شهدت سواحل المغرب الجنوبية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تنافسا حادا بين العديد من الدول الأجنبية من أجل الظفر باحتلال ساحل يمكنها من بناء وكالات تجارية لتسهيل عمليات البيع والشراء مع القبائل فجهزت كل دولة على حدة سفنا وشحنتها بمواد تجارية مختلفة وبهدايا ثمينة ومتنوعة لتوزيعها على شيوخ القبائل لكسب ثقتهم وربط علاقات مثينة معهم، ولم تجرؤ هذه الدول على مكاتبة المخزن المغربي للحصول على موافقته لتشييد هذه المستودعات التجارية، بل ظنت أن التعاقد مباشرة مع السكان سيرغم السلطان المغربي على الخضوع للأمر الواقع والتسليم بأن هذه المناطق لا تخضع لسلطته كما زعمت أغلب الحكومات الأوربية التي كانت لها أطماع استعمارية في سواحل المغرب الجنوبية.
وفي ظل هذه الظروف المشحونة بتطاول الأوربيين على سيادة العديد من الدول النامية، تقلد السلطان مولاي الحسن الأول عرش أسلافه، وحاول منذ الوهلة الأولى القيام بإصلاحات كبرى في شتى الميادين للنهوض بالبلاد من جديد خاصة بعد النكبات التي توالت عليها من جراء تقديم المساعدة الحربية والمالية للجارة الجزائر أثناء محنتها مع الغزو الفرنسي منذ سنة 1830، فنجم عن ذلك أن انهزمت الجيوش المغربية في معركة ايسلي سنة 1844، وأرغم المغرب على التوقيع على اتفاقية مجحفة للا مغنية سنة 1845.
ثم جاءت النكبة الثانية التي كشفت عن الضعف الذي دب إلى جسم الدولة المغربية من خلال انهزامه مرة ثانية أمام الإسبانيين في حرب تطوان (1859-1860)، وفرض غرامة مالية أثقلت كاهل خزينة البلاد لسنوات عدة، بالإضافة إلى تعنت الإسبانيين ومطالبتهم بالتنازل لهم عن قطعة أرض في الجنوب المغربي لإعادة بناء ذلك الحصن (اللغز) المسمى « سانتاكروز دي ماربيكينيا . «
كل هذه الأوراش الإصلاحية التي إنكب عليها السلطان مولاي الحسن الأول لم تثن من عزيمته للدفاع عن وحدة بلاده وعن سيادته على الأقاليم الصحراوية، فجهز فرسه وانطلق في حركاته المخزنية يجوب كل أطراف مملكته لتفقد أحوال الرعية والوقوف بعين المكان على مكامن الخلل والضعف، ولم يغتر بطيب العيش في قصوره بل قرر أن يحمل معه عرشه فوق صهوة جواده، ولم ينعم طيلة فترة حكمه الممتدة من سنة 1873 إلى حدود سنة 1894، بالاستقرار في عاصمة مملكته أكثر من ثلاثة أشهر فقط، وخص الأقاليم الصحراوية بحركتين سلطانيتين الأولى كانت سنة 1882، تصدى من خلالها للمزاعم الانجليزية التي روجت أكاذيب حول عدم خضوع ساحل طرفاية لسلطة ملك المغرب.
وفنذ الأباطيل التي ادعتها الدبلوماسية الانجليزية، وأظهر للجميع وخاصة لأعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد في بلاده بمدينة طنجة بأن هذه السواحل جزء لا يتجزأ من الدولة المغربية، وأثناء حلوله ببلاد وادي نون، قام بتنصيب عدد من العمال والقواد وكلفهم بإقامة حراسة دائمة على طول سواحل المغرب الجنوبية لمنع رسو السفن الأجنبية والضرب بقوة على أيدي كل من سولت له نفسه التعامل معهم أو الترخيص لهم للإقامة بين ظهرانيهم، وعزز سلطته ونفوذه على هذه الأقاليم بأن نصب الشيخ ماء العينين خليفة عنه بالصحراء منذ سنة 1879 أي قبل مجيء الأسبان بخمس سنوات وإدعائهم بأن هذه الأرض كان خلاء لا حاكم لها.
أما الحركة الثانية فكانت سنة 1886، للرد على المزاعم الاسبانية القائلة باحتلالها لسواحل وادي الذهب منذ سنة 1884، واستقبل مولاي الحسن الأول أثناء وجوده بڭليمين سنة 1886 العديد من شيوخ القبائل الصحراوية ومن أعيانها وعلماءها ووجهاءها وفقهائها، وجددوا له البيعة وامتثلوا لأوامره ونواهيه، وقرر الجميع التصدي للمحاولات الإسبانية، ولم ينعم الاسبانيون بالاستقرار في شبه جزيرة وادي الذهب، إذ هبت كل أطياف القبائل الصحراوية إلى الانضمام في الهجوم الذي قاده أولاد دليم ضد مركز فيلا سيسنيروس في 9 مارس 1885، وتمكنوا من إرغام الاسبانيين على الفرار نحو البحر ومنه نحو جزر الكنارياس. فاضطرت الحكومة الاسبانية إلى بعث احتجاج رسمي إلى السلطان المغربي وطالبته بتعويض مالي عن الخسائر التي أصابت رعاياها بوادي الذهب بل ذهبت إلى حد مطالبته بمعاقبة منفذي هذا الهجوم، وهذا اعتراف صريح ورسمي من طرف الحكومة الاسبانية بسيادة السلطان المغربي على هذه المناطق. وكان من نتائج هذا الهجوم انكماش الوجود الاسباني في شبه جزيرة وادي الذهب إلى حدود سنة 1934، ومحاولاته المتعددة لاستمالة شيوخ القبائل الصحراوية عن طريق منحهم مبالغ مالية ومواد غذائية وهدايا متنوعة لثنيهم عن معاودة الهجوم على رعاياهم، وحاولنا في هذا المؤلف التطرق كذلك إلى المواقف الشجاعة للسلطان مولاي الحسن الأول ضد المحاولات الفرنسية بالأقاليم الجنوبية، فقارعها بالحجة والبراهين والمواثيق القانونية المعتمدة آنذاك عن حقوقه السيادية بهذه الأقاليم، وذكرها بالوفود الصحراوية التي استقبلها سنة 1882 والتي جددت له بيعتها وولاءها وتبعيتها لسلطانه وامتطى صهوة جواده من جديد وانطلق في حركته التاريخية نحو واحات تافيلالت سنة 1893، واستقبل شيوخ القبائل التي وفدت على الحضرة السلطانية من جميع القبائل الصحراوي والذين صرحوا له أمام الحكام العسكريين الفرنسيين على أنهم ريشة من جناح الدولة المغربية، وأنهم لن يتخلوا عن هويتهم المغربية وعن حدة بلدهم وعن البيعة التي بايع بها أبائهم وأجدادهم أباء وأجداد السلطان مولاي الحسن الأول، هذه صورة جد مقتضبة عن ملحمة النضال والوفاء والإخلاص التي قادها السلطان مولاي الحسن الأول للدفاع عن وحدة البلد وعن مغربية هذه الأقاليم الصحراوية.
من كتاب
نور الدين بلحداد: السلطان مولاي الحسن الأول والسيادة المغربيةعلى الأقاليم الجنوبية