أهمية دراسة التاريخ العسكري

ابو حامد

عضو مميز
إنضم
14 مارس 2008
المشاركات
1,109
التفاعل
15 0 0
التاريخ العسكري فرعٌ من فروع التاريخ العام، لذا يجدر بنا قبل أن نُسلط الضوء على التاريخ العسكري، أن نعطي لمحة سريعة عن التاريخ العام، فقد عرف ابن خلدون في مقدمته التاريخ بأنه " خبرٌ عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم أو ما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش، والتآنس، والعصبيات، وأصناف التقلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراقبتها، وما يقوم به البشر من أعمال ومساعٍ من أجل الكسب والمعاش، والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال".
حضارة الأمة عبارة عن خط يمتد من الماضي البعيد ليعبر الحاضر وينتهي في المستقبل، فالأمة التي تملك حاضراً زاهراً وتطمح إلى مُستقبل مُشرق، لابد أن يكون لها عمق بعيد في الماضي، حيث أن الحضارة التي لا ترتكز على قواعد صلبة في الماضي مثلها مثل البناء الذي يرقى للسماء بينما أساساته تقف على أرض هشة، فكلما زاد ارتفاعه زادت احتمالية سقوطه.
كما أن لكل حضاره ثلاثة أركان يجب توفرها وهي: الماضي، والحاضر، والمستقبل. فعندما يكون هناك ماضٍ مجيد تستمد منه الخبرات والتجارب الناجحة، وحاضر قوي يربطه بذلك الماضي حبل سري يستخلص عن طريقه الدروس المستفادة ، ومستقبل يرتكز على الركنين السابقين فيصبح صلباً شامخاً لا يهتز... عندها تكون هناك حضارة قوية لا تؤثر فيها أحداث الزمن ومتغيراته.
للتاريخ العام عدة أنواع، منها: التاريخ الاجتماعي، والتاريخ السياسي، والتاريخ الاقتصادي، وتاريخ الأديان، والتاريخ العسكري، والتاريخ الصناعي وتاريخ القانون، وتاريخ الطب، وتاريخ العلوم.
وسنتطرق بشيء من التفصيل فيما يلي للتاريخ العسكري:


التاريخ العسكري


التاريخ العسكري جزء لا يتجزأ من التاريخ العام لأي دولة من الدول، بل هو حجر الزاوية له، فهو مُكمل للتاريخ السياسي والتاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي منها. ويكاد التاريخ العسكري يلازم نشوء وانتصارات وارتقاء الأمم والحضارات كما يرافق انحدارها وختام الفصل الأخير من انهزامها.
"التاريخ الحربي هو مرآة الأحداث الجسيمة التي غيرت وبدلت الكثير من أحداث العالم، منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، ومن دراسته تضع الأمم خططها الحكيمة وتحدد نوع التربية التي تختارها لأفرادها، ليوجهوا التوجيه الصحيح لتحقيق الأهداف الوطنية والقومية، وبالتاريخ الحربي ننفذ إلى أعماق الأحداث، ونصل إلى إدراك العوامل التي غيرت مجرى التاريخ."
يقول المفكر والمنظر العسكري الشهير ( جوميني) 1779-1869م ": الحرب ليست صورة شاذة عن الحياة البشرية لها تاريخها الخاص بها المنفصل عن غيره من صور التاريخ، بل إنها جزء مُكمل لتاريخ الحضارة".
ومصادر التاريخ العسكري هي سجل الجيوش والمعارك الرسمية، وأوامر العمليات الحربية والأوامر والتعليمات الإدارية ومذكرات القادة العسكريين، وكذلك كتابات المراسلين والمحررين والعسكريين.


بداية الاهتمام بالتاريخ العسكري


بدأ الاهتمام بالتاريخ العسكري منذ بداية الخليقة، فكانت كل أمة تتناقل تاريخ أسلافها الحربي وتعتز به، وكانوا يستعرضون في مجالسهم قصص ومهارات أبطالهم، محاولين بذلك تلقينها لأبنائهم وغرسها فيهم، ولكن هذا الاهتمام كان اهتماما تلقائياً بالفطرة، يتم تداوله على شكل روايات وقصص تتناقلها الأجيال وتتعلم منها، ولم يكن تأريخاً بمفهومه المعاصر. وإذا كان هناك اهتمام موثق فهو لا يتجاوز كونه وصفاً وإخباراً لبعض أنواع الأسلحة المستخدمة في ذلك الوقت.
ورغم أن كتاب " فن الحرب" the art of war للمفكر والقائد العسكري الصيني سن تزو (عام 475 ق. م) قدم وصفاً مفصلاً لأساليب وتكتيكات الحرب ومازال يُدرس ويُعتمد عليه حتى وقتنا الحاضر، إلا أننا لا نستطيع أن نعده تأريخاً عسكرياً بمفهومنا المعاصر.
وقد يكون القرن السادس عشر الميلادي هو بداية انطلاقة تدوين التاريخ العسكري، وذلك عندما قام مكيافلي الإيطالي بمحاولات جادة للبحث في جميع القضايا المتعلقة بتسيير دفة الحرب ووضع كتاب "فن الحرب" الذي اعتمد فيه على تجارب القادة العسكريين القدامى.
ومع ذلك فإن التاريخ العسكري للغرب يحدد نصف القرن الثامن عشر كمستهل للعلم العسكري وذلك حين قام (هنري لويد) المؤلف العسكري الانجليزي بإعداد مجموعة من المفاهيم النظرية العامة ومبادئ الاستراتيجية العسكرية ومن ضمنها: مقدمة الكتاب الذي وضعه عن تاريخ حرب السنوات السبع.
وفي العصر الحديث قامت معاهد حديثة واستحدثت أقسام وكليات في الجامعات لتدريس التاريخ العسكري بشكلٍ علمي هادف. كما برز الكثير من المفكرين العسكريين الذين درسوا تاريخ المعارك الحربية بتفصيلٍ دقيق، وفصلوا في جميع جوانبها وأبعادها المعنوية والأخلاقية، محاولين بذلك استخلاص الدروس المستفادة والنتائج التي أدت إلى الهزيمة أو الانتصار، ومحاولة معالجة تلك الأخطاء وإخراجها في قالبٍ مُنقح تصلح لأن تكون نظرياتٍ ودروساً يستفيد منها القادة والمهتمون بالشأن العسكري.
واحتل التاريخ العسكري الصدارة في مناهج الكليات والأكاديميات الألمانية، التي كانت تُعد من أرقاها عالمياً وأقدمها، وكانت في عز تألقها إبان المرحلة التي تولى الإشراف عليها "هيلموت فون مولتكه" العسكري الألماني الشهير، الذي يرى أنه لا يجد طريقاً أو أساساً مفيداً لتدريب الاستراتيجيين وتأهيلهم إلا من خلال دراسة التاريخ العسكري.
وكان من أبرز المفكرين العسكريين أيضاً: المفكر البروسي (ألمانيا حالياً) "كارل فون كلاوزفيتز" الذي حاول فهم الحرب ودراستها من خلال معرفة أبعادها المعنوية والأخلاقية، انطلاقا من التاريخ العسكري، ومن تتبعه لمعارك نابليون ودراستها دراسة مفصلة واستخلاص الدروس المستفادة منها، وقد وضع خلاصة آرائه في كتابه "في الحرب".
كما كان لبريطانيا سبقٌ في هذا المجال أيضاً، فبحكم موقعها في القارة الأوربية، ودورها كطرف أساسي في أغلب الحروب الاستعمارية آنذاك، فقد استحوذ الاهتمام العسكري على عقول مُفكريها وعلمائها العسكريين وغير العسكريين على حدٍ سواء، مما انعكس على الكليات والأكاديميات المدنية والعسكرية، التي بدورها خصصت مقاعد دراسية لدراسة التاريخ العسكري ومنح شهادات عليا فيه.
وكان ليدل هارت (1897-1970م) و فوللر، من أبرز المفكرين العسكريين في بريطانيا الذين أعطوا لهذا العلم اهتماماً عالياً وأبدعوا فيه، وقد تركوا بصماتهم بشكلٍ واضح في جيوش العالم قاطبة وفي جيوش بلدانهم خاصة، حيث اهتموا بدراسة تاريخ المعارك والحروب السابقة لعصرهم، وأسسوا النظريات والدروس العسكرية التي ساعدت بشكلٍ كبير في النقلة العسكرية التي حدثت للجيوش الأوربية والأمريكية في القرن العشرين.
رغم أن دراسة وكتابة التاريخ العسكري من قبل قائد عسكري ناجح وخبير تعطي نتائج دقيقة وواقعية وتؤسس نظريات عسكرية مبنية على الخبرة العملية؛ إلا أنه ليس شرطاً أساسياً يجب توفره في المؤرخ العسكري، فبإمكان دارس التاريخ العسكري والمهتم به، حتى إن لم يكن عسكرياً، أن يبرز ويؤسس ويعطي نتائج إيجابية أكثر من القائد الذي لا يؤرخ التاريخ العسكري ويهتم به.
المؤرخ والمُفكر العسكري البريطاني ليدل هارت -الذي بفضله تغيرت صورة التكتيكات ونظريات الحرب عند كثير من جيوش العالم عامة والجيش البريطاني خاصة- لم يكن قائداً من قادة الحرب المباشرين ولم يُشر إليه بالبنان ويخلد اسمه في التاريخ بسبب رتبته العسكرية، بل كان ذلك كله بسبب فكره واهتمامه بالتاريخ العسكري؛ فهو لم يتجاوز في خدمته في الجيش البريطاني رتبة نقيب! ثلاثة أرباع هذه الخدمة أمضاها في الجيش الاحتياطي.
ومن اللافت للنظر أن السيد هارت أُحيل إلى التقاعد الطبي بنصف الراتب وهو في الخامسة والعشرين من عمره تقريباً بسبب اعتلال صحته وعدم لياقته العسكرية. ومع ذلك فقد ترك أثراً بالغاً في الاستراتيجية العسكرية العالمية والبريطانية، وقد تلألأ نجمه وبرز كمؤرخ عسكري أدخل الكثير من التكتيكات والأساليب القتالية إلى الجيش البريطاني بعد تقاعده الطبي المبكر، فقد كان مولعاً بقراءة تاريخ الجيوش، ومتابعاً نهماً للحروب التي وقعت في عصره وهو في العاشرة من عمره، وقد كان يلتهم التقارير التي كانت تصف مُجريات الحرب الروسية اليابانية وغيرها في ذلك الوقت قبل أن تبدأ معارك الحرب العالمية الأولى وتكون بالنسبة له بمثابة الفرصة التي لا تُعوض للالتحاق بالجيش متطوعاً ومشاهدة سير المعارك عن قرب ومن ثم استنباط الأفكار و التكتيكات العسكرية التي تساعده على وضع نظرياته التي حلم بها.
وهو أول من نادى بمكننة الجيش البريطاني ودافع عن نظريته في هذا الخصوص، ونادى بأهمية المبادرة والمفاجأة في الحرب، وبواسطته تم إعداد الكثير من كتيبات التدريب التي وزعت على أفراد الجيش البريطاني لتكون مرجعاً لهم في تدريباتهم ومعاركهم، وهو صاحب نظرية (الاقتراب غير المباشر) المشهورة... ولا يعود الفضل في إبداعه العسكري ومهارته في التفكير إلى سنوات خدمته في الجيش البريطاني ، بل إلى دراسته واهتمامه بالتاريخ العسكري في مراحل حياته الجامعية وقبلها.
الجدير بالذكر أن السيد ليدل هارت ألف أكثر من 30 كتابا تُرجمت إلى عدة لغات، وقد ألف في الحرب الأهلية الأمريكية وعن حروب نابليون، بالإضافة إلى نظريات الحرب.


فوائد دراسة التاريخ العسكري
ودورها في تأهيل القادة


لدراسة التاريخ العسكري أثر كبير على مستويات القادة والأفراد، فدراسة تاريخ المعارك وأسباب نشوبها والأساليب والتكتيكات التي أديرت بها، تُعطي القائد ثراءً معرفياً يستطيع من خلاله تغذية أفكاره وصقلها بشكلٍ سليم؛ فالتفكير البشري هو نفس التفكير على مر العصور، والتغير يحدث فقط في الأدوات المستخدمة، وفي الظروف المُحيطة، وعندما يتم معرفة السلوك البشري الذي صنع الأحداث في الماضي، ودراسة دوافعه، فبالإمكان التنبؤ بالمستقبل، خاصة إذا تشابهت الظروف والأدوات.
وعندما يقوم القادة بدراسة التاريخ العسكري بشكل دقيق، فبإمكانهم إحداث تطور في تكوين وأساليب الجيوش التكتيكية، فالأفكار الإبداعية في أغلب الأحيان تأتي من أفكار قديمة تم تنقيحها وإدخال بعض الإضافات عليها، والمخ البشري يُعطي بسخاء عندما يتوفر له أرشيف غني بالمعلومات والتجارب.
يقول المارشال فوش: "لكي نُغذي دماغ جيش من الجيوش، في أيام السلم، ونجعله يتجه باستمرار نحو الحرب، فليس هناك كتاب أخصب من كتاب التاريخ".
ويمكن أن تسهم دراسة التاريخ العسكري في تأهيل الضباط وإعدادهم وذلك من خلال ما يلي :
*تعليم القادة كيفية التفكير السليم والقدرة على استنباط المفيد من الماضي، وتوظيفه في الحاضر، وأخذه بالحسبان في الخطط المستقبلية؛ فالخيال المبدع يمكنه أن يعمل ويستنبط بناء على معارف مكتسبة.
*تنمية ثقافة القادة وتوفير خلفية خصبة لديهم، يمكنهم بها ومن خلالها تطوير قدرات المحاكمة والتحليل والتعليل والنقد، ثم استنباط الأحكام وصولاً لاتخاذ القرارات الصحيحة. يقول نابليون بونابرت في هذا الخصوص: "من الممكن تعلم التكتيك والتطورات وعمل المهندسين والمدفعية من الأنظمة والمذكرات، كما نتعلم الهندسة تقريباً، إلا أن معرفة الأجزاء العليا من الحرب لا تُكتسب إلا بالتجربة وبدارسة تاريخ الحرب ومعارك كبار القادة..أعد قراءة معاركهم.. واحذ حذوهم؛ تلك هي الوسيلة الوحيدة لتغدو قائداً عظيماً".

الخاتمة

تطرقنا فيما سبق إلى أهمية دراسة التاريخ العسكري، وكيف أن دراسته تُغذي القائد العسكري بأرشيف معلومات وافر يلجأ له عند الأزمات، وعندما يتطلب الموقف اتخاذ قرار سريع.
في أوقات السلم، وعندما تكون القوات في مراحل الإعداد و التدريب، فإن الحاضر والمستقبل لا يكفيان القائد لتقييم هذا التدريب وتنقيحه، بل لا بد من الرجوع إلى الماضي واستخلاص نتائج التجارب الناجحة والدروس المستفادة، وجعلها نقطة مرجعية يقيّم من خلالها المستوى التدريبي لقواته.
ويجدر بنا قبل الختام أن نتطرق إلى نقطة لا تقل أهمية عما سبق ذكره، وهي أهمية دراسة التاريخ العسكري من قبل القائد العسكري العربي؛ فإن كانت دراسة التاريخ العسكري أمراً هاماً وجوهرياً لأي قائد عسكري في العالم أجمع، فإنه أكثر أهمية وحساسية للقائد العسكري العربي وغيره من المهتمين الأكاديميين.
والمنطقة العربية شاء القدر أن تكون منطقة صراع مسلح منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين وحتى يومنا هذا، وقد شهدت من المعارك غير مبررة ما لم تشهده أمة قبلها. وبما أن الظروف وأسباب نشوب تلك الحروب تتشابه وتتكرر، فإن دراستها دراسة دقيقة ومستفيضة، تُعطي القائد تصوراً حقيقياً عن أحداث المستقبل وكيفية حدوثها، لا سيما أن جميع المعارك التي شهدتها المنطقة العربية، بداية من الحروب الإسرائيلية العربية وحتى حرب العراق الحالية، تمت بأحدث الأسلحة والتكتيكات العسكرية المستخدمة في الجيوش العالمية، وطُبقت فيها أحدث النظريات العسكرية والمبادئ الحربية. وهذا يعطي للقائد الدارس لها فكراً عسكرياً متقدماً ورؤية وأفقاً واسعين.
ورغم أن الكثير من الكتاب العسكريين وغير العسكريين قد كتبوا وفصّلوا في تلك المعارك، إلا أن هذه الجهود فردية ولا ترقى إلى أن تكون تاريخاً عسكرياً منظماً له قوانينه وصفاته الخاصة.

بقلم: الرائد ناصر بن حماد السبيعي
مجلة الحرس الوطني العدد312
 
اكيد اخي ابو حامد ولهذا فان مادة التاريخ العسكري تدر س الى اليوم باكبر الكليات الحربية بالعالم
 
نشكرك على هذا الموضوع المفيد
ونتمنى بأن تزودنا بمعلومات أوسع عن التاريخ العسكري اذا كانت متوفرة لديك وبالتوفيق ان شاء الله
 
عودة
أعلى