المقاومة السودانية للاستعمار الأجنبي في العصر الحديث

sos2100

عضو
إنضم
22 يوليو 2008
المشاركات
155
التفاعل
7 0 0
:cool::

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
لقد كان دأب الاستعمار الغربي للبلاد العربية والإسلامية في العصر الحديث نهب خيرات هذه البلاد، واحتلال الأرض، واستعباد أصحابها بقوة السلاح، هذا علاوة على نشر أفكاره الخبيثة وبث سمومه الفكرية في المجتمع العربي والإسلامي.
ولكن الشعوب الإسلامية والعربية لم تستكن وترضخ لهذا الاستعمار الغاشم، فقاومته بكل بسالة وضراوة، حتى نالت كثير من هذه الشعوب استقلالها، وكان من بين الشعوب التي قاومت الاحتلال: الشعب السوداني.
ولكن المقاومة السودانية تختلف عن غيرها من المقاومات العربية، من حيث أن الاحتلال الذي جثم على أرض السودان في البداية كان احتلالاً عربياً مصرياً أخذ الشرعية من دولة الخلافة العثمانية أثناء فترة حكم محمد علي باشا لمصر، حيث أرسل جيوشه إلى السودان عام 1820م فاستولت على أجزاء كبيرة من السودان.
وما كان لنا أن نصف الحكم المصري للسودان بالاحتلال إذ أنه كان في البداية له إيجابيات لصالح الشعب السوداني من حيث نشر الدين الإسلامي، والتعليم، وإدخال أراضي جديدة تحت السيادة العثمانية، لولا أن الحكم المصري أمسى بعد مدة من الزمن حكماً صورياً وأمسى الحكم الفعلي بيد الإنجليز، وتأكدت التبعية المصرية للإنجليز بعد احتلال بريطانيا لمصر عام 1882م.
وقد قسمت هذا البحث كان المبحث الأول منها عن المقاومة السودانية للاحتلال المصري من عام 1820م حتى عام 1881م، أي قبيل اندلاع الثورة المهدية، ثم كان المبحث الثاني عن الثورة المهدية وذلك نظراً لأهميتها فأوليت لها مبحثاً خاصاً، وكان المبحث الثالث عن المقاومة السودانية للحكم الثنائي المصري البريطاني من عام 1899 حتى عام 1917م.
وقد واجهت الباحث عدة مشكلات أهمها الأوضاع الراهنة التي تمر بها منطقتنا والتي تفقد الطالب التركيز في دراسته، وتؤثر على نفسيته ودافعيته للبحث والدراسة، وكانت المشكلة الأكبر هي عدم توفر المصادر اللازمة الخاصة بالمقاومة السودانية، خاصة وأن كثير من الثورات السودانية الصغيرة التي اندلعت في أرجاء السودان المترامية الأطراف لم تأخذ الاهتمام الكافي من الباحثين، ولم تدون في كتب، حتى أن كثير من هذه الثورات لم توجد عنها أية معلومات سوى اسم قائد الثورة والمنطقة التي اندلعت فيها.
ولكن المشكلة الأكبر التي واجهت الباحث هي الفصل بين المقاومة والتمرد، خاصة عندما يكون الأمر متعلق بمجابهة عربية لاحتلال عربي كما حصل في السودان، فقد كانت المجابهة السودانية للاحتلال المصري، ولكن الذي حسم الأمر أن الحكم المصري لم يعد مستقلاً وأصبح تابعاً لبريطانيا، وأصبح حكم السودان في كثير من الأحيان بيد حاكم بريطاني بتبعية اسمية للخديوية في مصر، فأصبحت بالتالي المجابهة السودانية لهذا الاحتلال شرعية، وأخذت صفة المقاومة.
ويستفيد القارئ في هذا العصر من دراسة هذه الأبحاث عندما يقارن بين ما حدث في الماضي وما يحدث الآن على الساحة، فيجد أن أهداف الاستعمار وطرقه لم تتغير فهو يعمل على شراء الذمم واستخلاص الأتباع من العرب ليصبحوا جنوداً يحركهم بيده كيفما شاء لحرب إخوانهم في الدين والوطن، من أجل متاع زائل، أو وعود كاذبة.
وفي النهاية أتقدم بالشكر الجزيل إلى أساتذتي الكرام في الجامعة الإسلامية الذين يسعون جاهدين للرقي بمستوانا العلمي، جزاهم الله عنا خير الجزاء، والشكر موصول كذلك لزملائي الطلبة.
وأسأل الله العلي القدير أن يهدينا إلى سبيل الرشاد والهدى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله ولي التوفيق
الباحث

تمهيد
السودان: الأرض والسكان:

تقع السودان في قارة أفريقيا، وتبلغ مساحتها حوالي 2.5 مليون كم2، وتختلف السودان عن أي قطر عربي آخر، فيوجد حوالي ربع السكان من الزنوج الوثنيين الذين لا يتكلمون العربية، ويشكلون أكثرية في مساحة معينة في الجنوب. ويعد السودان أحدث البلاد العربية أخذاً بالطابع العربي الإسلامي، إذ تسربت إليه العناصر العربية عن طريق البحر الأحمر ومصر، ولم يتأثر السودان بحركة الفتح الإسلامي في فجر الإسلام، ولم تتوغل الجيوش الإسلامية التي حررت مصر في الأراضي السودانية، واكتفى عبد الله بن أبي سرح عام 25هـ = 646م بفرض معاهدات على الممالك السودانية النصرانية القائمة في شمال السودان.
وقامت في السودان الشمالي ثلاثة ممالك إسلامية هي: مملكة الفونج 1011-1237هـ = 1505-1821م، وسلطنة دارفور 1005-1335هـ = 1596-1916م، ومملكة دنقلا 978-1298هـ = 1570-1880م، والفونج قبائل زنجية زحفت من الجنوب وأسلمت وحالفت القبائل العربية، وأسست مملكة كبيرة، وكانت على نزاع مستمر مع سلطان دارفور حول السيادة على كردفان، ونشر ملوك هذه الدول الدعوة الإسلامية، وشجعوا القبائل العربية على استيطان ممالكهم، ورحبوا بالعلماء المسلمين الذين قصدوهم فحببوا لهم الإقامة ومنحوهم إقطاعات، ولم يردوا لهم طلباً ولا شفاعة، كما وانتشرت في السودان الطرق الصوفية، مثل الطريقة الشاذلية، والقادرية، والنقشبندية، والرفاعية.( )
واستخدم المؤرخون العرب تعبير "بلاد السودان" للدلالة على الأراضي الواقعة في أفريقيا جنوب الصحراء، وتضم الأراضي التي خضعت للحكم الثنائي المصري البريطاني عام 1898م حتى عام 1956م، ويعد السودان كياناً إدارياً حديث العهد، لا ترجع أصوله إلى أبعد من بداية القرن التاسع عشر، ويمكن وصف البلاد بوجه عام بأنها وادٍ فسيح يرويه نهر النيل وروافده، ويتألف القسم الشمالي من السودان من الحدود المصرية حتى شمال الخرطوم من مناطق صحراوية أو شبه صحراوية تكاد تكون غير مأهولة بالسكان، ولا تتجاوز المناطق الصالحة للسكن ضفتي النيل وبعض المناطق الشرقية، وكان أبناء النوبة إلى وقت قريب يقطنون المنطقة المتطرفة نحو الشمال قرب الحدود المصرية، قبل أن يهاجروا ناحية حدود الحبشة، ويعد السودان الأوسط إقليماً شبه صحراوي من أقاليم السافانا، وتقع في هذا الإقليم منطقة الجزيرة بين النيلين الأزرق والأبيض، وقد اشتهرت بزراعة القطن، كما تقع فيه مديرية كردفان التي تقطنها القبائل الرحل من الكبابيش والبقارة، وهي تعتمد على تربية الجمال والأبقار، ويضم هذا الإقليم أيضاً مزارعي دارفور. والسودان الجنوبي هو الإقليم الواقع جنوبي خط عرض 10ْ ، ويمتد إلى شمال بحيرة ألبرت في أوغندا، وهو يتألف من ثلاث مديريات هي بحر الغزال، والمديرية الاستوائية وأعالي النيل.( )


المبحث الأول



المقاومة السودانية للاحتلال المصري البريطاني
1820 - 1881م

الحكم المصري التركي للسودان:
دخل جيش محمد علي باشا بلاد السودان عام 1235هـ=1820م، بقيادة ابنه الثالث إسماعيل فقضى على مملكة الفونج، وصدر مرسوم السلطان العثماني في 1256هـ=1841م الذي جعل محمد علي حاكماً على النوبة( ) ودارفور وكردفان وسنار وتوابعها وملحقاتها طيلة حياته، على الرغم من أن دارفور لم تكن قد خضعت للحكم المصري، فقد تأخر احتلالها إلى عام 1874م، واستمر التوغل المصري في السودان وأفريقيا حتى بلغ بحيرة فكتوريا وسواحل البحر الأحمر.( )
ولكي يتجنب محمد علي حدوث مقاومة عنيفة لاحتلاله السودان أرسل مع الحملة التي ثلاثة من نخب العلماء الأزهريين، وأوصاهم أن يحثوا الناس على الطاعة بلا حرب؛ لأنهم مسلمون، وأن الخضوع لجلالة السلطان وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب ديني.( )
بدأت الثورات تظهر في مختلف المناطق بسبب الازدياد المتواصل في الضرائب التي فرضها الأتراك على السودانيين إذ أن الضرائب السنوية للممتلكات كانت تقدر بنصف الثمن. فلما هدأت تلك الثورات بعد أن زاد الولاة في قسوتهم وزادوا في ضرائب الجهات الثائرة إذ أن الجزيرة زيدت ضرائبها من 35.000 ريال إلى 50.000 ريال وكذلك أراضي الجعليين.
وصل إسماعيل باشا إلى شندي في ديسمبر 1822م وأمر المك نمر والمك مساعد بالمثول أمامه، وعند حضورهما بدأ الباشا بتأنيب المك نمر واتهامه بإثارة القلاقل، ومن ثم عاقبه بأن أمره أن يدفع غرامة فادحة مقدارها (1000 أوقية ذهب، ألفي عبد ذكر، أربعة آلاف من النساء والأطفال، ألف جمل ومثلها من البقر والضأن)، بغرض تعجيزه وتحقيره، رد المك باستحالة الطلب فأهانه الباشا وضربه بغليونه التركي بإساءة بالغة أمام الحاضرين، حتى أن المك رفع سيفه فأوقفه المك مساعد وتحدث إليه باللهجة الهدندوية (التي عرفوها عن طريق التجارة مع سكان البحر الأحمر) فأبدى المك رضوخه وأظهر خضوعه بأن دعا الباشا إلى العشاء وذبح له الضأن وهيأ له الحرس وأمعن في خدمته وأخبره أن الغرامة ستدفع في صباح اليوم التالي، أثناء ذلك كان الجعليون يطوقون الحفل بالقش من كل مكان مخبرين رجال الباشا أنها للماشية التي ستحضر، ثم أشعل الجعليون النار في القش فمات إسماعيل ورجاله خنقاً وحرقاً، نتيجة لذلك ساءت معاملة المغتصبين أشد الإساءة حتى أنهم قتلوا في إحدى المرات 30.000 من الجعليين العزل، أرسل محمد علي صهره محمد الدفتردار إلى السودان للانتقام من المك نمر شندي، فهرب المك إلى حدود الحبشة حيث خطط مدينة أسماها المتمة أسوة بعاصمة الجعليين في الشمال ومكث هناك عدة سنين حتى مات.
استمر حكم الدفتردار العسكري للسودان واستمرت المجازر كما أن الجنود الذين لم يتسلموا مرتباتهم لمدة ثمانية أشهر بدءوا بالبطش والنهب ليجدوا متطلبات حياتهم، إلى أن تدخلت الدول الأجنبية، فأمر محمد علي، الدفتردار بالعودة سنة 1824م محاولة منه إنهاء الحكم العسكري وإرساء نظام إداري أكثر إنسانية.
عند الدخول التركي عينت سنار عاصمة للسودان إلا أن أمطارها الخريفية وكثرت الأمراض فيها اضطرتهم إلى تغييرها إلى ود مدني إلى أن أتى عثمان باشا الذي خلف الدفتردار عقب عودته إلى مصر وأعجب بالمنطقة التي يقترن فيها النيل الأبيض بالأزرق فبنى قلعة ووضع فيها الجند سنة 1824م واتخذها عاصمة له، تلك كانت بداية مدينة الخرطوم التي ازدهرت وسكنها 60 ألف نصفهم من المصريين واليونان واللبنانيين والسوريين وأعداد من الأوروبيين. اهتم خورشيد باشا أيام حكمه (1826-1838م) بتحسين الخرطوم وإنشاء المنشآت كما شهدت الخرطوم في عهده نوعاً جديداً من الحكم إذ امتاز بإشراك السودانيين في الحكم كما عين الشيخ عبد القادر ود الزين مستشاراً له، الذي ساعده بدوره في حل الكثير من مشكلات السودان وأهمها هجرة السودانيين إلى المناطق المتاخمة للحبشة والبحر الأحمر هرباً من البطش والضرائب، فأعفى المتأخرات وأعفى الفقهاء ورجال الدين ورؤوس القبائل من الضرائب فبدأت الوفود بالعودة.( )
مقاومة دارفور لاحتلال جيش محمد علي:
بدأت المعارك بين جيش محمد علي وقبائل الفور في 16/4/1821م في مدينة بارا، وهزم جيش الفور، واستطاع محمد علي السيطرة على كردفان التي كانت تابعة لدارفور في ذلك العام.
وحاول محمد علي مصالحة سلطان دارفور لحاجة مصر للنحاس من دارفور، من خلال اتفاقية في هذا الشأن، لكنه لم يستطع، وكان عهد محمد سعيد باشا بداية لانفتاح في العلاقات بين الجانبين، أما عهد الخديوي إسماعيل فكانت العلاقة فيه ملتبسة بعض الشيء، فرغم التبادل التجاري بين الجانبين فإن سلطان دارفور شعر بوجود أطماع مصرية في مملكته، ولذا قام بتجنيد عشرة آلاف جندي وسلحهم بأسلحة حديثة، وتم إدخال المدفعية في جيش دارفور لأول مرة، وفي عهد الخديوي إسماعيل قرر السيطرة على دارفور، وأن يكون غزوها من جهتين، وهو ما دفع سلطان دارفور للدخول في تحالف مع سلطنة وداي المجاورة لتوحيد الدفاع والمقاومة، لكن قوة الجيش المصري حسمت الأمر، فتم إسقاط مملكة دارفور والسيطرة عليها في 24/10/1874م، ودارت عدة معارك كبيرة في دارفور ساعد فيها "الزبير رحمة" أحد كبار تجار الرقيق في منطقة بحر الغزال المصريين، واستطاع الزبير أن يهزم سلطان دارفور "إبراهيم قرض" في معركة منواشي في 25/10/1874م، وقتل في هذه المعركة المئات من أمراء دارفور وكبار أعيانها، وأطلق الكاتب على هذه الهزيمة "مذبحة منواشي". ( )
ثورة بوش بن محمد:
كانت فكرة الاستقلال مترسخة في أذهان أهل دارفور، فعقب هزيمة منواشي لم تضعف روحهم القتالية، بعد مقتل سلطانهم، فقاموا بتشكيل حكومة ظل تحملت عبء مسؤولية النضال من أجل الاستقلال، واستمر النضال حوالي تسع سنوات ونصف حتى تم لدارفور الاستقلال عن الحكم المصري، قامت خلالها عدة ثورات عنيفة، منها ثورة السلطان "حسب الله" في جبل مرة الذي استسلم دون مقاومة للزبير بن رحمة مما أثار غضب أهل دارفور، فقاموا بتتويج الأمير "بوش بن السلطان محمد الفضل" سلطاناً على دارفور في مارس 1875م وكلفوه بمواصلة النضال من أجل التحرير.
وخاض الزبير بن رحمة حربا ضارية ضد الأمير بوش استمرت خمسة عشر يوما، خسر فيها بوش كثيرا من رجاله وعتاده فاضطر للانسحاب من جبل مرة، ثم ما لبث بوش أن ُقتل أثناء مطاردة الزبير له.
لكن روح النضال لم تهدأ وتولى حكومة الظل في دارفور السلطان "هارون بن سيف الدين" الذي قام بثورة كبيرة وناهض الحكم المصري التركي لكنه قتل عام 1880م، وقامت ثورة أخرى بقيادة الزعيم "مادبو"، كما قامت قبيلة "بني هلبا" بثورة في جنوب دارفور.
وانتهى الأمر بالحكم المصري في دارفور بعد أن أرسلت القاهرة رسالة سرية إلى الحاكم المصري في دارفور "سلاطين باشا" تأمره أن يجمع قواته المتفرقة في دارفور في منطقة الفاشر، ثم عليه أن يسلم الحكم في دارفور إلى الأمير "عبد الشكور عبد الرحمن شاتوت" وهو من أمراء دارفور، وشاءت الأقدار أن يتوفى "عبد الشكور" قبل أن يصل إلى دارفور قادماً من القاهرة، وأن تقوم الثورة المهدية في تلك الفترة.
التدخل الأجنبي في السودان:
استمر الحكم المصري للسودان من 1235-1303هـ = 1820-1885م، تعاقب خلاله على الحكم ستة وعشرون حاكماً، وتم في عهد خامسهم وهو علي خورشيد باشا تأسيس مدينة الخرطوم ( )، ولكن سرعان ما غضب السودانيون على الحكم المصري التركي بعد أن فقد صفته العربية الإسلامية، فقد امتعضوا من تعيين حكام أجانب على مديرية خط الاستواء، وهم: صمويل بيكر (Samuel Baker) (1870-1873م)، وشارلز جوردون (Charles Gordon) (1874-1876م)، ولاحظوا أن هؤلاء الأجانب يحاربون الإسلام، وينشرون النصرانية ( )، ويضطهدون العرب والمسلمين، وازداد عدد الحكام الأجانب في خدمة الخديوي حتى بلغ عددهم عام 1296هـ=1878م، أربع عشر حاكماً أوروبياً، وبدأت بوادر الكارثة الكبرى عندما قام صمويل بيكر (Samuel Baker) بتعيين شارلز جوردون (Charles Gordon) حاكماً عاماً على السودان.( )
وكانت النتيجة الهامة التي ترتبت على الإدارة التركية المصرية أنها فتحت السودان شماله وجنوبه أمام انتشار الإسلام والنصرانية على السواء، فاعتنقت بعض قبائل جنوب السودان الإسلام مثل قبائل الفروج، كما ارتدى بعض زعماء الجنوب الزي العربي واتخذوا الأسماء والعادات العربية، وبدأت لهجة عربية مختلطة في الانتشار غير أن أثر الإسلام لم يمتد إلى القبائل النيلية التي استمرت تقاوم الإسلام واللغة العربية لارتباطهما في تقديرهما بالحكومة وتجار العبيد، وعندما أنشئت في المديرية الاستوائية مدرسة أولية لتوفير التعليم لأبناء العاملين في الوحدات المعسكرة في تلك المديرية ولأبناء السكان المحليين، لم يدخلها غير عدد جد ضئيل من الأطفال من أبناء الجنوب. ( )
بدأ التدخل الأجنبي في السودان في الظهور، حيث حكم الأجانب مديريات السودان بأسلوب عنيف باسم الخديوي إسماعيل والخديوي توفيق اللذان كانا مسلوبي الإرادة أمام الضغط الأوروبي، مما حدا بالسودانيين للقيام ضد الحكومة المصرية والتدخل الأجنبي، ومما زاد من حنق السودانيين: صرامة الحكومة في تنفيذ أوامر منع تجارة الرقيق وقسوتها عليهم حتى نضب معينهم، وسوء إدارة الحكام وغلظة المنفذين لأوامرهم من رجال الباشبوزق (جنود غير نظاميين)، وأخذهم الرشوة.( ) وكان هؤلاء الحكام خليطاً من الترك والشراكسة أو من المصريين، وكانوا على جانب كبير من الظلم والجور. ( )
وكذلك المآسي التي أعقبت حملات الدفتردار (مدير إقليم كردفان) الانتقامية لمقتل إسماعيل باشا في شندي، وفداحة الضرائب والفظاظة التي تصحب جمعها مما اضطر الأهالى للهجرة لأطراف البلاد.( )
وبعد افتتاح قناة السويس انفتحت ثغرات التدخل الأجنبي، واستفحل نفوذ القناصل الأجنبية في السودان، حتى صاروا يمارسون تجارة العاج والرقيق، جرياً وراء الربح الوفير، وفي ظل حماية الامتيازات الأجنبية، والحمايات المسلحة التي أقامها المغامرون الأوروبيون في أنحاء السودان تحت حماية قناصل دولهم، حيث كان في السودان قناصل لبريطانيا، والنمسا، وفرنسا، وسردينيا، والولايات المتحدة الأمريكية. ( )
كل هذه العناصر أدت إلى إيقاد الثورة في نفوس السودانيين، وأخذ هذا السخط يعبر عن نفسه في انتفاضات مختلفة الأهداف والأساليب مثل:
- ثورة الشيخ بدوي في كردفان سنة 1844م، والذي كان يقول أن الحكم التركي المصري يظلم ويقهر بلاده، وقد لجأ إلى جبال النوبة حين سعى محمد علي باشا إلى اعتقاله.
- ثورة الجهادية السود في التاكا في سنة 1865م.
- ثورة الفقيه إدريس وجماعة من أنصاره في سنة 1878م على النيل الأبيض، ومقتله في قرية القراصة.
- ثورة سليمان بن الزبير رحمة، الذي كان ضابطاً تابعاً للحكومة في بحر الغزال، لكنه تمرد على قرارات القائد الإنجليزي جوردون (Gordon) الذي أراد عزله بسبب كثرة الوشايات ضده، إلا أن ثورته فشلت، وقُتل بعدما أُعطي الأمان وسلَّم نفسه، وفرَّ شريكه في الثورة رابح مولى الزبير عام 1296هـ=1878م.( )
- ثورة في دارفور تحت زعامة أحد رؤساء القبائل ويدعى محمد هارون، وقد بذلت الحكومة المصرية جهوداً كبيرة في القضاء عليها.
- ثورة رجل يدعى الصباح، وكان يعمل في جيش الزبير الذي أرسلته الحكومة المصرية لضم دارفور، وقد استطاعت الحكومة إخمادها بسهولة ( ).


مقاومة التبشير:
ازداد التفات المبشرين المسيحيين إلى السودان خلال فترة الحكم التركي المصري، نتيجة لاهتمامهم بنشر النصرانية في تلك الأصقاع وما وراءها من أنحاء أفريقيا الأخرى، للوصول إلى مملكة أثيوبيا النصرانية التي كانوا يسعون للاستيلاء على كنيستها القبطية، وكان الرهبان الفرنسيسكان والجزويت يمرون بالسودان الشمالي خلال القرن الثامن عشر في طريقهم إلى أثيوبيا ولكن عندما تم احتلال السودان في عام 1820م بدأ المبشرون يوجهون اهتمامهم إلى السودان ذاته، وشجعت المبشرين السياسة المتسامحة التي اتبعها محمد علي إزاءهم، فأقاموا مدرسة كاثوليكية في الخرطوم، ثم أنشأ البابا جريجوري الرابع عشر (pope Gregory XVI) في عام 1846م كرسياً رسولياً لأفريقيا الوسطى جعل مركزه الخرطوم، وهدفه إدخال الزنوج في النصرانية وإيقاف تجارة العبيد، ولم يلبث هذا الكرسي الرسولي أن مد نشاطه إلى الجنوب فأنشأ مركزين للتبشير، أحدهما في غندوكرو في عام 1850م والآخر في كاكا في عام 1862م وإن كان نشاط المبشرين قد لقي مقاومة من جانب الإدارة المحلية ومن جانب السكان المحليين. وقدّم الجنرال جوردون (Gordon) مساعدات جمة لنشاط المبشرين عندما عين حاكماً للمديرية الاستوائية وكتب في عام 1871م إلى جمعية المبشرين البريطانية يدعوها للعمل في مديريته، لكنها لم تتمكن من إجابة رغبته نظراً لالتزاماتها في مناطق متعددة من أوروبا، واتخذت قبائل الجنوب من نشاط المبشرين موقف العداء إذ ربطت بينه وبين الحكم الأجنبي، كما واجه هذا النشاط صعوبات أخرى ناجمة عن قسوة المناخ الذي أدى إلى وفاة الكثيرين من المبشرين، وانتهى الأمر بإغلاق مراكز التبشير الثلاثة في عام 1862م. ( )


المبحث الثاني



الثورة المهدية
1881 – 1899م




زعيم الثورة: محمد أحمد المهدي:
ولد محمد أحمد بن عبد الله ( ) في قرية قرب دنقلة سنة 1260هـ=1844م، ونشأ نشأة دينية، واستفاد من تعليمه الديني من الشيخ محمد الخير فتعلم النحو والتوحيد والفقه والتصوف، وأخذ عن الشيخ محمد شريف ود نور الدايم مزيداً من الدروس في علوم الشريعة والتصوف على الطريقة السمانية، واستمر متصلاً بشيخه حتى حدثت جفوة بينه وبين شيخه، فدخل محمد أحمد في طريقة الشيخ القرشي ود الزين بأرض الجزيرة –بين النيلين الأبيض والأزرق- وكان الشيخ القرشي من أتباع الطريقة السمانية، وبعد وفاة شيخه انطلق إلى جزيرة آبا، ويتوافد عليه المريدين ( )، وبدأ دعوته سراً عام 1297هـ=1880م، وجهراً في العام التالي، وكثر أتباعه، وذاع صيته في كل السودان ( )، وظل محمد أحمد يلقب بالفقيه، حتى أعلن عن نفسه أنه "المهدي المنتظر"، وصار يعرف بهذا الاسم منذ ذلك الحين، وتقوم فكرته على الإصلاح الديني والاجتماعي، عن طريق العودة إلى التشريع الإسلامي في عهوده الزاهرة، وفتح باب الاجتهاد، وإقامة الحدود الشرعية، وقد تجلى ذلك في نص البيعة التي يبايعه بها مريدوه هي: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله، أما بعد فقد بايعنا الله وبايعناك على توحيد الله، وألا نشرك به أحداً، ولا نسرق ولا نزني، ولا نأتي ببهتان ولا تعطيل في معروف، بايعناك على زهد الدنيا، وتركها والرضى بما عند الله رغبة بما عند الله والدار الآخر، وعلى أن نفرض الجهاد" ( ).
كان المهدي يعيش مفتوح الذهن والقلب على المرارة والظلم والفساد الذي كان يكتوي به الشعب السوداني، وشهدت جزيرة (آبا) تكاثر المريدين والزوار وذوي الحاجات على المهدي( ).
أعلن محمد أحمد المهدي ثورته سنة 1881م وكان أهم أهدافها:
- وضع حد لتسلط الباشوات والموظفين الأتراك والجراكسة والأوروبيين.
- إيقاف النهب الاستعماري للسودان.
- محاربة الفساد الإداري وإرهاق الشعب السوداني بالضرائب ذات المسميات المختلفة.
- الدعوة إلى رفض السلطة العثمانية.
- اتصاله بالثورة العرابية وتعاطفه معها، حيث كان يتفق معها لمقاومة الاستعمار البريطاني.( )
ازدادت ثورة المهدي اضطراماً بانضمام العناصر الساخطة على الحكومة للدعوة الجديدة كتجار الرقيق، وزعماء القبائل، خصوصاً عبد الله التعايشي زعيم قبائل البقارة والذي أصبح فيما بعد الساعد الأيمن للمهدي وخليفته من بعده، وأطلق المهدي على أتباعه لقب الأنصار، وكان المسئول عن إدارة شئون السودان في ذلك الوقت في سنة 1881م الحكمدار رؤوف باشا الذي وجد نفسه أنه لا يستطيع الاعتماد على القاهرة، فالثورة العرابية كانت مشغولة بنفسها وبالخطر المحدق بها ( ) ، فأرسل إلى المهدي في مقره في أبا، قائلاً له: "اذهب إلى الخرطوم، واحظَ بالمثول بين يدي سيد البلاد لكي تبرئ ساحتكم"، فرفض المهدي هذا الطلب ( ).
معركة آبا: في 12 أغسطس سنة 1881م:
جرد رؤوف باشا كتيبة من مائتي جندي إلى جزيرة آبا بقيادة أبي السعود العقاد، ليأتوا له بالمهدي سجيناً، ولكن محمد أحمد (المهدي) كان متيقظاً، فأعد رجاله وأنصاره -وكانوا يسمون الدراويش- للقتال، فما إن نزل الجند من الباخرة التي أقلتهم وبلغوا القرية، حتى انقض عليهم رجال المهدي، وفتكوا بهم جميعاً وكانوا 120 جندياً، وستة ضباط، أما أبو السعود فلم يكن غادر الباخرة، خوفاً على نفسه، فلما علم بما حل بالجند انسحب إلى الخرطوم، وأخبر رؤوف باشا ما فعله المهدي برجاله، وهذه أول معركة انتصر فيها المهدي. ( )
وقد ظهر بعد النظر السياسي وعبقريته العسكرية بوضوح في قراره "بالهجرة" بعد هذا الاشتباك من جزيرة آبا إلى جبل قدير من جبال النوبة، ذلك أن هذه الهجرة، فضلاً عن محاكاتها لمثال النبي صلى الله علي وسلم، أدت إلى نقل الثورة من منطقة مفتوحة تعوزها وسائل الدفاع وتقع على مقربة من قوات الحكومة الأنجلو-مصرية إلى منطقة نائية ومحصنة من الناحية الاستراتيجية، وكانت هذه الهجرة نقطة تحول فعلية في تاريخ الحركة المهدية، تكمن أهميتها الكبرى في أن نقل الثورة من الأقاليم النهرية إلى غربي السودان ترتب عليه أن أصبح أبناء غرب السودان منذ ذلك الوقت هم أهم القادة الإداريين والعسكريين، بينما تضاءلت أهمية الأقاليم النهرية تدريجياً ( ).

معركة راشد: 9 ديسمبر 1881 :

علم راشد بك أيمن مدير فاشودة بوجود المهدي في جبل قدير، فاعتزم السير إليه في جيشه، للقبض عليه، ولكنه أخطأ أيضاً في تقدير قوة المهدي، ولم يأخذ للأمر عدته، فكمن له أتباع المهدي في الطريق وانقضوا عليهم، فقتل راشد باشا ونحو 1400 من رجاله، وغنم المهدي جميع أسلحة الحملة وذخائرها، وهي أول الوقائع الكبيرة التي مكنت للمهدي في البلاد.( )

معركة الشلالي: 29 مايو سنة 1882م:

عزلت الحكومة المصرية رؤوف باشا، وعينت مكانه عبد القادر باشا حلمي ناظراً وحكمداراً للسودان، وأثناء فترة التغيير، كان يتولى الأعمال جيكلر باشا النمساوي رئيس مصلحة التلغراف السودانية بالنيابة عن الحكمدار، فجرد حملة بقيادة يوسف باشا الشلالي مؤلفة من نحو أربعة آلاف مقاتل، فلما اقتربت من معقل المهدي في جبل قدير انقض عليها المهدي بجموع حاشدة تبلغ نحو خمسة عشر ألفا، يوم 29 مايو سنة 1882م، وباغتوا الجند ليلاً وهم نيام، ففتكوا بهم فتكاً ذريعاً، وقتل يوسف باشا الشلالي، وغنم المهدي أسلحة الجيش وذخائره، فازداد بها قوة، وذاع سيطه في مختلف الأرجاء، وخاصة في كردفان، وتضعضعت هيبة الحكومة، وصدق الأهالي دعوة المهدي بعد هذه الانتصارات، وانهمرت عليه جموع السودانيين مبايعة ومؤيدة ( ).

استيلاء المهدي على باره والأبيض: يناير سنة 1883م:

هاجم المهدي الأبيض عاصمة كردفان بجيش قوامه خمسين ألف مقاتل من أتباعه، وكانوا يلقبون بالدراويش، يوم 8 سبتمبر سنة 1882م، واشتبك مع الجيش المصري المؤلف من ستة آلاف مقاتل بقيادة اللواء محمد سعيد باشا حكمدار غربي السودان، انتهت المعركة بهزيمة جيش المهدي، بعد أن فتكت بهم نيران المدفعية والبنادق، وقتل منهم عدة آلاف، وكان من القتلى شقيق المهدي، وشقيق عبد الله التعايشي، ولكن المهدي عاود المحاولة مرة أخرى، وحاصر باره إحدى المواقع الهامة في كردفان، حتى سقطت في 5 يناير سنة 1883م، ثم حاصر الأبيض، وسد عليها المسالك، حتى استسلمت للمهدي، ودخلها يوم 19 يناير سنة 1883م، وغنم مخازن الأسلحة، فكان مجموع ما غنمه في معاركه: 6400 بندقية، وثلاثة عشر مدفعاً، ومقادير كبيرة من الذخائر( ).

معركة سنار: يناير وفبراير سنة 1883م:

كانت الحرب سجالاً بين قوات الحكومة والمهدي، فاعتزم الحكمدار عبد القادر باشا الخروج إليهم بنفسه، فخرج من الخرطوم في يناير سنة 1883م يقود قوة من الجند، والتقى بالثوار في غابة قرب معتوق فأوقع بهم وهزمهم، ثم بجيشه إلى منطقة مشرع الداعي شمالي سنار، ووقعت معركة كبيرة مع الثوار دامت أكثر من ثلاث ساعات، قتل فيها من الثوار نحو ألف رجل، وأصيب عبد القادر باشا إصابة طفيفة، وانتهت المعركة بتشتيت شمل الثوار، ودخل عبد القادر باشا سنار، واستولى عليها( )، وضيق على المهدي المسالك، وشعر المهدي بخطره، فكان يدعو الله عقب كل صلاة بقوله: "يا قوي يا قادر اكفنا عبد القادر" ( ).

معركة المرابيع: 29 أبريل سنة 1883م.

قامت الحكومة المصرية بضغوط من بريطانيا بعزل عبد القادر باشا، وتعيين علاء الدين باشا حكمداراً لعموم السودان، وإرسال نحو ثلاثة عشر ألف مقاتل من فلول جيش أحمد عرابي الذي بقي بعد الاحتلال البريطاني لمصر إلى السودان، تحت قيادة رئيس أركان الجيش الجنرال الإنجليزي وليام هكس باشا (General William Hicks Pasha)، وكانت أول مواجهة للثوار مع هذ1 الجيش في المرابيع، وكانت النتيجة هزيمة الثوار مما أغرى الجنرال هكس (Hicks) بالزحف نحو المهدي في كردفان. ( )

استيلاء المهدي على منطقة البحر الأحمر:

قام المهدي بإرسال أحد أتباعه وهو عثمان دقنة ( ) من منطقة سواكن، إلى شرق السودان لنشر الدعوة المهدية في تلك المنطقة، والثورة على الحكومة، لكي يشتت قواتها، ونجح عثمان دقنة في مهمته.( )
فهاجم عثمان دقنة مدينة سنكات في 5 أغسطس سنة 1883م، ولكنه لم يستطع السيطرة عليها بسبب استبسال الجيش المصري بقيادة توفيق بك في الدفاع عن المدينة، فانسحب إلى جبل أركويت، وظلت الحرب سجالاً بين جنود الحكومة وجموع الدراويش، وحاصر هؤلاء الدراويش مدينة طوكر فخرج اللواء محمود باشا طاهر في قوة من الجند تبلغ 550 رجلاً لنجدة طوكر، يصحبه الكابتن مونكريف قنصل إنجلترا في جدة، فتربص بهم الدراويش في آبار التيب يوم 5 نوفمبر سنة 1883م، فأوقعوا بهم قتلاً، وفر طاهر باشا إلى سواكن، وبعد هذه المعركة وضع عثمان دقنة سواكن تحت الحصار، فصارت القواعد المصرية الثلاث المهمة وهي: سواكن، وطوكر، وسنكات، محاصرة بجموع الدراويش، وموقفها في غاية الحرج، ثم حشد عثمان دقنة نحو ثلاثة آلاف من رجاله ونزل بهم إلى آبار طماي على نحو 20 ميلاً من سواكن، وأخذ يهاجمها، وقطع الطريق بينها وبين سنكات، وشدد الحصار على سواكن، فخرج إليه الضابط كاظم أفندي على رأس قوة من خمسمائة من الجنود السودانيين و200 من الباشبوزق والتقوا الجيشان يوم 2 ديسمبر سنة 1883م، بالقرب من طماي (التمنيب)، حيث انتصر الدراويش ولم ينجُ من جيش كاظم باشا سوى 45 رجلاً.( )

معركة شيكان الكبرى: 5 نوفمبر سنة 1883م:

وتعتبر معركة شيكان نقطة تحول أخرى في تاريخ الثورة المهدية، ففي ذلك الوقت كان الخديوي توفيق وحكومته قد عقدوا العزم على سحق المهدي الذي أصبح يسيطر على جميع المدن الرئيسية في إقليم كردفان، وبناءً عليه قامت الحكومة المصرية بتنظيم حملة مكونة من بقايا جيش عرابي بقيادة ضابط بريطاني هو هكس باشا (Hicks)( )، وكان تعداد جيشه ثلاثة عشر ألف مقاتل، فسار من الخرطوم إلى الأبيض عاصمة كردفان، ولكنه لم يقدر قوة خصمه، فقطع مسافة مائتي ميل، حتى بلغ يوم 5 نوفمبر سنة 1883م وادياً مفتوحاً تحيط به من الجانبين غابة كثيفة، وقد أصاب جيشه العطش الشديد، فلم يكد الجيش يدخل هذا الوادي حتى أطبقت عليه جموع الثوار من كل جانب، واخترقوا صفوفه، وأمعنوا في الجنود ذبحاً وقتلاً، فكانت واقعة أشبه بمجزرة بشرية، قتل فيها الجيش برمته، قواده، وضباطه، وجنوده، ومنهم هكس وأركان حربه، ولم ينجُ من القتل سوى ملازمين اثنين، وثلاثمائة جندي، اختبأوا بين الأشجار، وأخذوا أسرى( ).
ارتجت أنحاء السودان لانتصار المهدي في واقعة شيكان، وزادت هيبته في نفوس الأهلين، والحكام، وتداعت سلطة الحكومة المصرية أمام هذه الكارثة، وبادر الحكام الأجانب الذين كانوا يتولون حكم المديريات إلى التسليم للمهدي، ففي ديسمبر سنة 1883م سلم رودلف سلاطين باشا في داره، وكان وقتئذ حاكماً على دارفور، ثم سقطت الفاشر عاصمة المديرية، ودانت دارفور كلها لسلطة المهدي في يناير سنة 1884م، وسلمت مديرية بحر الغزال في أبريل سنة 1884م ( ).
وفي تلك الأثناء طرأ تغيير جوهري على السياسة البريطانية تجاه المسألة السودانية بعد معركة شيكان، فبينما كانت بريطانيا ترى من قبل أن المسألة تخص مصر وحدها، فإنها شعرت بعد معركة شيكان أن مصالحها الإمبراطورية تقتضي انسحاب مصر من السودان فوراً، ومن ثم أمرت الحكومة المصرية بالتخلي عن السودان وأوفدت الجنرال تشارلز غوردون كي يشرف على تنفيذ ذلك ( ).

معركة التيب الثانية: 4 فبراير سنة 1884م، وسقوط سنكات:

في أوائل فبراير تقدمت قوة مصرية تبلغ ثلاثة آلاف وستمائة مقاتل بقيادة بيكر باشا من ترنكتات ( )، قاصدين طوكر، فلما وصلوا إلى آبار التيب فاجأهم جنود المهدي وانقضوا عليهم بجموعهم الحاشدة، فقتل من الجيش المصري نحو 2300، منهم 92 ضابطاً، وشدد الثوار بعدها الحصار على سواكن حتى سقطت بعد أن قتل جميع الجنود المصريين فيها. وبعد إخلاء الجنود المصريين من السودان، عمدت القوات البريطانية لاحتلال المناطق التي تخليها القوات المصرية، فاحتلت سواكن ( ).

معركة التيب الثالثة: 29 فبراير سنة 1884م:

هاجمت قوة إنجليزية بقيادة الجنرال جراهام (Graham) جموع الدرويش في التيب فانتصرت عليهم وأوقعت بهم وأجلتهم عن آبار التيب. ثم هاجمت جموع عثمان دقنة في طماي، وانتصرت عليهم كذلك، وأخلى عثمان دقنه طماي، واعتصم بالجبال، وكان غرض هذه الحملة هو تأمين بريطانيا لمراكزها على البحر الأحمر ( ). ورغم الانتصارات التي أحرزها جراهام على قوات عثمان دقنة إلا أنه لم يستطع القبض عليه، كما أنه أخفق في خطته الرامية إلى مد خط سكة حديدي من البحر الأحمر إلى مصر بأمر من الحكومة البريطانية ( ).

المهدي يحاصر الخرطوم:

استمرت ثورة المهدي توسع نفوذها في السودان حتى وصلت العاصمة الخرطوم، وحاصرت الجنرال البريطاني غوردون، وأرسلت بريطانيا بالاشتراك مع مصر جيشاً لإنقاذه بقيادة الجنرال اللورد ولسلي (Wolseley)، وصلت الحملة إلى السودان عن طريق وادي حلفا، ثم انقسمت إلى جزئين، أحدهما اتخذ طريق الصحراء بقيادة الجنرال هربرت ستيوارت (Stewart)، والآخر اتخذ نهر النيل بقيادة الجنرال أرل (Earle) ( ).

معركة أبي طليح: 17 يناير سنة 1885م:

التقت الحملة الإنجليزية بجموع الدراويش في آبار أبي طليح، وهناك نشبت واقعة كبيرة انتهت بهزيمة الدروايش بعد أن حصدتهم نيران المدافع حصداً، واستمرت الحملة في زحفها حتى وصلت إلى المتمة فاحتلتها، وفي أثناء زحفها التقت بجموع الدراويش مرة أخرى، وفي هذه المرة استطاع الثوار الدراويش قتل القائد الجنرال الإنجليزي ستيوارت، فتولى القيادة بعده الجنرال السير شارلس ويلسن، ثم اتجهت الحملة نحو الخرطوم عن طريق باخرتين لإنقاذ غوردون، ولكن بعد فوات الأوان، فقد استطاع الثوار دخول الخرطوم، وقتل الجنرال غوردون، وانقضوا على الحملة الإنجليزية واضطروها إلى الانسحاب بعد أن أدموها.

معركة كربكان: 10 فبراير سنة 1885م:

وفي خلال هذه الأحداث سار الجنرال أرل قائد حملة النيل من كورتي، يقود نحو ثلاثة آلاف من الجنود الإنجليز، يستقلون نحو خمسمائة قارب، أما الفرسان والمدفعية فقد ساروا حيال القوارب في الضفة الغربية للنيل، وسارت القوة المصرية في الضفة الشرقية، وبلغت الحملة معقل الدروايش في كربكان، فانقضوا على المعقل، وقتلوا جميع من فيه من الدراويش، ولكن الدراويش استطاعوا قتل القائد الإنجليزي أرل، وبقيت هذه القوة معسكرة في كربكان، ومن ثم قررت الحكومة البريطانية العدول عن الزحف بعد سقوط الخرطوم ومقتل غوردون، فارتدت الحملة خائبة إلى مصر في يونيو سنة 1885م.
وكان أتباع المهدي استطاعوا اقتحام الخرطوم في 26 يناير سنة 1885م ( )، بعد حصار طويل، وقتلوا الجنرال جوردون (Gordon) في قصره، بعدما قتل في هذه المعركة نحو 24 ألف من سكان الخرطوم، وثمانية آلاف من الجنود المدافعين عن المدينة، وكان لسقوط الخرطوم ومقتل جوردون (Gordon) دوي كبير في مصر وفي العالم، إذ كان إيذاناً بانحلال الحكم المصري على السودان، وعلو شأن المهدي في السودان ( ).


وفاة المهدي:

أصيب المهدي في يونيو سنة 1885م بحمى التهاب السحائي الشوكي، لم تمهله بضعة أيام حتى توفي في يوم 22 يونيو سنة 1885م، وهو في أوج قوته، وتولى حكم السودان من بعده خليفته عبد الله التعايشي، والذي لم يكن بكفاءته، مما أدى إلى تراجع التأييد لثورة المهدي، وحدوث خلاف بينه وبين كبار أنصار المهدي، ولكن التعايشي فرض سيطرته على أغلب السودان، وقامت مصر بالتراجع عن السودان إلى حدود وادي حلفا، ولكن استمرت المناوشات والمعارك في المناطق الحدودية خلال سنوات 1885-1891م، ولكن حالة السودان ساءت في عهد حكم التعايشي، وانتشرت المظالم والهمجية، واشتدت المجاعة بالناس، فمات الناس جوعاً خاصة عام 1889م، وفتكت الأمراض بالناس، وكان ذلك من علامات زوال حكم التعايشي في السودان، بعد أن أدى إلى نشر الخراب في نواحيه.( )
القضاء على الثورة وعودة الاحتلال البريطاني المصري:
قررت بريطانيا تجهيز حملة مصرية بريطانية مشتركة بقيادة بريطانية عهد إليها مهمة احتلال السودان، ورغم مقاومة الخديوي والوطنيون المصريون لهذه الفكرة، ورفض صندوق الدين المصري الموافقة على تغطية نفقات الحملة، إلا أن بريطانيا كانت مصممة وغير مكترثة بالمعارضة، فساهمت بريطانيا بثلث نفقات الحملة، وقدمت ثلث قواتها، وفتحت لمصر حساباً جارياً بفائدة 2.5% لتغطية باقي النفقات، وتحركت الحملة المكونة من 8200 بريطاني، و20.000 مصري وسوداني، في أيار سنة 1898م بقيادة هربرت كتشنر (Herbert Kitchener) ، واحتلت دنقلة، وهزمت خليفة المهدي عبد الله التعايشي، وأجبرت قوة فرنسية على إخلاء فاشودة ( ).
وبينما كان كتشنر (Kitchener) يتوجه جنوباً، عبأ التعايشي قواته وقد عقد العزم على مقاومة الغزاة، غير أن الأنصار، بقيادة الأمير محمود أحمد، لم ينجحوا في محاولتهم صد هجوم الأعداء في معركة عطبرة في 8 أبريل 1898م، وقد قتل في هذه المعركة حوالي ثلاثة آلاف سوداني، وجرح أكثر من أربعة آلاف، ووقع محمود أحمد في الأسر، وأودع السجن في رشيد بمصر، حيث توفي بعد بضع سنوات، وعقب هزيمة عطبرة، قرر الخليفة التعايشي مواجهة العدو بالقرب من عاصمته أم درمان، لأنه أدرك أن صعوبات التموين والنقل ستحول دون تحرك أية قوات كبيرة من الجنود، ومن ثم فقد حارب السودانيون العدو ببسالة فائقة في معركة كراري في الثاني من سبتمبر سنة 1898م، ولكنهم هزموا مرة أخرى نظراً لتفوق الأسلحة التي استخدمها العدو، وقد قتل نحو أحد عشر ألف سوداني وجرح نحو ستة عشر الفاً منهم، وعندما أدرك الخليفة أنه قد خسر المعركة، تراجع إلى شرق كردفان حيث كان يأمل في حشد مؤيديه وشن هجوم جديد على الغزاة في العاصمة، وقد ظل يمثل مشكلة للإدارة الجديدة طوال عام كامل، إلى أن هُزم نهائياً في معركة أم دويكرات في 24 نوفمبر سنة 1899م، وبعد انتهاء المعركة عُثر على الخليفة وقد فارق الحياة على سجادة صلاته المصنوعة من فرو الأغنام، بينما قتل جميع قادة الحركة المهدية وزعمائها أو سجنوا، وكانت تلك الهزيمة هي الفاصلة في انهيار الدولة المهدية ( ).


المبحث الثالث



المقاومة السودانية للحكم الثنائي البريطاني المصري
1899 – 1917م

كانت مقاليد الحكم في السودان عملياً بيد الاحتلال البريطاني، بالرغم من المعاهدة المصرية البريطانية في 19 يناير سنة 1899م، التي أُخضع بموجبها السودان لحكم ثنائي مصري بريطاني، مع رفع العلمين البريطاني والمصري، حيث خضعت السودان لحاكم عام بريطاني يعينه الخديوي بموافقة بريطانيا، وجعل الحاكم العام رئيساً أعلى للإدارة المدنية والعسكرية وحاكماً مطلقاً متمتعاً بسلطات تشريعية وتنفيذية واسعة، ولم تعد القوانين الوزارية المصرية سارية المفعول في السودان، ولم يبقَ لمصر في السودان غير العلم، وبعض القوات المسلحة الخاضعة لقيادة بريطانية، وإعفاء جمركي للبضائع المصرية، وتحملت مصر مسئولية سد العجز في موازنة السودان الذي بلغ ربع مليون جنيه في العام الأول، وتضاعف بعد أربعة أعوام، وتقلب على حكم السودان خلال مدة الحكم الثنائي تسعة حكام بريطانيون من أبرزهم: كتشنر (Kitchener)، ونجت، وستاك، وروبرت هاو، ولم تهتم بريطانيا برفع مستوى السكان أو إشراكهم بالحكم بأي شكل من الأشكال، وأبدت بريطانيا اهتماماً قليلاً بالتعليم، فقد وضع عام 1899م حجر الأساس لكلية غوردون، وكانت في أول أمرها مدرسة ابتدائية، فأصبحت ثانوية عام 1905م، وافتتحت أول مدرسة للإناث في سنة 1911م، واعتمدت السودان في التعليم العالي على الجامعات المصرية، ثم انفتح السودانيون على الجامعة الأمريكية في بيروت بعد عام 1924م، ثم عمدت بريطانيا إلى إرسال طلاب الشمال السوداني إلى جامعات إنجلترا، أما طلاب جنوبي السودان فقد أرسلتهم إلى جامعة ماكريري في أوغندا، لتحقيق فصل الشمال عن الجنوب ( )، واتبعت بريطانيا في الجنوب السوداني -والذي يسكنه الوثنيون البدائيون- سياسة التبشير، حيث نشطت حركات التبشير الكاثوليكية والبروتستانتية تحت ستار التعليم، بدعم مالي من ميزانية السودان ( ).

وقد برزت في السودان في تلك الفترات عدة ثورات منها:

الثورات المهدية:

على الرغم من أن الحكم الاستعماري البريطاني حظر المذهب المهدي قانوناً، إلا أن جزءاً كبيراً من المجتمع السوداني استمر منتمياً بقلبه للمهدية، وقد عبرت الأغلبية عن استيائها من الحكم البريطاني بمواصلة قراءة "الراتب" وهو كتاب الابتهالات الخاص بالحركة المهدية، وممارسة الشعائر الأخرى للمهدية، ولكن الأقلية المخلصة من أتباع المهدي حاولت مراراً وتكراراً أن تطيح بحكم "الكفار" بالقوة، ولم يكن ينقضي عام واحد فيما بين سنة 1900م وسنة 1914م دون حدوث انتفاضة في شمال السودان، وكان مصدر الإلهام والقوة الرئيسي لهذه الانتفاضات هو الاعتقاد أن عيسى عليه السلام لن يلبث أن يظهر من جديد ليؤمن دوام المهدية المجيدة، ويبدو أن أنصار المهدي كانوا قد أصبحوا يرون أن البريطانيين والدجال شيء واحد، وأخذ الكثيرون منهم على عاتقهم مهمة عيسى لطردهم من البلاد، وقد وقعت الانتفاضات المهدية في فبراير سنة 1900م، وفي سنوات 1902، و1903، و1904م ، ولكن أهم الانتفاضات المهدية هي التي قام بتنظيمها وقيادتها في سنة 1908م أحد المهديين المرموقين، وهو عبد القادر محمد إمام المشهور باسم واد حبوبة، حيث تحدى الحكومة من معسكره في قرية توكور بالقرب من كاملين، وتقدمت نحوه قوة حكومية، فقابلها بمقاومة عنيفة، وقتل في هذه المواجهة اثنان من المسئولين الحكوميين، وبينما كانت السلطات تحت تأثير الصدمة شن واد حبوبة هجوماً مفاجئاً على العدو في شهر مايو عند قرية قطفية، وقد حارب المهديون ببسالة، ولكن الثورة فشلت باعتقال واد حبوبة وشنق علناً في 17 مايو سنة 1908م، بينما حكم على الكثيرين من أتباعه بالإعدام أو السجن لمدد طويلة ( ).
ثورات جبال النوبة والسودان الجنوبي:
لعل كفاح الشعب السوداني في جبال النوبة والسودان الجنوبي كان من أخطر التحديات التي واجهت المستعمرين البريطانيين قبل الحرب العالمية الأولى، على أن الانتفاضات والتمردات العديدة التي وقعت في تلك المناطق كانت محلية الطابع في جوهرها، كما أنها كانت استجابات مباشرة للتغيرات التي أحدثها الاستعمار في النسيج الاجتماعي المتباينة، ونتيجة للدمار الذي ألحقه البريطانيون بالمؤسسات الاجتماعية والسياسية لتلك المجتمعات واستعاضتهم عنها بما فرضوه من بنى خاصة بهم، وعلى الرغم من ضراوة القوات الاستعمارية، فإن العديد من المجتمعات المحلية النوبية قد عارضت السيطرة البريطانية معارضة نشيطة، وبينما أعلن أحمد النعمان، شيخ قبيلة الكترة عداءه الصريح، فإن سكان تالودي قاموا في سنة 1906م بتمرد قُتل خلاله عدد من موظفي الحكومة وجنودها، وكانت ثورة الشيخ الفقيه علي في جبال الميري أكثر شدة وخطورة، فقد نأوا على قوات الحكومة مدة عامين، ولكن الشيخ اعتقل في سنة 1916م، وأودع السجن في وادي حلفا ( ).
وفي المنطقة الجنوبية من السودان قاد المقاومة واستمر فيها شعب النوير الذي يقطن في الأرض المجاورة لنهر السوباط والنيل الأبيض، وكان النوير في ظل الحكومات السابقة قد تعودوا على إدارة شؤونهم الخاصة، نظراً لأن تلك الحكومات لم تمارس سيطرة حقيقة عليهم، غير أنهم رفضوا بعد الاحتلال أن يعترفوا بسيادة الحكومة الجديدة واستمروا في إظهار عدائهم لها، وكان اثنان من زعمائهم، هما (دنجكور) و(ديو) يتميزان بنشاطهم في هذا المجال، وعلى الرغم من أن هذين الزعيمين توفيا في سنة 1906م وسنة 1907م على التوالي، فإن نشاط النوير لم يتوقف، وهاجم أحد زعمائهم وهو (دول ديو) موقعاً حكومياً سنة 1914م، وبالرغم من التدابير التأديبية العشوائية العديدة، فإن مقاومة النوير استمرت في التزايد إلى أن تفجرت ثورة النوير الشعبية الواسعة النطاق التي وقعت في سنة 1927م.
وكان الآزاندي، تحت قيادة زعيمهم يامبيو، مصممين على عدم السماح لأية قوة أجنبية بدخول أراضيهم، وقد واجهوا خطر الغزو من جانب كل من البلجيكيين والبريطانيين، وكان البلجيكيون يزيدون من نشاطهم على الحدود الجنوبية لأراضي الآزاندي، ويبدو أن يامبيو كان يخشى الغزو البلجيكي أكثر من خشيته الغزو البريطاني، فحاول تحييد البريطانيين بإظهار إمارات الصداقة لهم، حتى يُتاح له أن يتصرف بحرية في معالجة الخطر البلجيكي المحدق، ودعا البريطانيين إلى إقامة مركز تجاري في مملكته، مما سيجعل البلجيكيين يحجمون عن مهاجمة بلاده. وفي يناير 1903م غادرت واو إحدى الدوريات البريطانية متجهة إلى أراضي يامبيو، وخلال مسيرتها هاجمها الآزاندي، فهربت الدورية إلى رومبك، وفي يناير سنة 1904م أرسلت حكومة الخرطوم دورية أخرى تعرضت هي الأخرى لهجوم الآزاندي، واضطرت في النهاية إلى التراجع إلى تونج.
وبينما كان البلجيكيون يُعدون للهجوم على أراضي يامبيو، شن يامبيو بقوة من عشرة آلاف رجل هجوماً جريئاً على الموقع البلجيكي في ماياوا، وقد حارب الآزاندي الدخلاء بشجاعة، ولكنهم لم يتمكنوا من الوقوف بحرابهم وحدها في وجه نيران البنادق البلجيكية، وقد أضعفت هذه المعركة إلى حد خطير من قوة الآزاندي العسكرية وروحهم المعنوية، وكان على يامبيو، بعد أن تحطمت قوته العسكرية، أن يواجه حملة عسكرية حكومية في يناير سنة 1905م، وقد هُزم في النهاية وسجن، وتوفي في فبراير سنة 1905م، ولكن حمية المقاومة بقيت مستعرة في شعبه، ففي سنة 1908م حاول بعض المحاربين من قوات يامبيو أن يثيروا انتفاضة، بينما قام آخرون بشن هجمات على البريطانيين أثناء الحرب العالمية الأولى ( ).


ثورة علي دينار في دارفور

مولده وبداية ظهوره:

ولد علي دينار في قرية "شوية" بدارفور، ما بين عام (1272هـ= 1856م) وعام (1287هـ=1870م)، أبوه زكريا بن محمد فضل، وكان أول ظهور له في (جمادى الآخرة 1306هـ= فبراير 1889م) عندما ساند عمه السلطان أبو الخيرات في تمرد أبو جميزة، ثم هرب مع عمه بعد هزيمة التمرد.
كان "الفور" الذين ينتمي إليهم علي دينار يقيمون جنوب غرب جبل مُرّة بعد سيطرة المهديين على دارفور، وعندما توفي السلطان "أبو الخيرات" في ظروف غامضة عام (1307 هـ=1890م) كانت المهدية تسيطر على دارفور وكردفان، فطلب أمير هاتين المنطقتين من علي دينار المثول بين يديه في مقر رئاسته في الأُبَيْض، والخضوع لأمير المهدية في الفاشر –عاصمة دارفور- "عبد القادر دليل"، إلا أن علي دينار كان قلقاً من هذا اللقاء وآثر أن يُبدي الخضوع للمهدية دون أن يلتقي بأمرائها.
ويُقال لم يشترك في معركة كرري الفاصلة بين المهدية والإنجليز في 1310هـ = 1898م والتي انتهت بهزيمة المهدية، حيث خرج من أم درمان خلسة مع 300 من أتباعه قاصداً دارفور. ( )

سيطرته على الحكم في دارفور وعلاقته بالإنجليز:

قصد علي دينار الفاشر عاصمة دارفور التي سيطر عليها في ذلك الوقت شخص يُسمى "أبو كودة" معلناً نفسه سلطاناً عليها بعد انهيار المهدية، وكتب إلى "أبو كودة" شاكراً صنيعه في تخليص دارفور من المهدية، ثم طلب منه التخلي له عن العرش، فانصاع "أبو كودة" لهذا المطلب بعد تمنع، ودخل دينار الفاشر فاتحاً لها بدون قتال. ( )
كانت دارفور مطمعاً لكثير من المتنافسين على الحكم، فعقب سقوط المهدية ظهر مطالبون بالحكم مثل "إبراهيم علي" –عمه السلطان أبو الخيرات- ونظرا لعلاقاته مع الإنجليز في حكومة السودان، فقد طلب أن يدعموه في مواجهة "علي دينار"، فقام السردار الإنجليزي "كتشنر" بدراسة الموقف في دارفور، والمقارنة بين "علي دينار" و"إبراهيم علي" أيهما يصلح للحكم، ورأى أنه من الحكمة عدم السماح بحدوث صراع في دارفور حفاظاً على أمنها واستقرارها، وحتى لا تتورط حكومة السودان الخاضعة للإنجليز في صراع يحمل الخزينة تكاليف كبيرة نظراً لبعد دارفور وصعوبة مواصلاتها وندرة الطرق المعبدة للوصول إليها.
تحين علي دينار الفرصة لتدعيم سلطته في دارفور، فخاض معركة ضد "إبراهيم علي" وانتصر عليه في (14 من رمضان 1316 هـ= 26 من يناير 1899م) في منطقة أم شنقة داخل الحدود الشرقية لدارفور، وسعى بعدها إلى استمالة الإنجليز والتأكيد لهم أنه مخلص لحكومتهم في السودان وأنه يتمنى أن يعتبره حاكم السودان أحد موظفيه.
كان مستقبل العلاقة مع علي دينار من الأمور التي تشغل الإدارة الإنجليزية في السودان، وتتم مناقشتها على مستويات عليا، وبنى الإنجليز موقفهم على أن علي دينار استطاع أن يوطد نفسه سلطاناً على دارفور، وستتكلف الحكومة الكثير إذا أرادت تغييره، كذلك فإنه يصر على إعلان الإخلاص والرغبة في طاعة حكومة السودان، وأن من الأفضل لتلك الحكومة أن تدير دارفور من خلال دينار وليس من خلال حاكم مصري أو إنجليزي، وتم توصيف دينار على أنه "صديق في الوقت الحاضر"، وبذلك أعاد الإنجليز العمل بالسياسة التي اتبعها الحاكم الإنجليزي غوردون باشا عندما ذهب إلى السودان سنة (1301 هـ=1884م) والتي كانت ترتكز على تدعيم حكم السلاطين المحليين كوسيلة فعالة لحكم السودان، ولذا اعترف الإنجليز بعلي دينار كأمر واقع من الضروري التعامل معه.
وقد حدث تطور مهم سنة (1317 هـ=1900م) عندما تم تعيين البارون النمساوي "سلاطين باشا" –صاحب كتاب "السيف والنار في السودان"- مفتشاً عاما للسودان، وكان من مسئولياته إقليم دارفور، وقد شددت الإدارة الإنجليزية في القاهرة برئاسة المعتمد البريطاني اللورد كرومر على سلاطين أن يحرص على إفهام علي دينار أن دارفور تقع ضمن منطقة النفوذ البريطاني-المصري، وأن الإدارة هي التي سمحت له بممارسة سلطات داخلية واسعة في دارفور، وكان الهدف من هذه السياسة تأكيد تبعية دارفور لحكومة السودان.
وأثناء رحلة سلاطين في السودان أكد لشيوخ القبائل أنه تم الاعتراف بعلي دينار ممثلاً للحكومة في دارفور، وأن على الجميع أن يتعامل معه وفق هذا التوصيف، ورغم ذلك فقد تهرب علي دينار من مقابلة سلاطين أكثر من مرة عام (1318 هـ=1901م). ( )
وكان علي دينار حريصاً على التواصل مع العالم الخارجي، فقد حاول نشر كتاب عن حياته بعنوان العمران في القاهرة سنة (1330 هـ= 1912م)، ولم توافق السلطات الإنجليزية إلا على طباعة ست نسخ فقط لاستخدامه الشخصي، كما راقب الإنجليز اتصالاته بجريدة "العمران" التي كانت تصدر في القاهرة ويُديرها "عبد المسيح الأنطاكي"، والتي كان يدعمها دينار بالمال، ونشرت صحيفة اللواء التي كان يُصدرها الزعيم المصري مصطفى كامل مقالاً مهماً عنه في 2 ربيع الآخر 1318 هـ=29 يوليو 1900م عنوانه "علي دينار مسالم لا مستسلم"، ثم نشرت مقالاً آخر بعد عامين بعنوان "محاولة التدخل الإنجليزي في شئون دارفور وفشلهم في ذلك".
كما قام علي دينار بحفر عدد من الآبار على مشارف المدينة المنورة عرفت بـ"آبار علي" نسبة إليه، وأصبحت ميقاتاً للحجيج، كما كان له أوقاف بالحجاز. ( )

تأييد علي دينار للدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى:

كان علاقة علي دينار بدولة الخلافة أثناء الحرب العالمية سبباً رئيسياً في تحرك الإنجليز ضده للقضاء عليه وتقويض سلطنته؛ فعندما اشتعلت الحرب ودخلتها تركيا ضد إنجلترا، تغيرت الأوضاع؛ فقد كانت مصر تابعة اسمياً لدولة الخلافة، في حين أنها خاضعة فعلياً لسيطرة الاحتلال الإنجليزي، وكان خديوي مصر عباس حلمي مسانداً للخلافة ضد الإنجليز، فقام الإنجليز بعزله وتعيين عمه حسين كامل سلطاناً على مصر، وفي 18 ربيع الأول 1333 هـ=3 فبراير 1915م) أرسل وزير الحرب التركي أنور باشا خطاباً إلى علي دينار يطلب منه مساندة تركيا في حربها ضد الحلفاء، وقد زاد من خطورة تلك الرسالة تحرك الأتراك مع السنوسية في ليبيا لتحريكهم ضد الوجود الفرنسي في بلاد المغرب ومنطقة تشاد، وضد الإنجليز في مصر والسودان. ويبدو أن علي دينار بنى موقفه على أن ألمانيا وتركيا هما المنتصران في الحرب ضد الحلفاء، وأن عليه تقديم العون لتركيا حتى يجني ثمار هذه المساعدة بعد انتهاء الحرب، وإن كان ذلك لا يمنع انطلاق علي دينار من عاطفة دينية لمساندة دولة الخلافة ضد أعدائها من الفرنسيين والبريطانيين الذين أطلق عليهم صفة الكفار.
ورأى الإنجليز في البداية ضرورة تأليب القبائل فقاموا بتسليح قبائل الرزيقات وتحفيزهم ضده، وتم استغلال شائعة أن السلطان علي دينار يجهز تعزيزات من الفور في منطقة جبل الحلة، وبدأت الحرب بين الجانبين في (ربيع الآخر 1334 هـ= مارس 1916م)، ووقعت عدة معارك داخل أراضي دارفور كان أهمها معركة "برنجيه" الواقعة قرب العاصمة الفاشر، وتمكن الإنجليز من تبديد جيش دارفور البالغ 3600 مقاتل بعد أربعين دقيقة من القتال، وقتل في المعركة حوالي ألف رجل من جيش دارفور، وعندما علم علي دينار بالهزيمة استعد للقتال مرة أخرى للدفاع عن الفاشر، لكن جيشه لم يكن مدرباً ولم يكن يمتلك أي أسلحة حديثة، كما أن الإنجليز استخدموا ضده الطائرات لأول مرة في إفريقيا، وتم لهم السيطرة على الفاشر في 22 رجب 1334 هـ=24 مايو 1916م، واغتيل السلطان علي دينار أثناء صلاته الصبح على يد أحد أتباعه في 11 المحرم 1335 هـ=6 نوفمبر 1916م، بعدما رفض الإنجليز قبول أي تفاوض معه للاستسلام.
لقد عبر علي دينار عن تطور ملحوظ في الوعي السياسي للقادة المحليين في السودان، وعن درجة كبيرة من الوعي الديني والإداري، حيث استطاع إقامة سلطنته في غرب السودان، وكون لها شبكة من العلاقات الخارجية، وكوّن مجلسا للشورى، وعيّن مفتياً لسلطنته، ومجلساً للوزراء، وبدأ في تكوين جيش حديث، وأوكل تدريبه إلى ضابط مصري، ووضع نظاماً للضرائب يستند إلى الشريعة الإسلامية. ( )

الخاتمة

المتتبع لتاريخ المقاومة السودانية يجد أن الشعب السوداني من أكثر الشعوب العربية والإسلامية تضحية، فحتى قبل مجيء الاحتلال الأجنبي لبلادهم، غزا تجار الرقيق هذه البلاد وحققوا مكاسب ضخمة من خلال استرقاق الناس وبيعهم في أسواق النخاسة، وكانت تجارة الرقيق من بين الأسباب التي جعلت السودانيين يهبون في وجه هؤلاء النخاسين، والذين اكتسبوا فيما بعد الصفة الشرعية من خلال السلطات الأجنبية التي كانت تحكم السودان، برغم ادعائهم أنهم يحاربون تجارة الرقيق، كما أن السودانيين قدموا الآلاف من الضحايا في حروبهم ومقاومتهم للاحتلال.
ومما يميز الثورات السودانية أن كثير منها اكتسب الطابع الديني، فاستطاع مفجرو هذه الثورات اكتساب الأنصار حولهم نظراً لرفعهم شعارات دينية، مثل الثورة المهدية، التي ادعى فيها قائد الثورة الزعيم محمد أحمد الملقب بالمهدي، ادعى أنه المهدي المنتظر، ومن الثورات التي اتخذت الطابع الديني أيضاً ثورة سلطان دارفور علي دينار، والذي عمل على نشر مراكز تحفيظ القرآن الكريم في سلطنته، واهتم بإرسال كسوة الكعبة إلى مكة لمدة عدة أعوام، كما قام ببناء آبار علي التي نسبت إليه.
وتاريخ الثورات السودانية ضد الاحتلال بحاجة إلى اهتمام، لأن كثير من الثورات السودانية لم يتطرق إليها أحد، ولم تسجل في كتب، وذلك نظراً للمساحة الكبيرة للسودان، وتعدد قبائله، مع ندرة وسائل الإعلام في تلك الفترة التي تنقل أخبار تلك الثورات.
وأرجو من الله تعالى التوفيق والسداد.

الباحث
عبد الرؤوف جبر القططي
الجامعة الإسلامية غزة
كلية الأداب - قسم التاريخ

قطاع غزة - رفح





المصادر والمراجع

• سلاطين باشا، السيف والنار في السودان، الخرطوم، عالم الكتب، ط3.
• عبد الرحمن الرافعي، مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال-تاريخ مصر القومي من سنة 1882م إلى سنة 1892م، القاهرة، دار المعارف، ط4، 1404هـ=1983م.
• رأفت الشيخ، تاريخ العرب الحديث، القاهرة، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية.
• عز الدين إسماعيل، الزبير باشا ودوره في السودان في عصر الحكم المصري، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م.
• عبد القادر أرباب، تاريخ دارفور عبر العصور، الخرطوم، 1998م.
• محمد عمر بشير، جنوب السودان دراسة لأسباب النزاع، ترجمة: أسعد حليم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971م.
• عبد الله علي إبراهيم، الصراع بين المهدي والعلماء، القاهرة، مركز الدراسات السودانية.
• إسماعيل ياغي ومحمود شاكر، تاريخ العالم الإسلامي الحديث والمعاصر، الرياض، دار المريخ، 1413هـ=1993م.
• مصطفى خالدي وعمر فروخ، التبشير والاستعمار في البلاد العربية، بيروت، المكتبة العصرية، 1986م.
• ح.أ إبراهيم، المبادرات والمقاومة الإفريقية في شمال شرق أفريقيا؛ أفريقيا في ظل السيطرة الاستعمارية 1880-1930م، اللجنة العلمية لتحرير تاريخ السودان العام- اليونسكو.
• محمد محمود السروجي، دراسات في تاريخ مصر والسودان الحديث والمعاصر، الإسكندرية، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، 1998م.
• محمد عودة وإبراهيم الخطيب، تاريخ العرب الحديث، عمان، الأهلية للطبع والنشر.
• جميل بيضون وشحادة الناطور وعلي عكاشة، تاريخ العرب الحديث، عمان، دار الأمل للنشر والتوزيع، ط1، 1422هـ=1991م.
• خير الدين الزركلي، الأعلام، بيروت، دار العلم للملايين، ط5، 1980م.
• ونستون تشرشل، حرب النهر تاريخ الثورة المهدية، ترجمة، عز الدين محمود، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002.
• شوقي أبو خليل، أطلس التاريخ العربي الإسلامي، دمشق، دار الفكر، ط1، 1984م.
• شوقي أبو خليل، أطلس دول العالم الإسلامي، جغرافي، تاريخي، اقتصادي، دمشق، دار الفكر، ط2، 1424هـ=2003م.

:cool::
 
موضوع شامل وكامل وجميل ومميز ومرحبا بك اخي الكريم بيننا ونتمنى ان تكون خير معرف بالسودان على المنتدى فاهل السودان ادرى به
 
الاقتباس غير متاح حتى تصل إلى 25 مشاركات
مشكور اخي الا ان ذلك لايمن مشاركاتكم الخاصة بالسودان:wink::
 
موضوع جميل مشكور ويعطيك العافية
 
عودة
أعلى