سيطر العثمانيون على جل الوطن العربي منذ مطلع القرن السادس عشر والفترات اللاحقة، وأصبحت دولتهم أقوى وأكبر قوة إسلامية حيث امتد نفوذها إلى أوروبا وآسيا وإفريقيا، وأصبحت القوة القائدة للعالم الإسلامي، لاسيما بعد أن ضمت الأماكن المقدسة في الحجاز وفلسطين إلى دائرة نفوذها، وقضت على حكم المماليك في مصر... إلا أن المغرب الأقصى بقي خارج إطار سيادتها منذ ذلك التاريخ وحتى فرض الحماية (الاحتلال) الفرنسي عليه عام 1912، إذ كان يتطلع إلى قيام وحدة إقليمية مغاربية، مما قاد إلى تناقض وصل حد الصراع السياسي والعسكري بين الجانبين. وفي كتابه "الدولة العثمانية والمغرب... إشكالية الصراع والتحالف"، يكشف الدكتور محمد علي داهش أهم المراحل الزمنية والعوامل المؤثرة (الظاهرة والخفية) وراء تطورات العلاقة العثمانية المغربية وتقلباتها بين الصراع والتحالف، العداء والود. وفي هذا السياق يكشف الكتاب أن مسار العلاقة بين اسطنبول وفاس مر خلال أربعة قرون بمرحلتين رئيسيتين: في الأولى سادت حالة سياسية وعسكرية سلبية بين الدولتين، وقد امتدت من أواسط القرن السادس عشر الميلادي حتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أي الفترة التي شهدت ذروة النفوذ العثماني في البلاد العربية، مما قاد اسطنبول إلى محاولات لضم المغرب أسوة ببقية البلاد العربية، لاسيما تلك القريبة من المغرب الأقصى مثل الجزائر وتونس وليبيا. أما المرحلة الثانية فكانت بدايتها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر حين شرعت تتخذ لها مسارات أخرى تبعاً لطبيعة التطورات والمواقف الأوروبية تجاه كلا الدولتين من جهة، وطبيعة الوضع الداخلي لكليهما أيضاً من جهة أخرى. وعلى العموم فقد بدأت الدولة العثمانية خلال هذه المرحلة تعاني من الضعف والتراجع أمام القوى الأوروبية، كما عانت من ثورات واضطرابات داخلية أعجزتها عن فرض السيطرة المباشرة على المناطق الخاضعة لها سابقاً. وفي هذه المرحلة بدأ مسار العلاقات المغربية العثمانية يبشر ببداية طيبة، إذ لم تقتصر العلاقات على التعامل الدبلوماسي من خلال الوفود والرسائل والتضامن السياسي في بعض المواقف، وإنما بدأت العلاقة تترسخ أكثر وفي إطار التضامن الإسلامي. وخلال القرن التاسع عشر سعى الطرفان إلى الارتقاء بعلاقاتهما الثنائية إلى مستوى التحالف السياسي والعسكري لمواجهة التحديات الاستعمارية الأوروبية المستشرية خلال ذلك القرن.
ويتتبع المؤلف أثر الأوضاع الداخلية في المغرب وانعكاساتها على الدولة العثمانية، قائلا إنه مع بداية خضوع الجزائر للسيادة العثمانية، كان المغرب يعيش حالة من الضعف والانقسام تحت حكم الوطاسيين الذين حاولوا الاستنجاد بالعثمانيين، فزودهم سليمان القانوني بالأسلحة والمدافع والذخائر الحربية. لكن ظهور حركات شعبية مجاهدة نذرت نفسها للدفاع عن الثغور المغربية ومواجهة التحديات البرتغالية والإسبانية، أسهم في بروز معارضة داخلية بقيادة الأشراف السعديين الذين أسقطوا الوطاسيين من الحكم، وتصاعد التوتر بينهم وبين العثمانيين إلى أن وصل مرحلة الصدام العسكري. ولم يؤد سقوط السعديين ونشوء الدولة العلوية في المغرب إلى تحول جوهري في علاقات الجانبين، بل أطلقت محاولات السلطان محمد الأول استثمار السخط الشعبي ضد الوالي العثماني في الجزائر، مرحلة جديدة من الصراع السياسي والتوتر العسكري بلغت ذروتها بين عامي 1676 و1691، دون أن تسفر عن مكاسب إقليمية لأي من الطرفين، وإن استمر الولاة العثمانيون للجزائر في التحرش بالمغرب.
لكن انطلاقاً من عام 1708، يقول المؤلف، ستنتقل العلاقات المغربية العثمانية من التوتر إلى الضامن، حيث شهدت في ذلك العام بداية طيبة للانفراج انطلاقاً من "التضامن الإسلامي" لمواجهة الخطر الأوروبي المشترك. فقد حرر الوالي العثماني محمد بكداش مدينة وهران من الاحتلال الإسباني، وإثر ذلك أرسل له السلطان المغربي إسماعيل رسالة تهنئة كان لها أثرها فيما بعد على علاقات الجانبين. ورغم الصراعات التي عرفها بيت الحكم العلوي عقب وفات السلطان إسماعيل، فقد استطاع السلطان المغربي محمد بن عبدالله أن يمد حبل الود ثانية بين فاس واسطنبول، فتوطد التعاون بينهما في المجالات التجارية والعسكرية، واستفاد المغرب من خبرة العثمانيين في تدريب وحدات جيشه، وتطوير صناعته العسكرية. وقد انعكس ذلك إيجاباً على علاقات المغرب بالولاة العثمانيين في الجزائر، لاسيما في حروبهم ضد القوى الأوروبية الطامعة.
محمد ولد المنى
-------
الكتاب: الدولة العثمانية والمغرب... إشكالية الصراع والتحالف
المؤلف: د. محمد علي داهش
تاريخ النشر: 2011
الناشر: دار الكتب العلمية
ويتتبع المؤلف أثر الأوضاع الداخلية في المغرب وانعكاساتها على الدولة العثمانية، قائلا إنه مع بداية خضوع الجزائر للسيادة العثمانية، كان المغرب يعيش حالة من الضعف والانقسام تحت حكم الوطاسيين الذين حاولوا الاستنجاد بالعثمانيين، فزودهم سليمان القانوني بالأسلحة والمدافع والذخائر الحربية. لكن ظهور حركات شعبية مجاهدة نذرت نفسها للدفاع عن الثغور المغربية ومواجهة التحديات البرتغالية والإسبانية، أسهم في بروز معارضة داخلية بقيادة الأشراف السعديين الذين أسقطوا الوطاسيين من الحكم، وتصاعد التوتر بينهم وبين العثمانيين إلى أن وصل مرحلة الصدام العسكري. ولم يؤد سقوط السعديين ونشوء الدولة العلوية في المغرب إلى تحول جوهري في علاقات الجانبين، بل أطلقت محاولات السلطان محمد الأول استثمار السخط الشعبي ضد الوالي العثماني في الجزائر، مرحلة جديدة من الصراع السياسي والتوتر العسكري بلغت ذروتها بين عامي 1676 و1691، دون أن تسفر عن مكاسب إقليمية لأي من الطرفين، وإن استمر الولاة العثمانيون للجزائر في التحرش بالمغرب.
لكن انطلاقاً من عام 1708، يقول المؤلف، ستنتقل العلاقات المغربية العثمانية من التوتر إلى الضامن، حيث شهدت في ذلك العام بداية طيبة للانفراج انطلاقاً من "التضامن الإسلامي" لمواجهة الخطر الأوروبي المشترك. فقد حرر الوالي العثماني محمد بكداش مدينة وهران من الاحتلال الإسباني، وإثر ذلك أرسل له السلطان المغربي إسماعيل رسالة تهنئة كان لها أثرها فيما بعد على علاقات الجانبين. ورغم الصراعات التي عرفها بيت الحكم العلوي عقب وفات السلطان إسماعيل، فقد استطاع السلطان المغربي محمد بن عبدالله أن يمد حبل الود ثانية بين فاس واسطنبول، فتوطد التعاون بينهما في المجالات التجارية والعسكرية، واستفاد المغرب من خبرة العثمانيين في تدريب وحدات جيشه، وتطوير صناعته العسكرية. وقد انعكس ذلك إيجاباً على علاقات المغرب بالولاة العثمانيين في الجزائر، لاسيما في حروبهم ضد القوى الأوروبية الطامعة.
محمد ولد المنى
-------
الكتاب: الدولة العثمانية والمغرب... إشكالية الصراع والتحالف
المؤلف: د. محمد علي داهش
تاريخ النشر: 2011
الناشر: دار الكتب العلمية