عشرة دروس استراتيجية من تجربة الفلوجة
القصد أن إمكانية وطاقة الصمود كانت من حيث المبدأ هي نفسها، إن لم تكن أفضل، قبل عام. فليس صحيحاً ما زعمه اثنان من كبار ضباط الحرس الجمهوري على قناة الجزيرة من أن إمكانية الصمود لم تكن متوفرة عام 2003 في وجه قوات الاحتلال.
في الواقع، إن أهم درس من معركة الفلوجة الأخيرة هو أن إمكانية الصمود في وجه الطرف الأمريكي-الصهيوني المتفوق تكنولوجياً والمهيمن على الجو موجودة دائماً في كل مدينة وبلدة عربية، تماماً كما كانت موجودة في بيروت عام 1982 وفي مخيم جنين عام 2002، ولكن تحويل الممكن إلى كائن، والاحتمال إلى حقيقة، يتطلب بالضرورة إرادة حازمة بالمواجهة عند أصحاب القرار الميداني تنصهر في التحام لا تنفصم عراه مع الشارع وقواه المسلحة، وهو ما يظل غالباً الحلقة المفقودة في مجمل المعارك العربية التي تحدث فيها انهيارات وهزائم.
وفي قراءة المعادلة الكيميائية للمقاومة نلاحظ أن القاسم المشترك للحالات التي حدث فيها صمود وانتصارات في وجه الطرف الأمريكي-الصهيوني في تاريخنا العربي الحديث هو الانهيار المسبق لجهاز الدولة القطرية في البلدان التي وقع عليها غزو، من الصومال في بداية التسعينات إلى لبنان في الثمانينات إلى السلطة الفلسطينية في مستهل الانتفاضة إلى العراق قبل عام، مما يمكن الحركة الشعبية من إطلاق العنان لمبادراتها دون قيود السلطة القطرية. وبالمقابل، نلاحظ أن الحيوية السياسية للشارع العربي تضعف بمقدار ما يقوى جهاز الدولة القطرية ويتعرض الأمن القومي للخطر. ودور الدولة القطرية في تقييد المبادرة الشعبية وإحباطها يصح لأسباب موضوعية تخرج حتى عن رغبة رأس النظام بالمقاومة كما حدث في العراق.
على أية حال، في الإمكانية العملية للصمود، نلاحظ أن الحالات التي حدث فيها صمود وانتصارات في وجه الطرف الأمريكي-الصهيوني تميزت بما يلي:
د. إبراهيم علوش
يمكن أن تصمد كل مدينة وبلدة عراقية في وجه قوات الاحتلال كما صمدت الفلوجة، لا بل أن الفلوجة نفسها كان يمكن أن تصمد في ربيع عام 2003 كما صمدت الفلوجة في ربيع عام 2004. القصد أن إمكانية وطاقة الصمود كانت من حيث المبدأ هي نفسها، إن لم تكن أفضل، قبل عام. فليس صحيحاً ما زعمه اثنان من كبار ضباط الحرس الجمهوري على قناة الجزيرة من أن إمكانية الصمود لم تكن متوفرة عام 2003 في وجه قوات الاحتلال.
في الواقع، إن أهم درس من معركة الفلوجة الأخيرة هو أن إمكانية الصمود في وجه الطرف الأمريكي-الصهيوني المتفوق تكنولوجياً والمهيمن على الجو موجودة دائماً في كل مدينة وبلدة عربية، تماماً كما كانت موجودة في بيروت عام 1982 وفي مخيم جنين عام 2002، ولكن تحويل الممكن إلى كائن، والاحتمال إلى حقيقة، يتطلب بالضرورة إرادة حازمة بالمواجهة عند أصحاب القرار الميداني تنصهر في التحام لا تنفصم عراه مع الشارع وقواه المسلحة، وهو ما يظل غالباً الحلقة المفقودة في مجمل المعارك العربية التي تحدث فيها انهيارات وهزائم.
وفي قراءة المعادلة الكيميائية للمقاومة نلاحظ أن القاسم المشترك للحالات التي حدث فيها صمود وانتصارات في وجه الطرف الأمريكي-الصهيوني في تاريخنا العربي الحديث هو الانهيار المسبق لجهاز الدولة القطرية في البلدان التي وقع عليها غزو، من الصومال في بداية التسعينات إلى لبنان في الثمانينات إلى السلطة الفلسطينية في مستهل الانتفاضة إلى العراق قبل عام، مما يمكن الحركة الشعبية من إطلاق العنان لمبادراتها دون قيود السلطة القطرية. وبالمقابل، نلاحظ أن الحيوية السياسية للشارع العربي تضعف بمقدار ما يقوى جهاز الدولة القطرية ويتعرض الأمن القومي للخطر. ودور الدولة القطرية في تقييد المبادرة الشعبية وإحباطها يصح لأسباب موضوعية تخرج حتى عن رغبة رأس النظام بالمقاومة كما حدث في العراق.
على أية حال، في الإمكانية العملية للصمود، نلاحظ أن الحالات التي حدث فيها صمود وانتصارات في وجه الطرف الأمريكي-الصهيوني تميزت بما يلي:
- أننا كنا نعتمد فيها على قوى الشارع العربي لا على الجيوش النظامية، وعلى الأسلحة الخفيفة نسبياً والمتفجرات، في مواجهة القوى النظامية للعدو والته العسكرية المتقدمة تكنولوجياً. فالنصر ممكن، وليس صحيحاً أن من يتفوق في الجو يحسم المعركة إذا كانت غير تقليدية، ولذلك، علينا تجنب الاشتباكات التقليدية النظامية ما أمكن مع خصم متفوق تكنولوجياً وجوياً.
-
- أن مقاتلينا كانوا عادةً من أهل المنطقة التي يحدث فيها القتال، مع وجود أعداد من المتطوعين من خارج المنطقة لا يشكلون أغلبية، مما يسهل عملية الاختفاء بين صفوف السكان، ومن ثم العودة لمسرح العمليات حسب الضرورة. وهو ما لا تستطيع أن تكشفه الأقمار الصناعية ولا يسهل قصفه مثلما يسهل قصف القواعد الثابتة من البر أو الجو. فيتحول العربي هنا إلى شبح سياسي-عسكري يطارد العدو كالكابوس.
- أن دخول العدو إلى الأماكن المبنية والأزقة والشوارع الضيقة يفقده الكثير من الميزات التكنولوجية لآلته العسكرية المتقدمة، ويعطي الميزة لمن يعيشون في المنطقة أصلاً ويعرفونها جيداً ويتحركون فيها بمرونة فائقة. فليس ضرورياً أن نكبد العدو خسائر أكبر من تلك التي نتكبدها نحن كي ننتصر، بل المطلوب أن نجعل خسائره فوق طاقته على الاحتمال The Principle of Unacceptable Losses.
- أن نقطة ضعفنا الأساسية، وهي قلة التنظيم وضعف التخطيط الاستراتيجي، يتم تحيدها في ظروف الاشتباك مع العدو في حرب الكمائن والعمليات الاستشهادية والتسلل والقنص وقتال المجموعات الصغيرة الذي يعتمد عامةً على مبادرة المقاتل الفردية وجرأته وثباته، وهو ما نتفوق فيه على العدو. القصد أن مائة ألف عربي قد يهزمهم عشرة آلاف من جنود العدو، أما خمسة منا فقد يهزمون كتيبة من العدو في ظروف حرب العصابات أو الصمود في الأماكن المبنية. والفرق هو تميز مقاتلنا مقابل فساد وعدم أهلية المراتب العسكرية العليا.
- أن الأماكن التي حدث فيها صمود واستنزاف طويل المدى لقوى العدو اعتمدت على وجود قوى محلية في مواضع القتال تتمتع بقدر من الامتداد الشعبي، أي أنها اعتمدت على قرار ميداني محلي يتمتع بتأييد شعبي يحتضنه، وهو حال الفلوجة ومخيم جنين. وهذا يعني أفضلية لا مركزية القرار العسكري في ظل غياب حركة شعبية عربية منظمة على رأسها قيادة سياسية وعسكرية صلبة ومجربة. ففي مثل ظروف كهذه، لا يؤدي الانهيار في المركز إلى انهيار في الجسم، بل يصبح تشرذمنا نفسه مواقع اشتباك عديدة لا يستطيع العدو التنبؤ بها.
- أن العدو لا يملك في ظروف حرب العصابات والعمل الاستشهادي والصمود في الأماكن المبنية إلا الانتقام من السكان الأبرياء بطريقة وحشية تعبر عن فشله السياسي والعسكري، وهو ما: أ – يساعد على حسم وتجذير موقف السكان المترددين والوسطيين، ب – يؤلب الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي ضده، ج – يزيد من دافع مقاتلينا لمقارعته، د – يخلق حالة من عدم الاستقرار لمصالحه إقليمياً ودولياً، ه – يفقده المبادرة الإعلامية مع زيادة التشوه الذي يلحق بصورته.
- أن من الغباء الامتناع عن ضرب نقاط الضعف والنقاط الأقل تحصيناً عند العدو مثل أجهزته غير العسكرية سواء كانت اقتصادية أو مسماة "مدنية" هي في حقيقتها ذات طبيعة سياسية أو أمنية معادية. فليست كل أجهزة الاحتلال ذات طبيعة عسكرية، وليس من الحكمة أن نسمح للعدو أن يختار هو قوانين اللعبة بحيث يقرر لنا طبيعة الأهداف التي نختارها، بينما يضرب هو كما يشاء! وينطبق هذا على الأهداف "المدنية" اليهودية في فلسطين المحتلة، وعلى كل العاملين العرب أو الأجانب في الشركات أو المنظمات المدنية العاملة مع الاحتلال في العراق. فهذه الأهداف تؤلم العدو وتربكه أكثر، وتزيد من ضغط رأيه العام عليه، وفي حالة الأجانب المخطوفين في العراق تزيد من التحركات المطالبة بالانسحاب من العراق أو تجبر المتعاونين مع الاحتلال على إعادة النظر أو على الأقل تعاقبهم.
- أن السر في نيل النصر هو تراكم الانتصارات الصغيرة عندما نواجه عدواً متفوقاً تكنولوجياً ولوجستياً. وهو ما يعني: أ – الاستمرارية باعتبار الصراع طويل الأمد يحتاج إلى نفسٍ طويل، ب – استنزاف نقطة ضعفه الأهم وهي العنصر البشري، ج – تعبئة كل الموارد البشرية والمادية المتاحة لمصلحة المقاومة، د – الثبات على المبدأ وتوحيد كل القوى على قاعدة دحر الاحتلال، ه – ترسيخ المفهوم التناحري للصراع مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، الذي لا يمكن أن يحل إلا بالعنف.
- أن طريقة كسب الرأي العام في المعسكر المعادي هي رفع خسائره البشرية إلى حدٍ لا يطيقه، وليس بالتوسل والاستجداء وتقديم التنازلات المبدئية وإقامة العلاقات التطبيعية أو المشبوهة، ولنا في مثال الانسحاب الصهيوني من جنوب لبنان دون قيد أو شرط أكبر مثال على ذلك، كما نلاحظ أن منسوب معارضة الاحتلال في أمريكا، حتى في صفوف العسكريين وعائلاتهم كما قالت صحيفة النيويورك تايمز يوم 11/4/2004، يزداد بمقدار ما ترتفع الخسائر الأمريكية في العراق (وليس بمقدار ما نطالب بحل "عادل وشامل لمشكلة الشرق الأوسط" مثلاً!!). أي أن الخطاب الكفيل بكسب الرأي العام المعادي هو الخطاب المبدئي الثابت والواضح الذي يطالب بزوال الاحتلال دون قيد أو شرط والمدعوم بعمل عسكري فعال.
- أن ابن الشعب المستعد للاستشهاد هو السلاح السري الذي يستطيع أن يهزم أكثر الآلات العسكرية تقدماً، وأن شعبنا العربي مستعدٌ أن يقدم بلا حدود ولكنه يريد أن يرى أولاً فرصة أو نقطة مرجعية تجعل تضحياته ذات جدوى للأمة، وأن الإبداع الشعبي قادر أن يحيد تأثير التكنولوجيا العسكرية، وأن القنبلة البشرية هي القنبلة النووية للمستضعفين، وأن المقاومة توحد الأمة والمساومة تفرقها، وأن الخلافات المذهبية والإقليمية تستعر في ظروف الهزيمة وتضعف في ظروف مقاومة الطرف الأمريكي-الصهيوني، وأن القيادات السياسية للمعارضة العربية بجميع اتجاهاتها ما زالت دون مستوى التحديات التي تواجهها الأمة، وأن كل مواجهة جديدة مع الطرف الأمريكي-الصهيوني تعيد بإلحاح طرح تلك المهمة المفصلية التي تنتصب أمام أعيننا منذ عقود: تأسيس حركة شعبية عربية منظمة تستطيع أن تأخذ على عاتقها مسؤولية حماية الأمن القومي من المغرب إلى البحرين، وتستطيع أن تقدم الدعم الفعال لكل نقطة مقاومة من الفلوجة إلى جنين. وذلك أن النظام القطري انتهى مفعوله حتى بالنسبة للذين أخرجوه إلى حيز الوجود قبل قرن، وصارت المنازلة بيننا نحن أبناء وبنات هذه الأمة وبين الطرف الأمريكي-الصهيوني مباشرة، لولا بعض الأذناب. فإما أن ننهض إلى مسؤولياتنا الآن، وإما أن نقبع في دياجير "الشرق الأوسط الكبير" قرناً جديداً كالعب
- منقول من موقع الصوت العربي الحر