بقلم الدكتور /راغب السرجاني
قبل الحديث عن رسالة أبي بكر إلى خالد بن الوليد رضي الله عنهما، نشير إلى أنه بعد انتهاء حروب الرِّدَّة مباشرة حدث أن جاء المثنى بن حارثة -من قبيلة بكر بن وائل التي كانت تستقر في شمال الجزيرة العربية جنوب العراق- إلى أبي بكر الصديق ليطلب منه أن يسمح له بقتال الفرس المتاخمين له، والقيام ببعض الغارات عليهم. فقال له:
"يا خليفة رسول الله ابعثني على قومي؛ فإن فيهم إسلامًا أقاتل بهم أهل فارس، وأكفيك أهل ناحيتي من العدو". فسمح له أبو بكر بذلك.
وعلى الفور قام المثنى بن حارثة بشن بعض الغارات على الجيوش الجنوبية في فارس، ثم أرسل بعد ذلك يطلب المدد من أبي بكر t يقول له: "إن أمددتني وسمعت بذلك العرب أسرعوا إليَّ، وأذلَّ الله المشركين، مع أني أخبرك -يا خليفة رسول الله- أن الأعاجم تخافنا وتتقينا".
وفي الواقع لم يستغرق أبو بكر في التفكير طويلاً، وقد قام على إثر هذا بإرسال رسالة إلى خالد بن الوليد في اليمامة يقول له فيها: "إن الله فتح عليك فعارق (أي: فسر إلى العراق)، وابدأ بفرج الهند (وهي الأُبُلَّة)، وتألَّف أهل فارس ومن كان في ملكهم من الأمم".
دولة المسلمين ودولة فارس.. بين هذه وتلك
في سبيل مسايرة هذه الأحداث نستعرض موقف كلتا الدولتين اللتين نحن بصددهما حتى نَعِي الموقف جيدًا:
فعلى الجانب الأول كانت الدولة الإسلامية، وهي بعدُ ضعيفة لم تعرف الاستقرار، وكانت ما زالت على أعتاب الخروج من حرب داخلية شديدة دارت رحاها طيلة سنة كاملة، وتطلبت خروج أحد عشر جيشًا إلى أحد عشر مكانًا مختلفًا من أنحائها.
أما أهلها فما زال منهم المرتد ومنهم الذي لم يرتد وثبت على الإسلام، ولكن هذا الذي لم يرتد وثبت على الإسلام خاض كثيرًا من المعارك وقد أُرهِقَت قواه، فكان منهم الجرحى ومنهم القتلى، أما المُعافى فقد هدَّته الحرب تمامًا، كما الحال في حرب اليمامة وحروب اليمن.
وفي ظل هذه الظروف المفككة، وحيث جيش المسلمين مفرَّق في أكثر من مكان يأمر أبو بكر الصديق من مكانه في المدينة خالد بن الوليد وهو في اليمامة، ودون انتظار لعودته ليتدارسا الأمر، يأمره بالذهاب إلى العراق وفتح فارس!!
وعلى الجانب الآخر كانت تقف دولة فارس ممتدة من غرب العراق إلى شرق الصين (شاملة العراق كله)، وكانت دولتا الصين والهند تدفعان الجزية إلى ملك فارس، أي أن آسيا كلها -تقريبًا- حتى حدود الصين كانت دولة فارسية.
وفوق تلك المساحة الشاسعة وتلك القوة التي حدت بالهند والصين أن تدفعا لها الجزية، فقد كانت دولة فارس تملك من مظاهر العظمة والأموال والأبهة والجيوش ما ظل المؤرخون يحكون عنه لسنوات وسنوات، والتي سنراها بالفعل حين يأتي الحديث عن حروب المسلمين فيها.
ولنا أن نتخيل دولة ضعيفة صغيرة تعمها حرب أهلية كما الحال -مثلاً- في دولة رواندا، ثم يقوم رئيسها بعد انتهاء تلك الحرب الأهلية، واستقرار الأحوال بإرسال رسالة إلى قائد من قواده ممن هم على أحد أقاليم دولته، مفادها أن يُعِدَّ نفسه ويذهب لفتح أمريكا وروسيا!!
فكان الموقف -ولا شك- غاية في الصعوبة، وهو كما يصوره أبو الحسن الندوي فيما يسمى بعلم مقارنة الأمم يقول: إن قوة الفرس والروم بالنسبة للمسلمين في ذلك الوقت كانت أكبر كثيرًا من قوة أمريكا وروسيا (قبل سقوطها) بالنسبة للمسلمين الآن.
أي أن النسبة من ناحية الجيوش والعدة والعتاد كانت أكبر كثيرًا لصالح الفرس.
وإن تعجب من قراره بإنفاذ جيش أسامة بن زيد، رغم أن الردة كانت قد ظهرت واستفحل أمرها، وقد تمسك بقوله: لا أدع جيشًا أنفذه رسول الله . ومثله أيضًا قرار حروب الردة -التي عمَّت الجزيرة العربية- الذي اتخذه بعد ذلك، وكلها قرارات حاسمة ومهمة في تاريخ الأمة الإسلامية.
فأعجب منه أمر قيامه (أبو بكر الصديق) بهذه الخطوة العجيبة وقراره فتح فارس، خاصة في ذلك الوقت، ثم بعده ببضعة شهور قرار فتح الروم ثاني أعظم قوة في العالم في ذلك الوقت، كما سيأتي بيانه.
خطة أبي بكر للفتح.. ووصيته للقادة:
وفي رد فعل غير متوقع من قبل خالد بن الوليد، فإنه لم يبعث برد أو استفسار عما جاء في رسالة أبي بكر الصديق العجيبة، إنما كان من أمره أن أرسل بالرسائل إلى الجيوش الإسلامية المحيطة به لتجميعهم، ثم أرسل رسالة إلى هرمز أمير منطقة الأُبلّة (ميناء على شط العرب، وتقع أقصى جنوب العراق) من قبل فارس يهدده فيها ويتوعده.
ومن المدينة كان أبو بكر الصديق t قد وضع خطة لفتح بلاد فارس تعمل كفكي الكماشة، بحيث تكون نهايتها في مدينة الحيرة أعظم مدن فارس بعد المدائن العاصمة، وكانت تبعد عنها بنحو مائتي كيلو متر.
فكان أن أمر أبو بكر خالد بن الوليد بأن يتجه إلى العراق لفتحها من جهة الجنوب حتى يصل إلى مدينة الحيرة، وفي الوقت نفسه كتب إلى عياض بن غنم -وكان في الحجاز- بأن يدخل العراق من أعلاها مفتتحًا ما في طريقه إليها، ثم يكمل المسير حتى يصل إلى الحيرة أيضًا، وقد قال لهما أبو بكر t:
"فأيُّكما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه، وإذا اجتمعتما بالحيرة وقد فضضتما مسالح (حصون) فارس وأَمِنتُما أن يُؤْتَى المسلمون من خلفهم، فليكن أحدكما ردءًا للمسلمين ولصاحبه بالحيرة، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن".
وكانت خطة رائعة قد رسمها أبو بكر الصديق أراد بها الإحاطة بقوات الفرس غربي بغداد كما السوار بالمعصم، بحيث تقاتل هذه القوات أحد الجيشين وفي خَلَدِها رعب وفزع من هجوم الجيش الآخر من خلفها.
ثم إن هذه الخطة ستعمل على إرباك قوات الفرس وقادتهم، من حيث عدم معرفتهم لأهداف ومقاصد كل جيش، ومن حيث صعوبة توزيع قواتهم لملاقاة كلا الجيشين في وقت واحد!!
وكذلك فإن هذه الخطة ستعمل على ألا يمر المسلمون من طريق واحد، وإنما من طريقين مختلفين، والذي من شأنه أنهم سيستطيعون أن يحصلوا على أكبر قدر من الماء والكلأ لهم ولدوابهم، الأمر الذي لا يتوافر حين يكون الطريق واحدًا.
وفوق هذا وذاك، فإن هذه الخطة ستثير المنافسة الشريفة بين جيش خالد بن الوليد وجيش عياض بن غنم، في أيهما يحقق النصر ويسبق أولاً إلى الحيرة؛ مما يحفز الهمم ويثير الحماسة في قلوبهم.
بعد هذه الخطة المحكمة لم ينس أبو بكر أن يوقّع ببعض التوصيات المهمة، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على حكمته وبُعد نظره، ومثلها يكون له مفعول السحر على مر العصور، فكان مما جاء فيها:
"... واستعينوا بالله واتقوه، وآثروا أمر الآخرة على الدنيا يجتمعا لكم، ولا تؤثروا الدنيا فتُسلَبوهما، واحذروا ما حذركم الله بترك المعاصي ومعاجلة التوبة، وإياكم والإصرار وتأخير التوبة".
وقد كانت هذه هي الأسلحة الحقيقية لقتال أهل فارس وفي كل قتال؛ فإذا آثر الإنسان أمر الآخرة على أمر الدنيا اجتمعت له الدنيا والآخرة، ومن سعى إلى الدنيا فقط ضاعت منه الدنيا والآخرة.
كما لا بد من التعجيل بالتوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي؛ وذلك في كل وقت وبالأخص هنا، حيث الكنوز والأموال والخير العميم، وقبل أن تفتح الدنيا عليهم بفتح فارس.
وبعد الإشارة إلى أسلحة المعركة كان أن وضح الصديق ما من شأنه أن يحفظ قوة الجيشين، وأن يعمل على تعجيل إحراز النصر، فكتب إلى خالد وعياض بعد أن أزمعا الرحيل قائلاً:
"وَأْذَنا لمن شاء بالرجوع ولا تستفتحا بمتكارِه، واستنفرا من قاتل أهل الردة ومن ثبت على الإسلام بعد رسول اللهولا يغزونَّ معكم أحد ارتدَّ حتى أرى رأيي".
حتى في هذا الوقت العصيب الذي يريد فيه أكبر عدد من الجند لم ينس أبو بكر غاية الفتح وغاية الجهاد وهي الإطاحة بالوثنية والشرك في كل صوره ؛ فلم يرد أن يجعل في جيشه إلا من ثبتوا على إسلامهم حين فُتِنَ الباقون وارتدوا، فكان ما أراد ولم يشهد الذين ارتدوا هذه المعارك، حتى سمح لهم بعد ذلك عمر بن الخطاب ؛ وذلك بعد أن اطمأنَّ لإسلامهم.
ثم رجع من أهل المدينة ومن حولها مَنْ أَذِنَا لهم بالرجوع؛ وذلك حتى لا يكونوا مُكْرَهِين على القتال كما أمر بذلك أبو بكرالذي أراد من وراء ذلك ألاّ يتصدع الجيشان، وأن يكون كلاهما في كامل إيمانه.
وبذلك تناقصت قوات كلا الجيشين حتى لم يعد يبق مع خالد بن الوليد في النِّبَاج إلا ألفان فقط!!
رجل بألف.. وخالد يستنفر المؤمنين:
منذ أن تلقى رسالة أبي بكر الأولى كان قد جمع خالد بن الوليد جيشه، وانطلق من اليمامة حتى نزل النِّبَاج (على بعد مائتي كيلو متر، حوالي ثلاثين ومائة ميل من اليمامة)، على رأس ألفين كانوا قد بقوا معه.
وأمام هذا العدد الضئيل جدًّا كان أن كتب كل من خالد وعياض إلى أبي بكر يطلبان المدد.
فأمد أبو بكر خالدًا برجل واحد فقط هو القَعْقَاعُ بن عمرو التميمي، وقبل أن يتعجب خالد دهش أهل المدينة فقالوا لأبي بكر: "أتمد رجلاً قد انفضَّ عنه جنوده برجل؟!" فأجابهم قائلاً: "لَصَوْتُ القعقاع في الجيش خير من ألف رجل"، "ولا يُهْزَمُ جيشٌ فيهم مثل هذا".
والشيء نفسه حدث مع عياض بن غنم حين أرسل أيضًا يطلب المدد، فأمده أبو بكر أيضًا برجل واحد هو عبد بن عوف الحميري، وقال عنه أيضًا: رجل بألف رجل.
وفي حالة استنفار عام أرسل خالد بن الوليد برسائل المدد والعون إلى كل المحيطين به في هذه المنطقة، فأرسل برسالتين إلى قبيلة تميم، وكان فيهم سُلْمَى بن القَيْن (له صحبة وهجرة) فجاءه بألف مقاتل، وأيضًا كان فيهم حَرْمَلَة بن مُرْيِط (له صحبة وهجرة أيضًا)، وقد جاءه على رأس ألف أيضًا.
ثم كتب إلى المثنى بن حارثة -وكان بجنوب العراق، وهو الذي بدأ الغارات على العراق- أن يأتيه، وقد بعث إليه بكتاب من أبي بكر يأمره بطاعته، فكان أن سمع وأطاع، وجاء إليه مسرعًا على رأس جيش من أربعة آلاف مقاتل.
وكان مذعور بن عدي أيضًا في جنوب العراق، وكان مع المثنى بن حارثة وقد اختلف معه في بعض الأمور وتكاتبا إلى أبي بكر، فكتب إليه أبو بكر يأمره بالمسير مع خالد، فكان أن جاءه (مذعور) على رأس ألفي مقاتل.
ثم استطاع خالد بن الوليد أن يجمع مما بينه (في النِّباج) وبين العراق من قبيلتي ربيعة ومضر ثمانية آلاف مقاتل آخرين، وكل هؤلاء ممن لم يرتدوا قبل ذلك، وممن ظلوا على إسلامهم.
ونستطيع إذن أن نتحقق عدد الجيش كاملاً كما يلي:
- الأصل ألفان، وكانوا مع خالد بن الوليد منهم ألف من قبيلة طيِّئ الذين وقف فيهم عدي بن حاتم ومنعهم من الردة، وكانوا ممن ثبتوا على القتال، والألف الأخرى كانوا من صحابة رسول الله
- ألفان من قبيلة تميم، منهم ألف على رأسهم سُلمى، وألف على رأسهم حرملة.
- ستة آلاف من جنوب العراق، كان منهم أربعة آلاف مع المثنى بن حارثة، وألفان مع مذعور بن عدي.
- ثمانية آلاف من قبيلتي ربيعة ومضر.
ومن هنا كان إجمالي العدد الذي تجمع عند خالد بن الوليد في النِّباج ثمانية عشر ألف مقاتل، لم يسبق لأي منهم ردة وقد خرجوا طائعين، وهو عدد لم يجتمع لأحد من قبل من المسلمين أو غيرهم في الجزيرة العربية.
وكان من أهم ما يميز ذاك الجيش أن فيه خالد بن الوليد، وفيه المثنى بن حارثة، وفيه القعقاع بن عمرو، وفيه عاصم بن عمرو التميمي أخو القعقاع بن عمرو، وكان قد جاء مع جيش سُلْمَى بن القين، وكان أيضًا من أشد مقاتلي المسلمين مهارة، وسيكون له بأس في حروب فارس على نحو ما سيأتي.
على الجانب الآخر كان في مواجهة خالد بن الوليد أمير منطقة (الأُبُلَّة) من قبل فارس ويدعى (هرمز)، وكان هذا من أسوأ جيران العرب للعرب، حتى إنهم -العرب- باتوا يضربون به المثل في الخبث والكفر، فكانوا يقولون: أخبث من هرمز، وأكفر من هرمز!!
وكان هرمز هذا أميرًا على مدينة الأُبُلَّة، وهي مدينة كانت تقع -كما ذكرنا- في جنوب العراق، على مشارف الدولة الفارسية من ناحية الجزيرة العربية، وكانت يومئذ أعظم موانئ فارس على الخليج العربي -الفارسي آنذاك- شأنًا وأشدها شوكة.
وكان عندها نهر يسمى نهر الأُبلَّة، كان يعد في ذلك الوقت من جِنَانِ الدنيا، فكان حواليه من الحدائق وميادين النخل والأُتْرُج والنارنج، وأصناف الزروع والخضروات والقصور المتناظرة العظيمة ما تَحَارُ فيه العيون، ولا يُنظَر أحسن منه.
وكان هرمز هذا من شرفاء الفارسيين، وكان يلبس تاجًا مُرصَّعًا بالجواهر والفصوص والذهب، يقدر ثمنه بمائة ألف درهم، وكان تحت إمرته في الجيش أخوان من العائلة المالكة هما: قُباذ وأنوشجان، وذلك يعكس عِظَمَ أمر هرمز، ووثوق كسرى فارس فيه، وكان يُدعى آنذاك شيرويه.
في النباج وبعد أن اجتمع له ثمانية عشر ألفًا، بعث خالد بن الوليد برسالة صغيرة إلى هرمز أمير منطقة الأُبلة من قِبَل فارس، جاء فيها:
"أما بعد.. فأسلمْ تسلمْ، أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية، وإلا فلا تلومنَّ إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة".
وقد أرسلها مع أحد الفرس الذين كان قد أسرهم في موقعة اليمامة؛ وذلك أنه كان يعلم أن هذا الفارسي حين يذهب إلى هرمز سيقصُّ عليه ما كان منه -من خالد بن الوليد- في اليمامة، وكيف قاتل بجيش قوامه اثنا عشر ألفًا مائةَ ألفٍ ثم انتصر عليهم؛ مما يلقي الوهن والرعب في قلوب الفارسيين وقلب هرمز.
وما إن وصلت هذه الرسالة إلى هرمز حتى استشاط غضبًا؛ إذ كيف لهذا العربي الذي كانوا يتصدقون عليه وعلى كل العرب بفتات العيش -وكانوا (أي العرب) دائمًا ما يظهرون لهم (لأهل فارس) الطاعة والخنوع- كيف يجرؤ على إرسال مثل هذه الرسالة التي تحمل ذاك الحجم من التهديد والوعيد؟!
ومن فوره أرسل بالخبر إلى شيرويه في المدائن، ويستأذنه في قتال المسلمين وإرسال المدد له.
ومن (الأبلة) وبعد أن أرسل شيرويه بجيش كبير إليه تعجل هرمز إلى منطقة كاظمة، وهي على ساحل الخليج الفارسي وماؤها عذب، ظنًّا منه أنها مقصد خالد بن الوليد!! إلا أنه علم بعد ذلك أن خالدًا قصد الحفير، فكان أن عدل ثانية عن وجهته ومال إليها ليبادر هو خالدًا.
خطة خالد بن الوليد:
أما خالد بن الوليد فقد قسم جيشه إلى ثلاث فرق تسلك طرقًا مغايرة، فأرسل الفرقة الأولى وعلى رأسها المثنى بن حارثة. ثم الفرقة الثانية في اليوم الثاني وعلى رأسها عاصم بن عمرو التيمي، وجعله على الميمنة. والفرقة الثالثة أرسلها في اليوم الثالث وعلى رأسها عدي بن حاتم، وجعله على الميسرة.
ثم في اليوم الرابع خرج هو بنفسه على مقدمة الجيش، وواعدهم جميعًا عند الحفير في يوم معين.
ولقد كان لتقسيم هذا الجيش على هذه الفرق الثلاث عدة أغراض، كان منها ما يلي:
الغرض الأول: الاستفادة بأكبر كمٍّ من مياه الآبار المنتشرة في الطرق التي سيمرون بها.
الثاني: التغطية والتعتيم على عيون وجواسيس الفرس، فلا يستطيعون أن يعرفوا بالضبط وجهة الجيش الإسلامى، وأيضًا عدده. ومن ثَمَّ تظل قوات الجيش الفارسي في حيرة من أمرها حتى يفاجَئُوا بالواقع أمامهم.
كانت كاظمة -كما ذكرنا- وجهة هرمز الأولى، إلا أن عيونه أدركت أن خالد بن الوليد سيتجه بجيوشه شمالاً نحو الحفير ولن يتوجه إلى كاظمة. فما كان من هرمز -كما ذكرنا أيضًا- إلا أن عدل عن وجهته وبادر نحو الحفير تلك التي يقصدها خالد، ثم عسكر فيها ورتب بها جيوشه، وذلك قبل وصول خالد.
وبالمثل فقد اكتشفت عيون خالد أن هرمز قد وصل إلى الحفير وعسكر فيها، ولعله أراد أن يرهقهم، أو أنه لم يرد أن ينزل عليهم وقد تجهزوا له، فكان أن غيَّر مساره وحول اتجاهه إلى كاظمة!!
حينما علم هرمز بهذا الأمر استشاط غضبًا؛ إذ كيف يلعب به هذا الأعرابي، ثم أسرع بجيشه إلى كاظمة لملاقاة خالد بن الوليد هناك، وكان أن وصل الجيشان في وقت واحد، وبذلك يكون خالد قد فوَّت على الفرس فرصة إعداد الجيش قبل وصوله كما في المرة الأولى.
على عكس المسلمين لم يكن هرمز يعتقد الولاء في جنده، ولم يكن يأمن ثباتهم في المعركة؛ إذ إنه يعلم أنهم يحبون الحياة ويكرهون الموت، أما جيش المسلمين فقد قال عنه خالد بن الوليد يصفهم لهرمز: قوم يحبون الموت كما يحب أهل فارس الحياة.
ولكي يضمن عدم فرار جيشه قرر هرمز أمرًا عجيبًا عارضه فيه كثير منهم، إلا أنه أصرَّ عليه، وهو أن يقوم بربط كل عشرة من الجنود بسلسلة فيما بينهم، فإذا فكر واحد منهم أو اثنان في الهرب فلن ينجحا، اللهم إلا إذا هرب عشرتهم، وبعيد أن يحدث هذا!!
وقد احتج أناس منهم بأن قالوا معترضين: "قيدتم أنفسكم لعدوكم! فلا تفعلوا فإن هذا طائر سوء". وكان أن ردوا عليهم بقولهم: "أما أنتم فيحدثوننا أنكم تريدون الهرب".
بعد انتهاء هذا الأمر عبَّأَ هرمز قواته، وجعل على ميمنته قباذ، وجعل على ميسرته أنوشجان، ووقف هو في مقدمة الجيوش ينتظر خالد بن الوليد.
وعلى الجانب الآخر عسكر خالد في قبالة جيش فارس مباشرة يرتقب اللقاء.
موقعة الأبلة:
كان من عادة الحروب في ذلك الوقت، تلك التي تكون الخيول والمبارزة بالسيوف من أعمدتها أن يقف الجيشان على مقربة من بعضهما البعض كل منهما يرى الآخر، ثم يخرج أحد المقاتلين من أحد الجيشين ويطلب المبارزة مع أحد المقاتلين من الجيش الآخر، في نوع من استعراض القوة بينهما.
لكن هرمز كان يضمر في نفسه المكر والغدر بخالد بن الوليد؛ حيث قد نما إلى مسامعه أمر قوته وشجاعته، وأن قوة المسلمين في قوته، فكان أن عمد إلى أن يخرج هو ويطلب خالد بن الوليد باسمه للمبارزة، ثم تواطأ مع فرسانه على الغدر بخالد حين يشتبك معه بأن يهجموا عليه معه فيقتلوه.
وبالفعل امتطى هرمز فرسه، وانطلق إلى وسط الميدان ينادي فيقول: "رجل ورجل، أين خالد بن الوليد؟" فخرج إليه خالد وتقدم بفرسه حتى وصل إلى هرمز، والناس من الطرفين اشرأبَّت إليهما أبصارهم.
والتقيا فاختلفا ضربتين، ابتدأه خالد بضربة فتلقاها هرمز، ثم ضرب هرمز ضربة تلقاها خالد، وما فتئ القتال يحتدم حتى أحاطت حامية كبيرة من الفرس بهما حتى اختفيا بينهم، مع ما كان لمثل هذا التصرف غير المتعارف عليه في حروب ذلك الوقت من سمعة سيئة ووصمة عار في جبين أصحابه.
ومهما كان من أمر فإن خالد بن الوليد -كما يقول المؤرخون- قد اختفى عن الأنظار وسط هذه الحامية، إلا أن ذلك لم يشغله عن قتل هرمز، فظل يقاتله حتى قتله على فرسه! وظل يقاتل ويبارز تلك الحامية التي التفت حوله!!
وكان خالد بن الوليد t ثاني اثنين من المسلمين عُدُّوا ممن يستطيعون المقاتلة بسيفين اثنين في وقت واحد، وكان الآخر هو الزبير بن العوام
وقد ظل خالد يقاتل في هذا الموقف الشديد حتى هبَّ لنجدته القعقاع بن عمرو -من عُدَّ بألف رجل- واستطاع ومن معه تخليصه من بينهم.
في هذه الأثناء التحم الفريقان واستعَرَ القتال، وهجم المسلمون هجمة شرسة على الفرس، وقد فُتَّ في عَضُدِهم، وأخذ بهم (الفرس) الرعب كل مأخذ، خاصة بعد مقتل قائدهم (هرمز) أمام أعينهم في أول ضربة للمسلمين وأول قتيل للفرس.
ووهنت قوتهم وضعفت عزيمتهم عن قتال المسلمين، وقد ركب المسلمون أكتافهم وأعملوا فيهم سيوفهم في قتال لم يعهد؛ حيث كان كل من يقتل يجر معه باقي من في سلسلته، فكان فأل سوء على أهل فارس، وقد قتل منهم عدد كبير جدًّا، ولم يُقتل من المسلمين عددٌ يذكر في هذه الموقعة، وقد سميت بموقعة ذات السلاسل.
وكان من نتائجها أنِ اسْتحوذ خالد بن الوليد على كاظمة، وأخذ تاج هرمز (بمائة ألف درهم)، ثم أرسله هو وفيلاً كان في جيش الفرس ضمن خُمس الغنائم إلى أبي بكر الصديق في المدينة مع زَرّ بن كليب، وهو من صحابة رسول الله غير أن أبا بكر الصديق أعاد الفيل إلى خالد بن الوليد في كاظمة، ذلك الذي أدهش الناس في المدينة، حتى إن بعض النساء تساءلن: إن كان من خلق الله أو من صنع البشر! وقيل: إنه مات في طريق العودة.
فبعد أن انتصر خالد بن الوليد في الكاظمة أرسل سويد بن قطبة إلى الأبلة لفتحها وكانت حصنًا كبيرًا، وقد خرج أهله للدفاع عنه، وحين وصل سويد بن قطبة إلى الأبلة كان قد أتى الليل فدخل أهل الحصنِ الحصنَ ولم يحدث قتال، وكان هذا من عادة الحروب في ذلك الوقت.
وقد لحق خالد بن الوليد بسويد بن قطبة، وحين علم أهل الأبلة بذلك رفضوا أن يخرجوا من الحصن، وظلوا متحصنين به خوفًا من العُدَّة الكبيرة ومن خالد بن الوليد نفسه.
وقد أخبر سويد خالدًا بأنهم قد خرجوا له لولا قدومه (قدوم خالد)، فأراد خالد أن يعمل معهم الحيلة حتى يتركوا الحصن ويستدرجهم إلى معركة خارجه، فكان أن توجه بجيشه نهارًا أمام الحصن في اتجاه الحيرة، وقد أوهم المقاتلين الفرس داخله أنه ذاهب لفتح الحيرة، وترك سويد بن قطبة وحده في مقدمة الجيش، وفي الليل عاد خالد بن الوليد خلسة في ظهر جيش سويد بن قطبة.
ولما أصبح الصباح خرج جيش الفرس لقتال سويد ففوجئوا بالأعداد الضخمة، وفوجئوا بخالد بن الوليد في خلف الجيش، فدبَّ الرعب في قلوبهم وانكسرت معنوياتهم، فقال خالد بن الوليد لسويد: "احملوا عليهم؛ فإني أرى هيئة قوم قد ألقى الله في قلوبهم الرعب".
وبالفعل فكما يذكر المؤرخون فإن الفرس كانوا يسلمون رقابهم لسيوف المسلمين، حتى لكأنه لم يكن هناك قتال يُذْكَر من شدة رعب الفرس من قتال المسلمين، وانتصر المسلمون عليهم، وأرسل خالد بن الوليد معقل بن مقرن أحد الأخوة العشرة ليجمع السبي والغنائم من داخل الحصن.
وبعد إرسال خمس الغنائم إلى أبي بكر الصديق في المدينة، كان نصيب الفارس الواحد من المسلمين في هذه الموقعة ألف درهم، وهو رقم لم يعهده العرب في ذلك الوقت، ولم يكن العربي في هذه الفترة -كما يذكر المؤرخون- يحلم به وهو نائم!!
ومن الأبلة أرسل خالد بن الوليد جيشًا لإخضاع باقي المنطقة، وقد انتهى المثنى بن حارثة إلى "حصن المرأة" على نهر يسمى نهر المرأة، وكان لأميرة فارسية تدعى كامورزاد، فترك عليه أخاه المُعَنَّى بن حارثة لفتحه، وتوجه هو إلى "حصن الرجل" وهو زوج كامورزاد ففتحه، ولما علمت بذلك كامورزاد تخلت عن الحصن وفتحه المُعَنَّى، وقد تزوجها بعد أن أسلمت.
وبهذا يكون خالد بن الوليد قد فتح منطقة في جنوب العراق تكاد تكون ذات بأس وشدة، واستطاع أن يزلزل قلوب أهل فارس، الذين لم يتوقعوا لمرة واحدة أن يفكر العرب -مجرد تفكير- في حربهم!!
كانت الخطة التي وضعها أبو بكر الصديق لفتح بلاد فارس هي أن يتوجه خالد بن الوليد لفتح الحيرة في وسط العراق على نهر الفرات.
وإتمامًا لهذه الخطة، وقبل أن يترك الأبلة كان خالد بن الوليد يعلم ما لميناء الأبلة من أهمية قصوى؛ فهو يقع جنوب غربي فارس (إيران الآن)، ويطل على الخليج العربي (الفارسي) وشط العرب، وكانت تأتيه السفن من الصين ومن السند والهند؛ لذلك وضع ثلاث حاميات على حدود الأبلة لحمايتها، إحداها بقيادة قطبة بن قتادة، والثانية بقيادة سويد بن قطبة، والثالثة بقيادة شريح بن عامر، وجعل على هذه الحاميات الثلاث قائدًا واحدًا هو سويد بن مقرن، وجعل مقره الحفير على أبواب الجزيرة العربية وآخر حدود جيش خالد بن الوليد حتى يحمي مؤخرته حماية أكيدة.
وسويد بن مقرن هذا هو أحد الإخوة العشرة أبناء مُقَرِّن، الذين كان جميعهم في جيش خالد بن الوليد يجاهدون في سبيل الله، وقد ذُكر سويد قبل ذلك مرتين، المرة الأولى عندما خرج أبو بكر الصديق t بنفسه لحرب قبيلة بني شيبان عندما هجمت على المدينة في بداية حروب الردة، فكان سويد بن مقرن على مؤخرة الجيش، وكان أخواه النعمان بن مقرن وعبد الله بن مقرن الأول على الميمنة والثاني على الميسرة، وكان أبو بكر الصديق على المقدمة.
وكانت المرة الثانية التي جاء فيها ذكر سويد بن مقرن حين كان على قيادة الجيش الحادي عشر المتجه إلى تهامة باليمن لحروب الردة، وهذه هي المرة الثالثة التي يذكر فيها سويد في هذه الحروب، وقد تركه خالد بن الوليد على هذه الحاميات، ووكَّله بجمع الجزية والخراج من هذه المنطقة، واتجه هو شمالاً.
موقعة المذار:
بسبب ما حدث لجيوش فارس السابقة فقد أرسل (أردشير) كسرى فارس في ذلك الوقت جيشًا آخر بقيادة قارن بن يرقانس، وكان من القواد المهرة، فتوجه من الشمال من مدينة المدائن بحدود نهر دجلة حتى يصل إلى خالد بن الوليد، ولم يدر بخَلَده مطلقًا أن يجد في مواجهته خالد بن الوليد صاعدًا إليه.
كان خالد بن الوليد قد توجه شمالاً غربي نهر دجلة حتى مرَّ بحصن المرأة وحصن الرجل، وفتح مدينتين صغيرتين هما: (زندوارد) و(هرمزجرد) وصالح أهلهما على الجزية، ثم علم أن جيش "قارن" يتقدم من المدائن شرق دجلة ناحية الجنوب قاصدًا إياه.
فما كان من خالد بن الوليد إلا أن عبر نهر دجلة عن طريق بعض السفن التي اغتنمها من مدينة الأبلة، وتوجه شمالاً لمواجهة جيش "قارن" الذي لم يعلم بعدُ بهذا الأمر!
وعلى الجانب الآخر كان جيش "قارن" قد عبر نهرًا صغيرًا عند قرية المذار، ثم عسكر في هذا المكان (المذار)، ورتب جيشه فجعل نفسه على المقدمة، وجعل على ميمنته قباذ وعلى ميسرته أنوشجان، اللذين كانا على مجنبتي هرمز في موقعة كاظمة، التي قُتل فيها هرمز.
وإلى المذار أيضًا قد توجه جيش خالد بن الوليد وهو على التعبئة نفسها التي كان عليها منذ خرج من النباج، حيث مسلمة بن حارثة في المقدمة، وعاصم بن عمرو التميمي في الميمنة، وعدي بن حاتم الطائي في الميسرة.
التقى الجيشان في منطقة المذار، وقد خرج قارن يدعو للمبارزة فتسارع إليه خالد بن الوليد ومعقل بن الأعشى، فلحقه معقل قبل خالد فالتقت سيوفهما فَقَتَلَ معقلُ قارنًا في أول لقاء في المعركة تمامًا كما حدث في موقعة ذات السلاسل!!
وقد زاد ذلك من معنويات المسلمين وزعزع من معنويات جيش فارس، فتقدمت ميمنة المسلمين بقيادة عاصم بن عمرو التميمي وقتل أنوشجان قائد ميسرة الفرس، وبالمثل قتل عدي بن حاتم الطائي قباذ قائد الميمنة!!
وقد تبع ذلك هزيمة ساحقة للفرس قتل فيها منهم ثلاثون ألفًا، وغرق كثيرٌ ممن فَرَّ يريد العودة والعبور، وأخذ المسلمون يجمعون الأسلاب والغنائم من الجنود الفرس!!
وتجدر الإشارة هنا إلى التفريق بين الغنائم والأسلاب، أن الغنائم هي ما يجمع من الجيش بعد القتال من خيول وأسلحة وما إلى ذلك، أما الأسلاب فهي ما يأخذه المحارب مما على قتيله في الحرب.
وقد وزع خالد بن الوليد الأسلاب لمن سلبها، ووزع الغنائم عليهم، وبعث الخمس إلى أبي بكر الصديق في المدينة، وقد كان نصيب الفارس في هذه المعركة أيضًا ألف درهم، كما كان في موقعة كاظمة.
وكانت هذه هي أول مرة يجتاز المسلمون فيها نهر دجلة، وأول موقعة ينتصر فيها خالد بن الوليد شرق نهر دجلة.
الفرس وخطة الكماشة:
علم (أردشير) كسرى فارس في ذلك الوقت بانتصار جيش المسلمين في موقعة المذار، فأرسل جيشًا آخر بقيادة بَهْمَن جاذويه، وهو ممن تم شرفهم في جيوش فارس ومن كبار قادة الجيش.
وفي خطه شبيهة بخطة أبي بكر الصديق لفتح فارس توجه بهمن ناحية المذار حيث خالد بن الوليد، وفي الناحية الأخرى أرسل أحد قواده وهو أندرزغر إلى منطقة الولجة على حدود الجزيرة العربية، فيكون أندرزغر من خلف جيش خالد، وبهمن من أمامه فيحصراه في المذار بين فكي كماشة.
وصلت هذه الأخبار إلى سمع خالد بن الوليد -وهو ما زال بالمذار- عن طريق عيونه، وقدَّر هذه الخطة قدرها وأدرك خطورة تحرك الجيشين، فما كان منه إلا أن آثر التخلي عن كل ما اكتسبه من أرض شرق دجلة وما استحوذ عليه، والرجوع والتقهقر إلى منطقة الولجة لملاقاة أندرزغر.
وكان هذا الصنيع من قِبل خالد من صميم الحكمة وحسن التدبير؛ لأنه لو كان أصر على التمسك بما تحت يده لكان أتاه جيش بهمن من الشمال وجيش أندرزغر من الجنوب، والله أعلم بعاقبة الأمر حينذاك.
خالد ونجاح الخطة المضادة:
في الولجة كان قد نزل خالد بن الوليد، وقد وجد أن ميدان المعركة أرض منبسطة ليس فيها أشجار ولا مستنقعات، فعمل على خطة لمقابلة أندرزغر؛ حيث صفَّ قواته كما هي خطته المعهودة في ذلك، ثم أخفى خلف الجيش -وبعيدًا عن أرض المعركة- قوتين منفصلتين إحداها بقيادة بُسْر بن أبي رهم، والأخرى بقيادة سعيد بن مرة.
وبدأت المعركة واقتتل المسلمون والفرس قتالاً شديدًا، وصبر الفريقان لبعضهما حتى اقترب الليل وما زالت النتيجة لم تُحسم، وما زال خالد بن الوليد يخبِّئ قوتيه ويصبر عليهما حتى يَنهك عدوه ويَجهد.
وحين تيقن بلوغ الجهد ونفاد الصبر من الجيشين أمر خالد بن الوليد القوتين الكامنتين في الخلف بالالتفاف في دورة واسعة حول جيش فارس من الخلف، من حيث كانوا يتوقعون وينتظرون المدد من بهمن.
وفي مفاجأة مذهلة ومروعة وجد الفرس جيشي المسلمين على رءوسهم، فاختلط أمرهم ودبت الهزيمة في أوصالهم حتى لم يعد يعرف أحدهم -كما يقول الرواة- مقتل صاحبه، وقد عملت سيوف المسلمين في رقابهم، ومَنَّ الله على المسلمين بنصر مُؤَزَّر في منطقة الولجة.
موقعة أليس ونهر الدم:
في موقعة الولجة كان قد قُتِلَ اثنان من أبناء زعماء نصارى العرب، هما ابن عبد الأسود وابن جابر بن بجير، وكانا من قبيلة بكر بن وائل، ولما علمت قبيلة بكر بن وائل بذلك اشتد غيظها وحنقها على المسلمين، وكاتبت الفرس على الاشتراك معهم في قتال المسلمين.
وكان أن جهز نصارى العرب جيشًا كبيرًا وتجمعوا به في أُلَّيْس، وإلى أُلَّيْس أيضًا كان قد توجه أربعون ألف مقاتل من مدينة أَمْغِيشيا (معظم أهل المدينة تقريبًا، وهي على بعد أربعين كيلو مترًا من أُلَّيْس)؛ لينضموا إلى من اجتمع بها لحرب المسلمين، وكان أن انضاف إليهم مقدمة جيش بهمن وعلى رأسها جابان الذي أرسله بهمن لنفس الغرض.
وبهذا تكون أُلَّيْس هذه قد جمعت معظم أهل أَمْغِيشيا، إضافة إلى جيش الفرس بقيادة جابان، وبالإضافة أيضًا إلى نصارى بكر بقيادة جابر بن بجير وعبد الأسود، وبينما كان بهمن في طريقه إلى (أُلَّيْس) علم بمرض أردشير فرجع إلى المدائن فمكث بجواره ولم يشترك في هذا التحالف، وقد اجتمع للفرس في أُلَّيْس أكثر من مائة ألف مقاتل على رأسهم جابان ومن بينهم نصارى بكر بن وائل، وأيضًا أَمْغِيشيا وكانت تحت الحكم الفارسي.
كان خالد بن الوليد وجيشه -كما نعلم- ثمانية عشر ألف مقاتل؛ إذ لم يفقد في هذه المعارك عددًا يذكر وظل كما هو، وكان قد علم -وهو في الولجة- بتجمع هذه الجيوش له في أُلَّيْس، فعمد إليها وكأنه يبحث عن الفرس في كل مكان.
وفي أُلَّيْس قال نصارى بكر بن وائل لجابان: اجعلنا على المقدمة فنحن أعلم بالعرب وأقدر على قتالهم منك. فأجابهم جابان: لَئِن صدقتم لنجعلنكم عليها. وهنا ثار الفرس وقالوا: كيف ترضى لهؤلاء الأجلاف أن يقولوا لك: إنهم أفضل منا في قتال العرب وتوافقهم على ذلك؟! فرد عليهم جابان قائلاً: "إن كان لنا النصر فهم تحت إمرتنا، وإن كان للعرب (المسلمين) النصر فهم فداؤنا". وكان أن جعل جيشه في المؤخرة، وجعل نصارى بكر في المقدمة، فجعل جابر على يمينه وعبد الأسود على يساره، ومقدمة الجيش من أَمْغِيشيا.
جابان وخالد.. ضعف وشجاعة:
برغم أن جابان كان قائدًا محنكًا إلا أنه كان صاحب شخصية ضعيفة، فقد صادف وصول خالد بن الوليد وجيشه أن الفرس قد أعدوا طعام الغداء وجلسوا إليه، وعندها أمرهم جابان بأن يتركوا الطعام ويستعدوا للصدام مع المسلمين، ولكنهم عصوه وخالفوا أمره ظنًّا منهم أن ذلك سيعني للمسلمين أنهم لا يعتنون ولا يحفلون بهم.
وما إن انتهى إليهم خالد بن الوليد وقد رتب جيشه حتى خرج أمام الصف فنادى: "أين جابر؟ أين عبد الأسود؟" فجبنوا حتى خرج رجل يدعى مالك بن قيس، وكان أيضًا من زعماء بكر بن وائل، فقال له خالد بن الوليد: "يابن الخبيثة، ما جرأك عليَّ من بينهم وليس فيك وفاء؟!" يعني قتلك لا يَفِي بما أريد، ثم ضربه ضربة واحدة قتلَتْه!!
وعلى الفور زحف عليهم خالد بن الوليد وأقامهم عن طعامهم وأجبرهم على الحرب، فكان أن دارت رحاها واشتد سعيرها، بين جيش المسلمين وقوامه ثمانية عشر ألف مقاتل على رأسهم خالد بن الوليد بحكمته وقوته وشجاعته، وجيش جابان الذي يتكون من خليط من العجم والعرب وقوامه أكثر من مائة ألف مقاتل على رأسهم قائد ضعيف هزيل (جابان).
في لحظات فارقة وفي أشد من أي قتال سبق اقتتل المسلمون وجيش جابان قتالاً شديدًا مريرًا، وصبر كل من الطرفين للآخر، وصمد كل منهما لعدوه في محاولات مستميتة ظلت الحرب فيها سجال، حيث لم تثقل بعد أيّ من الكفتين، حتى شق ذلك على المسلمين.
وهنا نذر خالد بن الوليد نذرًا فقال: "اللهم إن لك عليَّ إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدًا أقدر عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم".
وكأن الله I كان ينتظر هذا النذر، فما أن انتهى خالد من دعائه حتى مالت الكفة لصالح المسلمين، وبدأت صفوف جابان تتضعضع فانكشفوا للمسلمين وقد منحهم الله أكتافهم، فنادى خالد في الجيش: "الأسر الأسر إلا من امتنع".
فأخذ المسلمون يأسرون ما استطاعوا من الفرس والعجم، يسوقونهم سَوْق البعير، حتى جمعوا منهم سبعين ألف أسير جُلُّهم من أَمْغِيشيا، وقد حبس خالد الماء عن الفرات، ثم وضعهم على حافته وقد وَكَّلَ بهم من يضرب أعناقهم فيه حتى ظلوا في ذلك ثلاثة أيام، ثم فتح عليهم الفرات فصار من أثر دمائهم أحمر قانيًا، فسُمِّيَ لذلك "نهر الدم"، وظل على ذلك قرونًا طويلة، حتى ذكر ابن بطوطة (القرن الثامن الهجري) في رحلاته أنه مَرَّ على نهر الدم، ذلك الذي وقعت حوله موقعة أُلَّيْس.
وبذلك أرهب خالد بن الوليد الفرس إرهابًا شديدًا، وفَتَّ في أعْضَادِهم هم ومن حالفهم، وقد وصلت أخبار ذلك النصر إلى أبي بكر الصديق في المدينة فأعجب إعجابًا شديدًا ببأس خالد بن الوليد، وأثنى عليه ودعا له بالتوفيق.
أَمْغِيشيا وفتح دون قتال:
قبل أن تصل أنباء تلك الهزيمة القاسية إلى المدائن، وفي محاولة لعدم منح الفرس الفرصة في الاستعداد والتجهيز، كان أن توجه خالد بن الوليد إلى أَمْغِيشيا على مسافة أربعين كيلو مترًا من أُلَّيْس، والتي قتل من أهلها في أُلَّيْس حوالي أربعين ألفًا، فوجدها خاوية من أهلها، وذلك من حين علموا بتوجه خالد إليها، وقد تركوا فيها أموالهم وأمتعتهم!
وإرهابًا للفرس وتهوينًا من شأنهم حين دخل أَمْغِيشيا (وكانت مدينة عظيمة البنيان مرتفعة القصور) أمر خالد بن الوليد بهدمها بالكامل، وكل ما كان في حَيِّزِها.
وقد أصاب المسلمون من السبي والغنائم فيها ما لم يصيبوه في معاركهم من قبل، فكان نصيب الفارس ألفًا وخمسمائة درهم، وكان من بين السبي رجل يدعى حبيبًا وكان نصرانيًّا، وقد أسلم حبيب هذا وأنجب غلامًا، كان هو الحسن البصري إمام التابعين.
وقد وصلت أنباء أَمْغِيشيا إلى أبي بكر الصديق فقال: "يا معشر قريش، عدا أسدكم (يعني خالدًا) على الأسد (يعني فارس)؛ فغلبه على خراذيله (يعني فرائسه)، أعجزت النساءُ أن يلدن مثل خالد".
وإلى هنا يكون قد تمَّ للمسلمين النصر في كاظمة، ثم الأبلة فالمذار فأُلَّيْس فأَمْغِيشيا، انتصارات تتلوها انتصارات، والحُلم هو الحيرة وقد بدت على الأبواب.
كانت هناك رغبة جامحة تراود خالد بن الوليد في الوصول إلى الحيرة؛ إذ منها سينطلق أميرًا على الجيشين -إذا وصل أولاً- في فتح المدائن عاصمة الفرس، وهذه الرغبة لم يعد الفرس غافلين عنها خاصة مرزبان الحيرة، الذي أيقن أنه صار في فوهة المدفع، وأن الدائرة لا شك عليه، خاصة بعد ما وصل إلى سمعه خبر أَمْغِيشيا وتبين مسار خالد.
معركة المقر وعودة المياه:
وكان خالد بن الوليد يجمع السفن في أَمْغِيشيا ليتوجه بها شمالاً عن طريق نهر الفرات تجاه الحيرة؛ خوفًا من أن يتعطل سيره على الأرض، خاصة والفصل ربيع حيث يفيض نهرا دجلة والفرات، حيث تصعِّب آثار الفيضان سير الإبل على الأرض.
وبهذا الأمر علم آزاذبه مرزبان الحيرة، فقرر أن يقوم بحيلة دفاعية من أجل أن يحول دون أن يبلغ خالد بن الوليد مأربه، فكان أن أرسل ابنه على رأس فرقة من الجيش إلى مكان يسمى المقر جنوبي الحيرة، وأمره بسد نهر الفرات وتفجير الأنهار الأخرى الفرعية، فلا تستطيع سفن خالد بن الوليد مواصلة السير.
وبالفعل قام ابن آزاذبه بما أمره أبوه؛ فجنحت سفن خالد بن الوليد في النهر حتى ارتاع المسلمون لذلك، إذ إنهم لم يتعودوا ركوب البحر الذي لم يدلفهم إليه بيئتهم الصحراوية.
وقد استنتج الملاحون -وهم من أهل البلاد- أن هذا لا يعدو إلا أن يكون من صنيع جيش فارس بسدهم الفرات، وتفجيرهم الأنهار عند المقر، مما جعل الماء يسلك غير سبيله.
وما إن سمع خالد بن الوليد من الملاحين تعليلهم حتى أخذ فرقة من الخيالة وتوجه من تَوِّهِ إلى المقر بهدف إعادة فتح مجرى الماء لإنقاذ سفن المسلمين في نهر الفرات، وعند المقر قابلته طليعة من طلائع ابن آزاذبه فأبادهم عن آخرهم، ثم تقدم نحو القوة الأساسية لجيش ابن آزاذبه فوجدها على فم الفرات في المقر، فاشتبك معهم حتى هزمهم هزيمة ساحقة وقتل ابن آزاذبه.
ثم تقدم خالد بن الوليد وفتح الفرات وسد الأنهار الفرعية، فعاد الماء إلى مجراه، وتقدمت سفن المسلمين مرة أخرى في اتجاه الحيرة، وتقدم هو بنفسه ومن معه من الفرسان حتى وصل إلى الخورنق جنوب الحيرة على مقربة منها.
وفي الوقت الذي قُتِل فيه ابن آزاذبه ووصل خالد إلى الخورنق كان أردشير كسرى فارس قد مات في ذلك الوقت في المدائن، الأمر الذي فَتَّ كثيرًا في عضد (آزاذبه)، فما كان منه إلا أن فر بجيشه شرق الفرات راجعًا إلى المدائن، وتاركًا الحيرة لأهلها يدافعون عنها.
وفي الحيرة كان هناك حصن كبير يعد من أقوى حصون فارس الجنوبية وهو قصر (الخورنق)، وكان يملكه النعمان بن المنذر الذي كان أميرًا على الحيرة قبل هذه الفترة، وقد بناه له مهندس رومي يُدعى (سنمار) في عشرين سنة، حتى لم يكن في التاريخ مثله منعةً وحصانةً وإبداعًا، ولما أتم بناءه صعد به النعمان إلى أعلى القصر وألقاه من فوقه ليقتله؛ وذلك حتى لا يبني مثله لغيره، وقد صار هذا مضرب الأمثال، فكان العرب يقولون: "جزاء سنمار".
وقد وصل خالد بن الوليد إلى هذا القصر المنيع وفتحه بسهولة، والذي كان من الممكن أن يحتمي به آزاذبه لولا ضعفه وخيانته لفارس، ثم تقدم ناحية الحُلْم، ناحية الحيرة أكبر مدن فارس الجنوبية، والتي لو فتحت لأصبح سهلاً على المسلمين التقدم إلى المدائن عاصمة الفرس.
يتبع لاحقا ...........