معركة نيقوبوليس/تامر بدر
معركة نيقوبوليس
تامر بدر
معركة نيقوبوليس وقعت سنة (800هـ/1396م) بين العثمانيين بقيادة السلطان بايزيد الأول وبين التحالف الصليبي بقيادة الملك سيجسموند ملك المجر, وكان النصر فيها لصالح المسلمين.
قبل المعركة
كان لسقوط بلغاريا عام (797هـ/1393م) في يد السلطان العثماني بايزيد الأول صدى هائل في أوربا، وانتشر الرعب والفزع والخوف في أنحائها, وتحركت القوى المسيحية الصليبية للقضاء على الوجود العثماني في البلقان، خاصة ملك المجر سيجسموند والبابا بونيفاس التاسع، فقد اتفق عزم الرجلين على تكوين حلف صليبي جديد؛ لمواجهة الصواعق العثمانية المرسلة، واجتهد سيجسموند في تضخيم حجم هذا الحلف وتدويله، باشتراك أكبر قدر ممكن من الجنسيات المختلفة.
وبالفعل جاء الحلف ضخمًا يضم مائة وعشرين ألف مقاتل من مختلف الجنسيات؛ مثل: ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، وإسكتلندا، وسويسرا، وإيطاليا، ويقود الحلف سيجسموند ملك المجر. وتحرَّكت الحملة الصليبية الجرارة عام (800هـ/1396م) إلى المجر، ولكن بوادر الوهن والفشل قد ظهرت على الحملة مبكرًا؛ ذلك لأن سيجسموند قائد الحملة كان مغرورًا أحمقَ، لا يستمع لنصيحة أحد من باقي قواد الحملة، وقد بلغ به الغرور والاعتداد بجيشه وقوته أن قال: "لو انقضت السماء من عليائها لأمسكناها بحرابنا".
وحدث خلاف شديد على استراتيجية القتال؛ فسيجسموند يُؤْثِر الانتظار حتى تأتى القوات العثمانية، وباقي القواد يرون المبادرة بالهجوم. وبالفعل لم يستمعوا لرأي سيجسموند، وانحدروا مع نهر الدانوب حتى وصلوا إلى مدينة نيقوبوليس في شمال البلقان.
المعركة
بدأ الصليبيون في حصار مدينة نيقوبوليس، وتغلبوا في أول الأمر على القوات العثمانية، ولم يكد الصليبيون يدخلون المدينة حتى ظهر بايزيد ومعه مائة ألف مقاتل، كأنما الأرض قد انشقت عنهم، وكان هذا العدد يقل قليلاً عن التكتل الأوربي الصليبي، ولكنه يتفوق عليهم نظامًا وسلاحًا. وكان ظهور العثمانيين فجأة كفيلاً بإدخال الرعب والهول في قلوب الصليبيين, وبدأت المعركة التي تُعَدُّ من أشرس معارك التاريخ, وقاتل المسلمون يومها قتال مَنْ لا يخشى الموت, وأنزل الله على المسلمين الرحمة والسكينة، وأيدهم بجند من عنده, فقذف في قلوب الذين كفروا الرعب.
وانتهت المعركة بنصر مُبين للمسلمين، ذكرهم بأيام المسلمين الأولى بدر واليرموك, فانهزم معظم النصارى، ولاذوا بالفرار والهرب، وقُتل وأُسر عدد من قادتهم, فقد وقع كثير من أشراف فرنسا -منهم الكونت دي نيفر نفسه- في الأسر، فقبل السلطان بايزيد دفع الفدية، وأطلق سراح الأسرى والكونت دي نيفر، وكان قد ألزم بالقسم على أن لا يعود لمحاربته، وقال له: "إني أجيز لك أن لا تحفظ هذا اليمين، فأنت في حلٍّ من الرجوع لمحاربتي, إذ لا شيء أحب إليَّ من محاربة جميع مسيحيي أوربا والانتصار عليهم".
أما سيجسموند ملك المجر فقد ولّى هاربًا ومعه رئيس فرسان رودس، ولما بلغا في فرارهما شاطئ البحر الأسود، وجدا هناك الأسطول النصراني، فوثبا على إحدى السفن وفرت بهما مسرعة لا تلوي على شيء.
وعلى الرغم من القضاء على القوات الصليبية، إلا أن السلطان بايزيد انزعج لكثرة قتلى المسلمين في المعركة، التي قُدرت بثلاثين ألف قتيل!! وتذكر السلطان بايزيد ما فعله الصليبيون بالحاميات الإسلامية في بلغاريا والمجر, فأمر السلطان بايزيد بقتل الأسرى كلهم ثلاثة آلاف أسير، وفي رواية أخرى عشرة آلاف, ولم يُبْقِ إلا أكابر وعِلية القوم؛ للحصول على فدية ضخمة منهم.
نتائج النصر
تضاءلت مكانة المجر في عيون المجتمع الأوربي بعد معركة نيكوبوليس، وتبخَّر ما كان يُحيط بها من هيبة ورهبة، لقد كان ذلك النصر المظفر له أثر على بايزيد والمجتمع الإسلامي؛ فقام بايزيد ببعث رسائل إلى كبار حكام الشرق الإسلامي؛ يُبشرهم بالانتصار العظيم على النصارى، واصطحب الرسل معهم إلى بلاطات ملوك المسلمين مجموعة منتقاة من الأسرى المسيحيين؛ باعتبارهم هدايا من المنتصر، ودليلاً ماديًّا على انتصاره، واتخذ بايزيد لقب "سلطان الروم"؛ كدليل على وراثته لدولة السلاجقة، وسيطرته على كل شبه جزيرة الأناضول.
كما أرسل إلى الخليفة العباسي المقيم بالقاهرة، يطلب منه أن يقر هذا اللقب؛ حتى يتسنى له بذلك أن يُسبغ على السلطة التي مارسها هو وأجداده من قبل طابعًا شرعيًّا رسميًّا؛ فتزداد هيبته في العالم الإسلامي. وبالطبع وافق السلطان المملوكي برقوق حامي الخليفة العباسي على هذا الطلب؛ لأنه يرى بايزيد حليفه الوحيد ضد قوات تيمورلنك، التي كانت تهدد الدولة المملوكية والعثمانية.
بعد الانتصار العظيم الذي حققه العثمانيون في هذه المعركة ثَبَّتَ العثمانيون أقدامهم في البلقان؛ حيث انتشر الخوف والرعب بين الشعوب البلقانية، وخضعت البوسنة وبلغاريا للدولة العثمانية، واستمرَّ الجنود العثمانيون يتتبعون فلول النصارى في ارتدادهم، وعاقب السلطان بايزيد حكام شبه جزيرة المورة، الذين قَدَّموا مساعدة عسكرية للحلف الصليبي.
وعقابًا للإمبراطور البيزنطي على موقفه المعادي، طلب بايزيد منه أن يُسَلِّم القسطنطينية، وإزاء ذلك استنجد الإمبراطور مانويل بأوربا دون جدوى. والحق أن فتح القسطنطينية كان هدفًا رئيسًا في البرنامج الجهادي للسلطان بايزيد الأول؛ لذلك فقد تحرك على رأس جيوشه وضرب حصارًا محكمًا حول العاصمة البيزنطية القسطنطينية، وضغط عليها ضغطًا لا هوادةَ فيه، واستمر الحصار حتى أشرفت المدينة في نهايتها على السقوط، وبينما كانت أوربا تنتظر سقوط العاصمة العتيدة بين يومٍ وآخر؛ إذ ينصرف السلطان عن فتح القسطنطينية؛ لظهور خطر تيمورلنك على الدولة العثمانية.
المصدر: كتاب (أيام لا تنسى.. صفحات مهمة من التاريخ الإسلامي) تأليف تامر بدر، تقديم: الدكتور راغب السرجاني، دار أقلام للنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى، 1432هـ/2011م.
عن موقع قصة الإسلام
معركة نيقوبوليس
تامر بدر
معركة نيقوبوليس وقعت سنة (800هـ/1396م) بين العثمانيين بقيادة السلطان بايزيد الأول وبين التحالف الصليبي بقيادة الملك سيجسموند ملك المجر, وكان النصر فيها لصالح المسلمين.
قبل المعركة
كان لسقوط بلغاريا عام (797هـ/1393م) في يد السلطان العثماني بايزيد الأول صدى هائل في أوربا، وانتشر الرعب والفزع والخوف في أنحائها, وتحركت القوى المسيحية الصليبية للقضاء على الوجود العثماني في البلقان، خاصة ملك المجر سيجسموند والبابا بونيفاس التاسع، فقد اتفق عزم الرجلين على تكوين حلف صليبي جديد؛ لمواجهة الصواعق العثمانية المرسلة، واجتهد سيجسموند في تضخيم حجم هذا الحلف وتدويله، باشتراك أكبر قدر ممكن من الجنسيات المختلفة.
وبالفعل جاء الحلف ضخمًا يضم مائة وعشرين ألف مقاتل من مختلف الجنسيات؛ مثل: ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، وإسكتلندا، وسويسرا، وإيطاليا، ويقود الحلف سيجسموند ملك المجر. وتحرَّكت الحملة الصليبية الجرارة عام (800هـ/1396م) إلى المجر، ولكن بوادر الوهن والفشل قد ظهرت على الحملة مبكرًا؛ ذلك لأن سيجسموند قائد الحملة كان مغرورًا أحمقَ، لا يستمع لنصيحة أحد من باقي قواد الحملة، وقد بلغ به الغرور والاعتداد بجيشه وقوته أن قال: "لو انقضت السماء من عليائها لأمسكناها بحرابنا".
وحدث خلاف شديد على استراتيجية القتال؛ فسيجسموند يُؤْثِر الانتظار حتى تأتى القوات العثمانية، وباقي القواد يرون المبادرة بالهجوم. وبالفعل لم يستمعوا لرأي سيجسموند، وانحدروا مع نهر الدانوب حتى وصلوا إلى مدينة نيقوبوليس في شمال البلقان.
المعركة
بدأ الصليبيون في حصار مدينة نيقوبوليس، وتغلبوا في أول الأمر على القوات العثمانية، ولم يكد الصليبيون يدخلون المدينة حتى ظهر بايزيد ومعه مائة ألف مقاتل، كأنما الأرض قد انشقت عنهم، وكان هذا العدد يقل قليلاً عن التكتل الأوربي الصليبي، ولكنه يتفوق عليهم نظامًا وسلاحًا. وكان ظهور العثمانيين فجأة كفيلاً بإدخال الرعب والهول في قلوب الصليبيين, وبدأت المعركة التي تُعَدُّ من أشرس معارك التاريخ, وقاتل المسلمون يومها قتال مَنْ لا يخشى الموت, وأنزل الله على المسلمين الرحمة والسكينة، وأيدهم بجند من عنده, فقذف في قلوب الذين كفروا الرعب.
وانتهت المعركة بنصر مُبين للمسلمين، ذكرهم بأيام المسلمين الأولى بدر واليرموك, فانهزم معظم النصارى، ولاذوا بالفرار والهرب، وقُتل وأُسر عدد من قادتهم, فقد وقع كثير من أشراف فرنسا -منهم الكونت دي نيفر نفسه- في الأسر، فقبل السلطان بايزيد دفع الفدية، وأطلق سراح الأسرى والكونت دي نيفر، وكان قد ألزم بالقسم على أن لا يعود لمحاربته، وقال له: "إني أجيز لك أن لا تحفظ هذا اليمين، فأنت في حلٍّ من الرجوع لمحاربتي, إذ لا شيء أحب إليَّ من محاربة جميع مسيحيي أوربا والانتصار عليهم".
أما سيجسموند ملك المجر فقد ولّى هاربًا ومعه رئيس فرسان رودس، ولما بلغا في فرارهما شاطئ البحر الأسود، وجدا هناك الأسطول النصراني، فوثبا على إحدى السفن وفرت بهما مسرعة لا تلوي على شيء.
وعلى الرغم من القضاء على القوات الصليبية، إلا أن السلطان بايزيد انزعج لكثرة قتلى المسلمين في المعركة، التي قُدرت بثلاثين ألف قتيل!! وتذكر السلطان بايزيد ما فعله الصليبيون بالحاميات الإسلامية في بلغاريا والمجر, فأمر السلطان بايزيد بقتل الأسرى كلهم ثلاثة آلاف أسير، وفي رواية أخرى عشرة آلاف, ولم يُبْقِ إلا أكابر وعِلية القوم؛ للحصول على فدية ضخمة منهم.
نتائج النصر
تضاءلت مكانة المجر في عيون المجتمع الأوربي بعد معركة نيكوبوليس، وتبخَّر ما كان يُحيط بها من هيبة ورهبة، لقد كان ذلك النصر المظفر له أثر على بايزيد والمجتمع الإسلامي؛ فقام بايزيد ببعث رسائل إلى كبار حكام الشرق الإسلامي؛ يُبشرهم بالانتصار العظيم على النصارى، واصطحب الرسل معهم إلى بلاطات ملوك المسلمين مجموعة منتقاة من الأسرى المسيحيين؛ باعتبارهم هدايا من المنتصر، ودليلاً ماديًّا على انتصاره، واتخذ بايزيد لقب "سلطان الروم"؛ كدليل على وراثته لدولة السلاجقة، وسيطرته على كل شبه جزيرة الأناضول.
كما أرسل إلى الخليفة العباسي المقيم بالقاهرة، يطلب منه أن يقر هذا اللقب؛ حتى يتسنى له بذلك أن يُسبغ على السلطة التي مارسها هو وأجداده من قبل طابعًا شرعيًّا رسميًّا؛ فتزداد هيبته في العالم الإسلامي. وبالطبع وافق السلطان المملوكي برقوق حامي الخليفة العباسي على هذا الطلب؛ لأنه يرى بايزيد حليفه الوحيد ضد قوات تيمورلنك، التي كانت تهدد الدولة المملوكية والعثمانية.
بعد الانتصار العظيم الذي حققه العثمانيون في هذه المعركة ثَبَّتَ العثمانيون أقدامهم في البلقان؛ حيث انتشر الخوف والرعب بين الشعوب البلقانية، وخضعت البوسنة وبلغاريا للدولة العثمانية، واستمرَّ الجنود العثمانيون يتتبعون فلول النصارى في ارتدادهم، وعاقب السلطان بايزيد حكام شبه جزيرة المورة، الذين قَدَّموا مساعدة عسكرية للحلف الصليبي.
وعقابًا للإمبراطور البيزنطي على موقفه المعادي، طلب بايزيد منه أن يُسَلِّم القسطنطينية، وإزاء ذلك استنجد الإمبراطور مانويل بأوربا دون جدوى. والحق أن فتح القسطنطينية كان هدفًا رئيسًا في البرنامج الجهادي للسلطان بايزيد الأول؛ لذلك فقد تحرك على رأس جيوشه وضرب حصارًا محكمًا حول العاصمة البيزنطية القسطنطينية، وضغط عليها ضغطًا لا هوادةَ فيه، واستمر الحصار حتى أشرفت المدينة في نهايتها على السقوط، وبينما كانت أوربا تنتظر سقوط العاصمة العتيدة بين يومٍ وآخر؛ إذ ينصرف السلطان عن فتح القسطنطينية؛ لظهور خطر تيمورلنك على الدولة العثمانية.
المصدر: كتاب (أيام لا تنسى.. صفحات مهمة من التاريخ الإسلامي) تأليف تامر بدر، تقديم: الدكتور راغب السرجاني، دار أقلام للنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى، 1432هـ/2011م.
عن موقع قصة الإسلام
التعديل الأخير: