الجندي المجهول
كيف ظهرت فكرة (الجندي المجهول)؟! وكيف نفذت؟ سؤال يجيب عليه الجنرال الفرنسي (فيجان) في كتابه الرائع (11 نوفمبر).
في نهاية الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) اجتاحت شعوب أوربا المشاعر الحزينة بسبب موت الملايين من أبنائها في ميادين هذه الحرب في حصون (فردان) وفي ميادين (السوم والايبر) وفي سهول بلجيكا وهضاب (الآردن). ورغم أن بعض الأسر قد عثرت على شهدائها فقامت نحوهم بما ينبغي، إلا أن آلاف الأسر الأخرى ظلت تنتظر بلا جدوى جثمان الشهيد الغائب الذي لقي الموت حيث لا يعلم أحد، وجاد بروحه في صمت وجلال وكاد يختفي في زوايا النسيان لا يعلم أهله أين يضعون الزهور على العزيز الذي ذهب ولن يعود.
وأخذ الفرنسيون يفكرون في تحقيق هذه الفكرة وحرصوا فيها أن يختاروا هذا الجندي على نحو يعطي كل أم الحق في أن تتصور وتعتقد أن هذا الراقد قد يكون ابنها العزيز ويمكن لفرنسا فوق هذا أن تخلد في شخصية ذلك المجهول ذكرى الآلاف من أبطالها المجهولين.
مشكلة الاختيار
ولم يكن الاختيار سهلا على الفرنسيين لأن شهداءهم تساقطوا بالآلاف في عشرات الميادين والمواقع تمتد من (فردان) وحتى حوض (المارن) شمال باريس ومن شمال بلجيكا وحتى حدود هولندا.. فإذا اختاروا جنديا من شهداء (فردان) حرموا أمهات (الايبر) من الأمل العزيز، وإذا اختاروه من المشاة حرموا أسر شهداء الفرسان.
وهنا وجب أن يكون الاختيار شاملا بحيث يمثل كل شهيد ويعطي كل أم الحق في أن تعتقد أن ذلك الجندي المجهول هو ابنها.
وعهدت الحكومة الفرنسية في حل هذه المعضلة إلى (اندريه ماجينو) أحد جنودها المعروفين ووزير المعاشات إذ ذاك وصاحب فكرة خط (ماجينو) المشهور، وكان قد خاض ميادين القتال ببسالة تهز النفس وقد أصيب لذلك بما أقعده عن السير وكان رجلا هادئا رزينا صارم الوجه. جمع (ماجينو) رؤساء الجيوش من الفرنسيين الذين قادوا المعارك في الميادين الكبرى التي استشهد فيها أكبر عدد من الفرنسيين وكلف كلا منهم بأن يمضي إلى الميدان الذي حارب فيه مع جنوده ويحفر في أي نقطة في الميدان ويستخرج أول جثمان لجندي يعثر عليه، بشرط أن يكون خاليا من أي إشارة تنم عن شخصه أو سلاحه وبهذا يكون لكل أسرة فقدت جنديا في هذا الميدان الحق في أن تعتقد أن هذا الجثمان الطاهر إنما هو جثمان فقيدها العزيز.
وهنا وجب أن يكون الاختيار شاملا بحيث يمثل كل شهيد ويعطي كل أم الحق في أن تعتقد أن ذلك الجندي المجهول هو ابنها.
وعهدت الحكومة الفرنسية في حل هذه المعضلة إلى (اندريه ماجينو) أحد جنودها المعروفين ووزير المعاشات إذ ذاك وصاحب فكرة خط (ماجينو) المشهور، وكان قد خاض ميادين القتال ببسالة تهز النفس وقد أصيب لذلك بما أقعده عن السير وكان رجلا هادئا رزينا صارم الوجه. جمع (ماجينو) رؤساء الجيوش من الفرنسيين الذين قادوا المعارك في الميادين الكبرى التي استشهد فيها أكبر عدد من الفرنسيين وكلف كلا منهم بأن يمضي إلى الميدان الذي حارب فيه مع جنوده ويحفر في أي نقطة في الميدان ويستخرج أول جثمان لجندي يعثر عليه، بشرط أن يكون خاليا من أي إشارة تنم عن شخصه أو سلاحه وبهذا يكون لكل أسرة فقدت جنديا في هذا الميدان الحق في أن تعتقد أن هذا الجثمان الطاهر إنما هو جثمان فقيدها العزيز.
10 رفات .. من 10 ميادين
وأرسلت الرفات في صناديق محكمة الاغلاق إلى فردان فوصلت في أثر بعضها البعض في التاسع من نوفمبر.. من (اللورين) و(ثامبانى) وفي ميدان موقعة (شيمان درام) و(الايل دوفرانس) و(السوم) و(أواتوا) و(نوتردام دلوريت) و(فيمي) و(الفلاندر) ممن سقطوا في مواقع (الايبر) الدامية ثم أضيفت إليها رفات عاشرة من "فردان" نفسها.
ولما اكتملت المجموعة وقفت إلى جوارها فرقتان من الجنود شاهرين السيوف وتقدم أحد القادة وقال في صوت رهيب:
"باسم الجندي المجهول الذي سيرقد مؤقتا في حصن فردان وبما ناله من شرف الرقود تحت قوس النصر.. وباسم الجنود المجهولين الذين استشهدوا في كل الميادين والمواقع آمر بفتح أبواب هذا الحصن".
وأخذ الجنود يحملون صناديق الرفات ويدخلون بها إلى السرداب الواسع تحت الحصن ووضعت على صفين في بهو صغير متواضع.
وحينما جاء الصباح كان هذا الموقع الجليل قد تحول إلى قدس رهيب رقدت فيه رفات الأبطال المجهولين وزينت جدرانه بالأعلام وتدلت من سقفه أغصان الصفصاف وغطي كل نعش بالعلم الفرنسي ووضعت عليه أغصان النخيل وقام فوقه صليب خشبي وأحاط بالنعوش جنود في ملابس زرقاء وقد نكسوا رؤوسهم وتندت عيونهم بالدموع وأضاء المكان شموع تزيد المكان رهبة وجلالا.. وأقيم نصب بسيط زينته أعظم شارات المجد العسكرى (الليجوندونير) وصليب الحرب الخاص بمدينة فردان ووسام ليوبولد ووسام الحرب الانجليزي ووسام البسالة الحربي الايطالي وسيفا الشرف اللذان أهدتهما الصين واليابان.
ولما اكتملت المجموعة وقفت إلى جوارها فرقتان من الجنود شاهرين السيوف وتقدم أحد القادة وقال في صوت رهيب:
"باسم الجندي المجهول الذي سيرقد مؤقتا في حصن فردان وبما ناله من شرف الرقود تحت قوس النصر.. وباسم الجنود المجهولين الذين استشهدوا في كل الميادين والمواقع آمر بفتح أبواب هذا الحصن".
وأخذ الجنود يحملون صناديق الرفات ويدخلون بها إلى السرداب الواسع تحت الحصن ووضعت على صفين في بهو صغير متواضع.
وحينما جاء الصباح كان هذا الموقع الجليل قد تحول إلى قدس رهيب رقدت فيه رفات الأبطال المجهولين وزينت جدرانه بالأعلام وتدلت من سقفه أغصان الصفصاف وغطي كل نعش بالعلم الفرنسي ووضعت عليه أغصان النخيل وقام فوقه صليب خشبي وأحاط بالنعوش جنود في ملابس زرقاء وقد نكسوا رؤوسهم وتندت عيونهم بالدموع وأضاء المكان شموع تزيد المكان رهبة وجلالا.. وأقيم نصب بسيط زينته أعظم شارات المجد العسكرى (الليجوندونير) وصليب الحرب الخاص بمدينة فردان ووسام ليوبولد ووسام الحرب الانجليزي ووسام البسالة الحربي الايطالي وسيفا الشرف اللذان أهدتهما الصين واليابان.
الجندي المختار
وتقدم (أندريه ماجينو) يحيط به نفر ممن أصيبوا في أنفسهم أو في أبنائهم دفاعا عن فرنسا ونائب من النواب الذين شوهتهم الحرب وأسقف فردان وعدد من الأرامل والمشوهين.
ثم اختار جنديا من الواقفين ليختار بنفسه الجندي المجهول من بين هذه الرفات وكان الجندي الذي اختير لهذه المهمة رمزا حياً للبطولة والتضحية في سبيل الوطن وكان أبوه ممن استشهدوا في سبيل فرنسا ولم يعثر لهم على أثر وكان هو نفسه قد تطوع للحرب وقاتل في أعنف الميادين وأخطرها، وكان من الفرنسيين القلائل الذين اشتركوا في مواقع (شامباني) و(فردان) و(الالزاس) وكتبت لهم السلامة.
وخاطبه أندريه ماجينو قائلا:
أيها الجندي، إليك باقة من الزهور قطفت من ميدان فردان من بين قبور الأبطال الذين استشهدوا في سبيل الوطن، عليك أن تضعها فوق واحد من هذه النعوش، سيكون هذا هو نعش الجندي المجهول الذي سيشيعه الشعب الفرنسي غدا إلى البانثيون ثم إلى قوس النصر. هذا هو أعظم تمجيد تدخره فرنسا لأبنائها. ولكن ليس بالعظيم جدا إذا أريد به أن يكون رمزا خالدا للبسالة الفرنسية التي أبداها هذا الجندي الذي أنقذ ببطولته المجهولة أرض الوطن وكلمة الحق والحرية.
تناول الجندي باقة الزهور وهو شاحب الوجه وعيناه مثبتتان على النعوش، ومر بها مرتين دون أن يستقر عند إحداها، ثم وقف أمام الثالث منها من اليمين ووضعها عليه ثم استقام في وضع عسكري رهيب، ثم تردد نشيد المارسلييز في جوانب المعبد العظيم.
ثم اختار جنديا من الواقفين ليختار بنفسه الجندي المجهول من بين هذه الرفات وكان الجندي الذي اختير لهذه المهمة رمزا حياً للبطولة والتضحية في سبيل الوطن وكان أبوه ممن استشهدوا في سبيل فرنسا ولم يعثر لهم على أثر وكان هو نفسه قد تطوع للحرب وقاتل في أعنف الميادين وأخطرها، وكان من الفرنسيين القلائل الذين اشتركوا في مواقع (شامباني) و(فردان) و(الالزاس) وكتبت لهم السلامة.
وخاطبه أندريه ماجينو قائلا:
أيها الجندي، إليك باقة من الزهور قطفت من ميدان فردان من بين قبور الأبطال الذين استشهدوا في سبيل الوطن، عليك أن تضعها فوق واحد من هذه النعوش، سيكون هذا هو نعش الجندي المجهول الذي سيشيعه الشعب الفرنسي غدا إلى البانثيون ثم إلى قوس النصر. هذا هو أعظم تمجيد تدخره فرنسا لأبنائها. ولكن ليس بالعظيم جدا إذا أريد به أن يكون رمزا خالدا للبسالة الفرنسية التي أبداها هذا الجندي الذي أنقذ ببطولته المجهولة أرض الوطن وكلمة الحق والحرية.
تناول الجندي باقة الزهور وهو شاحب الوجه وعيناه مثبتتان على النعوش، ومر بها مرتين دون أن يستقر عند إحداها، ثم وقف أمام الثالث منها من اليمين ووضعها عليه ثم استقام في وضع عسكري رهيب، ثم تردد نشيد المارسلييز في جوانب المعبد العظيم.
إلى الخلود في باريس
وحمل الجنود النعش، وخرجوا به ووضعوه على عربة مدفع، ثبتت عليه لافتة نحاسية صغيرة تحمل كلمتين، تحملان من جلال المعنى ما لا تحمله الخطب والكتب وهما "الجندي الفرنسي" وغطي النعش بالعلم الفرنسي وثبت عليه صليب البطولة لجنود فردان، وسار الموكب إلى المحطة ليمضي من ميدان القتال إلى المجد والخلود في باريس.. وحينما خرج الموكب من القلعة اندفعت أم ثكلى من بين الصفوف، وأقبلت تقبل النعش العزيز. أما بقية النعوش فقد نقلت إلى كنيسة (أوسوير دي دوامونت) ودفنت في قلب ميدان شهد من ويلات الحرب مصارع الأبطال ما يجعله من أمجد ميادين البطولة في تاريخ البشرية.
وصل الجندي المجهول إلى باريس مساء 11 نوفمبر 1918م، فحمله ستة من الجنود إلى ميدان "نفيروشيرو" ووضعوه أمام تمثال أسد بلفور. وكان قدماء المحاربين في انتظاره فأقاموا إلى جانبه بقية الليل، ولم يشرق الصبح حتى أقبلت جماعات الأرامل والثكالى، حاملات الزهور إلى أن غص الميدان كله بزهور الرحمة والغفران. وفي نفس الوقت كانت جماعات من الجنود تحمل إلى كنيسة في نفس الميدان قلب الزعيم الفرنسي "جامبتا" ذلك الرجل الذي لم ييأس من النصر في ساعات الأزمة السوداء حينما احتل الألمان باريس في سنة 1870، فظل يجاهد حتى حرر أرض وطنه. وحمل نعش الجندي المجهول، والنعش الذي يضم قلب "جامبتا" إلى مبنى "البانثيون"، حيث كان رئيس الجمهورية الفرنسية في انتظارهما، فكأن فرنسا أرادت أن تحتفل في هذا اليوم بذكرى الرجل الذي محا عن وطنه الهزيمة منذ خمسين سنة، فدحر الألمان ورفع علم النصر في أجواء فرنسا بعد نصف قرن من التضحية والبسالة والوطنية الصادقة.
وصل الجندي المجهول إلى باريس مساء 11 نوفمبر 1918م، فحمله ستة من الجنود إلى ميدان "نفيروشيرو" ووضعوه أمام تمثال أسد بلفور. وكان قدماء المحاربين في انتظاره فأقاموا إلى جانبه بقية الليل، ولم يشرق الصبح حتى أقبلت جماعات الأرامل والثكالى، حاملات الزهور إلى أن غص الميدان كله بزهور الرحمة والغفران. وفي نفس الوقت كانت جماعات من الجنود تحمل إلى كنيسة في نفس الميدان قلب الزعيم الفرنسي "جامبتا" ذلك الرجل الذي لم ييأس من النصر في ساعات الأزمة السوداء حينما احتل الألمان باريس في سنة 1870، فظل يجاهد حتى حرر أرض وطنه. وحمل نعش الجندي المجهول، والنعش الذي يضم قلب "جامبتا" إلى مبنى "البانثيون"، حيث كان رئيس الجمهورية الفرنسية في انتظارهما، فكأن فرنسا أرادت أن تحتفل في هذا اليوم بذكرى الرجل الذي محا عن وطنه الهزيمة منذ خمسين سنة، فدحر الألمان ورفع علم النصر في أجواء فرنسا بعد نصف قرن من التضحية والبسالة والوطنية الصادقة.
حمامة السلام
وسار الموكب الرهيب في "البانثيون" إلى قوس النصر يتقدمه قدماء المحاربين حاملين أوسمة الشرف، تليهم جماعة من الضباط ذوي البسالة، يحملون الأعلام التي حاربوا في ظلالها، فكانت ممزقة اخترقها الرصاص في أكثر من موضع. وسارت خلفهم عربة الجندي المجهول، فلما استقر السير بها أمام قوس النصر أطلقت أربع حمامات، كل واحدة في ناحية لكي تحمل إلى كل نواحي فرنسا ذلك السلام العزيز الذي وهبه هذا الجندي المجهول بدمه. ثم تردد لحن الجيش في جوانب الميدان وأغنية "المارسلييز" ثم تقدم رئيس الجمهورية وحيا الجندي، وأعقبه أسقف باريس فصلى على رمز البطولة والتضحية، ثم أقبل الشعب زرافات يضع الزهور.
تم بحمد الله .:spinny: