نال عبد الكريم الخطابي قدرا وافرا من التعليم، واطلع على الأدب والعلوم الغربية، وكان يتمنى أن تلحق بلاده وأمته بركب الحضارة الحديثة وتعود إلى سابق مجدها.
عمل في بداية حياته في مدينة مليلية -التي تحتلها إسبانيا إلى اليوم- معلما وصحفيا في صحف ناطقة بالإسبانية هناك، كما عمل مترجما من الإسبانية إلى العربية والعكس، وكان ذلك منفذا جيدا له لتوسيع علاقاته بالإسبان، ووصل به الأمر إلى ترجمة وثائق الجيش والمخابرات، الأمر الذي أعطاه أفضلية تكتيكية في حربه المستقبلية ضد المحتل.
وعند نشوب الحرب العالمية الأولى، اتهمه الإسبان بالتخابر مع ألمانيا التي كانت تحارب في الجانب المعادي لإسبانيا، وألقي به في السجن. جدير بالذكر أن معظم الشخصيات والحركات التحررية في الوطن العربي ناصرت الألمان في الحربين العالميتين الأولى والثانية نكاية ببريطانيا وفرنسا وحلفائهما الذين كانوا يحتلون كافة دول الوطن العربي حتى وقت متأخر من القرن العشرين الميلادي.
مكث الخطابي في السجن قرابة العام، وبعد خروجه بدأ يحضر لحرب التحرير بعد أن تأكد له أن وعود الإسبان وكلماتهم المعسولة التي يطلقونها منذ وطئوا أرض المغرب ما هي إلا سراب يحسبه الظمآن ماء، وأنهم مثل أي محتل لا يتردد في سحق أي شيء يقف بينه وبين طموحاته التوسعية.
وهنا بدأ باستثمار معلوماته عن سلطات الاحتلال التي تجمعت لديه خلال عمله في الترجمة واستفاد من معرفته طريقة تفكيرهم وردود أفعالهم. من جهة أخرى، كان يدرك أنهم يسعون بكل ما أوتوا من قوة ليثبتوا أقدامهم في المغرب ويعوضوا الخسائر التي تكبدوها في مستعمراتهم حول العالم مثل كوبا والفلبين
الحشد والتعبئة
لم يكن هاجس الوصول إلى الحكم يشغل بال الخطابي، وحرص في مرحلة حشد الجماهير على إعطاء البرهان تلو البرهان على ذلك، فاكتسب خطابه مصداقية عالية بين الناس والتف حوله المناصرون المخلصون المستعدون للموت في سبيل قضيتهم، تحت قيادة شخص سباق للشهادة في سبيل الوطن وتوّاق لها. وكانت النتيجة هي ذوبان الخلافات التي كانت تسود بين القبائل المغربية وانضواء الجميع تحت راية واحدة، وهو إنجاز يسجل للخطابي الذي يعتبر من أوائل من رسّخوا مفهوم الولاء للوطن أولا بدلا من القبيلة.
وبعد انتصاره الباهر في معركة أنوال عام 1339 للهجرة (1921 للميلاد)، وخسارة إسبانيا حوالي 14 ألفا من جنودها بين قتيل وجريح، أسس عبد الكريم الخطابي الجمهورية الاتحادية لقبائل الريف، المعروفة تاريخيا باسم "جمهورية الريف". والريف هو اسم إقليم يقع في شمال المغرب.
ومن المآثر التي سجلها التاريخ بحروف من ذهب بحق الخطابي تمكنه بثلاثة آلاف مقاتل من محاصرة الجيش الإسباني الذي بلغ تعداده عشرة أضعاف قواته. وكان الحصار ناجحا إلى درجة جعلت الإسبان يشربون بولهم من فرط العطش.
من جهة أخرى، يسجل للخطابي أنه انتصر في ما يعرف في الأدب العسكري الأوروبي بـ"حرب الريف" التي استمرت ست سنوات وأنوال من ضمنها، من دون أن يستقبل أي دعم أو سلاح من أي جهة خارجية، وكان يجيب على دعوات رفاقه لطلب الدعم الخارجي بأن "السلاح الذي أريده موجود عن عدوي".
يذكر أن الخطابي ورفاقه تمكنوا في أنوال ومعركة جبل العروي وغيرهما من الاستيلاء على كميات ضخمة من الأسلحة التي استفادوا منها في قتال المحتل.
رجل دولة
سياسيا، أظهر عبد الكريم الخطابي مهارة رفيعة كرجل دولة ناجح في طريقة إدارته لجمهورية الريف، حيث شرع في كتابة دستور وأتى بهياكل إدارية وتنفيذية وتشريعية تعكس جميع ألوان القاعدة الشعبية لجمهوريته.
ورغم تبنيه للطريقة الحديثة في بناء الدولة، فإنه تربيته الإسلامية لم تنسه مبادئ الحكم الرشيد فسنّ قوانين تضمن حياة الناس وتؤكد على مبادئ المواطنة، مثل قوانين تجرم الانتقام والثأر الذي يعتبر من الأعراف العشائرية الرئيسية في النظام القبلي بشكل عام.
ضرب لشعبه أمثلة سامية في التحلي بالحكمة والاحتكام للقانون والحق، حيث جيء بشخص يقال إنه هو الذي دسّ السم لوالد الخطابي وقتله، فأصرّ على أن يقدم المدعون على الرجل بينة تثبت ادعاءهم عملا بمبادئ الوثيقة العمرية لأبي موسى الأشعري "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر".
وعندما عجزَ المدعون على إثبات ادعائهم أطلق سراح الرجل، فأعطى مثالا في سيادة القانون والعدل.
أسس المحاكم واهتم بنظام التعليم وحرص على ربط مناطق جمهورية الريف بشبكة الاتصالات الهاتفية، وأقام شبكة مواصلات لا يزال بعضها قائما إلى اليوم ويسمى باسمه لأنها أنجزت خلال فترة حكمه.
شنّ عليه الإعلام الأوروبي حملة مضادة عنيفة، لأن جمهورية الريف في ذلك الوقت كانت المنطقة الوحيدة المحررة بينما يقبع كامل الوطن العربي من بغداد إلى نواكشوط تحت الاحتلال الأوروبي.
سافر إلى أوروبا ضمن حملة إعلامية لإفهام الرأي العام الأوروبي بأنه ليس متمردا وقاتلا سفاحا كما يصفه إعلامهم، بل هو مقاتل من أجل الحرية والتحرر.
جدير بالذكر أن فرنسا وبريطانيا وقفتا على الحياد في بدايات حرب الريف بين الخطابي والقوات الإسبانية المحتلة، إلا أن موقفيهما تغير بعد تأسيس جمهورية الريف والنجاحات التي حققها الخطابي عسكريا ثم سياسيا، وأدركتا أن مشروع الريف سوف يكون أول الطريق نحو انهيار المشروع الاستعماري في المغرب العربي برمته ومن ثم في أنحاء أخرى من الأراضي التي يحتلونها حول العالم.
تجلى التحول في الموقف الفرنسي والبريطاني في حدوث مناوشات ومواجهات بين قوات جمهورية الريف في الشمال وبين القوات الفرنسية التي كانت تحتل المناطق المغربية الجنوبية. كبدت قوات جمهورية الريف الفرنسيين خسائر فادحة واستطاعت التوغل في المناطق التي يسيطرون عليها، وفوجئ الفرنسيون بحسن تنظيم قوات الريف وارتفاع مهاراتها القتالية، فاضطروا لأخذ موقف دفاعي لأشهر عديدة، حتى اجتمعت قوات من فرنسا وإسبانيا وشنتا حرب مضادة وحصارا بحريا خانقا بمساعدة من السلطان المغربي الذي أعلن عبد الكريم الخطابي عاصيا.
جندت الدولتان حوالي 400 ألف جندي بالإضافة إلى مئات الآلاف من المرتزقة الذين كان بينهم مغاربة كثر، وجيء بأرفع جنرال فرنسي هو المارشال فيليب بيتان، الذي انتصر في المعركة الحاسمة ضد الألمان في الحرب العالمية الأولى معركة فيردان، الأمر الذي يثبت مدى المأزق الذي كانت تواجهه القوات الفرنسية في المغرب.
استخدام السلاح الكيمياوي
وقد استخدمت قوات الاحتلال التي هاجمت جمهورية الريف والقوات الموالية للخطابي الغازات السامة، التي ما زال شمال المغرب يعاني من آثارها إلى اليوم، وتسجل في تلك البقعة من المغرب أعلى نسب الإصابة بالسرطان في البلاد.
خسرت القوات الموالية للخطابي عددا كبيرا من الشهداء، وعندها آثر الاستسلام حفاظا على أرواح الناس، ونفذّ ذلك بطريقة مهيبة تليق ببطل مثله فقد اقتحم بجواده الصفوف الفرنسية وسلم نفسه كأسير حرب.
قال الخطابي بعد استسلامه إن الهزيمة جاءت من الداخل، ولو لم يكن هناك دعم داخلي للمحتل لتمكن المغاربة من الصمود وربما إلحاق المزيد من الهزائم بالقوات الأوروبية المحتلة.
ورغم استسلام الخطابي فإن كتّابا غربيين كثرا أجمعوا في مناسبات عديدة على أن الخطابي خسر عسكريا لكنه بلا شك انتصر أخلاقيا وجسّد خلال رحلته أن قوة الحضارة أسمى وأبقى من حضارة القوة.
يسجل للخطابي أنه كان المفجر الأول لحركات التحرر وما تعرف بحرب العصابات في العلم العسكري، فقد ابتكر تكتيكات عديدة تسجل له منها "الخندق الواحد"، أي جندي أو اثنان في كل خندق وأن تكون هناك مسافة فاصلة بين خندق وآخر حتى لا تكون الخسائر البشرية كبيرة في حال سقوط قذائف.
كما طوّر حرب العصابات من حرب كرّ وفر إلى حرب تسعى لتحقيق مكاسب على الأرض، فكان لا يخلي أي أرض استولى عليها، بل يبقي فيها قوة حامية وكان ذلك أساس حصوله على مساحة كافية لإعلان جمهورية الريف.
يذكر أن اليساري الأرجنتيني تشي غيفارا، الذي كان رفيق الزعيم الكوبي فيدل كاسترو في حملة الزحف على العاصمة الكوبية عام 1378 للهجرة (1958 للميلاد)، حرص عند زيارته القاهرة على لقاء عبد الكريم الخطابي وتحيته كأحد أول الملهمين لحركات التحرر في العالم.