سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,779
التفاعل
17,897 114 0
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم الأول

مشروعيّة وضرورة الجهاد في سبيل الله



لقد جاء الإسلام العظيم لتحرير البشرية من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ولقد كانت رسالته الخالدة بمثابة إعلان عام لتحرير الإنسان من تسلّط الطغاة ، وكان العرب هم رأس الحربة في هذه الثورة الكونية الهائلة ، ولقد فهم العرب دورهم القيادي في هذه الرسالة منذ اللحظة الأولى ، وأدركوا أهمية الدور المنوط بهم فيها ، ولذلك فقد منحوها ومنحوا رسولها كل ما يملكون من وقت وجهد ، واسترخصوا دونها الأنفس والأموال والأولاد والأوطان ، كما فهموا أيضاً من الصفة العالمية لهذه الرسالة الخالدة ، أن من حق البشرية أن تصلها هذه الدعوة الكريمة ، ومن حق الإنسانية أن تسعد بالعيش تحت ظلالها الوارفة ، وأن لا تقف عقبة أو سلطة أو طاغوت في وجه هذه الدعوة الشاملة ، ومن حقها كذلك أن تترك حرّة لتختار هذه العقيدة دون أي عائق ، فإذا أبى فريق من الناس أن يعتنق رسالة الإسلام بعد التوضيح والبيان فهذا شأنه ، ولكن لا يجوز له أن يصد الدعوة عن طريقها ، وعليه أن يعطي من العهود والمواثيق ما يكفل لها الحريّة والاطمئنان ، ويضمن لها المضي في طريقها بلا عدوان .

في حدود هذه المعاني والمباديء السامية كان الجهاد في سبيل الله ، لا لإكراه الآخرين على الدخول في الدين ، فلقد حسم القرآن هذه المسألة منذ البداية فقال : بسم الله الرحمن الرحيم { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ... ﴿256﴾}(البقرة) . ولكن للتخلية بينهم وبين هذه العقيدة الخالدة ، بعد تحطيم كل الحواجز ، وإزالة كل العقبات ، وتذليل كل الصعوبات التي تحول بينهم وبينها ، ثم ترك الحريّة لهم بعد ذلك { فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ...﴿29﴾}(الكهف).

وسوف نرى في هذه الدراسة إن شاء الله ، كيف أدار الرسول القائد صلى الله عليه وسلم عملية الجهاد المباركة بأعلى درجات الكفاية والدراية والعبقرية ، فحطّم الطواغيت واقتلع الشرك من جزيرة العرب ، ثم أرسى دعائم أعظم دولة وأرقى نظام في تاريخ البشرية ، ولقد صنع في ربع قرن ، ما يعجز عنه غيره في دهور وقرون. فلما أدّى الأمانة ، وبلّغ الرسالة ، ونصح الأمة ، وانتقل إلى جوار ربّه في الرفيق الأعلى ، حمل الراية خلفاؤه من بعده ، فكانوا نعم الخلف لنعم السلف ، فما أن نفضوا أيديهم من تراب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى حزبوا أمرهم ، ولملموا شعثهم ، ورصّوا صفوفهم ، وفي مثل لمح البصر سحقوا الرّدة في جزيرة العرب ، وطاردوا فلول المرتدين ، وأعادوا توحيد جزيرتهم العربية على قاعدة الإيمان الراسخة ، ثم خرجت جحافلهم المظفّرة فانساحت شرقاً حتى وطئت بحوافر خيلها تربة الصين ، وغرباً حتى خاضت في مياه الأطلسي .!!!

وإني والله ، لأرى بأن إرث النبوّة الخالد في الجهاد والاستشهاد ونصرة الحق ودحر الباطل ، قد وصل إليكم
وأيم الله ، إنه لشرف العمر ، ومفخرة الدهر ، أن تفوزوا أنتم بشرف تحرير أهلكم في ديار العروبة والإسلام من الذين اختطفوها ، وساموها جميع أنواع القتل والتهجير والاعتقال والعبودية والإذلال ...
فنظّموا كتائبكم أيها الرجال الأبطال ، ورصّوا صفوفكم ، واستعينوا بعد الله بشعبكم
وازحفوا إليهم باسم الله ، وعلى بركة الله ... وإنكم لمنتصرون بإذن الله ...
وأتشرّف وأنا أحد المحاربين القدماء أن أضع خبرتي بين أيديكم ، وأن أضيف تجربتي إلى شجاعتكم ، عسى الله أن يكتب لنا شرف المشاركة في هذا التحرير ، وشرف صناعة نصره الأكيد بإذن الله ...

بسم الله الرحمن الرحيم
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴿39﴾}(الحج)
{ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿47﴾}(الروم) صدق الله العظيم .

يتبع

بتصرف عن موقع رابطة أدباء الشام
 
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق2

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم الثاني

القيادة القدوة


إن من أهم الصفات التي ميّزت شخصية الرسول العظيم ، صلى الله عليه وسلم : هي كفاءته القيادية والجهاديّة والدعويّة ، فلقد كان يتمتّع بكل الصفات المثاليّة للقائد المجاهد ، والداعية الناجح ، من إيمان عميق ، وعقيدة راسخة ، وعقليّة مبدعة ، وتفكير ستراتيجي ، وتخطيط ، وإرادة ، وشجاعة ، وصبر ، وتحمّل للمسؤولية ..الخ…
ولقد توفرت له هذه الصفات الكريمة عن طريقين رئيسيين :

الاصطفاء الرباني :
فلقد كانت شخصيته صلى الله عليه وسلم القيادية والجهادية والدعويّة ، تُصنع على عين الله منذ أن كان جنيناً في رحم أمه ، إلى اللحظة التي شرّفه الله بها بالتكليف والوحي ، ثم رافقته العناية الإلهية في كل مرحلة من مراحل دعوته خطوة فخطوة ، حتى التحق بالرفيق الأعلى .
ولعل من مظاهر هذا الاصطفاء أنه كان ذا ماضٍ مشرِّف ، فهو من أوسط قريش نسباً ، وأعظمهم أمانة ، وأحسنهم أخلاقاً . ولقد حفظه الله من أدران الجاهلية ، وتميز ماضيه القريب والبعيد بالنظافة والطهر ، حتى إن أحداً من قريش لم يستطع – حتى في ذروة عدائهم له – أن يعيب له قولاً أو عملاً صلى الله عليه وسلم .
بل على العكس تماماً فلقد كان موضع إعجاب وتقدير الأصدقاء والأعداء معاً .!
فمن شهادات الأصدقاء ، شهادة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، التي كانت معروفة في قريش برجاحة عقلها ، وكريم صفاتها ، فها هي تقبله زوجاً لها ، وتعرض عليه ذلك ، واضعةً بين يديه كل ما تملك من شرف وحسب وجمال وأموال وما ذلك إلا لإعجابها به ، وتقديرها له .
وعندما جاءها يرتجف من مفاجأة الوحي ، قالت له قولتها الخالدة : ( كلا والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلَّ وتُكسبُ المعدومَ وتُقري الضيفَ وتُعينُ على نوائب الحق ).

وأما شهادات الأعداء على كريم أخلاقه ، وطهر سيرته صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة أيضاً ، وسنكتفي كذلك بأبرز نماذجها ، فهذا عتبة بن ربيعة ، وهو من أساطين الشرك في مكة ، يصفه في مفاوضاته معه بأنه ( من أعزهم شرفاً وأوسطهم نسباً). هشام1 (293)

وهذه شهادة النضر بن الحارث ، زعيم الامبراطورية الإعلامية المعادية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وجزيرة العرب كلها ، وهو من ألدّ أعداء الإسلام ، وأكثرهم أذى لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ها هو يخاطب قومه : ( يا معشر قريش إنه والله قد نزل بمكة أمر ما أتيتم له بحيلة بعد قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم و أصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر فلا والله ما هو بساحر ) . هشام1 (300 )

ولعل أروع شهادة في التاريخ ، وأعظمها دلالة على ما نتكلم عنه من صفاته وخصائصه صلى الله عليه وسلم ، هي ( شهادة الأمانات ) التي كانت عنده لأهل مكة. فلم يكن أحد بمكة قبل بعثته ولا بعدها ، عنده شيء يخشى عليه ، إلا وضعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما يعلم من صدقه وأمانته .!
والطريق الثاني لصفاته الكريمة صلى الله عليه وسلم :

طريق الاجتهاد الشخصي:
وهو يعتمد على المهارات الشخصية ، والاجتهادات الفردية ، والارتقاء الذاتي ..
فلقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وبالرغم من كل ما حباه الله من الصفات الجليلة ، والخلال الحميدة ، يهيء نفسه للوحي والدعوة والقيادة والجهاد ، ويـبذل كل ما يستطيع من جهد للارتقاء بشخصه الكريم إلى المقامات اللائقة بتشريف الله له وتكريمه ، وذلك بالعزلة ، والخلوة ، والتفكّر ، والعبادة ، والذكر، والدعاء ، وقراءة القرآن ، وغيرها من أساليب الترقي ، هذا في الجانب النظري ..
وكذلك ، بالحضور المتميّز ، والمتابعة المستمرّة ، والقدوة المتألقة ، والمنهج الشوري الراشد ، في الجانب العملي .. وبمجمل هذه الصفات ، الموروثة و المكتسبة ، استطاع هذا الرسول العظيم ، أن يقود دعوته المباركة ، بأعلى درجات الكفاءة والنجاح .. ولقد حقق مع أصحابه وآل بيته رضوان الله عليهم ، في ربع قرن ، ما يعجز الآخرون عن تحقيقه في دهور وقرون قرون ، فصلى الله عليه وسلم وجزاه الله عن أمته خير ما يجازي نبيّ عن أمته ..

ورزقنا الله الاقتداء به ، والتخلّق بأخلاقه ، والسير على نهجه ، والجهاد والاستشهاد لتحرير الشام المباركة بإذن الله

يتبع

عن موقع رابطة أدباء الشام
 
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق3

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم الثالث

وضع الخطة الجهادية المحكمة ، وتهيئة الظروف المناسبة للنصر



قلنا بأن من أهم صفات الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ، كفاءته القيادية والجهادية والدعوية المبدعة . فلقد كان يقود دعوته المباركة سواء في المرحلة المكيّة أو المدنيّة ، بأعلى درجات الكفاءة والنجاح ، ويعطي لكل مرحلة من مراحل جهاده المبارك ، من الوسائل والأساليب والخطط ، ما يكافئ مقتضياتها وحاجاتها الواقعية ، في مرونة عالية ، وخصوبة ذهن متدفّقة ، فهو لم يكن ليقابل الواقع الأليم الذي كان يمرّ به أصحابه بنظريات مجرّدة ، كما أنه لم يكن ليقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة .
فمثلاً ، في الوقت الذي كان يمنع المسلمينَ – في مرحلة الإعداد المكيّة - من حشر الجهاد في غير ظرفه ، وغير مرحلته ، منعاً لإراقة الدماء ، وإضاعة الجهود والأعمار من غير طائل ، والذي قد يقود الأمة إلى اليأس والإحباط .

فإنه كذلك لم يكن ليعطل هذا الركن العظيم عن أداء دوره في تحطيم الطواغيت ، وإزالة العقبات من طريق الدعوة ، عندما يتغير الظرف ، ويكون ذلك ضرورياً وممكناً ، لا لإكراه الناس وقهرهم على اعتناق عقيدته ، كما ذكرنا ، فالإسلام يحرّم الإكراه ، حتى لو كان لنقل الناس من الكفر إلى الإيمان ، ومن الظلمات إلى النور ، قال تعالى في محكم تنزيله : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ... ﴿256﴾}(البقرة)

ولكن للتخلية بينهم وبين هذه العقيدة ، بعد تحطيم كل الأنظمة ، وإزالة كل العقبات التي تحول بينهم وبينها ، ثم ترك الحرية المطلقة لهم بعد ذلك { فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ...﴿29﴾}(الكهف)

وهكذا فقد كانت خطة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، في مرحلة الاستضعاف المكية ، ترتكز على الدعوة ، المصحوبة بالصبر ، واحتمال الأذى ، وكف الأيدي ، وعدم المواجهة المسلحة .
فلما تغير الظرف ، وتغيرت المرحلة ، وحدثت الهجرة ، أطلق الرسول القائد صلى الله عليه وسلم عملية الجهاد ، بعد أن كان قد أعدَّ لها كامل متطلبات نجاحها ، وهيأ لها كافة أسباب الفوز والظفر فيها ...!!!


يتبع

بتصرف عن موقع رابطة أدباء الشام
 
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق4

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم الرابع

بناء الجيش العقائدي المجاهد



ما إن وصل النبي القائد صلى الله عليه وسلم أرض المدينة المنورة ، حتى بدأ يعد العدة للجهاد ، ويهيء الحشود للمعركة ، ونظراً لقلة عدد المسلمين يومها ، بالمقارنة مع كثرة أعدائهم ، لذلك فقد طبَّق ما بات يعرف اليوم بالحرب الشعبية ، أو الحرب الشاملة .
فاستنفر لمعركته مع قوى الشر كامل طاقات المسلمين ، وحشد للمواجهة كل قوى الأمة ، وألزم كافة المسلمين بالهجرة والالتحاق بالدولة الوليدة ، والجيش المجاهد. ولذلك فلم يكن مقبولاً من أي مسلم _يومها _ يدين بالولاء الكامل لهذا الدين ، أن يتخلف عن ركب الجهاد ، مهما تكن أعذاره .

ولقد أنزل الله على مدار المرحلة المدنيّة ، عشرات الآيات القرآنيّة ، التي يعيب فيها على المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحذر المسلمين أشد التحذير من مغبة الركون إلى الدنيا ، والتقصير في نصرة هذا الدين ...
ولقد كانت لهجة القرآن التحذيريّة تشتد وتتصاعد ، كلما ازدادت درجة التحدي التي كانت تواجهها الدولة المسلمة والجماعة المسلمة .

ففي الوقت الذي اكتفى القرآن العظيم في بدايات العهد المدني ، بإخراج المسلمين غير المهاجرين ، من دائرة الولاية للمؤمنين المهاجرين ، مع احتفاظه لهم بالهوية المسلمة ، وحق النصرة ، ما لم يتعارض ذلك مع عهود المسلمين المهاجرين وعقودهم ، كما جاء في سورة الأنفال ، التي نزلت في السنة الثانية للهجرة الشريفة : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿72﴾}( الأنفال).

إلا أنه سرعان ما صعّد من حملته العنيفة على المتخاذلين ، حتى قصفهم بما يشبه الحمم والبراكين ، من الآيات البيّنات ، كما ورد في سورة التوبة التي نزلت في أواخر العهد المدني ، في السنة التاسعة من الهجرة الشريفة ، قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴿38﴾ إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿39﴾ (التوبة).
{ انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿41﴾ }(التوبة)
{ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿44﴾ }(التوبة).

ولقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الهجرة والالتحاق بركب الجهاد ، شرطاً أساسياً من شروط الولاية بين المؤمنين كذلك ، ونصَّ على ذلك في دستوره الخالد ، الذي وضعه للمسلمين في المدينة المنورة . فلقد جاء في إحدى مواد هذا الدستور : ( ذمة الله واحدة ، يجير على المسلمين أدناهم ، والمؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس ، بشرط أن يهاجروا ويلتحقوا بهذا المجتمع ).

وكان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سريَّة أوصاه فقال :
( إذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال ، فأيتهنَّ أجابوك إليها فاقبل منهم وكفّ عنهم ، أدعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم ، ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ، فإن لهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما عليهم ، فإن أبوا أن يتحوّلوا ، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ).صحيح مسلم 2 (46)

كما طبق النبي صلى الله عليه وسلم في حياته العملية ، مع المتخلفين عن ركب الجهاد ، من غير المنافقين التافهين ، أشد أنواع العقوبات النفسيّة والمادية ، كما فعل مع الذين تخلفوا عن غزوة تبوك .
حيث أمر المسلمين باعتزالهم ومقاطعتهم ، وأمرهم هم باعتزال نسائهم قرابة شهرين ، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، ثم تاب الله عليهم ليتوبوا ، ولا يعودوا لمثلها أبداً ، ولا يفكر أحد غيرهم بالإقدام على ما أقدموا عليه ، قال تعالى : { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّـهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿118﴾}(التوبة).
واعتماداً على هذا المنهج ، فقد كان بمقدور النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، أن يحشد الأمة كلها للمعركة عندما يشاء .
ولذلك فقد كان عدد أفراد الجيش المسلم يومها ، مطابقاً لعدد المسلمين أنفسهم . وبهذا نفسر التزايد المطرد في تعداد ذلك الجيش المبارك وتسليحه .

ففي الوقت الذي لم يتجاوز عدد المسلمين المقاتلين في معركة بدر ، في السنة الثانية للهجرة الشريفة ، الثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، مع فَارسين فقط ، فقد بلغ عدد المقاتلين ، في معركة أحد ، التي جرت بعد أقل من عام ، حوالي ألف مقاتل ، سبعمائة بعد رجوع المنافقين ، فيهم خمسون فارساً .

ثم بلغ عدد المجاهدين في معركة الخندق ، التي جرت في العام الخامس للهجرة الشريفة ، حوالي ثلاثة آلاف مجاهد ، في حين وصل عددهم يوم فتح مكة ، في العام الثامن للهجرة ، إلي عشرة آلاف مجاهد .
ثم وصل عددههم في غزوة تبوك ، في السنة التاسعة للهجرة ، إلى ما يربو على ثلاثين ألفاً ، فيهم عشرة آلاف فارس ..
ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن أكثر من مائة وعشرين ألفاً

يتبع

بتصرف بسيط عن موقع رابطة أدباء الشام
 
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق5

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم الخامس

تحديد جبهة العدو الرئيسي ، وتحييد بقية الجبهات الأخرى



لقد كانت واحدة من أهم ملامح النبوغ القيادي للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، هي في تحديد جبهة العدو الرئيسي المحارب ، وهي جبهة قريش ومن تحالف معها أو ناصرها من قبائل العرب ، وإقفال أو تحييد بقية الجبهات الأخرى ، الأقل أهمية ، والأخف خطورة ، بالنسبة للظرف الذي كان يعيشه ، والمرحلة التي يمر بها .
ولقد طبق هذه الخطة الحكيمة من خلال الإجراءات التالية :

أ. تحييد اليهود في المدينة المنوّرة :
لم تكن للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، غداة هجرته إلى المدينة المنورة ، أية مصلحة في إثارة اليهود أو تأليبهم على دولته الوليدة فيها ، بل على العكس تماماً فلقد كانت المصلحة في أن يهادنهم ، ويسالمهم ، ويتعاون معهم أيضاً .!
ولذلك فقد بادر فور وصوله ، إلى توقيع مذكّرة تفاهم ، وحسن جوار، وتعاون معهم على أن يحتفظوا بعقيدتهم إن شاؤوا ، وتكون لهم كامل حقوق المواطَنة ، بشرط أن لا يعتدوا على المسلمين ، ولا يظاهروا عليهم أحداً أبداً ، وأن يشاركوا المسلمين في الدفاع عن وطنهم ، وأن تكون الكلمة العليا في البلد ، لله ولرسوله .

ب. تحييد المشركين في المدينة المنوّرة كذلك :
وكذلك فعل مع من تبقى من أهل الشرك في المدينة ، وتعامل معهم كأفراد ، ولم يتعامل معهم كتجمّع ، وخصَّهم بمادة واحدة من مواد الدستور ، فقال :
(.. وأنه لا يجير مشركٌ مالاً لقريش ولا نفساً ، ولا يحول دونه على مؤمن ).
وفي الوقت الذي وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء اليهود والمشركين في المدينة ، وأخرجهم من طريقه ، ليتفرَّغ لعدوه الرئيسي ، قريش ومن تحالف معها ، إلا أنه لم يكن يغفل لحظة واحدة عن دسِّهم ، وكيدهم ، وتآمرهم ، لأنه كان يقدّر أن قلوبهم الحاقدة ، ونفوسهم المريضة والموتورة ، لا يمكن أن تدعه وشأنه دون أن تتآمر عليه وعلى إخوانه ودعوته ، ولقد حدثتنا كتب السيرة عن محاولات عبد الله بن أُبَيّ بن سلول ، زعيم الشرك في المدينة لهذه المرحلة ، ثم زعيم النفاق فيما بعد ، المستميتة لإيقاع الفتنة بين صفوف المجتمع المدني ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له بالمرصاد ، فقد روى أبو داوود عن إحدى هذه الفتن المبكرة التي أراد أن يوقع فيها بين المشركين والمسلمين ، من أبناء المدينة أنفسهم:
( فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، لقيهم ، فقال : لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم ، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم .!؟ فلما سمعوا ذلك من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، تفرَّقوا ..)

وهكذا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ، قد أخمد فتنة الحرب الأهلية المقيتة ، بين الإخوان وأبناء الوطن الواحد ، بعد أن حرَّك فيهم مشاعر الوحدة الوطنيّة ، وضرب على أوتار البطولة والشجاعة والحميّة ، ثم تفرَّغ بكل طاقاته وإمكاناته ، للعدو الخارجي المتربِّص.
ولما كرَّر اليهود مؤامرة الفرقة والشرذمة في المجتمع المدني ، ونقلوها إلى داخل الصف المسلم هذه المرَّة ، بما عهد عنهم من خبث وغدر ودهاء ، كانت عيون القائد الساهرة دوماً لهم بالمرصاد .!!

فقد روى ابن اسحاق :
( ومرَّ شاس بن قيس ( اليهودي ) ، وكان شيخاً قد عتا ، عظيم الكفر ، شديد الطعن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ، على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الأوس والخزرج ، في مجلس قد جمعهم يتحدَّثون فيه ، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية . فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة ( الأوس والخزرج) في هذه البلاد ، لا والله ، ما لنا إذا اجتمع ملؤهم فيها من قرار .! ثم أمر فتىً شابَّاً من يهود ، كان معه ، فقال : إعمد إليهم ، واجلس معهم ، ثم ذكِّرهم يوم بُعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، وكان يوم بُعاث ، يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج في الجاهلية ، قال ابن اسحاق : ففعل الفتى …) وكادت تحدث الفتنة التي أرادها اليهودي الحاقد ، لولا عناية الله ، ثمّ عيون القائد الساهرة .
قال ابن اسحاق : فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال :
( يا معشر المسلمين ، اللــــــهَ …اللــــــــه ..!!
أبدعوى الجاهلية ، وأنا بين أظهركم ، بعد أن هداكم الله للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع عنكم الجاهلية ، واستنقذكم من الكفر ، وألَّف بين قلوبكم
.!؟)
فعرف القوم ، عندها ، أنها نزعة من الشيطان ، وكيدٌ من عدوِّهم ، فبكوا ، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سامعين مطيعين ، وقد أطفأ الله عنهم كيد عدوِّ الله وعدوِّهم الحاقد .

ج. تحييد القبائل العربية المشركة من غير قريش :
لقد كان من براعته القيادية صلى الله عليه وسلم ، ومن صميم فقه الواقع ، وترتيب الأولويات ، في بداية العهد المدني ، وبداية تشكيل الدولة الإسلامية ، أن يغلق كل جبهات القتال غير الضرورية ، وأن يُخرج من ساحة المعركة كل القوى التي ليس لها ضرر مباشر عليه.
ولذلك فقد بادر إلى موادعة ومسالمة الكثير من القبائل العربية المحيطة بمكة أو المدينة المنورة ، كقبائل :
خُزاعة ، وبني ضُمرة ، وبني مُدلج ، وغيرهم …
وكان يهدف من وراء هذه الخطة الحكيمة ، إلى تركيز جهده القتالي على عدوه الرئيسي في مكة ، وفرض العزلة عليه ، وتهديد تجارته ، التي هي شريان حياته ، وأن لا يشتت فكره وجهوده وإمكاناته.
، وكان قرار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم لأهله في مكّة يوم الفتح العظيم ، إذ قال :
( ماذا تظنّون أنّي فاعلٌ بكم .!؟)
قالوا : ( أخٌ كريمٌ ، وابن أخِ كريم ) !
قال القائد الفاتح العظيم المنتصر، بكل حنان وقدوة وتواضع :
( اذهبوا ، فأنتم الطلقاء ).

يتبع

بتصرف عن موقع رابطة أدباء الشام
 
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق6

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم السادس

فهم أصول الصراع مع الأعداء ، والبراعة في تطبيق مبادئ السياسة الشرعية



إن أعظم القادة في التاريخ ، هم الذين يعرفون كيف يديرون دفة الصراع مع أعدائهم ، فلا يلجؤون إلى القتال أصلاً ، وإذا اضطروا إليه ، فيعرفون كيف يربحون الحروب ، وينتصرون في المعارك ، بأقل جهود ، وأخف تضحيات ممكنة ، ولا يتأتى ذلك لهم إلا إذا كانوا على درجة عالية من العبقرية ، والذكاء ، والتمرس في أصول القيادة والمسؤولية .

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واحداً من أولئك القادة العظماء ، بل هو سيدهم ومعلمهم على الإطلاق ، ولسنا نهدف من هذه الدراسة ، إلى إعطاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، صفات من النبوغ والعبقرية ، فوق ما أعطاه الله من جلال النبوة ، وعصمة الوحي ، كما لا نريد أن نحمِّل القادة من بعده ، أكثر مما تطيق عقولهم ، وقدراتهم ، فنلزمهم بالتحليق في ذات الآفاق الشامخة التي كان يحلق فيها هذا القائد العظيم ..!

إنما أردنا أن نذكِّر أمتنا فقط ببعض الإشراقات القيادية والدعوية ، التي عاشها النبي القائد صلى الله عليه وسلم ، فعلاً وواقعاً ، لتكون مثابة ونبراساً ومشعلاً ، يقتدي بها ، ويهتدي بنورها ، كل من ابتلاه الله بمسؤولية القيادة والريادة في هذا العصر .

فلقد كان صلى الله عليه وسلم ، يضع أروع الخطط والمناهج لدعوته ، من خلال فقه حركي واقعي منضبط ، يقدر فيه حاجات الظرف والمرحلة والواقع والإمكانات ..
فكان تصرفه في مرحلة الاستضعاف المكية ، هو غير تصرفه في مرحلة التمكين المدنيّة ، فلقد كان يرد على كل استفزازات الأعداء ، ووقاحاتهم ، وتفاهاتهم ، في مكة ، بالمزيد من الصبر ، وضبط النفس ، واحتمال الأذى ...!!!

ثم يغير منهجه هذا ، عندما يتغير الظرف ، وتتغير المرحلة ، فنراه يدخل مكة فاتحاً فيجمع بين عزّة الفاتحين ، وتواضع المؤمنين بشكل مدهش .!
ففي الوقت الذي ينحني فيه تواضعاً لله تعالى ، حتى إن عُثنونه ليكاد يمس واسطة رحله .!
فإنه يأمر بوضع أبي سفيان في مضيق الوادي لكي تمر به كتائب الإيمان فتسحق أعصابه ، وتحطم معنوياته ، وتنزع من تفكيره أي أمل في المقاومة والتحدي .!
ويهدر دماء أناس بعينهم ، ويأمر بقتلهم حتى لو وُجدوا معلقين بأستار الكعبة المشرّفة ، لأنهم كانوا من الموغلين في الإساءة إلى دينه .!!!!

ولا يدخل الكعبة المشرَّفة ، حتى يحطم كل ما كان فيها من الأصنام ، ويذل الشرك ، وهو الذي طالما طاف حولها ، وصلى فيها ، وهي مليئة بالأوثان قبل ذلك .!
وعندما يقف ليخاطب المشركين ، تتغير لهجته كذلك ، فهو اليوم .. ليس ذلك اليتيم المسكين ، الذي يغشى المجالس ، ويتوسّل إلى العرب ، ويتودد إلى الناس ، ويرجوهم أن يقبلوا ما جاءهم به من عند الله ، فيؤمنوا به ، وينصروه .!

إنما هو القائد الفاتح ، الذي يخاطب أعداءه المهزومين فيقول بعزة الفاتحين ، وشموخ المنتصرين : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده .. ألا كلُّ مأثرةٍ ، أو دمٍ ، أو مالٍ يدّعى ، فهو تحت قدميَّ هاتين ..!!) هشام 2 (412) .
ويفرِّق بين أعدائه المحاربين ، والمسالمين .. ويعرف طريقة تفكير كل منهم ، فيتعامل مع الأعداء المحاربين ، بغير المنهج الذي يتعامل به مع الأعداء الموادعين والمسالمين ، ويبذل كل ما يستطيع من حنكة لعزل أعدائه المحاربين وتحجيمهم .!

ويعمل بكل ما أُوتي من عبقرية ، لدق إسفينه بين صفوفهم ، وتفريق جموعهم ، وشرذمتهم ، وبالتالي .. إضعافهم ، وكسب معركة الصراع معهم .!
ولقد استوقفتني بعض اللفتات الرائعة في صلح الحديبية ، فكنت أقف لأجد نفسي أمام قائد عبقري من طراز متميز فعلاً .!
فهو يتمتع بأعلى درجات الكفاية ، والدراية ، والنبوغ ، والعبقرية ..!
وهو يقرأ خصمه من خلال تصرفاته ومواقفه ، ويرسم على ضوء هذه القراءة خططه وبرامجه ، فتأتي مطابقة للواقع تماماً .!

وعندما يتمعَّنُ المرءُ في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ، التي كان يخاطب بها مفاوضيه ، يأخذه العجب والدَّهَشُ ، من حكمته وبراعته كل مأخذ .!

ومن هذه النصوص مثلاً ، ما خاطب به بُدَيْل بن ورقاء الخُزاعي:
( إنَّا لم نجيء لقتال أحدٍ ، ولكننا جئنا معتمرين ، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب ، وأخذت بهم ، فإن شاؤوا ماددتهم مدَّةً ، ويخلُّوا بيني وبين الناس ، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإن هم أبوا ، فو الذي نفسي بيده ، لأقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذنَّ الله أمره ) هشام2 (309)
أية روعة ، وأية حنكة ، وأية دراية ، وأية عبقريّة ، تلك التي كان يتمتع بها هذا القائد العظيم ، صلى الله عليه وسلم .!؟

إنه يريد الصلح ، ويخطط له منذ البداية ، ولربما كانت عنده أوامر من الوحي بهذا الشأن ، ولذلك لما بركت ناقته القصواء ، وقال عنها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم : بأنها قد خلأت ، قال : ( والله ما خلأت ، وما ذلك لها بخُلُقْ ، ولكن حبسها حابس الفيل ، والله ، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة ، يسألونني فيها صلة الرحم، وتعظيم البيت ، إلا أعطيتهم إياها .!) هشام 2 (310)

إذاً هو يريد الصلح ، ويخطط له ، بناءً على إشارات تلقَّاها من ربه ، ولكنَّ الذي يريد الصلح في الحروب والمعارك ، لا يهرول إليه ، ولا يتهافت عليه ، ولا ينبطح تحت أقدام أعدائه ، حتى لا يطمع به الأعداء ويذلّوه ، بل يظهر شيئاً من التجمّل والجلادة والقوّة .. !!!!
وها هو إمام الدعاة ، وقائد المجاهدين ، وقدوة القادة ، يعلّم القادة من بعده أصول المفاوضات ، وفنون الصلح ، فهو :

1. يظهر نيَّاته السلمية غير العدوانية ، وكأنه يلمّح لقريش بحقيقة ظلمها له ، واعتدائها عليه ، وإخراجه من وطنه ، وصدّها له ولإخوانه عن زيارة هذا البيت المعظَّم
( إنّا لم نأتِ لقتال أحد ولكننا جئنا معتمرين ).

2. يعرّض بأعدائه ، ويشعرهم بأنه على علم تام بما وصلت إليه أحوالهم ، من الضعف ، والترهل ، والتشرذم ، بعد ما يزيد على ستة أعوام من الحروب ، لم يحصدوا فيها غير الخيبة والخسران ( وإنَّ قريشاً قد نهكتهم الحرب وأخذت بهم ).

3. ثم يعرض عليهم الإسلام ، بلهجة المشفق والمتفضل ، ليخرجهم مما هم فيه من وضع مزري ( وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ).

4. وأخيراً يلوِّح لهم بالصلح من بعيد ، ولكنه الصلح العزيز ، الموشَّح بكل ما أوتي من عنفوان الإيمان ، وقوة العقيدة ، ويوحي لأعدائه بأنه الأمل الأخير لهم ، في اللحظة الأخيرة : ( فإن شاؤوا ماددتهم مدَّةً ويخلُّوا بيني وبين الناس ).

5. أما إذا لم يقبلوا شيئاً من هذه العروض ، فهو الأسد الهصور في ساحات الوغى:
( فوالذي نفسي بيده ، لأقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذنَّ اللهُ أمره) .

يتبع

بتصرف بسيط جدا عن موقع رابطة أدباء الشام
 
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق7

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم السابع

الخبرة القتالية ، والكفاءة الميدانية



لم يكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، قائداً ستراتيجياً بارعاً فحسب ، بل كان قائداً ميدانياً من طراز متميّز أيضاً ..!
فلقد قاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه أكثر من تسعة وعشرين غزوة ، وسيّر من البعوث والسرايا ، حوالي ستة وخمسين سريّة ، كل ذلك في غضون عشرة أعوام ، أي أنه كان يفجِّر معركة كل شهر تقريباً، ولم يخسر منها معركة واحدة .!!!
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطبق في معاركه العسكرية أروع أساليب القتال ، وأحدث فنون العسكرية في عصره ، وهذه مجرد نماذج لبعض تلك الأساليب:

* السرية والكتمان والمباغتة :
لقد تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم ، لثلاث هجرات ، طبقوا فيها أروع أساليب السرية والكتمان .
وكذلك كانت حاله في ساحات القتال والجهاد ، فلم يكن يريد غزوة إلا ورّى بغيرها وذلك إمعاناً في السرية ، ولغرض تحقيق عنصر المفاجأة والمباغتة في الحرب .
وكانت عيونه الساهرة ( مخابراته) تنقل له أخبار قريش وحلفاءها أولاً بأول ، ولم يحدث أن تجمعوا للإغارة عليه ، إلا باغتهم في أماكنهم ، ففرّق شملهم قبل أن تكتمل خططهم .
ولقد ذكرنا أنه قاد بنفسه أكثر من تسعة وعشرين غزوة ، وسيَّر حوالي ستة وخمسين سريّة ، أي كان يفجر معركة في كل شهر تقريباً ، ولم يخسر منها معركة واحدة ، فهل يتم ذلك إلا بناءً على تخطيط مبدع ، ومخابرات متفوّقة !؟
ولقد كانت حادثة حاطب بن أبي بلتعة ، أروع مثل على إثبات هذه الحقيقة .
قال ابن اسحاق : وتجهز الرسول صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ، وأمر الناس بالجد والتهيؤ ، وقال : ( اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها )..
وبينما كان المسلمون يتجهزون للفتح ، إذ أرسل حاطب بن أبي بلتعة رسالة إلى قريش يعلمهم فيها بنيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم ، ولقد كانت هذه من حاطب رضي الله عنه ، هفوة عظيمة ، لو تمت لأحبطت كل مخططات الرسول صلى الله عليه وسلم وتدابيره .!
ولكن سرعان ما نزل الوحي وأخبر النبيَ الكريم بالحادثة ، فأرسل النبيُ الكريم صلى الله عليه وسلم ، علياً والزبير رضي الله عنهما ، فاسترجعا الرسالة قبل أن تصل إلى قريش ، في القصة المشهورة .
وفعلاً ، فقد كان للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ما أراد من مفاجأة قريش على حين غرّة من أمرها ، وكان الفتح العظيم ، الذي أذل الشرك في مكة ، واقتلع الأصنام من جزيرة العرب إلى الأبد .

* القوة والردع العسكري :
يخطيء كثيراً من يظن ، بأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، كان مجرد واعظ يلقي بمواعظه البليغة في الهواء ويمضي في طريقه . أو مجرَّد ناسك متبتل ، تملأ قلبه الرحمة ، فيوزعها يميناً وشمالاً ، على من يستحق ، أو لا يستحق من الناس.!
لا .. أبداً .. فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، كان قائداً رائعاً ، جمع في شخصيته الفذة ، كل مواصفات المؤمن الرباني ، فهو زاهد متبتل في محاريب الإيمان ، ولكنه أسد هصور في ميادين القتال والجهاد ..
ولقد تلقى أوامر الوحي في سورة الأنفال ، التي نزلت تعقيباً على معركة بدر ، في السنة الثانية للهجرة : { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّـهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴿60﴾}. فبادر إلى تطبيقها بأعمق ما يكون الفهم ، وأروع ما يكون التطبيق .
فها هو يؤدب المعتدين على مدينته المنوّرة ، المروعين لإخوانه ، الخائنين لمعروفه ، فيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ويصلّبهم في جذوع النخيل ، ويثمل أعينهم ، ليكونوا عبرة لكل خائن وغادر وجبان .!
قال ابن هشام : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نفر من قيس كبة ، من بُجيلة ، فاستوبؤوا في المدينة ، وطحلوا فيها ( أي أصابهم نوع من الوباء ، كان يترافق مع تضخم الطحال لدى المريض ).
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو خرجتم إلى اللِّقاح فشربتم من ألبانها ) فخرجوا .
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، كُرْز بن جابر ، فلحقهم ، فأتى بهم رسولَ الله ، مرجعه من غزوة ذي قَرَدْ ، فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمل أعينهم .! هشام2 (641)
ولقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه قتل بعض أعدائه صبراً ، وأهدر دماء البعض الآخر ، من الموغلين في الإساءة للإسلام ، فأمر بقتلهم يوم الفتح ، حتى لو وُجدوا معلّقين بأستار الكعبة المشرَّفة .!
( لا يُلدَغُ المؤمنُ من جُحرٍ مرّتينن ) . البخاري ومسلم
ويقول : ( نُصرتُ بالرُّعبِ مسيرة شهر ). البخاري

* الأمن والحراسة :
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائداً فطناً ، يأخذ بكل أسباب الحيطة والحذر ليمنع أعداءه من أن يصيبوا منه غرّة ، فقد أخرج الشيخان ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وأشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة ، فانطلق الناس قِبَل الصوت ، فتلقَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً ، وقد سبقهم إلى الصوت ، وهو على فرس لأبي طلحة رضي الله عنه يجري وفي عنقه السيف ، وهو يقول : لم تراعوا ، لم تراعوا .!!!
وكان يؤَمِّنُ أصحابه في أسفارهم ، ويأمر الجيوش باتخاذ الحرس في الغزوات .

* تطبيق مباديء علم النفس العسكري :
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يراعي الجانب النفسي والمعنوي في القتال مراعاة فائقة ؛ فيعمل كل ما من شأنه أن يرفع معنويات جنوده ، ويبذل كل ما بوسعه لتحطيمها في الجانب المعادي.
قال ابن اسحاق يروي قصة نقض يهود بني قريظة لمعاهدتهم مع المسلمين يوم الأحزاب .
فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث سعد بن معاذ ، وكان يومئذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة ، وكان يومئذ سيد الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة ، وخوّات بن جبير ، فقال :
انطلقوا ، حتى تنظروا أحقٌ ما بلغنا عن هؤلاء القوم ، أم لا ؟
فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه ولا تفتّوا في أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس .
قال : فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ، ثم أقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلموا عليه ، ثم قالوا : ( عُضَل والقارة ) ، أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع .!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ::
( ألله أكبر .. أبشروا ، يا معشر المسلمين ) . هشام 2 (222)
وكذلك فعل يوم فتح مكة مع أبي سفيان ، حيث مارس معه حرباً نفسية رهيبة ، إذ وضعه في فم الوادي ، وأخذت كتائب الإيمان تمر عليه فيراها ، فكانت تلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لفتة نفسيّة عسكريّة مدهشة ، حطمت أعصاب الرجل ، وهو زعيم مكَّة ، وسحقت معنوياته ، ودفعته هو وقومه إلى الاستسلام بدون أية مقاومة .!!!

* خصوبة الذهن العسكري ، وابتكار أساليب قتالية جديدة :
ففي الجانب العسكري مثلاً ، ما كانت العرب تعرف أكثر من أسلوب الكرِّ والفرِّ في معاركها ، فابتكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسلوب الصفِّ في بدر ، وأسلوب التعبئة في أحد ، وأسلوب الخندق يوم الأحزاب.
ولما استعصت عليه حصون اليهود ، أرسل مجموعة من أصحابه لتعلم صناعة الدبابات والمنجنيقات ، في جُرَش ، من الأردن ، وفعلاً ، لم يعد أصحابه إلا بعد أن تعلموا صناعتها ، فدك بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حصون الطائف ، فكان بذلك أول من استخدم الدبابات ( الجمال المجلّلة التي تخيف الأعداء ) ، ورمى بالمنجنيقات من العرب .!! هشام2 (483).

* الإستطلاع في عمق العدو :
لا يمكن لأي قائد مهما أوتي من صفات النبوغ والعبقرية ، أن يضع خطة ناجحة ، ما لم يعتمد على معلومات أكيدة وحديثة عن العدو .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعتمد في وضع خططه العسكرية ، وعملياته الجهادية ، على معلومات من عمق العدو ، فكان يقوم بالاستطلاع بنفسه في كثير من الأحيان ، أو يكلف به الثقاة والشجعان من أصحابه وجنوده ، أو يحصل على المعلومات من أسرى العدوّ .
قال ابن اسحاق يحدث عن رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم لملاقاة المشركين في بدر : فركب هو ورجل من أصحابه ، قال ابن هشام : الرجل هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. حتى وقف على شيخ من العرب ، فسأله عن قريش ، وعن محمد وأصحابه ، وما بلغه عنهم . فقال الشيخ : لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ؟
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرتنا أخبرناك .
قال : أذاك بذاك ؟
قال : نعم .
قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن صدق الذي أخبرني ، فإنهم اليوم بمكان كذا وكذا ، للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلاً وواقعاً .!وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الذي أخبرني صدقني ، فإنهم اليوم بمكان كذا وكذا ، للمكان الذي فيه قريش أيضاً فعلاً وواقعاً .!
فلما فرغ من خبره ، قال : ممن أنتما ؟
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : نحن من ماء ، ثم انصرف .!
قال : فجعل الشيخ يكلّم نفسه ويقول : ما من ماء .! أمن ماء العراق .!؟ هشام 2 (616)
وقال أيضاً : قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله ، أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحبتموه .!؟ قال : نعم يا بن أخي ، قال : فكيف كنتم تصنعون ؟
قال : والله لقد كنا نجهد ؛ قال : والله لو أدركناه ، لما تركناه يمشي على الأرض ، ولحملناه على أعناقنا .!
فقال حذيفة : يا بن أخي ، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويّاً من الليل ، ثم التفت إلينا فقال : ( من رجل ، يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ، ثم يرجع ) ، يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة ،
( أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة ).!!!
قال : فما قام أحد ، من شدّة الخوف والجوع والتعب .!
فقال : قم يا حذيفة . قال : فلم يكن لي إلا أن أقوم ، إذ سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم ساق القصة المعروفة ، التي دخل فيها حذيفة رضي الله عنه في معسكر المشركين ، وتعرف على أخبارهم عن كثب ، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأخبار انهيار معنوياتهم ، وهزيمتهم النفسية ، واندحارهم .!
فانطلق ابن أبي حدرد ، فدخل فيهم ، فأقام فيهم ، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وسمع من أمر زعيمهم ، مالك بن عوف وأمر هوازن ما هم عليه ، ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره الخبر ، فتجهز في اثني عشر ألف مقاتل وزحف إليهم .
ولقد كان صلى الله عليه وسلّم يمارس الاستطلاع في عمق العدوِّ ، بكل ما جادت به قريحته العبقرية من أساليب ، منها مثلاً المجموعات الاستشهادية ، التي يسمّونها اليوم ( المجموعات الانتحارية) أو ( الكوماندوس ).!
ولعلَّ أروع مثال عليها ، هي مجموعة الرسالة المختومة
ولعلَّ أروع مثال عليها ، هي مجموعة الرسالة المختومة ، فقد أرسل النبي القائد صلى الله عليه وسلم ، مجموعة من أصحابه ، على رأسهم عبد الله بن جحش رضي الله عنهم جميعاً ، وزوده برسالة مختومة ، وأمره أن لا يفضّها إلا بعد مسيرة يومين ، فإذا فتحها ، وفهم ما فيها ، مضى في تنفيذها ، دون أن يستكره أحداً من أصحابه ، وفعلاً ، فقد فتح الأمير الرسالة في الموعد المحدَّد ، فإذا مكتوب فيها:
( بسم الله الرحمن الرحيم : إذا نظرت في كتابي هذا ، فامض حتى تنزل نخلة ( موضع قريب من مكة ) فترصَّد لنا قريشاً ، وتعلَّم لنا من أخبارهم ) ، عندها أطلعهم الأمير على مضمونها ، وخيَّرهم في المسير معه ، أو الرجوع إلى أهلهم ، ثم مضى في سبيله ، فما تخلَّف عنه أحد من أصحابه .

* الحرب خدعة :
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجيز في أوقات الجهاد والحرب من الأساليب ، ما لا يجيزه في غيرها من الأوقات ، ومنها التورية ، والخدعة .
فلقد رأينا في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الشيخ يوم بدر ، كيف استخدم أسلوب التورية من غير كذب .
وكذلك فعل مع نُعَيم بن مسعود ، يوم الأحزاب .
قال ابن اسحاق : وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فيما وصف الله من الخوف ، والشدة ، لتظاهر عدوهم عليهم ، وإتيانهم إياهم من فوقهم ، ومن أسفل منهم .
قال : ثم إن نُعَيم بن مسعود وهو من غَطَفان ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت .!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنّا إن استطعت فإن الحرب خدعة ) .هشام 2 ( 229 )
وفعلاً ، خرج نُعَيم حتى أتى بني قُرَيْظة ، وكان لهم نديماً في الجاهلية ، فأوغر صدورهم على المشركين ، ثم خرج حتى أتى قريشاً ، فأوغر صدورهم على اليهود أيضاً ، وكذلك فعل مع قومه غَطَفان .
فبثّ الفرقة والشقاق في صفوف الأحزاب ، وقذف الله الرعب في قلوبهم ، فكان ذلك بعد تأييد الله وعونه ، من أهم أسباب هزيمتهم واندحارهم ..

يتبع

عن موقع رابطة أدباء الشام
 
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق8

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم الثامن

الحضور القيادي المتميّز



من السمات البارزة التي تميّز سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، الحضور المتميز لشخصه فيها ، وقربه من رجالها ، والتصاقه بأحداثها .
كان حاضراً في ساحة الحدث ، بقلبه وروحه وعقله وكيانه .
فلقد كان صلى الله عليه وسلم ، هو القائد لدعوته ، والمخطط لها ، والمتحدث باسمها ، والمفاوض عنها .

فاذا أشكل أمر على أحد من المسلمين ، لجأ إليه ، فكان يبادر ليحله له قدر استطاعته وإذا عضّت المحنةُ أحداً من المستضعفين ، استعان به ، فكان يتحسّس قضيّته ، ويتفهّمها ، ويتفاعل معها ، بكل جوارحه ، وحتى لو لم يستطع أن ينصفه ، فإنه لا يعدم أن يمنحه قدراً من الصبر والأمل والسلوان .

كان يثيب المحسن على إحسانه ، ويمنع المسيء – ولو بنية صالحة – من التمادي في إساءته .
وكان أول وأشد إخوانه تعرضاً للأذى والفتنة ، وآخرهم هجرة بعد أن فتح الله عليهم أبواب الفرج فيها.
وكان حاضراً في ساحات الجهاد والمنازلة ، إن لم يكن بجسمه وكيانه ، فبروحه وعقله ووجدانه .

هذا الحضور المتميز لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم في ساحة الحدث ، مكّنه من إدارة دفة الصراع بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والطغيان ، على أعلى ما تكون الكفاية والدراية والعبقرية .

فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمسك بدعوته بكلتي يديه ، ويجذبها إليه بكامل قوته ، ويسير بها رويداً رويداً إلى غايتها ، فكلما أرادت أن تتفلّت ضبطها ، وكلما أرادت أن تتسرع بطّأها ، وكلما أرادت أن تنحرف قوّمها ..

باختصار شديد ، لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم ربّان سفينة من طراز فريد ، فلقد أوصل سفينته بمن فيها إلى بر العافية ، وشاطئ الأمان ، وسط بحر هائج ، ذي عواصف متلاطمة ، بأقل الخسائر الممكنة ، فجزاه الله عنا وعن دعوته خير ما يجزي نبياً عن أمته …
وحريٌّ بكل من ابتلي بمهمّات قياديّة في هذا العصر ، أن يتأسى به ، ويتخلَّق بأخلاقه ، ويسير على نهجه …
ولقد رأينا في المقالات السابقة ، الحضور المتميّز للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في مرحلة الاستضعاف المكية ، وكذلك كان حاضراً في مرحلة الجهاد المدنيّة أيضاً .
فهو الذي افتتح سفر الجهاد المبارك ، فقاد بنفسه أول غزوة في سبيل الله ، وهي غزوة ودّان ، وذلك في صفر ، على رأس اثني عشر شهراً ، من مقدمه المدينة المنوّرة .

كما قاد بعد ذلك أكثر من ثمانية وعشرين غزوة ، وسيّر أكثر من ستة وخمسين سريّة ، كل ذلك في أقل من عشرة أعوام ، وكان حاضراً في كل منها ، إن لم يكن بجسمه وكيانه ، كما ذكرنا ، فبعقله وروحه ووجدانه .!

ففي معركة بدر ، كان حاضراً حضوراً راسخاً ، فهو الذي قاد المعركة بنفسه ، واستطلع العدو ، واختار مكان المعركة ، ثم عدّله بناء على مشورة أصحابه ، وهو الذي ابتكر أسلوب الصف في القتال ، فنظم صفوف جنوده بنفسه ، وحرّض المسلمين على القتال ، وشجعهم على الشهادة .
ولقد كان يدعو ويتضرّع إلى الله ، ويرفع يديه إلى السماء ويلح في الدعاء حتى سقط رداؤه عن منكبه ، قائلاً : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلن تعبد في الأرض ) ، وأبو بكر رضي الله عنه خلفه ، يخفف عنه ويقول : يا نبي الله ، بعض مناشدتك ربك ، فإن الله منجز لك ما وعدك .

ولا يمكن أن نتصور حقيقة حضوره فعلاً ، حتى نسوق رواية سيد الشجعان ، وفارس الفرسان ، وأسد الإسلام : علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، الذي كان يقول عن بدر : كنا إذا حمي الوطيس ، واشتدّت الحرب ، واحمرّت الحدق ، نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه .

وفي معركة أُحد كان حاضراً أيضاً ، فهو الذي وضع خطة القتال ، وعبأ المسلمين للمعركة ، فجعل ظهرهم لجبل أحد ، ووضع الرماة في أماكنهم من الجبل ، وأعطاهم أوامره بكل صرامة قائلاً : ( انضحوا الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبتوا في أماكنكم لا نؤتين من قبلكم ) .
ولقد كان لمخالفة الرماة لهذه التعليمات ، السبب الأهم في إصابة المسلمين في هذه المعركة .
كما كان لثبات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وشجاعته ، ورسوخه ، وشموخه الدور الأكبر في تخفيف وقع المحنة فيها على أصحابه .
وتلخيص ذلك بأشد اختصار ممكن كما يلي :
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤخرة المسلمين ، في نفر قليل من أصحابه ، لا يتجاوزون تسعة رجال ، بينما القسم الأعظم من الأصحاب الكرام رضوان الله عليهم ، كانوا قد اندفعوا خلف فلول المشركين يطاردونهم ، على إثر هزيمتهم في الصفحة الأولى للمعركة ، وفي هذه اللحظات استدار خالد بن الوليد ، وكان قائد فرسان المشركين ، على مؤخرة المسلمين ، بعد أن لاحظ الخلل الذي أحدثه الرماة على الجبل ، بتركهم لمواقعهم .
ولم يفاجأ المسلمون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، إلا والخيل تركبهم من الخلف ، فكان أمامه أحد خيارين : إما أن ينجو بنفسه ومن معه إلى ملجأ آمن ، ويترك جيشه المطوَّق لمصيره المحتوم .
أو يخاطر بنفسه ، فيعمل كل ما يستطيع لإنقاذ إخوانه ، وليكن بعد ذلك ما يكون . فلم يتردَّد وهو قائد أصحابه وقدوتهم في اختيار الخيار الثاني ، ونادى على أصحابه المذهولين المضطربين ، رافعاً صوته :
إليَّ ، إليَّ ، عباد الله .. هلمَّ إليَّ ، أنا رسول الله .!
ولكن المشركين القريبين ، سمعوا الصوت قبل المسلمين البعيدين ، فكان طبيعياً أن يستهدفوا الرسول القائد ، وهنا بدأت المحنة الحقيقية ، حيث اشتد ضغط المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليخلصوا إليه قبل أن يرتدَّ إليه أصحابه .
روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أُحُد في سبعة من الأنصار ، ورجلين من قريش ( هما طلحة بن عبيد الله ، وسعد بن أبي وقَّاص ) رضي الله عنهم جميعاً فلما رهقوه ، قال : من يردُّهم عنَّا وله الجنة ؟
فتقدَّم رجلٌ من الأنصار ، فقاتل ، حتى قُتِل .
ثم رهقوه أيضاً ، فلم يزل كذلك حتى قُتِلَ السبعة .!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه (أي القُرَشيين) : ما أنصفنا أصحابنا .
وهنا مرّت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لحظات من أحرج لحظات حياته ، حيث ضغط المشركون عليه ، واستماتوا في محاولة الوصول إليه ، إلا أن طلحة وسعد رضي الله عنهما ، أظهرا من البطولة ما يفوق كل وصف ، وكانا من أمهر رماة العرب ، فلم يتركا سبيلاً للمشركين ، لتحقيق هدفهم ، وأجهضا مفرزة المشركين بكاملها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما سعد ، فقد نثر له رسول الله صلى الله عليه وسلم كِنانته ، وقال له: إرم سعد فداك أبي وأمي ، ولم يجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبويه لغيره .
وأما طلحة ، فقاتل قتال الأبطال ، حتى ضُرِبَتْ يده فقُطعت بعض أصابعه ، وشُلَّت الأخرى ، وجُرِح بضعاً وثلاثين جرحاً ، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أحبَّ أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله ).
لقد حدث كل هذا في غضون لحظات ، بما يشبه الحُلُم ، لأن المشركين كانوا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه ، ولكن ، ما إن سمع الأصحاب الكرام ، رضوان الله عليهم ، صوت حبيبهم وقائدهم يناديهم ، حتى انفتلوا إليه راجعين ، ولاذوا به مسرعين .
فقد روى ابن حبان في صحيحه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: قال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه : لما كان يوم أحد ، انصرف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكنت أول من فاء إليه ، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه ، فقلت : كن طلحة ، فداك أبي وأمي ، فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجرَّاح ، وإذا هو يشتدُّ كأنه طير ، حتى لحقني ، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا طلحةُ بين يديه صريعاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( دونكم أخاكم فقد أوجب ).
وقد رُمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجنته ، حتى غابت حلقتان من حلقات المغفر فيها .
قال : ثم أقبلنا على طلحة نعالجه ، فوجدنا به بضع عشرة ضربة .
وخلال هذه اللحظات الحرجة ، اجتمع حول النبي صلى الله عليه وسلم ، مجموعة من أبطال الإسلام ، منهم : علي بن أبي طالب ، وأبو دجانة ، ومصعب بن عُمير ، وعمر بن الخطاب ، وسهل بن حنيف ، ومالك بن سِنان ، وأبو سعيد الخدري ، وحاطب بن أبي بلتعة ، وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب المازنيّة ، وزوجها ، وولداها ، رضوان الله عليهم جميعاً ، ومع تزايد أعداد المسلمين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ضغط المشركين يزداد عليه كذلك ، حتى سقط في الحفرة ، فجُحِشَت ركبته ، وأخذ عليٌّ بيده ، واحتضنه طلحة ، حتى استوى قائماً ، ثم رماه عتبة بن أبي وقاص ، بأربعة أحجار ، فكسر رباعيته.
وفي هذه الأثناء ، ارتقى مصعب بن عُمير رضي الله عنه ، شهيداً بين يدي رسول الله ، وكان شديد الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصاح المشركون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد قُتِل !
وهنا خارت عزائم الرجال ، وانهارت معنويات الأبطال ، ومرَّت لحظات ، لم ير المسلمون مثلها قط ، حيث أسقط في أيديهم ، وتحطَّمت أعصابهم ، وارتبكت صفوفهم ، وكثر الهرج والمرج فيهم ، حتى راحوا يقتلون أنفسهم بأيديهم .!!!
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان هناك ، وسط تلك المعمعة المهلكة ، وفي أُتون تلك النار المحرقة راسخاً رسوخ الجبال ، ثابتاً ثبات الأبطال .
وبثباته ، ورسوخه ، وشموخه ، وقدوته ، كان يسطر أعظم سفر في تاريخ القيادة ، والريادة ، والبطولة ، والقدوة ، وصنع التاريخ .
وكان يشقُّ طريقه في بطولة نادرة ، وسط سد من الأعداء المتكالبين ، ليخلص إلى جنوده المحاصرين ، ويكسر الطوق عن أحبابه المحتجزين ، إلى أن مكَّنه الله من تحقيق هدفه هذا.

قال ابن اسحاق : فكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة ، وقول الناس : قُتل رسول الله ، كعب بن مالك ، قال : عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر ، فناديت بأعلى صوتي:
يا معشر المسلمين ، أبشروا هذا رسول الله .
فلما عرفه المسلمون تجمعوا حوله ، ونهضوا به ، ونهض بهم نحو الشعب . قال : فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، أدركه أُبيّ بن خلف ، وهو يقول : أي محمد ، لا نجوتُ إن نجوتَ .!
فقال القوم : يا رسول الله ، أيعطف عليه رجل منا ؟
فقال : دعوه ، فلما دنا ، تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الحربة من الحارث بن الصمّة ، يقول بعض القوم : فلما أخذها منه ، انتفض بها انتفاضةً ، تطايرنا عنه تطاير الشَّعراء (نوع من الذباب) عن ظهر البعير ، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة ، تدأدأ بها عن فرسه مراراً . هشام 2 ( 84 )
قال ابن اسحاق : فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ، ناول سيفه ابنته فاطمة رضي الله عنها فقال :
( اغسلي عن هذا دمه يا بنيّة فوالله لقد صدقني اليوم ).
ولعمرو الله ، فهل يكون ذلك إلا عن قيادة حقيقية ، وحضور راسخ ، وقتال صادق .!؟ هشام 2 ( 100 )
ولقد كان حاضراً يوم الأحزاب أيضاً ، فابتكر بالتشاور مع أصحابه أسلوب الخندق ، ولم تكن العرب تعرفه من قبل ، وعمل فيه معهم .
قال ابن هشام : فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحزاب ، وما أجمعوا له ، ضرب الخندق على المدينة ، وعمل فيه ترغيباً للمسلمين في الأجر ، وعمل معه المسلمون .
بل كان يتصدى فيه للمهمات الصعبة التي يعجز عنها أصحابه .

ولا يمكن لأية ريشة فنان ، مهما أؤتي من الإبداع والعبقريّة ، أن تصور الموقف يوم الأحزاب ، بأروع مما صوره القرآن العظيم ، إذ قال :{ إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا ﴿10﴾}(الأحزاب) .
ففي مثل هذا الكرب العظيم ، ووسط هذا الهول المزلزل ، الذي بلغت فيه قلوب الرجال الحناجر ، وزاغت فيه أبصار الأبطال ، ونجم النفاق ، واشرأبت أعناق المنافقين ، حتى قال قائلهم : كان محمد يعدنا بأساور كسرى ، وأحدنا اليوم لا يأمن أن يذهب إلى الغائط .!
في مثل هذه الظروف العصيبة ، برز دور الرسول القائد ، صلى الله عليه وسلم ..
فبحضوره ، وشجاعته ، ورسوخه ، وشموخه ، وتأييد الله له ، تحول الضعف إلى قوة ، والخوف إلى أمان .

ولقد كان حاضراً في الحديبية أيضاً ، وكان لحضوره ، وصبره ، وحكمته ، وبعد نظره ، وتأييد الله له ، الدور الأكبر في إبرام الصلح ، الذي شكل منعطفاً هاماً في حياة الدعوة بعد ذلك ، إلى الحد الذي سماه الله في قرآنه العظيم ، فتحاً مبيناً .
قال تعالى :
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ﴿1﴾ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّـهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴿2﴾ وَيَنصُرَكَ اللَّـهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴿3﴾} (الفتح)
وكان حاضراً يوم فتح خيبر ، يقود جنود الحق الميامين ، فيدك بهم حصون اليهود الغادرين ، حتى استسلموا لحكمه صاغرين .!
كما كان حاضراً يوم فتح مكة ، ولقد رأينا من قبل كيف كان يخطط للفتح بمنتهى السريّة والكتمان ، وكيف زحف بعشرة آلاف مقاتل من أسود الإسلام ، فلما رأت قريش نيرانهم التي ملأت الآفاق ، أُسقط في أيديهم ، وخارت عزائمهم ، واستسلموا صاغرين بدون أية مقاومة تُذكر .
كما كان حاضراً يوم حنين ، يوم فاجأ المشركون المسلمين بكمين لم يكونوا يتوقعونه ، فتفرّق الناس ، وانشمر الرجال ، حتى قال قائلهم : لن يُوقفهم إلا البحر ، وذلك كناية عن شدّة هزيمتهم .!
وهنا برز دور الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ، الذي تطاول بقامته الشريفة وسط جموع المنهزمين ، وجعل ينادي بأعلى صوته ويقول :
أنا النبيُّ لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
إليَّ إليَّ يا أصحاب العقبة .. إليَّ إلي يا أصحاب بيعة الرضوان ..!
وبثباته ، ورسوخه ، وشموخه ، تحول الضعف إلى قوة ، وتحولت الهزيمة إلى نصر .

كما كان حاضراً في الطائف بعد حُنَيْن ، فحاصر المعتدين ، ودكَّ حصونهم بالدبابات والمنجنيقات ، لأول مرّة في تاريخ العرب والجزيرة العربية .! هشام 2 ( 483 )

وكذلك كان حاضراً في غزوة تبوك ، وهي الغزوة الوحيدة التي أخبر الناسَ صراحة بها ، ولم يورِّ بغيرها ، وذلك نظراً لبُعْد الشُّقة ، وشدة الزمان ، وكثرة العدو .
وهكذا فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً على رأس دعوته ، ووسط جنوده ، يجهز الجيوش للقتال ، ويقود الفيالق للجهاد ، ويدير المعارك ، ويبني الدولة ، ويرشّد الحياة ، ويزرع الفضائل ، ويغرس الأخلاق ، ويرسل السفراء ، ويستقبل الوفود ، ويدعو إلى الله على بصيرة ، هو ومن اتبعه .
ولقد صنع مع جنوده في ربع قرن ، ما عجز الآخرون عن صنعه في عدّة قرون .!
وأخيراً ، وليس آخراً ، فلا أفضل ، ولا أروع ، دلالة على حضوره وقدوته صلى الله عليه وسلم ، من أن يكون قد مات شهيداً .!!!
قال ابن هشام محدثاً عن حضور الرسول صلى الله عليه وسلم في خيبر : فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي من فتح خيبر ، أهدت له زينب بنت الحارث ، امرأة سلاّم بن مشكم ، شاةً مَصْليّة ( أي مشويّة ) ، وقد سألت : أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله .!؟ فقيل لها : الذراع . فأكثرت فيها من السم ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت ، فلما وضعتها بين يديه ، تناول الذراع فلاك منها مضغة ، فلم يُسِغْها ومعه بشر بن البراء بن معرور ، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأما بشر فأساغها ، فمات من فوره .!
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلفظها ثم قال : إنَّ هذا العظم ليخبرني أنه مسموم.! ثم دعا بها فاعترفت

قال ابن اسحاق : وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المُعَلّى، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في مرضه الذي تُوفّي فيه ، وقد دخلت عليه أم بشر ، بنت البراء بن معرور تعوده : ( يا أم بشر ، إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر ).
قال : فإن كان المسلمون ، لَيُرَوْنَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان قد مات شهيــداً ، مع ما أكرمه الله به من النبوة . هشام2 (338)

يتبع

عن موقع قصة الإسلام
 
التعديل الأخير:
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق9

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم التاسع

القدوة الجهادية الراشدة والنزاهة المالية




إن من أهم الصفات التي يتميّز بها القائد الناجح ، هي صفة القدوة ، فبها يكسب قلوب جنوده وثقتهم ، وبها يأسر ضمائرهم ، ويقودهم على طريق المكرمات حيث يريد ..

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قدوة لأصحابه في كل شيء ، وطيلة حياته المباركة .
ولعل من أروع أمثلة القدوة لهذا الرسول الكريم ، صلى الله عليه وسلم ، هي : تقديم نفسه الشريفة وآل بيته الأطهار ، في المغرم ، وعفتهم في المغنم ..
فقد كان صلى الله عليه وسلم ، قدوة لأصحابه في المحن ، و كان يدرِّب آل بيته الأطهار على ذلك أيضاً ، فقد كلَّف ابن عمه عليّ كرّم الله وجهه ، للمبيت في فراشه ليلة هجرته الشريفة ، في أروع عملية استشهاد فدائية في ذلك العصر، وكذلك هو الحال في المرحلة المدنية…
فأول غزوة في سبيل الله ، قادها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بنفسه ، وهي غزوة وَدّان ، التي حدثت في صفر ، على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه المدينة المنورة .
وأول سريّة في الإسلام ، كلَّف بها رجلاً من آل بيته ، وهو عبيدة بن الحارث ، وفي رواية حمزة بن عبد المطلب ، رضي الله عنهما .
وأول مبارزة في الإسلام ، ندب لها مجموعة من آل بيته الأطهار .

قال ابن اسحاق متحدثاً عن معركة بدر : ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة ، وابنه الوليد بن عتبة ، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة ، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة ، هم : عَوْف ، ومُعَوِّذ ، ابنا الحارث _ وأمهما عفراء _ ورجل آخر ، يقال: هو عبد الله بن رواحة ،
فقالوا : من أنتم ؟
قالوا : رهط من الأنصار .
قالوا : ما لنا بكم حاجة ،
ثم نادى مناديهم : يا محمد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ؛ وفي رواية ، قالوا لهم : أكفاء كرام ، إنما نريد قومنا .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا عليّ . هشام 1 ( 625 )

بل يجب أن نعلم أيضاً ، بأن حمزة رضي الله عنه ، هو أول من قاتل في بدر ، حتى قبل أن تنشب المبارزة!
قال ابن اسحاق متحدثاً عن بدر أيضاً : وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي ، وكان رجلاً شرساً سيء الخُلُق ، فقال : أعاهد الله لأشربنَّ من حوضهم ( يعني المسلمين ) ، أو لأهدمنَّه ، أو لأموتنَّ دونه .!
فلما خرج ، خرج له حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، فلما التقيا ، ضربه حمزة فأطنَّ قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه ، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ، يريد ( زعم ) أن يبرَّ بيمينه ، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض . هشام 1 ( 625 )

وهكذا بالنسبة لبقية المعارك والمشاهد ، التي وقفنا على بعضها في الصفحات السابقة ،فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآل بيته الأطهار رضوان الله عليهم ، أكثر الناس حضوراً ، وأعظم الناس تضحية ، وأشد الناس بلاءً ، هذا في المغارم ..

وأما في المغانم ، فلقد كانوا أعفَّ الناس ، وأزهد الناس ، وأكرم الناس .
قال ابن اسحاق ، يحدّث عن أموال هوازن وسباياها ، وعطايا المؤلفة قلوبهم ، وإنعام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآل بيته رضوان الله عليهم ، على الناس فيها : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف عن الطائف ، وكان معه من سبي هوازن ، ستة آلاف من الذراري والنساء ، ومن الإبل والشَّاء ، ما لا يُدرى ما عدّته .!

قال : ثم إن وفد هوازن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أسلموا ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا أصلٌ وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك ، فامنن علينا منَّ الله عليك ، فأعاد إليهم نساءهم وذراريهم ثم قسّم الأموال والغنائم بين أصحابه وهو يقول : والله أن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نَعَمَاً لقسمته عليكم ، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذّاباً ، ثم قام إلى جنب بعير ، فأخذ وَبَرَة من سنامه ، فجعلها بين أصبعيه ، ثم رفعها ، ثم قال : (( أيها الناس ، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة ، إلا الخُمُس ، والخُمُس مردود عليكم )).!

ولم يكتف بذلك ، بل حرَّم الصدقة على نفسه الشريفة ، وعلى آل بيته الأطهار رضوان الله عليهم .
فلقد أورد ابن هشام في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن قوله : (( وأن الصدقة لا تحل لمحمد ، ولا لأهل بيته ، إنما هي زكاة يُزكى بها على فقراء المسلمين ، وابن السبيل )). هشام 2 ( 590 )

ولقد اقتدى بهذه الأخلاق الربانية ، آل بيته الأطهار رضوان الله عليهم ، فكانوا قدوة للمسلمين في العفة والترفع .
قال ابن هشام : إن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه ، دخل يوم حُنَيْن على امرأته فاطمة بنت شيبة بن ربيعة ، وسيفه يقطر من دماء المشركين ، فقالت : والله إني قد عرفت أنك قد قاتلت ، فماذا أصبت لنا من أموال المشركين !؟ فقال : دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك ، فدفعها إليها ، فلما سمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ شيئاً فليرده ، حتى الخياط والمخيط ، رجع عقيل إلى زوجته وقال لها : والله ، ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت ، فأخذها ، وألقاها في الغنائم .!!! هشام 2 ( 492 )

فمن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأصحابه الكرام ، وآل بيته الأطهار ، فيتقدّم الصفوف عند البذل والتضحية والعطاء ، ويتأخر ويعفّ عند الأخذ وتقاسم الكعكة كما يقولون ، وهل هناك كعكة في الوجود أعظم من الجنّة ...!!!؟

بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿10﴾ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿11﴾ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿12﴾ وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّـهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿13﴾ }(الصفّ) .
صدق الله العظيم

يتبع

عن موقع رابطة أدباء الشام
 
التعديل الأخير:
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق10

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم العاشر

نتسابق للعطاء ونعفّ عند المغنم



وكذلك فعل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، فلقد ضربوا في حياتهم أروع الأمثال في العفّة والقدوة . .
انظروا مثلاً إلى عملاق الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يتألق في التاريخ .!

قال أبو عثمان النهدي : كنت مع عتبة بن فرقد حين افتتح أذربيجان ، فصنع سفطين من خبيص (طعام) ، وألبسهما الجلود واللبود ، ثم بعث بهما إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع سحيم مولى عتبة .
فلما قدم عليه قال : ما الذي جئت به أذَهبٌ أم َورِقْ ؟
وأمر به فكشف عنه ، فذاق الخبيص ، فقال : إنَّ هذا لطيب أُثْرٌ .!
ثمّ التفت إلى الرسول فقال : أكلُّ المجاهدين أكل منه شبعه .!؟
قال : لا ، يا أمير المؤمنين . إنما هو شيء أخصك به .
فكتب إليه عمر من فوره : ( من عبد الله عمر أمير المؤمنين ، إلى عتبة بن فرقد . أما بعد ، فليس من كدّك ، ولا كدّ أمّك ، ولا كدّ أبيك ، لا نأكل إلا مما يشبع منه المسلمون في رحالهم ). (فتوح البلدان ص814 )
ولندع حديث العمالقة الكبار أمثال عمر ، فذاك رجل أدال الدول ، وهز التيجان ، ودوّخ التاريخ .!
ولنأخذ واحداً من مغموري الصحابة الكرام ، ومن الذين قادوا معارك عسكرية خاسرة ، فقد أورد الطبري 4/66 س ش س عن النضر بن السري الصبي ، أن أبا عبيد بن مسعود الثقفي ، قائد موقعة الجسر ، لما انتصر على الفرس في معركة السقّاطية ، 12 شعبان –13 هـ ، وكانت قبل معركة الجسر، جاءه مجموعة من دهاقنة السواد ، بآنية فيها أنواع من الأطعمة الفارسية الفاخرة ، فقدموها اليه ، وقالوا : هذه كرامة أكرمناك بها ، وقِرىً لك .
قال : أأكرمتم الجندَ وقريتموهم مثله .؟ قالوا : لم يتيسر ونحن فاعلون .
فرفض أبو عبيد الطعام وقال : لا حاجة لنا فيما لا يسع الجند .
بئس المرءُ أبو عبيد ، إن صحب قوماً من بلادهم ، اهراقوا دماءهم دونه أولم يهرقوا ، فاستأثر عليهم بشيء يصيبه . لا والله لا نأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم..!
فذهب ألدها قين ، وأعدوا طعاماً لجيش أبي عبيد كله ، وفي اليوم التالي عادوا فقدموا له الطعام ، فلما أراد أن يرفضه قالوا : كُلْ ، فانه ليس من أصحابك أحد إلا وهو يؤتى في منـزله بشبعه ، بمثل هذا وأفضل .!

فلما تأكد ( القائد) من صحة قولهم ، قال : الآن .. نعم .. وأكل .. رضي الله عنه . نعم والله … لم يكن يخطر ببال القائد منهم ، أن يؤثر نفسه بشيء دون إخوانه وجنوده ، حتى لو كان هذا الشيء هو الحياة بعينها .!
قال طارق بن شهاب : كنت مع أبي عبيدة بالشام عام طاعون عمواس ، فلما اشتعل الوجع بالناس وبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه :
( أن سلام عليك ، أما بعد .. فقد عرضت لي حاجة أريد أن أشافهك فيها ، فاذا أتاك كتابي هذا ، فإني أعزم عليك إن أتاك ليلاً ألا تصبح حتى تركب ، وإن أتاك نهاراً ، ألا تمسي حتى تركب إلي . فإذا أنت نظرت في كتابي هذا ، ألا تضعه من يدك حتى تقبل ). !!!

فعرف أبو عبيدة ما أراد عمر ، رضي الله عنهما ، فكتب إليه :
( يا أمير المؤمنين ، قد عرفت حاجتك إليّ ، وأنك تستبق ما ليس بباق ، وإنّي في جند من المسلمين ، ولا أجد بنفسي رغبة عنهم ، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله فيَّ وفيهم قضاءه ، فحلّلني من عزيمتك يرحمك الله ) ...!!!
فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى اخضلت لحيته .!
فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، أمات أبو عبيدة .!؟
قال : لا … وكأنْ قَدْ .!!! الكامل 2/558 .

ولقد ضرب أستاذ العسكرية ، وعبقريّ الحروب ، سيف الله ، خالد بن الوليد رضي الله عنه ، أروع الامثلة في القيادة القدوة ، حتى كسب ثقة جنوده ، وأسر أفئدتهم ، فكان يكفي للجيش أن يكون قائده خالد ، حتى يتطوع فيه المسلمون بالآلاف .
ولقد أرعد فرائص أعدائه ، وشلّ تفكيرهم ، وكان يسبقه صيتُه مسيرة شهر.!
ولم يحضر معركة إلا قابل فيها قائد العدو ، فإما قتله ، وإما أسره .!!
ولقد حدثتنا كتب التاريخ عن قادة عمالقة ، تركوا جيوشهم وفروا منه رعباً ، فماتوا في الصحراء من العطش .!!

يقول هذا العظيم : والله ، ما ليلةٌ تهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا لها محبّ ، بأحب إليّ ، من ليلةٍ شديدة البرد ، أبيتُ فيها والسماءُ تنهلُ عليَّ ، على رأس كتيبة من المهاجرين والأنصار ، أُصبِّحُ قوماً أو أُمسِّيهم .!!!
ولما حضرت هذا العظيمَ الوفاةُ ، أسف وبكى أن يموت على فراشه بين أهله وأولاده ونسائه ، بعيداً عن ساحات الوغى ، حيث جنوده وإخوانه ، فقال قولته المَثَلْ :
( ما في جسمي موضع شبر ، إلا وفيه ضربة بسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء ).

يتبع

عن موقع رابطة أدباء الشام
 
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق11

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم الحادي عشر

مباديء راقية في الفروسيّة وأخلاق الحرب


لقد رأينا في فقرة سابقة ، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارس القوة والردع العسكري ، عندما كان يحتاج الموقف إلى ذلك.
فلقد هدم حصون الطائف بالدبابات والمنجنيقات ، وأهدر دماء بعض المشركين وأمر بقتلهم حتى لو وُجدوا معلّقين بأستار الكعبة المشرّفة ، وقتل بعض أعدائه صبراً ، وقطع أيدي وأرجل البعض الآخر .!!!
كل ذلك فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب ، وللحرب أحكامها ، لا عن قسوة في القلب ، وتعطّش للدماء ، معاذ الله .!!!
فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحمل بين جوانحه قلباً ، فيه من الرحمة والمروءة والنبل ، ما لو وُزّعت على أهل الأرض لوسعتهم ، مصداقاً لقوله تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }.

ولكنه التوازن المطلوب في شخصيّة القائد العسكري المسلم ، فللرحمة أوقاتها ، وللحزم أوقاته كذلك ، والمسلم ليس بالخبّ ، ولا الخبّ يخدعُه ...
والرسول صلى الله عليه وسلّم يقول : ( ولا يُلْدَغُ مؤمنٌ من جُحر مرَّتين ) … وإذا كانت مثل تلك المواقف الحازمة لها ما يسوّغها في مسيرة الدعوة الإسلامية ، ومسيرة الجهاد الإسلامي ، في ظروف معينة ، وحالات خاصة ، يقدرها القائد في ميادين المنازلة والجهاد .
فإن الأصل الثابت ، والمنهج العام للدعوة ، هو غير ذلك تماماً ، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحمل من قيم الفروسية ، ومعاني الرجولة ، وأخلاق الحرب ما يصلح اليوم للتدريس في أرقى المعاهد والأكاديميات ، التي تعلّم اليوم قيم العسكرية وأخلاق الحرب في العالم ، إن كان ثمة قيم باقية .!

وإخواني من المسلمين المؤمنين ، هم أولى الناس على وجه الأرض بها .

ولعل أهم ما لفت نظري من هذه الأخلاق :

1. نهي الرسول صلى الله عليه وسلم ، عن قتل الضعفاء من الأطفال ، والنساء ، والأُجراء :
فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا عقد لواءً في سبيل الله ، كثيراً ما يوصي أصحابه فيقول :
( أُغزوا في سبيل الله ، وقاتلوا من كفر بالله ، لا تغلّوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا وليداً ، فهذا عهدُ الله ، وسيرةُ نبيّه فيكم ) . هشام 2 ( 632 )
وكان يغضب عندما يرى امرأة مقتولة في غزواته من دون سبب معقول ، فقد ذكر ابن اسحاق : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد مرّ على امرأة مقتولة في طريقه إلى الطائف ، والناس متقصِّفون عليها ( متجمِّعون ) ، فقال : ما هذا .!؟
قالوا : امرأة قتلها خالد بن الوليد ؛ فقال لبعض من معه :
( أدرك خالداً ، فقل له : إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليداً ، أو امرأة، أو عسيفاً ( أجيراً ). ) هشام 2 ( 457 )

2 . الجمع بين الأمهات ، وأبنائهنَّ في الأسر :
لقد بُعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ونظام الرقِّ نظاماً عالمياً ، تعمل به كل أمم الأرض في ذلك العهد ، ولئن كان الإسلام يومها ، غير قادر على إلغائه مرّة واحدة من الوجود بجرّة قلم ، فقد بذل كل ما يستطيع ، لتجفيف منابعه ، والتخفيف من وقعه ، والتقليل من آلامه.
قال ابن هشام : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، زيد بن حارثة نحو مدين ، ومعه مجموعة من أصحابه ، فأصاب سبياً من أهل ميناء ، وهي السواحل ، وفيها جُمَّاع الناس ، فبِيعوا ، ففُرِّق بينهم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون ، فقال : ما لهم
فقيل : يا رسول الله ، فُرِّق بينهم .
فقال: ( لا تبيعوهم إلا جميعاً ).
قال ابن هشام : أراد الأمهات والأولاد . هشام 2 ( 635 )

3. رفض بيع أجساد القتلى المشركين ، في أرض المعركة :
من فروسيّته العالية ، وأخلاقه الحربية الراقية ، صلى الله عليه وسلّم ، أنه كان يرفض بيع جثث المشركين الذين يسقطون في أرض المعركة .
قال ابن اسحاق يحدث عن قتلى المشركين يوم الخندق : ومن الذين قُتلوا يوم الخندق ، من بني مخزوم بن يقظة ، نوفل بن عبد الله بن المُغيرة ، وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده وكان قد اقتحم الخندق فتورّط فيه فقُتل ، فغلب المسلمون على جسده .
قال ابن هشام : أعطَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده ، عشرة آلاف درهم ، فيما بلغني عن الزهري .! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه ) فخلى بينهم وبينه . هشام 2 ( 253 )

4. المنّ على الأسرى والسبايا وإطلاقهم بدون مقابل :
لقد كان من أخلاقه الحربية العالية ، ومن فروسيّته النبيلة ، صلى الله عليه وسلّم ، أن يمنّ على الأسرى والسبايا فيطلق سراحهم بدون مقابل ، وهذا في سيرته الشريفة أكثر من أن يحصى ، ولكن ما ذكرناه للتو عن سبايا هوازن ، الذين أطلق منهم حوالي ستة آلاف من الذراري والنساء ، كان خير مثل على ما نقول ..
ولقد رأينا كيف دفع هذا العمل النبيل ، أهل ثقيف فأسلموا عن بكرة أبيهم . (هشام 2 (488))

5. التواضع لله ، وعدم البطر بعد النصر ::
مع كل الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من بطولات عظيمة ، وإنجازات هائلة ، غيرت خارطة العالم ، وعدَّلت مسار التاريخ ، إلا أنه كان متواضعاً لله ، عارفاً به ، قلما ينسب من ذلك شيئاً لذاته ، وهيهات أن تحدِّثه نفسه بشيء من العجب والغرور .!
قال ابن اسحق يحدث عن سيرته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح : حدثني عبد الله بن أبي بكر :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما انتهى إلى ذي طُوى ، وقف على راحلته معتجراً بشُقَّة بُرْدٍ حبرة حمراء ، وإنه ليضع رأسه تواضعاً لله ، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى إن عُثْنُونه ليكاد يمسّ واسطة الرحل .!(هشام 2 (405))

6. لا يغير على أعدائه ليلاً ، حتى يرقب الأذان فيهم :
لقد كان من أخلاقه ونبله صلى الله عليه وسلم ، أنه لا يطرق أعداءه بليل ، قبل أن يُصبح ، ويتأكد من شركهم ، وعدم إسلامهم ، وذلك بالإصغاء إلى الأذان فيهم .!
قال ابن اسحاق : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا غزا قوماً، لم يُغِر عليهم حتى يصبح ، فإن سمع أذاناً أمسك ، وإن لم يسمع أذاناً أغار . (هشام 2 (329))

7. لا يمنع الميرة والطعام حتى عن أعدائه المحاربين :
فلقد أورد ابن هشام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرجت خيلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذت رجلاً من بني حنيفة لا يدرون من هو ، حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتدرون من أخذتم !؟ هذا ثُمامة بن أسَّال الحنفي ، أحسنوا إساره . ورجع إلى أهله فقال اجمعوا كل ما عندكم من طعام ، فابعثوا به إليه ، وأمر بلِقْحته أن يُغدى عليه بها ويُراح .
وجعل يأتيه فيقول أسلم يا ثُمامة ،
فيقول : إيها ، يا محمد ، إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن ترد الفداء فسل ما شئت ،
فمكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أطلقوه ،
فلما أطلقوه ، خرج حتى أتى البقيع ، فتطهَّر فأحسن طهوره ، ثم أقبل فبايع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أمسى جاؤوه بما كانوا يأتونه من الطعام ، فلم ينل منه إلا قليلاً ، فعجب المسلمون من ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أتعجبون من رجل أكل أول النهار في معي كافر وأكل آخره في معي مسلم .!؟
إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمسلم يأكل في معي واحد .
والتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : والله لقد كان وجهك أبغض الوجوه إليّ ، ولقد أصبح وهو أحبها إليّ.
ثم خرج معتمراً ، فلما قدم مكة ، قالوا : أصبوت يا ثُمام !؟
فقال : لا ، ولكني اتبعت خير الدين ، دين محمد ، ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم خرج إلى اليمامة ، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً ، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك تأمر بصلة الأرحام ، وإنك قد قطعت أرحامنا ، فقد قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع .!
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن يخلي بينهم وبين ميرتهم .!
ألا فما أعظم هذه الأخلاق ، وما أروع هذه السيرة .!؟

وما أجدر الدعاة والقادة اليوم ، من الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن شعبهم ، أن يقتدوا بها ، ويسيروا على نهجها ...

يتبع

بتصرف بسيط جداً عن موقع رابطة أدباء الشام
 
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق12

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم الثاني عشر

حرب القلّة ضدّ الكثرة



إن واحدة من أهم خصائص ديننا الإسلامي الحنيف هي الواقعية الحركية ، فهو حركة تغيير شاملة ذات مراحل مختلفة ، ولكل مرحلة أولويّاتها وخصائصها التي تتناسب مع طبيعة الظرف والواقع الذي يعيشه المسلمون ، ففي المرحلة المكيّة مثلاً لم يكن مسموحاً للمسلمين بالجهاد في سبيل الله واستخدام العنف الثوري في التغيير، لا لزهد في عملية الجهاد ، بل لأن فقه المرحلة ، وفهم الواقع ، كان يقتضي استخدام وسائل أخرى أنفع للدعوة والدعاة ، مثل : الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، والصبر واحتمال الأذى ، وكفّ الأيدي وعدم المواجهة المسلّحة . قال تعالى في تلك المرحلة : بسم الله الرحمن الرحيم { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّـهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚوَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗقُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴿77﴾}(االنساء).

ولكن ، ما إن وطئت أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض المدينة المنوّرة ، وتغير الظرف وتغيّرت المرحلة ، حتى أذن الله له بالجهاد ، فقال تعالى عن تلك المرحلة : بسم الله الرحمن الرحيم
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿39﴾ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّـهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّـهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿40﴾(الحج).

ونظراً لقلة أعداد المسلمين يومها بالمقارنة مع كثرة أعدائهم كما ذكرنا مراراً ، لذلك فقد لجأ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى ستراتيجة مبدعة هي : حرب القلّة المؤمنة ضد الكثرة الكافرة ، والتي تعرف اليوم كما ذكرنا ب( حرب العصابات ) والتي من روحها وجوهرها :

المعنويات العالية التي تستند إلى قضية عادلة مقدّسة ، والكفاءة الفردية التي تعوّض القلّة العددية ، وخصوبة الذهن العسكري ، وسرعة الحركة ، ومرونة الخطّة ، وابتكار تكتيكات عسكرية مبدعة ، والمفاجأة ، والمبادأة ، والتركيز على تحطيم العدو وإرهاقه ، وتوجيه ضربات سريعة ومتلاحقة له ثم التواري ، بدلاً من التشبث في الأرض والدفاع عنها ... وهكذا ...

ولقد اقتدى بهذا الرسول العظيم ( ص ) خلفاؤه من بعده ، فها هو الخليفة ( الصدّيق ) رضوان الله عليه ، يطبّق نفس المباديء التي تعلّمها من حبيبه وقائده ، وذلك عندما يجد نفسه أمام نفس التحدّي الذي واجه صاحبه من قبل إبّان ارتداد المرتدّين ، فيستنفر الأمة للجهاد ، ويحشدها للمعركة ، ويشكّل الفيالق ، ويحرّك الكتائب ، ويضرب بمنتهى الرشاقة والقوّة في أكثر من اتجاه ، حتى يدوّخ الأعداء ويشلّ تفكيرهم ، ويربك خططهم ، ويقول قولته الخالدة التي لا تزال تجلجل في أذن التاريخ : ( والله لو منعوني عَقالاً كانوا يؤدّونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لجالدتهم بسيفي هذا حتى تنفرد سالفتي ) .
ويكفي لكي ندلّل على مدى جدّية الصدّيق (رض ) وحزمه وبراعته ، أن نذكّر بأنه كان قد جهّز أحد عشر جيشاً ، عقد لكلّ منها لواءً ، وجعل على كلّ منها قائداً ..
ونذكّر أيضاً بأن واحداً فقط من هذه الجيوش ، وهو جيش خالد بن الوليد ( رض ) ، كان تعداده عشرة آلاف مجاهد ، وهو الذي كان فيما بعد النواة الأولى لفتح العراق كلّه .!!!

يتبع

عن موقع رابطة أدباء الشام
 
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق13

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم الثالث عشر

أمة مجاهدة .. تقبل التحدّي



بعد أن قُمعت الرّدة ، وأُخمدت نار الفتنة ، وتوحّدت الجزيرة العربيّة تحت راية التوحيد من جديد ، أراد الصدّيق ( رض ) أن يستثمر هذا الزخم الجهادي للعرب ، وأن يوظف هذه الروح المعنوية العالية للمسلمين ، فأصدر قراره التاريخي الرائع ( قرار الفتوح ) ، ولكنّه فتح له باب التطوّع هذه المرة لأن درجة التحدّي التي تواجه الأمة قد خفّت نسبياً ، وكتب إلى قائديه ، خالد بن الوليد ، وعياض بن غنم رضي الله عنهما ، يأمرهما بالتوجّه إلى العراق ، ويطلب منهما بصريح العبارة :
( وأذنا لمن شاء بالرجوع إلى أهله ، ولا تستفتحا بمتكاره ) الطبري (4/19).

ثم يأتي من بعده الفاروق عمر ( رض ) ، ويسير على نفس النهج الذي سبقه أليه صاحباه …
فها هو يتابع حركة الفتوح المظفّرة في المشرق والمغرب ، ويستمر في إرسال المتطوّعين لرفد ساحات الجهاد المباركة ، ويصعّد من عملية التعبئة والحشد كلّما ارتفعت نبرة التحدّي للأمة ، فيسمح لمن حسن إسلامه من المرتدين بالمشاركة في شرف الجهاد ، ويأمر بجمع ما تفرّق من قبائل العرب ليشكّل منها وحدات حربية مقاتلة تدعم حركة الفتوح ، وتعزّز ساحات الجهاد …

وفجأةً ، يجد الفاروق ( رض ) نفسه أمام نفس التحدّي الذي واجه صاحباه من قبل.
إنه موقف التحدّي الخطير للأمة ، والتهديد الجدّي لها ، وذلك أن الفرس بعد أن ذاقوا الهزائم المتكرّرة على أيدي الفاتحين العرب ، حزبوا أمرهم ، واجتمع ملؤهم على تولية يزدجرد من ولد شهريار أمور دولتهم ، ودانوا له بالولاء ، وتباروا جميعاً في طاعته ، فبدأ هذا الأخير بحشد طاقات الامبراطورية المهزومة ، وأرسل إلى أطراف فارس يستنفرها ، فاجتمع له من الحشود ما لم يجتمع لغيره ، ولكنَّ عيون المثنّى ( رض) ، القائد الميداني المبدع للعرب ، وابن العراق البار ، كانت ترقب كل تلك التطورات ، وترسل بها إلى الفاروق ( رض ) أولاً بأول ..

وينتخي الفاروق ( رض ) كما هي عادة العربي دوماً ، ويقبل التحدّي المفروض عليه، ويكتب إلى المثنّى ( رض ) يقول :
( أما بعدُ …فاخرجوا من بين ظهراني العجم ، وتنحّوا إلى البَرّ ، وتفرّقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرض العرب ، وادعُ للجهاد من يليك من قبائل العرب ، ولا تدَعوا أحداً من ربيعة ولا مضر ولا حلفائهم من أهل النجدات ، ولا فارساً إلا اجتلبتموه ، فإن جاء طائعاً ، وإلا حشرتموه ، احملوا العرب على الجدّ إذا جدَّ العجم ، فلتلقوا جدّهم بجدّكم ، وأقم منهم قريباً على حدود أرضك وأرضهم حتى يأتيك أمري ).
يا للعبرة الباهرة ، ويا للروعة الساحرة ، ويا لألق التاريخ .!!!

أية عزّة ، وأية نخوة ، وأية رجولة ، وأية شجاعة ، وأية حكمة ، وأية براعة ، وأية مدرسة حربيّة تلك التي تخرّج منها الفاروق ( رض ) ، حتى يصدر عنه مثل هذا البيان العسكري الساحر .!!!؟

إنه يتّخذ خطوته الأولى العاجلة التي لا بدّ منها ، فيخرج جنوده من أعماق العجم ليؤمّن حمايتهم ، لأن روح وجوهر حرب القلّة ضد الكثرة ، هي تحطيم العدو ، وعدم التشبّث بالأرض المحرّرة ...!!!
ثم يقسم بالله فيقول : ( والله ، لأضربنَّ ملوك العجم بملوكِ العرب ) .!!!

ثم يكتب إلى عماله في أرجاء الدولة الإسلاميّة بالمرسوم الجمهوري الذي يتناسب مع درجة التحدّي ، والذي يعلن النفير العام ، فيقول:
( ولا تدَعوا أحداً له سلاحٌ أو فرسٌ أو نجدةٌ أو رأيٌ ، إلا انتخبتموه ، ثمّ وجّهتموه إليَّ ، والعجَلَ .. العجَلْ ) الطبري (4/87).
وهكذا ، فلم يدع الفاروقُ ( رض ) رئيساً ولا فارساً ولا ذا رأي ولا ذا شرف أو سطوة ، ولا خطيباً ولا شاعراً ، إلا رماهم به …
فرماهم بوجوه الناس وغرر العرب …!!!

يتبع

عن رابطة أدباء الشام
 
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق14

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم الرابع عشر

نماذج جهادية متألقة


بناءً على فهم الأمة العميق لمعاني الجهاد في سبيل الله ، فقد تألق التاريخ العربي الإسلامي بنماذج جهادية باهرة ، لم تكن لتحصل إلا في أمة عريقة كأمة العرب ، وفي ظل نظام رباني كنظام الإسلام ..

فعن صفوان بن عمرو قال : كنت والياً على حمص ، فلقيت شيخاً كبيراً من أهل دمشق ، قد سقط حاجباه من الهرم ، وهو راكب راحلته يريد الغزو في سبيل الله ، فقلت له يا عمّ .! أليس قد أعذر اللهُ إليك .!؟
فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي ، لقد استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، إلا أنه من يحبّه الله يبتليه .. الكشاف(2/34).

ولقد خرج سعيد بن المسيّب ( رض ) إلى الجهاد وقد ذهبت إحدى عينيه ، فقيل له : إنك عليلٌ وصاحبُ ضرر ، فقال : استنفرنا الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكنني القتال ، كثّرت سواد المسلمين ، وحفظت متاعهم .

ولقد عُثر على عبد الله بن أم مكتوم الأعمى ، صاحب رسول الله (ص) في جند القادسيّة ، وهو يحمل لواء المسلمين ، وعندما سُئل عن سبب خروجه للجهاد وقد أعذره الله ، فقال : أفلا أكثّر سواد المسلمين .!؟ الاستيعاب (2/494).

بل حتى النساء كنّ يتسابقن إلى نيل شرف المشاركة في الجهاد العربي الإسلامي ، فلقد شهدت نُسيبة بنت كعب المازنيّة ( أم عمارة رضي الله عنها ) ، أغلب غزوات الرسول ( ص ) ، ولقد أبلت في أُحد بشكل خاص بلاءً عظيماً ، حتى جُرحت بين يدي رسول الله ( ص ) جراحات عدّة ، كما شاركت مع خلفائه من بعده رضوان الله عليهم ، ولقد قاتلت المرتدّين في اليمامة مع القائد المبدع خالد بن الوليد ( رض ) وأبلت بلاءً حسناً حتى قطعت يدها وجُرحت بضعة عشر جرحاً .
الإصابة ( 8/198).

ولقد ركبت أم حرام بنت ملحان ، زوجة عبادة بن الصمت رضي الله عنها وعن زوجها ، البحر مجاهدة في سبيل الله ، وذلك في غزوة قبرص ، سنة (27) للهجرة الشريفة ، واستشهدت هناك ، وقبرها معروف في قبرص إلى اليوم .!!!

وهكذا كان تفاعل أبناء الأمة مع دعوتهم ورسالتهم ومبادئهم ، تفاعل جهاد وعطاء وتضحية ، حتى غيّروا بجهادهم خارطة العالم ، وعدّلوا بتضحياتهم مسار التاريخ ، وبالتالي فقد ألبسهم الله ما يستحقّون من أثواب العزّة والكرامة والنصر والتمكين ، مكافأة لهم على صدقهم وحسن بلائهم …

وكما انتصرت القلّة المؤمنة في ( بدر ) و ( القادسيّة ) و ( اليرموك ) وغيرها …
فكذلك ستنتصر – بعون الله – إرادة الحق والخير والإيمان والفضيلة ، التي يمثّلها المؤمنون المجاهدون وستندحر – بإذن الله – قوى الكفر والظلام والحقد والطغيان والسّاديّة ، ، ومن ساندهم ، وسيشرق فجر العرب والمسلمين من جديد ، ويعود إليهم دورهم الريادي والقيادي في الأمة …

{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴿4﴾ بِنَصْرِ اللَّـهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿5﴾ }(الروم) صدق الله العظيم

يتبع

بتصرف عن رابطة أدباء الشام
 
سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي/ق15

سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

الدكتور أبو بكر الشامي

القسم الخامس عشر

خطة جهادية مذهلة


بعد أن قُمعت الردّة وأُخمدت نار الفتنة في جزيرة العرب كما ذكرنا ، أراد الخليفة الراشد أبو بكر الصدّيق ( رضي الله عنه ) أن يستثمر الزخم الجهادي المتدفّق للعرب ، والروح المعنوية العالية للمسلمين ، فأصدر قراره التاريخيّ الرائع ( الفتوحات الإسلامية ) وفتح له باب التطوّع ، وبدأ بالعراق ، فأوعز إلى قائده المبدع خالد بن الوليد (رضي الله عنه ) _ وكان قد فرغ لتوّه من القضاء على المرتدّين ، وعلى رأسهم مسيلمة الكذّاب في اليمامة _ أن يدخل العراق من جنوبه الشرقي ، كما كتب إلى عِياض بن غنم ، وهو قائد آخر يلاحق فلول المرتدّين في منطقة الحجاز ، وأمره أن يدخل العراق من شماله الغربي ، بحيث يطبقان على غربيّ نهر الفرات بفكّي كمّاشة وأمرهما أن يلتقيا في الحيرة ، وأيهما سبق إليها فيكون هو الأمير .. !!!

ترى .. أين تعلّم أبو بكر الصدّيق ( رضي الله عنه ) فنون الستراتيجية والحرب حتى يضع مثل هذه الخطة الرائعة .!!؟
يقول العسكريون : الخطة البسيطة الواضحة هي أهم عنصر في نجاح القائد .!!
فما أبسطها ، وما أوضحها وما أروعها من خطة … !

إنها خطة ذات مرحلتين ،
في المرحلة الأولى :
يتم الإطباق على غربي نهر الفرات وتطهيرها من القوات الفارسيّة ، وهي منطقة قريبة من صحراء العرب ، ولهم خبرة كبيرة فيها ، فإذا نجحت الخطة ،
فيتم الإنتقال إلى المرحلة الثانية :
وهي الوثوب إلى المدائن من قاعدة ارتكاز متقدّمة في ( الحيرة ) بعد أن يتأمن ظهر المسلمين وجنباتهم ...
أما إذا لم تنجح الخطة ، فيلوذ العرب بصحرائهم القريبة ، فهم بها أعرف ، وعدوّهم بها أجهل ، حتى يتم الإعداد لخطّة جديدة ، ووثبة متجددة … وهكذا …
وهو الذي أسميناه عدم التشبث في الأرض ، وهو من روح وجوهر حرب القلّة ضد الكثرة ، أو ما يسمى بحرب العصابات

وتحرّك الأسطورة خالد ( رضي الله عنه ) على رأس ثمانية عشر ألف مجاهد لتطبيق الخطة المرسومة ، فدخل العراق في شهر محرّم سنة اثنتي عشرة للهجرة ، الموافق لشهر نيسان من سنة (633 م ) مبتدئاً بثغر العراق الجنوبي ( الأُبلّة ) التي كانت أشهر ميناء على شط العرب ، والتي تبعد عن موضع البصرة الحالية ( التي لم تكن موجودة ) حوالي أربعة فراسخ ( 22 كم ).

وقبل أن يصلها ، كتب خالد ( رضي الله عنه ) إلى أميرها من العجم واسمه هرمز :
( بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ، فأسلم تسلم ، واعتقد لنفسك ولقومك الذمّة وأقرر بالجزية ، وإلا فلا تلومنَّ إلا نفسك ، فقد جئتك بقوم يحبّون الموت كما تحبّون الحياة .!!! ) الطبري ( 4/5)
ولما وصلت الرسالة إلى هرمز استشاط غضباً ، وجمع قوّاته وقيّدهم بالسلاسل كي لا يفرّوا ( ولذلك سميت الموقعة بذات السلاسل ) ..!!!

نزل خالد وعبّأ قوّاته قبالة الفرس ، وحرّضهم على الجهاد في سبيل الله ، ولكنّ هرمز كان يحيك خيوط مؤامرة خسيسة ، فخرج بين الصفين ، وطلب المبارزة ، ونادى : ( رجل برجل … أين خالد .!؟ )
وكان قد عهد إلى فرسانه بالغدر ، وتواطؤوا على ذلك …!!!

وتلقّاه خالد ( رضي الله عنه ) ، فاختلفا ضربتين ، ثم لم يمهله خالد ، فهجم عليه واحتضنه . وهنا غدرت حامية الفرس المكلّفة بذلك ، فهجمت على خالد وهو مشتبك مع هرمز وأحاطوا بهما من كل جانب حتى اختفيا بينهم ، ولكنّ ذلك لم يشغل خالداً عن قتل هرمز ، فقتله وألقى بجثّته تحت أقدام الخيل .!!!
ولما رأى القعقاع بن عمرو التميمي ( رضي الله عنه ) البطل العربيّ المعروف ، غدر الفرس قاد المسلمين ، وأنشب القتال ، وهجم على الفرس حتى كشفهم عن قائده خالد ( رضي الله عنه ) فوجده يقاتلهم وحده قتال الأبطال ، وهنا بدأ الرعب يدبُّ في صفوف العجم ، وانهارت معنويّاتهم ، فركب المسلمون أكتافهم حتى هزموهم شرّ هزيمة …

وكانت هذه فاتحة انتصارات المسلمين على العجم ، مما أعطتهم زخماً جهادياً عالياً وروحاً قتالية متوثّبة ، وكانت فأل خير لجميع انتصاراتهم اللاحقة …

يتبع

عن موقع رابطة أدباء الشام
 
رد: سلسلة دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة/د. أبو بكر الشامي

نفع الله بك يانبيل
 
عودة
أعلى