بقلم: إبراهيم عبدالعزيز صهد
كان الجيش الليبي يتكون –في ذلك الوقت- من لوائي مشاة مجحفلين[1]. لكن لم تكن وحدات اللوائين كاملة التسلح، كما لم تكن كوادرها الحربية كاملة. هذا كان عاديا في الجيوش التي عادة ما تحتفظ بكوادر في حالة السلم تقل عن كوادرها الحربية، ثم تعمل على إكمال كوادر الوحدات التي تكلف بمهام قتالية حال الحرب.
اللواء الأول كان يتوزع في المنطقة الشرفية، وكان اللواء تحت إمرة الزعيم جبريل صالح[2][3]. ومقر قيادته في معسكر الفرناج. بينما كانت مديريات رئاسة الأركان تتوزع بين البيضاء وبنغازي وطرابلس، وكانت قيادتي البحرية والطيران في مدينة طرابلس.، ومقر قيادته في معسكر البركة. وكان اللواء الثاني يتوزع في المنطقة الغربية، ويحتفظ بعدة سرايا في سبها. وكان اللواء الثاني تحت قيادة الزعيم مصطفى القويري
قد يكون مفيدا –في هذه العجالة- أن أشير بإيجاز إلى أوضاع الجيش الليبي عندما داهمت حرب يونيو جميع القيادات والجيوش العربية. كان الجيش الليبي مؤسسة عسكرية استقت أصولها ونظمها وتقاليدها من مؤسسات عسكرية متعددة يجمعها جميعا "النظام العسكري البريطاني". فقد تأثر الجيش الليبي بكل من الجيش السنوسي، والجيش المصري، والجيش العراقي، وكلها كانت مؤسسة على غرار العسكرية البريطانية، ولكن كان تأثير الجيش العراقي هو الأكثر بروزا، سواء في المصطلحات والتدريب، أو قواعد الانضباط، أو التنظيم والتقاليد وغيرها. يرجع السبب في ذلك إلى عوامل متعددة منها:
1) عند تكوين الجيش الليبي جرت الاستعانة بالعراق، الذي أوفد بعثة عسكرية عراقية، أشرفت على تأسيس الجيش الليبي ووضعت نظمه.
2) تولى رئاسة أركان الجيش ثلاثة ضباط عراقيين على التوالي فيما بين أعوام 1954 و 1958.
3) تخرج عدد كبير من ضباط الجيش الليبي من الكلية العسكرية الملكية العراقية.
4) تأسست الكلية العسكرية الملكية الليبية على النمط العراقي، وكان أول أمراء الكلية وعدد من مدرسيها من الضباط العراقيين.
5) هذا علاوة على أن الجيش العراقي –حينئذ- كان يعد أفضل الجيوش العربية تدريبا وتنظيما وانضباطا، ولذلك فإن الأخذ عنه أضاف مزية إلى الجيش الليبي.
ومن ناحية التدريب، فيمكن القول بأن مستوى التدريب في الجيش الليبي يعد جيدا بالنسبة لجميع الرتب. كانت الغالبية العظمى لضباط الجيش متخرجين من كليات عسكرية (مصر، العراق، تركيا، اليونان، إيطاليا). عدد محدود من الضباط تخرجوا من مدرسة "الزاوية الغربية" التي تم إنشاؤها في بدايات تأسيس الجيش لإعداد ضباط عن طريق دورات مكثفة مدتها ستة أشهر. كما يوجد بالجيش عدد من ضباط الجيش السنوسي الذين امتازوا بخبرتهم التي كونوها أثناء الحرب العالمية الثانية وأثناء الفترة التي قضوها في "قوة دفاع برقة". علاوة على أن أعدادا كبيرة من الضباط قد تلقوا تدريبات راقية - بعد تخرجهم من الكلية- على مستويات قيادية وتخصصية مختلفة، في كل من بريطانيا وأمريكا وتركيا والعراق والأردن، كما أصبحت مدارس المشاة والمخابرة والهندسة تعقد دورات متقدمة، وتخرج أفواجا من الجنود والضباط في هذه التخصصات. كان مستوى التدريب لضباط الصف والجنود جيدا في مجالات الأسلحة و"مهنة الميدان"، وقد أمكن تكوين ضباط صف على درجة عالية من الانضباط والتمرس المهني. وكانت الوحدات على اختلاف صنوفها تتابع تدريباتها على مدار السنة، وتقوم بإجراء مناورات على مستوى الوحدات، كما كان الجيش الليبي يقوم بإجراء مناورات على مستويات أكبر، أذكر منها مناورة "بير عزاق" التي أجريت جنوبي درنه، وكانت من أنجح المناورات. لكن ينبغي أن أضيف أن هذه المناورات والتدريبات في معظمها كانت تدريبات على المعارك الدفاعية.
تولى رئاسة أركان الجيش الليبي إلى حين حدوث الانقلاب العسكري كل من:
1) العقيد عمران الجاضرة[4]
2) العقيد داود سليمان الجنابي
3) الزعيم عبد القادر الناظمي
4) الزعيم عادل أحمد راغب[5]
5) اللواء السنوسي لطيوش[6]
6) اللواء نوري الصديق
7) اللواء السنوسي شمس الدين
لكن الجيش الليبي كان يواجه قصورا وخللا واضحا في عدة نواح، منها:
1) التسلح: كان تسليح الجيش لا يتوازى مع مستوى التدريب الذي يتلقاه الضباط في دورات تدريبية في المدارس والمعاهد الغربية، وكان معظم الأسلحة قد تم الحصول عليها –حتى ذلك الوقت- عن طريق هبات من بريطانيا وأمريكا. بعض الأسلحة كانت حديثة نسبيا[7]، ولكن معظمها كان من أجيال قديمة من الأسلحة. وما يقال عن الأسلحة يسري أيضا على الذخائر والمعدات والآليات.
2) عدم توافر "خطوط إمداد" للأسلحة والذخائر، هذه الخطوط هي بمثابة الاحتياط الذي تدفع به القيادات –على مستوياتها- لإدامة المعركة. كان السلاح الذي يملكه الجيش الليبي في أيدي الوحدات، ولا يتوافر أي احتياطي يذكر، خاصة في الأسلحة الثقيلة كالمدفعية والدروع.
3) لم يكن بالجيش الليبي آنذاك سلاح للدفاع الجوي من أي نوع، لا مدفعية (م ط) ولا صواريخ. وكان السلاح الجوي في بدايات تكوينه، لم يكن لديه طائرات مقاتلة يمكنها أن تشكل سربا متكاملا. كذلك كانت البحرية في بدايات تكوينها.
4) بالتـأكيد فقد حالت أوضاع البحرية والطيران دون إجراء أية تدريبات أو مناورات مشتركة بين القوات البرية والبحرية والجوية، ما يعني عدم وجود أية خطط للإسناد والتنسيق.
5) عدم وجود الخبرة القتالية الكافية، ذلك لأن الجيش الليبي لم يخض أية حرب فعلية، وهو لهذا يفتقر إلى الخبرة القتالية.
6) وجود انفصام كامل بين الجيش والحكومات المتعاقبة. هذا الانفصام بسبب عدم ثقة الحكومات في الجيش من ناحية، وتنامي الاستخفاف بهذه الحكومات في صفوف الضباط، لدرجة الشك في قراراتها وسياساتها. وبدون شك فإن الدعاية الناصرية قد أعمت العيون وأصمت الآذان، وتنامي هاجس الانقلاب العسكري في صفوف الضباط، الأمر الذي أدى إلى تكون مجموعات من الضباط تسعى كل إلى القيام بانقلاب عسكري.
7) سياسة التجنيد، والحوافز والمرتبات، لم تكن تشجع المواطنين للالتحاق بالجيش، ما أدى إلى حرمان الجيش من الجنود من ناحية العدد والكفاءة، أما على مستوى الضباط فقد كانت الكلية العسكرية تتحصل في كل سنة على عدد يقل كثيرا عن المطلوب، وكانت البعثات إلى كليات الطيران والبحرية في اليونان تشكل منافسا قويا للكلية العسكرية الملكية. ولأدلل على ضعف هذه الحوافز، فقد تصادف أن نشر الإعلان عن قبول طلاب في الكلية العسكرية، في نفس الصفحة التي نشر بها إعلان عن قبول ممرضات في مدرسة التمريض. تتطلب الكلية العسكرية إتمام الثانوية العامة، ومدرسة التمريض كانت تتطلب الإعدادية، الدراسة بالكلية لمدة ثلاثة سنوات (أو سنتين مكثفتين)، وبالتمريض ستة أشهر، يتخرج ضابط الكلية برتبة ملازم ثاني على الدرجة السادسة، تتخرج الممرضة على الدرجة الخامسة. كان السلم الوظيفي آنذاك يصعد تنازليا، الأمر الذي يتطلب من خريج الكلية العسكرية سنتين أخريين من العمل للحصول على الدرجة الخامسة، هذا إذا اجتاز امتحان الترقية وكانت تقاريره مرضية، ويحتاج إلى نفس المدة -يقضيها في الدرجة الخامسة- ونفس الشروط للحصول على الدرجة الرابعة التي كان يتحصل عليها خريج الجامعة بمجرد تخرجه. حاولت حكومات العهد الملكي –بناء على مطالبات رئاسة الأركان- اتخاذ ترتيبات ترقيعية، وفي آخر المطاف قدمت مشروعا جديدا لقانون الجيش يعدل هذا الوضع. أجيز القانون من مجلس الأمة بعد أن تم تعطيله أكثر من مرة، وكان يفترض صدوره في أغسطس 1969، ولكن تأخر توقيع نائب الملك (الأمير الحسن الرضا ولي العهد)[8] حتى قيام الانقلاب. وكان من أوائل ما قام به المقدم آدم الحواز، بصفته وزيرا للدفاع، استعجال إصدار القانون الجديد. واعتبر القانون من (منجزات) الانقلاب!!![9].
علاوة على كل ما تقدم، فإن القوة التي يعتزم الدفع بها للمشاركة في الجبهة المصرية للقيام بمهام قتالية، كانت ستواجه متطلبات كثيرة وظروفا صعبة للغاية:
1) كانت الدلائل تشير إلى أن رئاسة الأركان تعتزم الدفع بجحفل اللواء الأول، على أن تكون الكتيبة الخامسة وكتيبة الدروع مقدمة للواء. تشكيل لواء مجحفل يحتوي على عدد يتراوح بين 4000-5000 جندي وضابط يتطلب خدمات إدارية (لوجيستية) ضخمة، بما في ذلك "الإعاشة والتموين"، والخدمات الطبية، والإمداد بالأسلحة والذخائر، وكذلك توفير منظومة الإخلاء. وبدون شك فكلما توغل التشكيل في عمق الأراضي المصرية نحو سيناء، كلما تضاعفت مصاعب إدامة خطوط التموين والإمداد، هذا مع غياب إمكانات الإمداد الجوي.
2) وبقدر ما يواجه رجال الخدمات الإدارية مصاعب في إدامة تشكيل بحجم اللواء، فإن قيادة اللواء ستواجه مصاعب على المستويين الاستراتيجي والتعبوي، هذا اللواء سيواجه معركة تخاض على مستوى فرق، الأمر الذي يعني أنه إما أن يدمج في تشكيل فرقة مصرية، أو سيشكل قوة من قوات المؤخرة، أو أنه سيعطى قاطع عمليات ثانوية.
3) سوف يواجه اللواء مشكلة الاختلاف الكبير في التسليح، فأسلحته غربية بينما أسلحة الجيش المصري سوفياتية الصنع، وهذا يعني عدم إمكان إحلال الأسلحة والذخائر، ويتطلب توفيرها دوما من الأراضي الليبية.
4) أما المشكلة الكبرى، فكانت تتمثل أن ليبيا ومصر لم يسبق لهما أن أقامتا أية علاقات عسكرية، فلا يوجد أية أسس للتنسيق والارتباط والقيادة، ولا أية خطط مشتركة. كما لم يسبق للبلدين أن قاما بمناورات أو عمليات مشتركة. وبدون شك فلم يكن لدى ليبيا أي علم بالنوايا المصرية وخططها، ولا أعتقد أن مصر "الناصرية" كانت تنظر إلى ليبيا على أساس أنها حليف محتمل، كما أنني أجزم أن النظام الناصري لم يتعامل مع ليبيا على أسس المساواة والاحترام المتبادل. وفي الواقع فإنني لا أعلم ما هي الإجراءات والتدابير التي اتخذت للتنسيق مع القيادة المصرية لدمج القوات الليبية في الجبهة المصرية، لكن تجدر الإشارة إلى أن ليبيا كانت عضوا في القيادة العربية المشتركة، التي شكلها مؤتمر القمة العربية. كانت القيادة برئاسة ضابط مصري يتمتع بكفاءة عسكرية عالية هو الفريق أول أركان حرب على على عامر، وكان مندوب ليبيا في القيادة المشتركة هو العقيد ركن رمضان صلاح، ولذلك فمن الطبيعي أن تكون مثل هذه الإجراءات والتدابير تتم على هذا المستوى. لكن القيادة العربية المشتركة لم يتم إشراكها في الخطط، ولا في عمليات السوق والتعبئة التي اتخذتها مصر. كما أن ترتيبات التنسيق قد تمت بترتيبات ثنائية بين مصر والأردن من ناحية، وبين مصر وسوريا من ناحية أخرى، وكانت ترتيبات مرتجلة اتخذت على عجل، وثبت أنها لم تحقق أي دور في التنسيق بين الجبهات. وفي الواقع لم يكن للقيادة العربية المشتركة أي دور يذكر، بل تم استثناؤها بالكامل. وجدير بالذكر أيضا أن الحكومة الليبية آنذاك أوفدت وزير الخارجية على رأس وفد لزيارة دول المواجهة (مصر، الأردن، سوريا)، للتباحث والتشاور وربما لمعرفة النوايا، وحرصت الحكومة على أن يكون ضمن الوفد ضابط كبير من رئاسة الأركان هو العقيد الركن عبد العزيز الشلحي. وأعتقد أن مهمة الشلحي كانت في مضمار البحث عن أسس وأدوات التنسيق والارتباط، وقد يكون مرشحا طبيعيا للتنسيق على المستوى الثنائي مع القيادة المصرية. ولا شك فإن إيفاد العقيد الشلحي بالذات ينطوي على تقدير من الحكومة الليبية ومن رئاسة الأركان لعدة اعتبارات، أولها: موقع الرجل في رئاسة الأركان، كونه مدير التدريب وعلى تماس مباشر مع إدارة الحركات (العمليات)، وثانيها: صلته الوثيقة بالملك إدريس السنوسي، وثالثها: علاقته الشخصية بالقيادة المصرية، وبالرئيس جمال عبد الناصر شخصيا، علاوة على أنه من خريجي الكلية الحربية المصرية. وفي رأيي أنه كان اختيارا موفقا، ودلالة واضحة على جدية الحكومة الليبية، ورسالة مباشرة إلى القيادة المصرية. لكن القيادة المصرية أخطأت فهم هذه المضامين والاعتبارات وتجاهلتها، وكانت المعلومات التي رشحت-آنذاك، وتأكدت بعدئذ- عن مقابلة الرئيس عبد الناصر للوفد الليبي تدل على أن المشاركة الليبية غير مرحب بها من قبل القيادة المصرية. ولهذا فلم ينتج عن الزيارة أية خطوات للتنسيق والارتباط العسكري بين البلدين.
[1] لواء المشاة المجحفل في التنظيم الليبي، يتكون من ثلاثة كتائب مشاة، وكتيبة مدفعية، وكتيبة دروع، وسرية مخابرة، وسرية هندسة. كتيبة المشاة كانت تتكون من ثلاث سرايا مشاة وسرية خدمات إدارية وسرية إسناد وهذه الأخيرة تشتمل على فصيل مدفعية هاون 81 ملم، وفصيل رشاشات متوسطة، وفصيل مدفعية 106 ملم المضاد للدرع، وفصيل مخابرة.
[2] الزعيم جبريل صالح أحد ضباط الجيش السنوسي، وكان أحد الرجال الذين عملوا في "المغاوير" تحت قيادة الرائد "بانيكوف" إبان الحرب العالمية الثانية، وكانت مهمة المغاوير التسلل خلف خطوط المحور، والقيام بعمليات فدائية أو عمليات جمع المعلومات. وقد أشاد الرائد "بانيكوف" بأهمية المغاوير الليبيين في تحقيق انتصار الحلفاء في مسرح عمليات الصحراء الغربية وبرقة. بعد الانقلاب اعتقل الزعيم جبريل صالح وحوكم.
[3] الزعيم مصطفى القويري التحق بالجيش الليبي بعد تأسيسه، وتدرج في الرتب إلى رتبة زعيم، وتولى إمرة اللواء الثاني، ثم قدم استقالته من الجيش قبيل الانقلاب العسكري.
[4] عمران الجاضرة، ضابط في الجيش التركي من أصول ليبية، وعائلة الجاضرة عائلة معروفة في منطقة الجبل الأخضر (الفائدية) وفي درنة، وقد اشتهر بحرصه على ارتداء اللباس العسكري دائما حتى عندما كان يذهب للصلاة في الجامع العتيق في بنغازي.
[5] الجنابي والناظمي وراغب كانوا ضباطا عراقيين.
[6] السنوسي لطيوش ونوري الصديق والسنوسي شمس الدين من ضباط الجيش السنوسي.
[7] على سبيل المثال ، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتسليح وتجهيز الكتيبة الثالثة بالمعدات والآليات، وكانت جميعها حديثة بمقاييس ذلك الوقت. فأصبحت تلك الكتيبة من أفضل كتائب الجيش تسليحا وإعدادا. ويذكر بأن الجيش الليبي لم يتحول إلى التسلح بالبندقية الذاتية F.N إلا منذ عام 62/ 63 . وكان قبلها يستخدم البندقية الإنجليزية العلامة 4 التي دخلت حيز الاستعمال في الحرب العالمية الثانية.
[8] ربما لأسباب إدارية بيروقراطية، أو أن هذا يعكس الأولوية التي أولتها الحكومة آنذاك أو الديوان الملكي لهذا القانون.
[9] تعسف الانقلابيون في تطبيق هذا القانون، فحرموا الضباط الذين جرى نقلهم للخدمة المدنية من الاستفادة منه، بالرغم من أنهم لم ينقلوا إلى الخدمة المدنية إلا بعد صدور القانون. ولذلك وجد الضباط المنقولين أنفسهم متأخرين درجتين على زملائهم في الخدمة المدنية الذين كانوا معهم في الثانوية العامة.
التعديل الأخير بواسطة المشرف: