عاد حديث الحرب. مناورات تُجريها 'اسرائيل' على حدودها الشمالية، وتجريها ايران وسوريا في البر والبحر والجو. رؤساء دول وحكومات يوحون بوقوعها ولا يصرحون. محللون سياسيون يرجحون وقوعها ولا يجزمون .
الحرب لن تقع لأنها وقعت فعلاً. وهي ليست حدثاً منتظراً في المستقبل بل حدث وقع في الماضي وما زال مستمراً في الحاضر وقد يطول ويمتد الى المستقبل.
الحرب التي وقعت ليست حرباً تقليدية. هذا الطراز انتهى مع الحرب العالمية الثانية العام 1945. الحرب المعاصرة غير تقليدية، وهي حرب يطلق عليها اهل الفن العسكري تعبير 'الحرب الناعمة' تمييزاً لها من 'الحرب الطاحنة'.
في الحرب الناعمة تُستخدم العمليات السرية، التجسسية والتخريبية، الفتنة المذهبية، التحريض الأثني، الإعلام المفخخ بالأباطيل، العملة المزورة، قرصنة الإتصالات، المخدرات، العقوبات الإقتصادية، الحصار المصرفي، الاغتيالات السياسية، حرب العصابات في الاطراف وحرب الغوار في المدن.
الحرب الناعمة قائمة ومتفاقمة في كل انحاء الشرق الاوسط. جميع الاطراف يمارسونها، بشكل او بآخر، ويحرصون على تقاسم الربح المادي والسياسي الناجم عنها، كما لا يمانعون في تسريع وتيرتها، اذا اقتضت مصالحهم، لتصل الى مستويات محدودة من الحرب الطاحنة.
في إطار هذا التوصيف للحرب الناعمة، يمكن القول إنها تعصف، في الوقت الحاضر وبدرجات متفاوتة، بكل من سوريا والعراق ولبنان وفلسطين واليمن والصومال وليبيا والسودان والبحرين وباكستان وافغانستان وايران .
مصر كادت تلامس حداً ادنى للحرب الناعمة لولا ان تراجع المجلس العسكري، تحت وطأة الضغط الشعبي، وتقبّل نتيجةَ الإنتخابات الرئاسية، وسلّم بمحمد مرسي كأول مدني رئيساً للدولة بعد ستة عقود من حكم العسكر.
الاردن مرشح ايضا للإنزلاق، بعد صعود الاخوان المسلمين في مصر، الى شكل من اشكال الحرب الناعمة اذا ما جارى الملك عبد الله الثاني، بضغطٍ من حلفائه، 'الاخوانَ' الاردنيين في نصـرة المعـارضة السورية المسلحة التي لـِ 'الأخوان' السوريين فيها دور نافذ .
ماذا تبتغي الاطراف الرئيسة في الصراع من وراء اطلاق الحرب الناعمة، او المشاركة فيها، والى اين تريد ان تصل بها؟
الولايات المتحدة لا تنكر انها تشن حرباً ناعمةً على ايران. فقد تخوفت من تداعيات صعودها كقوة اقليمية مركزية على مصالحها النفطية في المنطقة وعلى أمن 'اسرائيل'، وخصوصاً في حال انجاز برنامجها النووي. ولا شك في ان مساندة واشنطن للمعارضة السورية مردُها الى رغبتها في اضعاف ايران بإخراج سوريا، بما هي الحلقة الوسطى، من التحالف القائم بينهما وبين قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية.
هل تنجرف الولايات المتحدة مع ضغوط 'اسرائيل' الرامية الى توريطها في حرب لتدمير المنشآت النووية والصناعية الإيرانية ؟ الرأي الغالب إستبعادُ انزلاق ادارة اوباما الى استعمال القوة قبل الإنتخابات الرئاسية مطلعَ تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. اما بعد الإنتخابات فثمة رأيان رئيسيان: الاول يدعو الى تشديد العقوبات تحت طائلة اللجؤ الى القوة اذا ما تعذر التوصل الى تسوية. الثاني يدعو الى غض النظر عن قيام ايران نووية لأن من شأن ذلك إقامة حال من الردع المتبادل وبالتالي من التوازن الإستراتيجي المؤدي الى استقرار قابل للإستمرار بين دول المنطقة.
روسيا، التي غابت عقداً كاملاً عن المنطقة، تعود الى ساحاتها بسياسة هجومية يمارسها رئيسها فلاديمير بوتن، هدفها إعادة بناء حضورها ونفوذها في المنطقة انطلاقاً من سوريا (حيث لها قاعدة بحرية) ومشاركة اميركا واوروبا في رسم الخريطة السياسية الجديدة لدول غرب آسيا، من الساحل الشرقي للبحر المتوسط وصولاً الى بحر قزوين وقلب آسيا الوسطى، وذلك للحدِّ من صعود الإسلام الحركي ومنع انتقال عدواه الى المجتمعات الإسلامية في قلب روسيا نفسها ناهيك عن الدول الإسلامية المجاورة.
تركيا، بقيادة رجب طيب اردوغان، تتجه الى تعويض عضويتها المرفوضة في الاتحاد الاوروبي بإعادة بسط نفوذها على الشطر العربي من امبراطوريتها العثمانية الذاوية. سوريا، في رأي اردوغان، هي باب الولوج الى المنطقة العربية وذلك بإقامة نظام اسلامي ديمقراطي فيها يحاكي نظام حزبه، العدالة والتنمية. هذا هو الدافع الاساس الى دعم انقرة المعارضة السورية. غير ان اردوغان، المنشغل بمواجهة معارضة الداخل من جهة وثورة حزب العمال الكردستاني من جهة اخرى، يستصعب تطوير مساهمته في الحرب الناعمة ضد سوريا الى حرب اكثر خشونة من دون مشاركة فاعلة من الحلف الأطلسي. والحال ان قيادة الحلف تنفي وجود خطط للتدخل العسكري، ربما بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعانيها دول اوروبا وامريكا.
'اسرائيل'، القلقة من انتشار ايران، بالمعنى الإستراتيجي، على حدودها الشمالية والشمالية الشرقية والجنوبية من خلال حزب الله في لبنان، وسوريا في الجولان، وحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، إزداد قلقها بعد صعود الإسلام الحركي الى السلطة في عالم العرب ولا سيما في مصر. ذلك يحملها على ممارسة ضغوط مكثّّفة على الولايات المتحدة من اجل تحقيق ثلاثة اهداف متزامنـــــة: اولاها، تشـــــديد العقوبات على ايران لإضعافها وحملها على التخلي عن برنامجها النووي تحت طائلة ضربها عسكرياً. ثانيها، إخراج سوريا من تحالفها مع ايران بإستنزافها وصولا، اذا امكن، الى تقسيمها الى جمهوريات موز على اسس مذهبية واثنية وقبلية. ثالثها، المحافظة على معاهدة السلام وعلى علاقات ثنائية جيدة مع مصر بتحريض واشنطن على ربط المساعدات والقروض التي تحتاجها القاهرة من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بإلتزامها معاهدة السلام مع 'اسرائيل' والتعاون معها في اطار الترتيبات الامريكية للمنطقة.
ايران التي تعي جدية المخاطر التي تحيط بها، ولاسيما ما يتعلّق منها بالعقوبات الإقتصادية والمصرفية المفروضة عليها، وإحتمالات تعرضها لضربة عسكرية اسرائيلية او اميركية اسرائيلية في الحاضر او المستقبل، تصرّ على الإحتفاظ ببرنامجها النووي لضمان استمرار دعم الشعب للنظام والحكومة من جهة، ولتعزيز هيبتها ونفوذها وقوتها الرادعة في المنطقة من جهة اخرى. ذلك يدفعها الى التمسك بنظام الاسد ودعم سوريا، سياسياً واقتصادياً وعسكريا، بما هي خط الدفاع الاول عنها في وجه خصومها الاقليميين.
هكذا يتضح ان الحرب الناعمة ستبقى الخيار والنهج المعتمدَين في ساحات المنطقة، وان لا تغيير محسوساً فيها قبل انتخابات الرئاسة الامريكية مطلعَ نوفمبر المقبل. ذلك يؤدي، بالضرورة، الى استنزاف شديد للشعوب التي تكابد، بالدرجة الاولى، تداعيات والآم واضرار لعبة الامم المفتوحة على شتى الإحتمالات.
بعد الإنتخابات الامريكية، سواء فاز اوباما بولاية ثانية او حلّ رومني محله، فإن الولايات المتحدة محكوم عليها بإعادة النظر بسياستها المعتمدة حالياً بسبب استحقاقين بالغي الاهمية: اقتراب ايران، بحسب تقديرات وكالة الإستخبارات المركزية، من نقطة العبور الى صنع قنبلة نووية وامتلاك الصاروخ البالستي القادر على حملها، واقتراب موعد الخروج المفيد او المهين من افغانستان.
د. عصام نعمان سياسي وكاتب لبناني
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\15qpt480.htm&arc=data\2012\07\07-15\15qpt480.htm
الحرب لن تقع لأنها وقعت فعلاً. وهي ليست حدثاً منتظراً في المستقبل بل حدث وقع في الماضي وما زال مستمراً في الحاضر وقد يطول ويمتد الى المستقبل.
الحرب التي وقعت ليست حرباً تقليدية. هذا الطراز انتهى مع الحرب العالمية الثانية العام 1945. الحرب المعاصرة غير تقليدية، وهي حرب يطلق عليها اهل الفن العسكري تعبير 'الحرب الناعمة' تمييزاً لها من 'الحرب الطاحنة'.
في الحرب الناعمة تُستخدم العمليات السرية، التجسسية والتخريبية، الفتنة المذهبية، التحريض الأثني، الإعلام المفخخ بالأباطيل، العملة المزورة، قرصنة الإتصالات، المخدرات، العقوبات الإقتصادية، الحصار المصرفي، الاغتيالات السياسية، حرب العصابات في الاطراف وحرب الغوار في المدن.
الحرب الناعمة قائمة ومتفاقمة في كل انحاء الشرق الاوسط. جميع الاطراف يمارسونها، بشكل او بآخر، ويحرصون على تقاسم الربح المادي والسياسي الناجم عنها، كما لا يمانعون في تسريع وتيرتها، اذا اقتضت مصالحهم، لتصل الى مستويات محدودة من الحرب الطاحنة.
في إطار هذا التوصيف للحرب الناعمة، يمكن القول إنها تعصف، في الوقت الحاضر وبدرجات متفاوتة، بكل من سوريا والعراق ولبنان وفلسطين واليمن والصومال وليبيا والسودان والبحرين وباكستان وافغانستان وايران .
مصر كادت تلامس حداً ادنى للحرب الناعمة لولا ان تراجع المجلس العسكري، تحت وطأة الضغط الشعبي، وتقبّل نتيجةَ الإنتخابات الرئاسية، وسلّم بمحمد مرسي كأول مدني رئيساً للدولة بعد ستة عقود من حكم العسكر.
الاردن مرشح ايضا للإنزلاق، بعد صعود الاخوان المسلمين في مصر، الى شكل من اشكال الحرب الناعمة اذا ما جارى الملك عبد الله الثاني، بضغطٍ من حلفائه، 'الاخوانَ' الاردنيين في نصـرة المعـارضة السورية المسلحة التي لـِ 'الأخوان' السوريين فيها دور نافذ .
ماذا تبتغي الاطراف الرئيسة في الصراع من وراء اطلاق الحرب الناعمة، او المشاركة فيها، والى اين تريد ان تصل بها؟
الولايات المتحدة لا تنكر انها تشن حرباً ناعمةً على ايران. فقد تخوفت من تداعيات صعودها كقوة اقليمية مركزية على مصالحها النفطية في المنطقة وعلى أمن 'اسرائيل'، وخصوصاً في حال انجاز برنامجها النووي. ولا شك في ان مساندة واشنطن للمعارضة السورية مردُها الى رغبتها في اضعاف ايران بإخراج سوريا، بما هي الحلقة الوسطى، من التحالف القائم بينهما وبين قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية.
هل تنجرف الولايات المتحدة مع ضغوط 'اسرائيل' الرامية الى توريطها في حرب لتدمير المنشآت النووية والصناعية الإيرانية ؟ الرأي الغالب إستبعادُ انزلاق ادارة اوباما الى استعمال القوة قبل الإنتخابات الرئاسية مطلعَ تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. اما بعد الإنتخابات فثمة رأيان رئيسيان: الاول يدعو الى تشديد العقوبات تحت طائلة اللجؤ الى القوة اذا ما تعذر التوصل الى تسوية. الثاني يدعو الى غض النظر عن قيام ايران نووية لأن من شأن ذلك إقامة حال من الردع المتبادل وبالتالي من التوازن الإستراتيجي المؤدي الى استقرار قابل للإستمرار بين دول المنطقة.
روسيا، التي غابت عقداً كاملاً عن المنطقة، تعود الى ساحاتها بسياسة هجومية يمارسها رئيسها فلاديمير بوتن، هدفها إعادة بناء حضورها ونفوذها في المنطقة انطلاقاً من سوريا (حيث لها قاعدة بحرية) ومشاركة اميركا واوروبا في رسم الخريطة السياسية الجديدة لدول غرب آسيا، من الساحل الشرقي للبحر المتوسط وصولاً الى بحر قزوين وقلب آسيا الوسطى، وذلك للحدِّ من صعود الإسلام الحركي ومنع انتقال عدواه الى المجتمعات الإسلامية في قلب روسيا نفسها ناهيك عن الدول الإسلامية المجاورة.
تركيا، بقيادة رجب طيب اردوغان، تتجه الى تعويض عضويتها المرفوضة في الاتحاد الاوروبي بإعادة بسط نفوذها على الشطر العربي من امبراطوريتها العثمانية الذاوية. سوريا، في رأي اردوغان، هي باب الولوج الى المنطقة العربية وذلك بإقامة نظام اسلامي ديمقراطي فيها يحاكي نظام حزبه، العدالة والتنمية. هذا هو الدافع الاساس الى دعم انقرة المعارضة السورية. غير ان اردوغان، المنشغل بمواجهة معارضة الداخل من جهة وثورة حزب العمال الكردستاني من جهة اخرى، يستصعب تطوير مساهمته في الحرب الناعمة ضد سوريا الى حرب اكثر خشونة من دون مشاركة فاعلة من الحلف الأطلسي. والحال ان قيادة الحلف تنفي وجود خطط للتدخل العسكري، ربما بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعانيها دول اوروبا وامريكا.
'اسرائيل'، القلقة من انتشار ايران، بالمعنى الإستراتيجي، على حدودها الشمالية والشمالية الشرقية والجنوبية من خلال حزب الله في لبنان، وسوريا في الجولان، وحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، إزداد قلقها بعد صعود الإسلام الحركي الى السلطة في عالم العرب ولا سيما في مصر. ذلك يحملها على ممارسة ضغوط مكثّّفة على الولايات المتحدة من اجل تحقيق ثلاثة اهداف متزامنـــــة: اولاها، تشـــــديد العقوبات على ايران لإضعافها وحملها على التخلي عن برنامجها النووي تحت طائلة ضربها عسكرياً. ثانيها، إخراج سوريا من تحالفها مع ايران بإستنزافها وصولا، اذا امكن، الى تقسيمها الى جمهوريات موز على اسس مذهبية واثنية وقبلية. ثالثها، المحافظة على معاهدة السلام وعلى علاقات ثنائية جيدة مع مصر بتحريض واشنطن على ربط المساعدات والقروض التي تحتاجها القاهرة من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بإلتزامها معاهدة السلام مع 'اسرائيل' والتعاون معها في اطار الترتيبات الامريكية للمنطقة.
ايران التي تعي جدية المخاطر التي تحيط بها، ولاسيما ما يتعلّق منها بالعقوبات الإقتصادية والمصرفية المفروضة عليها، وإحتمالات تعرضها لضربة عسكرية اسرائيلية او اميركية اسرائيلية في الحاضر او المستقبل، تصرّ على الإحتفاظ ببرنامجها النووي لضمان استمرار دعم الشعب للنظام والحكومة من جهة، ولتعزيز هيبتها ونفوذها وقوتها الرادعة في المنطقة من جهة اخرى. ذلك يدفعها الى التمسك بنظام الاسد ودعم سوريا، سياسياً واقتصادياً وعسكريا، بما هي خط الدفاع الاول عنها في وجه خصومها الاقليميين.
هكذا يتضح ان الحرب الناعمة ستبقى الخيار والنهج المعتمدَين في ساحات المنطقة، وان لا تغيير محسوساً فيها قبل انتخابات الرئاسة الامريكية مطلعَ نوفمبر المقبل. ذلك يؤدي، بالضرورة، الى استنزاف شديد للشعوب التي تكابد، بالدرجة الاولى، تداعيات والآم واضرار لعبة الامم المفتوحة على شتى الإحتمالات.
بعد الإنتخابات الامريكية، سواء فاز اوباما بولاية ثانية او حلّ رومني محله، فإن الولايات المتحدة محكوم عليها بإعادة النظر بسياستها المعتمدة حالياً بسبب استحقاقين بالغي الاهمية: اقتراب ايران، بحسب تقديرات وكالة الإستخبارات المركزية، من نقطة العبور الى صنع قنبلة نووية وامتلاك الصاروخ البالستي القادر على حملها، واقتراب موعد الخروج المفيد او المهين من افغانستان.
د. عصام نعمان سياسي وكاتب لبناني
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\15qpt480.htm&arc=data\2012\07\07-15\15qpt480.htm