإسباني خوان كارلوس 2/1/2002م أيده فيها المؤرخ الإنجليزي "مسترجيبس" يطلب فيها من التاج الإسباني بأن يعتذر للمسلمين، "ولكي يسجل التاريخ، وتعلم الأجيال اللاحقة فإننا لم ولن ننسى أبدًا (مأساة الأندلس)، فقد قمنا بواجبنا قدر الإمكان نحو الشعب المذكور، حيث طالبنا مرارًا وتكرارًا من التاج الإسباني بأن يعتذر للمسلمين على غرار ما قام به مرتين نحو اليهود السفردين".
وأخيرًا لنجعل من هذه الذكرى المئوية الرابعة مناسبة لقراءة تاريخنا من جديد، ولنأخذ العبر من الأحداث المهمة التي عاشها أجدادنا، ونقوِّمها بموضوعية علمية مجردة.
فهل نحن فاعلون؟ وهل يعتذر الإسبان للمسلمين ونحن نعيش عصرًا جديدًا؟
"وقد استقر هؤلاء في أنحاء مختلفة من إسبانيا والبرتغال والمغرب وتونس وفرنسا، بل وصل بعضهم إلى القارة الأمريكية".
ويرى د. الحسين بوزينب أن الموريسكي طرف إسباني انصهر فيه العنصر المغربي العربي بالعنصر الأوربي، ولذلك ليس في استطاعتنا اليوم أن نأتي بالبرهان القاطع على صفاء دم الإسبانيين الذين لم يشملهم قرار الطرد 1609م من العنصر المغربي العربي، كما لا نستطيع أن نبين صفاء دم من طردوا من العنصر الإيبيري. ومع هذا فإن بعض المؤرخين يغالطون حينما يقدمون الموريسكيين وكأنهم شعب عربي بقي في إسبانيا، لكن مفاهيم القرون الوسطى لم تكن تسمح بالتصرف بغير الطريقة التي تم سلوكها. وعلى أي حال، فإن المسلمين وهم الأغلبية واليهود هم الأقلية طُردوا من بلادهم وكأنهم أجانب.
وكان الفوج المطرود سنة 1609م هو الخامس حيث سبقه الفوج الأول سنة 1483م، والثاني سنة 1493م، والثالث سنة 1502م، والرابع سنة 1571م، والتاريخ يشهد على أن البشرية لم تعرف مأساة تماثل "مأساة الأندلس" التي تكبدها شعب مسلم كان يوجد في وطنه الأصلي، عمّره أسلافه لمدة 898 سنة، وكانوا يعتبرون أنفسهم من نبت الأندلس، وبالتالي فهم أصحابها الشرعيون. غير أن أزِمَّة الأمور قد فلتت من أيديهم، ولم تعد لهم قوة لاسترجاع ما ضاع.
وكان الملكان الإسبانيان قد تعهدا لمسلمي غرناطة بشروط وهي:
1- يمنح الملكان الكاثوليكيان الضمانة الكافية للمسلمين على أملاكهم وثرواتهم، وأن يبيعوا ويبتاعوا ويتبادلوا ويتجروا مع إفريقيا بدون أن يدفعوا ضرائب، أو الواجبات المفروضة عليهم من قبل القانون الإسلامي.
2- إن الملكين الكاثوليكيين باسمهما وباسم خلفهما مجبوران على احترام العادات الإسلامية على الدوام بترك مساجدهم وعدم منعهم من الأذان ومن الصلاة ومن تحبيس أملاكهم على مساجدهم لإقامة الشعائر الإسلامية، والحكم يبقى مستمرًّا بين المسلمين على يد قضاة مسلمين، حسب قوانينهم وعوائدهم الاجتماعية والمدنية من إرث وزواج كما كانت من قبل.
3- لا يتابع ولا يعاقب ولا يسب ولا يهان أو يتعرض بسوء لمن خالفوا القوانين وحاربوا ضد النصارى من قبلُ، أو كان له موقف معادٍ لهم.
4- يسمح للفقهاء بالاستمرار في التعليم بالمدارس العامة ويتقاضون مرتباتهم والصدقات والتبرعات المخصصة لهم من الأحباس لهذا الغرض.
5- أي مشكلة تحدث بين مسلم ونصراني ترفع لقضاة يحكمون فيها من الجانبين (قضاة مسلمون ونصارى)، وكل الموظفين أو المستخدمين المسلمين يستمرون في عملهم.
ولكن هل التزم الملوك الإسبان بما تعاهدوا عليه؟
لقد نقضوا العهد بعد ذلك، فكان الاضطهاد تلته حملة الإبادة والتهجير، واتخذت سمة الاستماتة والعنف داعية إلى وجوب إبادة المسلمين وإخراجهم من الأندلس مهما كلف الثمن.
ويصف المقري في كتابه "أزهار الرياض" وصفًا مؤثرًا ومؤلمًا لما حلَّ بالإسلام والمسلمين من طرف القساوسة الطغاة:
"فلو رأيتم ما صنع الكفر بالإسلام بالأندلس وأهليه، لكان كل مسلم يندبه ويبكيه، فقد عبث البلاء برسومه وعفى على أقماره ونجومه، ولو حضرتم من جبر بالقتل على الإسلام وتوعد بالنكال والمهالك العظام، ومن كان يعذب في الله بأنواع العذاب، ويدخل به من الشدة في باب ويخرج من باب، لأنساكم مصرعه، وساءكم مفظعه، وسيوف النصارى إذ ذاك على رءوس الشرذمة القليلة من المسلمين مسلولة، وأفواه الذاهلين محلولة، وهم يقولون: ليس لأحد بالتنصير أن يمطل، ولا يلبث حينًا ولا يمهل، وهم يكابدون تلك الأهوال ويطلبون لطف الله في كل حال".
وقد صرح أحد الموريسكيين: "لقد كنا مضطرين أن نُظهِر لهم ما كانوا يرغبون فيه منا، وعكس ذلك، فإنهم يسوقوننا إلى محاكم دواوين التفتيش بسبب اتباعنا الحقيقة، لقد حرمونا من الحياة والأملاك والأبناء، وزجوا بنا في سجون مظلمة لأتفه الأسباب. ونظرًا لأفكارهم السيئة أيضًا، فإنهم يبقوننا سنين عديدة، في الوقت الذي يستولون فيه على أملاكنا التي صادروها، ويستغلوننا، ثم يقولون: إن ذلك الفعل مبرر، وعلى ضوء ذلك فإنهم يخفون أفكارهم السيئة وسريرتهم المظلمة، أما أطفالنا فإنهم عندما يكبرون يافعين يربونهم على منوالهم ويصبحون مرتدين، أما إذا كبروا فإنهم يسعون إلى الهرب، إضافةً إلى ذلك فإن حكام دواوين التفتيش يفتشون عن كل الوسائل للقضاء نهائيًّا على هذه الأمة.
وأمام هذا التعنت وهذه المصادرة فقد وجد الموريسكيون في لغة "الألخميادو: AlJAMIADO" (وهي القشتالية المحرفة تكتب بحروف عربية) متنفسًا لتفكيرهم وآدابهم ولأدعيتهم وصلواتهم وكتبهم الدينية، وقد تركوا تراثًا أدبيًّا من النظم والنثر، وقد عثر على مجموعة من المخطوطات صدفة "في أكثر من مناسبة بعد إخفائها قديمًا في تجاويف جدران المنازل وبين السقوف وفي المغارات، وكذا في مخابئ أخرى، وهو أدب هجين تمتزج فيه العربية والإسبانية في شتى المستويات بشكل لا نظن أنه عرف قبل هذا بين اللغة العربية ولغات أخرى. وقد تمخض هذا المزيج عن نتاج معبر أيما تعبير، وممثل أيما تمثيل لكيان أصحابه ولهويتهم الثقافية، فهذه اللغة الموريسكية تعكس بوفاء كبير شخصية مجموعة إسبانية متميزة داخل الجزيرة الإيبيرية".
نتائج اضطهاد الموريسكيين !
وماذا كانت النتيجة إذن؟ إن إسبانيا لم تجن من هذه الاضطهادات المخزية إلا الضرر والتخلف عن مسايرة الركب الحضاري والثقافي والصناعي الذي عرفته أوربا.
ورغم كل المجهودات التي بذلتها الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية من أجل محو أي آثار للوجود الحضاري العربي والإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية، فإن سكان إسبانيا اليوم لا يجدون بدًّا من الإشارة إلى الحضارة العربية باعتبارها مرجعًا مهمًّا في حياتهم.
فقد عاش الرومان والقوط قرونًا في إسبانيا، فلا نجد في كتاباتهم شيئًا عن تميز لهذه البلاد بزراعة ولا فاكهة ولا خضرة أو تدبير للماء.
كما تجري على ألسنة الإسبانيين اليوم مئات الكلمات ذات الأصل العربي يستعملونها في مجالات حياتهم (الفلاحة، التجارة، الحرف، البناء والعمارة، المهن والوظائف، الملابس...).
وتجدر الإشارة إلى أن شخصية "الموريسكي" تسللت إلى الأدب الإسباني، فقد استلهم فيه الأدباء (شعراء وكتاب القصة والرواية والمسرحية) قصائدهم وقصصهم ورواياتهم ومسرحياتهم، وذلك في عصره الذهبي، وقد خصص د.حسن الوراكلي دراسة مهمة عن ملامح من صورة الموريسكي في الأدب المسرحي الإسباني.
خرج الموريسكيون من إسبانيا وتركوا فيها حضارة لا يمكن أن تموت، يجني منها الإسبانيون ملايين الدولارات عن طريق السياحة.
وبالنسبة لأولئك الذين اختاروا الإقامة في المغرب، فقد وجدوا فيه كل عناية وترحيب في كل مكان نزلوا به (تطوان، شفشاون، فاس، سلا، الرباط، وبعض بوادي شمال المغرب)، وقد استفيد من خبرتهم ومهاراتهم في سائر مرافق الحياة اليومية، سواء تعلق الأمر بالفلاحة والتجارة أو بالشئون الثقافية والعلمية. وقد حافظت تلك الجماعات على أسمائهم وألقابهم الأندلسية حتى اليوم، ومنهم من احتفظ بمفاتيح منازلهم التي حملها أجدادهم على سبيل الذكرى، نذكر منهم "الغرناطي، الراندي، وبيصة، وابن عبدون، وعذرون، وبرهون، والحضري، وبيرميجو، وهراندو، وقشتول، ومرينون، وقشتيلو، ولقاش، وبلانكو، وأندلسي، وطنانة، وبلامينو، والرندة، وكليطو، وبريطل، وجوريو، واشماعو، وكراكشو، وغيرهم".
وقد قام الباحث محمد بن عزوز حكيم بتوثيق الألقاب والأسماء التي كانت تتخذها أسر موريسكية نزلت بتطوان (شمال المغرب) وهي أسماء قشتالية أصلاً، أو هي قشتالية نطقًا، عربية أصلاً، أصبحت أسماء لأسر عربية مسلمة أريد لها أن تكون قشتالية.
وكان لاستقرار الأندلسيين في المغرب الأثر الكبير في ازدهار حركة العلوم والآداب والفنون والمعمار والصناعة.
أما عن مصير اليهود الإسبان الذين صدر في حقهم مرسوم الطرد من بلادهم التي عاشوا فيها قرونًا طويلة، فقد استطاعوا في السنوات الأخيرة وتحت ضغط إمبريالي صهيوني وإسلامي تشهيري أن ينتزعوا من الحكومة الإسبانية اعتذارًا رسميًّا وعلنيًّا عما صدر من حكم تسبب في طردهم من إسبانيا، دون الإشارة ولو بكلمة على الصعيد الرسمي الإسباني إلى ما لحق بالمسلمين، رغم أنهم كانوا أكثر عددًا من اليهود. وكان الباحث المغربي محمد بن عزوز حكيم قد وجه رسالة إلى الملك الإسباني خوان كارلوس 2/1/2002م أيده فيها المؤرخ الإنجليزي "مسترجيبس" يطلب فيها من التاج الإسباني بأن يعتذر للمسلمين، "ولكي يسجل التاريخ، وتعلم الأجيال اللاحقة فإننا لم ولن ننسى أبدًا (مأساة الأندلس)، فقد قمنا بواجبنا قدر الإمكان نحو الشعب المذكور، حيث طالبنا مرارًا وتكرارًا من التاج الإسباني بأن يعتذر للمسلمين على غرار ما قام به مرتين نحو اليهود السفردين".
وأخيرًا لنجعل من هذه الذكرى المئوية الرابعة مناسبة لقراءة تاريخنا من جديد، ولنأخذ العبر من الأحداث المهمة التي عاشها أجدادنا، ونقوِّمها بموضوعية علمية مجردة.
فهل نحن فاعلون؟ وهل يعتذر الإسبان للمسلمين ونحن نعيش عصرًا جديدًا؟