هولاند يغوص في رمال إفريقيا المتحركة
غاصت فرنسا في الرمال المتحركة جنوبي الصحراء الكبرى، وأدخلت
الجزائر في ورطة وجرتها إلى الصراع في مالي. وبعد أقل من أسبوع على بدء
توجيه الضربات الجوية الفرنسية بدأت تتكشف الصعوبات التي تنتظر فرانسوا
هولاند كان أولها خطف العشرات من العمال الأجانب في حقول عين أمناس جنوبي
الجزائر،وقتل إثنين من الأجانب على الأقل وجرح ستة آخرين. وتنذر الأجواء
بتورط فرنسي طويل في مالي قد يعود عليها بالمآسي والخيبات، ويكون امتحانا
أصعب بكثير من الحرب في أفغانستان التي قرر هولاند ذاته تعجيل سحب قواته
منها قبل العام 2014.
ومع اطلاق العملية البرية وتحرك
القوات الفرنسية إلى الشمال نحو إقليم أزواد تبنت جماعة اسلامية مرتبطة
بتنظيم "القاعدة" في المغرب العربي، عملية احتجاز 41 رهينة، من بينهم سبعة
أميركيين في هجوم على منشأة في حقل للغاز في جنوب الجزائر. الجماعة أوضحت
أن "الهجمات جاءت انتقاماً من الجزائر لسماحها لفرنسا باستخدام مجالها
الجوي في شن غارات جوية على مالي". كما أعلن لاحقا عن اختطاف أكثر من 150
عامل وخبير أجنبي في الحقل المذكور بينهم فرنسيون وبريطانيون ويابانيون
وأمريكيون.
ويكشف الرد من القاعدة على منشآت في الجزائر عن
صعوبة التزام الرئيس الفرنسي بالأهداف التي حددها سابقا للعملية في مالي
وهي "وقف الاعتداء الارهابي" و"تأمين باماكو حيث لدينا الالاف من رعايانا
والسماح لمالي باستعادة وحدة اراضيها". ويخيب توسيع العمليات إلى الجزائر
الأمال المعقودة من قبل هولاند ذاته على انهاء العملية في أيام أو أسابيع
محدودة دون خسائر كبيرة. ويتضح من تصريحات وزير الدفاع الفرنسي في اليوم
السادس من الحملة أن القيادة الفرنسية بدأت تمهد الرأي العام لحرب أطول مما
كان متوقعا، وتتحسب لزيادة الخسائر البشرية والمادية ما قد يفقدها كثيرا
من الدعم الذي لاقته من أوساط أحزاب اليمين المتطرف، واليمين والوسط.
مخاطر تمدد الصراع...
وتشكل
الأحداث التي جرت في جنوب الجزائر الإرهاصات الأولى للحرب على الجماعات
الإسلامية في مالي، ويبدو أن الأمور تسير باتجاه فتح جبهة معارك جديدة في
دول غرب أفريقيا والساحل، رغم التحفظات المالية والجزائرية والتونسية على
إشعال حرب لا يعلم أحد متى ولا كيف ستنتهي. فشمال مالي الذي تحتله، حسب
مصادر مختلفة، جماعة أنصار الدين وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي
وحركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، وبحكم موقعه الجغرافي والواقع
الديمغرافي لن يدفع وحده ثمن أي تدخل فيه، بل ستدفع دول الجوار فاتورة
باهظة ليس أقلها استقبال مزيد من اللاجئين، وليس منتهاها إمكانية تسرب
العناصر الإسلامية المتشددة مرة أخرى إلى المغرب وتونس والجزائر والسنغال
والنيجر وليبيا، ما يعني عودة إلى ماض جربه مواطنو هذه الدول ودفعوا جراءه
خسائر فادحة في الأموال والممتلكات.
وفي الأيام الأخيرة نزح مئات الألوف إلى دول الجوار طلبا للأمن وخوفا من توسع الصراع.
جذور الأزمة الأخيرة
ويأتي
التدخل الحالي عبر حدثين رئيسيين وضعا مالي، ومنطقة الساحل الأفريقي، في
أزمة كبيرة في نهاية مارس / آذار وبداية أبريل / 2012 نيسان. الحدث الأول
تمثل بالانقلاب العسكري على حكومة الرئيس أمادو توماني توري، وتعليق عمل
المؤسسات الدستورية في البلاد وسيطرة قوات حركة تحرير أزواد مع ثلاث حركات
جهادية أخرى (القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، أنصار الدين وحركة الجهاد
والتوحيد في غرب أفريقيا) على شمال البلاد. بعد ذلك سعت الحكومة الانتقالية
في البلاد لحشد الرأي العام العالمي ضد معارضيها في الشمال. فقد أعلن
الرئيس الانتقالي ديونكوندا تراوري يوم 5 أيلول/ سبتمبر الماضي أن مالي في
خطر، وأن هذا الخطر عابر للحدود، أي أنه يهدد دول الجوار الجغرافي لمالي.
وكذلك فعل رئيس الوزراء المالي موديبو ديارا حين دعا الدول الغربية، وعلى
رأسها فرنسا، إلى التدخل العسكري في شمال مالي وذلك بإرسال طائرات وقوات
خاصة. ويقول البعض إن زيارة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية،
الأخيرة إلى الجزائر إنما هدفت أن تلعب الجزائر دوراً محورياً في حالة
التدخل العسكري رغم معارضة واشنطن للتدخل المباشر.
هل كان يمكن تجنب التدخل العسكري؟
استعجلت فرنسا التدخل العسكري في مالي بعدما استصدرت قرارا دوليا في مجلس
الأمن منتصف الشهر الماضي بتقديم الدعم اللازم لحكومة مالي في منع تقدم
القوات إلى عاصمة البلاد، ودعم قوة عسكرية من منظمة غرب إفريقيا "الإيكواس"
وتدريبها لحفظ الأمن والإستقرار في البلد الإفريقي. وفاجئ التدخل العسكري
المراقبين وأثار ضجة كبيرة خصوصا في الجزائر والدول التي ما فتئت تؤكد على
ضرورة إيجاد حل سلمي للأزمة.
ومن المستغرب أن هولاند حسم
أموره بسرعة رغم معرفته أن الولايات المتحدة لا تبدو متحمسة كثيراً لفكرة
التدخل، بعدما جربت ذلك كثيراً في أفغانستان والصومال والعراق وليبيا، وقد
درست بالفعل خيارات بديلة، ومنها تدريب وتسليح الجيش المالي ليتمكن من قتال
المسلحين بنفسه.
وربما لم يرغب الفرنسيون الانتظار أشهرا
عدة حتى يتم الانتهاء من أمر التسليح والتدريب نظرا لأن وجود القاعدة يهدد
مصالحها ومصالح دول لطالما ربطتها بها علاقات متميزة، وإن غابت عنها
الندية في معظم الأحيان جراء سنوات الاستعمار الفرنسي لأجزاء واسعة من
القادرة السمراء.
وأثار موقف الجزائر السماح للفرنسيين
باستخدام أجوائها موجة من الانتقادات من قبل المعارضة التي اعتبرتها ضربة
للجهود الدبلوماسية الجزائرية لحل الأزمة سلميا، وحذرت من التورط في حرب
صعبة تعرض أمن البلاد إلى الخطر، وتعيد إلى الذاكرة مشاهد العشرية الدموية
في تسعينات القرن الماضي وهو آخر ما يصب في مصلحة الجزائر وأهلها.
ورغم
أن الجزائر أعطت موافقتها، بعد تردد، على مخطط التدخل العسكري شمال دولة
مالي، إلا أن الدبلوماسية الجزائرية لم تتوقف عن التأكيد على أن إشعال
الحرب سيقود إلى كارثة في المنطقة. وترى أن التدخل العسكري لن يقضي على
"القاعدة"، لأن هذا الخطر المزعوم فيه تهويل كبير جداً، لناحية العدّة
والعدد. ومن هنا فقد عارضت الجزائر، طوال الشهور الماضية، أي عمل أو تدخل
عسكريين لأنهما يشوشان على خططها المعقدة للتعامل مع الجماعات الإرهابية،
كما أنها ترفض أي وجود أجنبي على أرضها. ووفق هذه الرؤية بحثت الجزائر،
وبقوة، عن حل سياسي، حتى أنها نظمت مفاوضات بين جماعة " أنصار الدين"
وممثلين عن وجهاء الطوارق الماليين المتواجدين على أراضيها، بغية إقناع هذه
الجماعة بفك ارتباطها مع تنظيم "القاعدة" في الداخل، والعودة إلى صفوف
الطوارق الماليين من أجل ترتيب اتفاق بينهم وبين حكومة باماكو، ينالون فيه
حقوقهم في إطار صيغة لحكم ذاتي.
الجزائر أكبر المتضررين
وتتخوف
أوساط جزائرية من تورط بلادهم في الحرب لأن نيران الحرب يمكن أن تطال كل
شعوب المنطقة. ويمكن أن يتسبب دعم الجزائر للحرب، ولو في شكل غير مباشر،
مثل فتح المجال الجوي إلى استعداء طوارق جنوب الجزائر المتصلين بعلاقات
قربى ونسب مع طوارق شمالي مالي الذين يروا أن إصرار الرؤساء الأفارقة على
التدخل واستعمال القوة والترهيب مدفوعين من فرنسا يعتبر خياراً غير موفق
ويعبر عن قصر نظر فضلاً عن كونه يمثل انحيازاً واضحاً لفئة من الشعب المالي
ضد فئة أخرى طالما عانت من الظلم والتهميش والحرمان، وسيؤدي هذا التدخل
إلى تفاقم الأوضاع وإضاعة فرصة تاريخية للإبقاء على مالي كدولة موحدة. كما
لن تستطيع الجزائر ضبط الحدود الطويلة مع مالي مما يعرض منشآتها النفطية في
الجنوب إلى الخطر وهي أهم مصادر الدخل في الجزائر. وسوف تدفع الجزائر
فاتورة إنسانية واقتصادية باستقبال اللاجئين . وسوف تضطر إلى تخصيص موازات
ضخمة للدفاع والأمن خصوصا في ظل التوقعات بأن يطول أمد الحرب.
أفغانستان إفريقية...
ازدادت
قوة التنظيمات الإسلامية في مالي بعدما عادت بأحدث صنوف الأسلحة من
مستودعات الجيش الليبي إثر سقوط نظام العقيد معمر القذافي. كما انضم مئات
من أفضل عسكريي الجيش المالي إلى صفوف المتمردين بعدما تدربوا جيدا على
ايدي الخبراء الأمريكيين لمحاربة الإرهاب عدة سنوات.
وشجعت
مخاطر تحول شمال مالي إلى معقل للجماعات الإسلامية الدول الغربية على
استصدار قرار في مجلس الأمن، وحشد الطاقات الإفريقية للتدخل. لكن التدخل
الغربي ذاته يمكن أن يمهد لسيناريو أفغانستان أكبر وأخطر خصوصا أن مساحة
مالي أكبر ثلاث مرات من مساحة أفغانستان. وأن أخطار انتقال العمليات إلى
دول الجوار كبير جدا خصوصا في ظل الامكانات العسكرية والدفاعية المتواضعة
لكل الدول الحدودية لمالي باستثناء الجزائرغير الراغبة أصلا في الدخل.
ولهذا يرى كثير من الخبراء العسكريين والسياسيين أنه يجب عدم إقفال الباب
أمام الحلول التفاوضية، ودراسة الأسباب التي دعت الطوارق لإعلان دولتهم
المستقلة، وفي مقدمها حرمانهم من الحقوق وغياب وسائل العيش الكريم في
مناطقهم المهمشة على كل الصعد. أما محاربة القاعدة في شمال مالي فهو شأن
برسم الحكومات الأفريقية، التي لم تأل جهداً حتى الآن في محاصرتها وفي
إضعاف قدرتها على الفعل، وحصارها في الصحراء الكبرى كتعبير عن مدى انحسار
وجودها كما حدث في الصومال والجزائر وليبيا.
لكن خبراء
يشيرون إلى أن الغرب يضخم في عدد وعدة المجموعات الإسلامية ويؤكدون أن
عددهم لا يتجاوز 2000 مقاتل، وأن معظمهم تم غض الطرف عن نشاطه حين كان
يقاتل نظام القذافي تحت مرأى وسمع الناتو.
ولا يمكن
استبعاد أن فرنسا ترغب في تعزيز وجودها في المنطقة حفاظا على مصالحها في
النيجر حيث تتزود بنحو 80 في المئة من اليورانيوم الخام. كما تتحدث تقارير
صحفية عن اكتشافات نفطية كبيرة في أزواد فتحت شهية الفرنسيين للتدخل في
دولة تعد من أفقر بلدان العالم.
ضرورة تعلم دروس التاريخ
هددت
الحركات الإسلامية الجهادية والسلفية بالرد على التدخل الفرنسي في كل
مكان، وبدأت القاعدة تنفيذ الوعيد في جنوب الجزائر، ويزداد الخوف من تعرض
المصالح الفرنسية في الخارج، أو حتى في الداخل، لضربات إرهابية ردا على
العملية العسكرية.
ومما لا شك فيه أن اتخاذ قرار الحرب
أسهل بكثير من قرار توسيع العمليات أو الانسحاب تحت وقع زيادة الخسائر. وفي
الآونة الأخيرة فشلت فرنسا فشلا ذريعا في تحرير أحد الرهائن في الصومال من
أيدي الإرهابيين هناك. وقد تتورط فرنسا التي تدخلت لوقف الهجوم على
العاصمة باماكو في صراعات جديدة تطيل مدة التدخل مما يتسبب بخسائر
اقتصادية وبشرية لا يمكنها تحملها منفردة، خصوصا إذا ما انفض مناصرو الحملة
في حال حدوث انتكاسات في العملية.
ويبقى المشهد مفتوحا
على احتمالات كثيرة ربما يكون أولها اضطرار فرنسا إلى زيادة عدد قواتها إلى
أكثر من 10 آلاف على الأقل حتى تستطيع انجاز مهمتها، واضطرارها إلى طلب
العون من الناتو وحلفائها في حربها ضد الحركات الإسلامية في شمال مالي.
وأخيرا ربما كان الأفضل لهولاند الإشتراكي التريث أكثر، ودراسة تاريخ غزو
أفغانستان والعراق وأفغانستان قبل التعجل في اتخاذ قرار قد يدخل فرنسا في
مستنقع لا مخرج منه سريعا.
http://arabic.rt.com/news_all_news/analytics/69215/