المنطلق الأساسي في التاريخ الإسلامي
الأستاذ محمود شاكر
القسم الأول
الخلفاء
الأستاذ محمود شاكر
القسم الأول
الخلفاء
إن الخلفية التي لدينا عن كثير من الخلفاء غير صحيحة، وهي مهزوزة جداً وذلك لأننا أخذناها مما درسنا من كتب ليست بذات ثقة، وكُتبت بأيدٍ مغرضة كانت معادية للمسلمين الذين تسلموا الخلافة سواء أكانوا راشدين أم أمويين أم عباسيين. وكثيراً ما وصلت إلينا حياة الخلفاء من جانب واحد وغالباً ما يتعارض مع المنصب الذي يتسلّمه. فالخليفة ليس رجل حكمٍ فقط يجلس في مركز الخلافة يُعطي الأوامر، ويجيب على الرسائل، يتلقّى التهاني، ويستمع إلى الشعراء يكيلون له الثناء، وهذا الجانب الذي دُوِّنَ لنا وشُوِّه أيضاً، وإنما كان الخليفة إمامَ المسلمين في الصلاة، وخطيبهم في الجمع والأعياد، وقائدهم في الجهاد، والمفتي للخاصة، والمسؤول من العامة، يستنبط من الأحكام، ويُناقش الفقهاء، ويتداول الرأي مع العلماء وهذا الجانب لم يرد إلينا من هلال ما كُتِب لنا، ونحن -مع الأسف- لم نفكّر فيه أبداً، واكتفينا بما قرأنا، وقرأنا ذلك مكرّراً في عدد من الكتب وعلى مستوياتٍ مختلفة حتى رسخت هذه الصورة في عقولنا، بل ونُقِشَتْ في أفكارنا وأصبح من الصعب التخلّص منها.
الدولة الأموية
لننظُرْ إلى الجانب الثاني جانب مقتضيات منصب الخلافة من الإمامة، والخطابة، والقيادة، ولْننظُرْ إلى أحد هؤلاء الخلفاء وليكُن يزيد بن معاوية الذي لا تزيد الخَلفية عنه أنه كان من عامة الناس غير مُبالٍ بشؤون الحكم، فلما آل إليه السلطان تسلّمه ولم يحسن التصرّفَ به، فوقعت أحداث أساءت إليه، وإلى أسرته، وكانت سبباً في شنّ الهجوم عليه وعلى آله حتّى مات غير مَأسوف عليه. هذه النظرة العامة إليه دون الحديث عما بالغ في ذلك مبغضوه. ولكن لننظر إلى مركزه الذي تسلّمه في ذلك العصر الذي يضمّ كثيراً من الصحابة، ومعظمه من التابعين، ولنأخذ المرحلة التي سبقت خلافته. لقد أرسله أبوه سنة خمسين للهجرة على رأس حملة كبيرة لدعم المجاهدين الذين يحاصرون القسطنطينية، لقد سار على رأس الحملة وفيها عدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمثال أبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، وأوس بن شدّاد، وعبد الله بن عمر ابن الخطاب، وعبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، رضي الله عنهم جميعاً. فكان يزيد قائدهم، وخطيبهم، وإمامهم فما طعن أحد منهم في قيادته، ولا تكلّم أحد عن إمامته، ولا انتقده أحدهم في خطبته، واستمرت الحملة على ما يزيد على ثمانية شهور، ولو طعن أحد في ناحية من نواحي حياة يزيد أو إمامته أو قيادته أو خطبه لعجّت الكتب بذلك، ولضجّ الرافضةُ في هذا الموضوع،ولكن لم يحدث شيء.
وجاء عهده بالخلافة واستمرّ ما يزيد على أربع سنوات، وكان يمارس خلالها كل ما يمارسه الخليفة ولم يحدث أي طعن فيه أو انتقاد له، ومع هذا فلا نقول: إنّه كان الخليفة المثالي، لا، وإنما كان أحد ملوك المسلمين، فلا يُحَبّ ولا يُسَبّ -كما قال عنه ابن تيمية رحمه الله- فلم تكن أيامه فجوراً فيُسَبّ، ولا أيام عدل ورخاء فيُحبّ، ولم تنطلق في عهده الفتوحات فيُثْنى عليه. وإنما كان ملكاً عادياً. وقد وقعت في عهده حادثتان كان لهما أكبر الأثر في توجبه اللوم عليه وانتقاده وهما: حداثة كربلاء التي استشهد فيها الحسين بن علي رضي الله عنهما، ووقعة الحرّة ودخول المدينة المنوّرة من قبل جنده. وإذا كان بعضهم يحمّل المسؤولية للقادة لصعوبة الاتصال معهم في تلك الأيام، إلاّ أنّه كخليفة يتحمّل القسط الأكبر من المسؤولية، ولكن لا نُغالي في الكلام عنه كما تفعل الرافضة.
وكما طُعِنَ في يزيد بن معاوية طُعِنَ في بقية خلفاء بني أمية لم يُستَثْنَ منهم خليفة واحد، اللهم إلا إذا كان عمر بن عبد العزيز، وهذا لم يُطعَن، به لصلاحه كما يتصوّر بعضهم، وإنما لِقِصَرِ مدّة خلافته التي لم تزد علي السنتين (99-101 هـ)، ولأنّ الذين يوجّهون الطُّعون أرادوا أن يظهروا بالعدل والإنصاف إذا استثنوا بعض الخلفاء، ومع ذلك كنا نسمع من المدرسين العلمانيين على هذا الخليفة الصالح أنه أراد تطبيق الإسلام وقد نسي أنه قد مضى عليه قرن من الزمن، الأمر الذي يدلّ على غبائه.
وعدمُ تَرْكِ خليفةٍ دون هجوم عليه لأنّ الطعن لم يكن موجّهاً بالحقيقة إلى أشخاصٍ بأعينهم، وإنما كان القصد الهجوم على الإسلام من خلال الطعن بالخلفاء والمسؤولين عن الدولة لذا جاء الهجوم عاماً، وإن كان يختلف من خليفة إلى آخر حسبما يجدون من ثغرات أو بالأصح حيث يجدون منفذاً يَلِجونَ منه وينفثون في داخله من سمومهم. فالخليفة الذي تقع في عهده أحداث يمكن الدسّ من خلالها يأخذون بالافتراء والكذب، فمثلاً: موت الحسن بن علي بن أبي طالب، وموت الأشتر النخعي، ومقتل حجر بن عدي، وبيعة خليفة قبل موت الخليفة القائم خوفاً من الأحداث، كل هذه الوقائع يتّهمون فيها معاوية بن أبي سفيان، ويهاجمونه أعنف الهجوم، وينسون صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفتوحات في عهده، وحسنَ إدارته، وحكمته.
ويزيد بن معاوية طعنوا فيه من خلال حادثتي كربلاء، ووقعة الحرّة.
وهشام بن عبد الملك من خلال ثورة زيد ين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وابنه يحيى ابن زيد.
ومن لم تقع في عهده أحداثٌ يهاجمونه من خلال وُلاتِهِ، كما هي حال عبد الملك بن مروان الذين يسلّطون الأضواء في عهده على شدّة الحجّاج بن يوسف الثقفي.
وإذا مات خليفةٌ صغيراً اتّهموا به من بعدَه بقتله، حيث اتّهموا يزيد بن عبد الملك بدَسّ السّمّ لعمر ابن عبد العزيز، وإذا كان الخليفة ضعيفاً لم يهاجموه على ضعفه بل اتّهموه بالخَنا والمجون، وتأثير النساء عليه، والجري وراء شهواته، كالوليد بن يزيد.
وإذا مات قائد ولو بلغ من السنّ عِتيَّاً اتّهموا الخليفة به، فسليمان بن عبد الملك رثى لحال موسى بن نصير قائد الفتح في الأندلس الذي يُلقي بنفسه في المعارك، وقد زادت سنّه على الثمانين، فأراد إكرامه والإفادة من خبراته، فاستقدمه إلى دمشق واصطحبه معه لأداء فريضة الحجّ فوافاه أجله في المدينة فاتّهموا الخليفة بالخلاص منه.
حتّى لم ينجُ منهم معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية الذي تنازل عن الخلافة وجعلها شورى للمسلمين كما يجب أن يفعله كل مسلم، فوجّهوا إليه سهام الضعف وعدم القدرة. ووجدوا أن مروان ابن محمد قد جاء إلى دمشق وأنهى موضوع الصراع على السلطة، وتسلّم الخلافة، وأخذ الأمر بالحزم، ولكن حطّت به الأيام للضعف الذي كانت قد وصلت إليه دولته وقوة خصمها الجديد اليانع العنيد فهاجموه، ولِقُوَّتِهِ أطلقوا عليه ‘الحمار’. فالضعيفُ جبانٌ، والقويُّ حِمارٌ، ومن مات في عهدهم كانوا هم ملك الموت، والذين يوزّعون بطاقات الموت، و...
وعبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي عَدُّوهُ ثائِراً، ولم يَجِدوا ثَغْرَةً في سُلوكهِ فاتَّهَموه بالبُخلِ.
بنى عبد الملك فكان عند الأعداء بِناءً سياسيّاً لتحويل المسلمين من الحجّ إلى مكة إلى الحجّ إلى بيت المقدس، وعدّوا ما جاء من أحاديث صحيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في شدِّ الرِّحال إلى المسجد الأقصى موضوعةً ونسبوها للزُّهري الذي وضعها تزلُّفاً لبني مروان.
وبنى الوليد بن عبد الملك فعدُّوا ذلك تبذيراً وإسرافاً.
وبهذا لم يسلم أحد من أقلام الحاقدين وألسنة المغرضين، وهذا أمر طبيعي ما داموا أعداءً للإسلام. ولكن الغريب كل الغرابة أن يكون ما تُدَوِّنُه أقلامهم ثقافةً لأجيالنا الذين يريدون أن يُواجهونهم فكريَّاً، وأن تكون مواطن فخر أحفادنا في التاريخ من تدوين أعدائهم، وأن يكون الجيلُ الثاني لتطبيق الإسلام أوّلَ من تخلّى عنه، بل إنّ كثيراً من الجيل الأوّل قد شهد هذا الابتعاد عنه ووافق عليه.
علينا أن ننظر في هذه الوقائع والأحداث، ونرى رُواتَها ومدى الثقة بهم، ونفسّرها بعد ذلك تفسيراً إيمانياً حسب منطلقات الأمة ونرى ما يتّفق مع هذه المنطلقات وما يتباين معها، فالأحداث ليست سوى ترجمة للمنطلقات وتطبيقاً لها.
الدولة العبّاسيّة
إنّ الذي شَنُّوا هجماتهم على الدولة الأموية هم أنفسهم الذين طعنوا في خلفاء بني العبَّاس، ولا شكّ أنّ الهجوم لا يكون على الضعفاء الذين لا يَأْبَهُ بهم أحدٌ، وإنّما على الأقوياء الذين يؤثِّرون في المجتمعات، ويكونوا أنموذجاً لتطبيق منطلقات الأمة، ومن هنا كان الهجوم على خلفاء الدور الأول من العهد العباسي.
لقد خرقوا سِترَ هارون الرشيد ووصلوا إلى المكان الذي لا تصل إليه إلاّ زوجاته، ونظروا في موضع سرّه الذي لا يعلمه إلاّ اللهُ وزوجاتُه، واختلقوا قصصاً واضحةَ الكذب، وربّما كانت هي السبب في اكتشاف أكاذيب الذين عملوا في تدوين التاريخ من أعداء الإسلام لما فيها من وضع مكشوفٍ وخاصة فيما يتعلّق بأبي نوّاس الذي لم يره الرشيد طوال حياته مع أن قصصه معه هي الشائعة وتكاد تكون من المسَلَّمات بها!
وإذا كان هؤلاء قد توصّلوا إلى داخل بيت الرشيد فرأوا ما لم يعلمه إلاّ الله وأذاعوه على الناس لكنهم في الوقت نفسه قد عموا عما يراه الناس جميعاً وأخفوه، لقد أعماهم اللهُ عن جهاده، وعن حجِّه، وعن بكائه من خشية الله عندما يذكِّرُهُ أهلُ التقوى بالله... وسكتوا عن هذا... ليفضحَ اللهُ أمرَهم.
ولم يكن هارون الرشيد ضحيَّتَهم الوحيدة، بل لم تترك ألسنتُهم أحداً من العباسيين كما لم تبتعد عن أحد من أبناء عمومتهم الأمويين السابقين لهم في السلطة، حتى لِيَتَّضِحَ أنّ الهدفَ لم يكن الخلفاء وإنما كان الإسلام الذي يمثّله الخلفاءُ.
يتبع
الدولة الأموية
لننظُرْ إلى الجانب الثاني جانب مقتضيات منصب الخلافة من الإمامة، والخطابة، والقيادة، ولْننظُرْ إلى أحد هؤلاء الخلفاء وليكُن يزيد بن معاوية الذي لا تزيد الخَلفية عنه أنه كان من عامة الناس غير مُبالٍ بشؤون الحكم، فلما آل إليه السلطان تسلّمه ولم يحسن التصرّفَ به، فوقعت أحداث أساءت إليه، وإلى أسرته، وكانت سبباً في شنّ الهجوم عليه وعلى آله حتّى مات غير مَأسوف عليه. هذه النظرة العامة إليه دون الحديث عما بالغ في ذلك مبغضوه. ولكن لننظر إلى مركزه الذي تسلّمه في ذلك العصر الذي يضمّ كثيراً من الصحابة، ومعظمه من التابعين، ولنأخذ المرحلة التي سبقت خلافته. لقد أرسله أبوه سنة خمسين للهجرة على رأس حملة كبيرة لدعم المجاهدين الذين يحاصرون القسطنطينية، لقد سار على رأس الحملة وفيها عدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمثال أبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، وأوس بن شدّاد، وعبد الله بن عمر ابن الخطاب، وعبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، رضي الله عنهم جميعاً. فكان يزيد قائدهم، وخطيبهم، وإمامهم فما طعن أحد منهم في قيادته، ولا تكلّم أحد عن إمامته، ولا انتقده أحدهم في خطبته، واستمرت الحملة على ما يزيد على ثمانية شهور، ولو طعن أحد في ناحية من نواحي حياة يزيد أو إمامته أو قيادته أو خطبه لعجّت الكتب بذلك، ولضجّ الرافضةُ في هذا الموضوع،ولكن لم يحدث شيء.
وجاء عهده بالخلافة واستمرّ ما يزيد على أربع سنوات، وكان يمارس خلالها كل ما يمارسه الخليفة ولم يحدث أي طعن فيه أو انتقاد له، ومع هذا فلا نقول: إنّه كان الخليفة المثالي، لا، وإنما كان أحد ملوك المسلمين، فلا يُحَبّ ولا يُسَبّ -كما قال عنه ابن تيمية رحمه الله- فلم تكن أيامه فجوراً فيُسَبّ، ولا أيام عدل ورخاء فيُحبّ، ولم تنطلق في عهده الفتوحات فيُثْنى عليه. وإنما كان ملكاً عادياً. وقد وقعت في عهده حادثتان كان لهما أكبر الأثر في توجبه اللوم عليه وانتقاده وهما: حداثة كربلاء التي استشهد فيها الحسين بن علي رضي الله عنهما، ووقعة الحرّة ودخول المدينة المنوّرة من قبل جنده. وإذا كان بعضهم يحمّل المسؤولية للقادة لصعوبة الاتصال معهم في تلك الأيام، إلاّ أنّه كخليفة يتحمّل القسط الأكبر من المسؤولية، ولكن لا نُغالي في الكلام عنه كما تفعل الرافضة.
وكما طُعِنَ في يزيد بن معاوية طُعِنَ في بقية خلفاء بني أمية لم يُستَثْنَ منهم خليفة واحد، اللهم إلا إذا كان عمر بن عبد العزيز، وهذا لم يُطعَن، به لصلاحه كما يتصوّر بعضهم، وإنما لِقِصَرِ مدّة خلافته التي لم تزد علي السنتين (99-101 هـ)، ولأنّ الذين يوجّهون الطُّعون أرادوا أن يظهروا بالعدل والإنصاف إذا استثنوا بعض الخلفاء، ومع ذلك كنا نسمع من المدرسين العلمانيين على هذا الخليفة الصالح أنه أراد تطبيق الإسلام وقد نسي أنه قد مضى عليه قرن من الزمن، الأمر الذي يدلّ على غبائه.
وعدمُ تَرْكِ خليفةٍ دون هجوم عليه لأنّ الطعن لم يكن موجّهاً بالحقيقة إلى أشخاصٍ بأعينهم، وإنما كان القصد الهجوم على الإسلام من خلال الطعن بالخلفاء والمسؤولين عن الدولة لذا جاء الهجوم عاماً، وإن كان يختلف من خليفة إلى آخر حسبما يجدون من ثغرات أو بالأصح حيث يجدون منفذاً يَلِجونَ منه وينفثون في داخله من سمومهم. فالخليفة الذي تقع في عهده أحداث يمكن الدسّ من خلالها يأخذون بالافتراء والكذب، فمثلاً: موت الحسن بن علي بن أبي طالب، وموت الأشتر النخعي، ومقتل حجر بن عدي، وبيعة خليفة قبل موت الخليفة القائم خوفاً من الأحداث، كل هذه الوقائع يتّهمون فيها معاوية بن أبي سفيان، ويهاجمونه أعنف الهجوم، وينسون صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفتوحات في عهده، وحسنَ إدارته، وحكمته.
ويزيد بن معاوية طعنوا فيه من خلال حادثتي كربلاء، ووقعة الحرّة.
وهشام بن عبد الملك من خلال ثورة زيد ين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وابنه يحيى ابن زيد.
ومن لم تقع في عهده أحداثٌ يهاجمونه من خلال وُلاتِهِ، كما هي حال عبد الملك بن مروان الذين يسلّطون الأضواء في عهده على شدّة الحجّاج بن يوسف الثقفي.
وإذا مات خليفةٌ صغيراً اتّهموا به من بعدَه بقتله، حيث اتّهموا يزيد بن عبد الملك بدَسّ السّمّ لعمر ابن عبد العزيز، وإذا كان الخليفة ضعيفاً لم يهاجموه على ضعفه بل اتّهموه بالخَنا والمجون، وتأثير النساء عليه، والجري وراء شهواته، كالوليد بن يزيد.
وإذا مات قائد ولو بلغ من السنّ عِتيَّاً اتّهموا الخليفة به، فسليمان بن عبد الملك رثى لحال موسى بن نصير قائد الفتح في الأندلس الذي يُلقي بنفسه في المعارك، وقد زادت سنّه على الثمانين، فأراد إكرامه والإفادة من خبراته، فاستقدمه إلى دمشق واصطحبه معه لأداء فريضة الحجّ فوافاه أجله في المدينة فاتّهموا الخليفة بالخلاص منه.
حتّى لم ينجُ منهم معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية الذي تنازل عن الخلافة وجعلها شورى للمسلمين كما يجب أن يفعله كل مسلم، فوجّهوا إليه سهام الضعف وعدم القدرة. ووجدوا أن مروان ابن محمد قد جاء إلى دمشق وأنهى موضوع الصراع على السلطة، وتسلّم الخلافة، وأخذ الأمر بالحزم، ولكن حطّت به الأيام للضعف الذي كانت قد وصلت إليه دولته وقوة خصمها الجديد اليانع العنيد فهاجموه، ولِقُوَّتِهِ أطلقوا عليه ‘الحمار’. فالضعيفُ جبانٌ، والقويُّ حِمارٌ، ومن مات في عهدهم كانوا هم ملك الموت، والذين يوزّعون بطاقات الموت، و...
وعبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي عَدُّوهُ ثائِراً، ولم يَجِدوا ثَغْرَةً في سُلوكهِ فاتَّهَموه بالبُخلِ.
بنى عبد الملك فكان عند الأعداء بِناءً سياسيّاً لتحويل المسلمين من الحجّ إلى مكة إلى الحجّ إلى بيت المقدس، وعدّوا ما جاء من أحاديث صحيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في شدِّ الرِّحال إلى المسجد الأقصى موضوعةً ونسبوها للزُّهري الذي وضعها تزلُّفاً لبني مروان.
وبنى الوليد بن عبد الملك فعدُّوا ذلك تبذيراً وإسرافاً.
وبهذا لم يسلم أحد من أقلام الحاقدين وألسنة المغرضين، وهذا أمر طبيعي ما داموا أعداءً للإسلام. ولكن الغريب كل الغرابة أن يكون ما تُدَوِّنُه أقلامهم ثقافةً لأجيالنا الذين يريدون أن يُواجهونهم فكريَّاً، وأن تكون مواطن فخر أحفادنا في التاريخ من تدوين أعدائهم، وأن يكون الجيلُ الثاني لتطبيق الإسلام أوّلَ من تخلّى عنه، بل إنّ كثيراً من الجيل الأوّل قد شهد هذا الابتعاد عنه ووافق عليه.
علينا أن ننظر في هذه الوقائع والأحداث، ونرى رُواتَها ومدى الثقة بهم، ونفسّرها بعد ذلك تفسيراً إيمانياً حسب منطلقات الأمة ونرى ما يتّفق مع هذه المنطلقات وما يتباين معها، فالأحداث ليست سوى ترجمة للمنطلقات وتطبيقاً لها.
الدولة العبّاسيّة
إنّ الذي شَنُّوا هجماتهم على الدولة الأموية هم أنفسهم الذين طعنوا في خلفاء بني العبَّاس، ولا شكّ أنّ الهجوم لا يكون على الضعفاء الذين لا يَأْبَهُ بهم أحدٌ، وإنّما على الأقوياء الذين يؤثِّرون في المجتمعات، ويكونوا أنموذجاً لتطبيق منطلقات الأمة، ومن هنا كان الهجوم على خلفاء الدور الأول من العهد العباسي.
لقد خرقوا سِترَ هارون الرشيد ووصلوا إلى المكان الذي لا تصل إليه إلاّ زوجاته، ونظروا في موضع سرّه الذي لا يعلمه إلاّ اللهُ وزوجاتُه، واختلقوا قصصاً واضحةَ الكذب، وربّما كانت هي السبب في اكتشاف أكاذيب الذين عملوا في تدوين التاريخ من أعداء الإسلام لما فيها من وضع مكشوفٍ وخاصة فيما يتعلّق بأبي نوّاس الذي لم يره الرشيد طوال حياته مع أن قصصه معه هي الشائعة وتكاد تكون من المسَلَّمات بها!
وإذا كان هؤلاء قد توصّلوا إلى داخل بيت الرشيد فرأوا ما لم يعلمه إلاّ الله وأذاعوه على الناس لكنهم في الوقت نفسه قد عموا عما يراه الناس جميعاً وأخفوه، لقد أعماهم اللهُ عن جهاده، وعن حجِّه، وعن بكائه من خشية الله عندما يذكِّرُهُ أهلُ التقوى بالله... وسكتوا عن هذا... ليفضحَ اللهُ أمرَهم.
ولم يكن هارون الرشيد ضحيَّتَهم الوحيدة، بل لم تترك ألسنتُهم أحداً من العباسيين كما لم تبتعد عن أحد من أبناء عمومتهم الأمويين السابقين لهم في السلطة، حتى لِيَتَّضِحَ أنّ الهدفَ لم يكن الخلفاء وإنما كان الإسلام الذي يمثّله الخلفاءُ.
يتبع