محمد يوسف عدس
كانت الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي هي حرب الخليج الأولى.. وحرب تحرير الكويت من القوات العراقية هي حرب الخليج الثانية، وكانت الحرب الثالثة هي الغزو الأمريكي للعراق سنة ٢٠٠٣، أما الحرب التي تمهّد لها أمريكا في الوقت الراهن بين السعودية وإيران فهي الحرب الرابعة..
أعرف أن البعض يستبعد أن تفتح أمريكا على نفسها حربا جديدة -وقد فشلت- بعد أن أُنهكت في حربي العراق وأفغانستان.. وهي الآن تمهّد للخروج منهما.. ولكني ما قصدت قط أن أمريكا ستتورط بقواتها البرية في هذه الحرب.. فهي لم تتورط في الحرب العراقية الإيرانية (في ثمانينات القرن الماضي) ولم تنفق دولارا واحدا فيها.. وإنما قامت دول الخليج بكل نفقات الحرب واستفادت أمريكا من بيع أسلحتها للعراق ولدول الخليج.. وشجعت الطرفين على الاستمرار في الحرب وإطالة أمدها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.. على أمل إنهاك الدولتين وتحطيم قواهما العسكرية والاقتصادية تمهيدا لاحتلالهما في المستقبل.. وهذا ما فعلته مع العراق.. وهي تريد اليوم لعب نفس الدور مع السعودية وإيران...
فما الذي يحفز أمريكا الآن لهذا السناريو الخبيث.. وهل من دليل أو مؤشّرات عليه...؟؟ وما هي أهدافه الحقيقية...؟!
كل هذه أسئلة منطقية.. سألتها لنفسي ووجدت لها إجابات تاريخية مقنعة.. يؤكدها واقع الحال...
في مقال سابق بعنوان "مصر وباكستان في قلب إعصار" تحدثت عن استخدام أمريكا لعميل يُدعى "دافيد هيدلى" مزدوج الجنسية ( أمريكي باكستاني) لتوتير العلاقات بين الهند وباكستان: إذ تولى تدريب أشخاص في باكستان وأشرف عليهم لتنفيذ عمليات إرهابية مشهورة في مومباي، واستخدمت شخصا آخر لحمل كمية من اليورانيوم المشع لمنظمات موصومة بالإرهاب في باكستان .. وكان الغرض من هذا هو إشعال حرب بين الدولتين من جهة.. واتهام باكستان من جهة أخرى بعدم قدرتها على حماية أسلحها النووية من التسرّب إلى المنظمات الإرهابية، مما يعرّض الأمن العالمي للخطر.. ورأت في هذا تبريرا كافيا لتفكيك المنشآت النووية الباكستانية أو توجيه ضربة لتدمير هذه المنشآت..
والمهم في القصة أن أمريكا تختار لتنفيذ خططها التآمرية كالعادة عملاء مسلوبي الإرادة.. من مدمني المخدرات.. ومحكوم عليهم بأحكام مختلفة بالسجن.. ليسهل ابتزازهم ووضعهم تحت السيطرة المخابراتية الكاملة.. وهو نفس الأسلوب الخسيس المتكرّر الذي تستخدمه الآن لتصعيد العداء بين السعودية وإيران ، وذلك باختلاق قصة الإيرانيّين اللذيْن قٌبضت عليهما بتهمة محاولة اغتيال السفير السعودي في أمريكا.. وقد اعترف العميلان -وفقا للخطة الأمريكية- بجريمتهما.. كما زعما أنهما يعملان لحساب الحرس الثوري الإيراني.. هذا التشابه بين الحالتين الباكستانية والإيرانية يمثلان عندي مؤشرا قويا لاتجاهات التفكيرالتآمري الأمريكي.. وما تخططه أمريكا من مؤامرات لتخريب المنطقة ، مستغلة التناقضات المذهبية والسياسية بين الفرقاء...
ومن الناحية التاريخية يجب ألا ننسى أساليب جهاز المخابرات الأمريكية في تدبير عمليات اغتيال كبرى في أمريكا على يد عملائها ثم تصفية هؤلاء العملاء: وأبرز مثال على ذلك مقتل "روبرت كنيدى" أثناء حملته الانتخابية للرئاسة سنة ١٩٦٨ .. ثم أُلصقت التهمة بعميل عربي مسكين اسمه "سرحان سرحان".. وقصة وضع قنبلة تحت مقعد السفير السعودي في المطعم الذي اعتاد التردد عليه.. تعتبر قصة ساذجة وعبثية بالنسبة لجرائم القتل المحكمة التي ارتكبتها المخابرات الأمريكية في الماضي: للرئيس جون كنيدى.. وللزعيمين الزنجيين: مارتن لوثر كنج، وملكوم إكس..
ولكن ما هي الدوافع والأهداف الأمريكية الصهيونية من وراء هذا المخطط...؟
أولا: خريف الغضب في أوربا وأمريكا ليس حديث خرافة ولا هزل فيه؛ فقد بدأت الشعوب في دول الغرب تدرك أن النظم المالية الرأسمالية المسيطرة تحابي الأغنياء على حساب الفقراء، وأن النظم السياسية ليست أكثر من أداة في يد أصحب المال والبنوك تستخدم القوانين والضرائب وقوات الأمن لتسخير الدولة في خدمة الأغنياء، ومن ثم فإن انتشار البطالة وغلاء المعيشة وانسداد الأمل في مستقبل أفضل ليس حالة طارئة ستزول.. أو نتيجة أخطاء في سياسات أحزاب أو حكومات سرعان ما يتم تصحيحها.. ولكنها أوضاع ترسّخت لحالة دائمة من انعدام العدالة الاجتماعية وتهميش مقصود للطبقات المتوسطة وسحْقٌ مُمَنْهج للفقراء..
لاحظ هنا أن المظاهرات لم تعد تتوجه إلى المقار الحكومية كما اعتادت في الماضي القريب ولكنها تتوجه إلى أحياء المال والبنوك (في وول ستريت مثلا) حيث تتمركز السلطة الحقيقية الحاكمة .. لقد عرفت الشعوب أخيرا أصل الداء ومصدره.. و يُعتبر هذا تحوّلا خطيرا في اتجاهات الرأي العام الغربي.. وقد يفسر لنا هذا سر العنف غير المألوف الذي تواجه به قوات الأمن الحكومية المتظاهرين السلميين .. كما يفسر الكثرة غير المبررة لعدد المعتقلين.. في مشهد يذكرنا بموقف الحكومات القمعية من المتظاهرين في بلاد العالم الثالث.. (اقرأ إن شئت سلسلة مقالاتي: "الإنسان في عالم التكتلات الاحتكارية"، فستجد فيها إرهاصات لهذه التحوّلات في الرأي العام الغربي تجاه الفساد المالي.. وضد الانحياز للقلة المتحكمة في النظام الاقتصادي العالمي.. واقرأ بعناية محتوى البيان العالمي لحملة «التوحد من أجل تغيير العالم» التي تدعو لتظاهرات سلمية ضد ما أسمته بدكتاتورية المؤسسات المالية.. وستجد أن كثيرا من مفرداتها قد تطرقتُ إليها بتفصيل منذ بضع سنوات في مقالات عديدة.. ولم يكن ذلك إلا بفضل من الله وهدايته...
ثانيا: الأزمة المالية الخانقة التي انتهى إليها الاقتصاد الأوربي والأمريكي، جُرّبت فيها كل العلاجات الممكنة في الترسانة الاقتصادية ولم تنجح.. وما أظنها ستنجح على المدي القريب أو البعيد.. لقد وصل الاقتصاد الغربي القائم على القروض والفوائد إلى طريق مسدود.. وهذا اقتناع أصبح راسخا في عقول الحكومات الغربية لا تصرّح به.. وفي عقول المراقبين والمحللين .. ولذلك تتجه أمريكا إلى علاجات غير تقليدية للخروج من الكارثة: حرب عالمية جديدة.. قد تشتعل ابتداءً في باكستان أو في الخليج كما أشرت.. حرب تمكُنها من السطو على موارد الطاقة والموارد الطبيعية الأخرى والأموال المودعة والمستثمرة في بلادها.. وبصفة خاصة الاستيلاء على الذهب، بتشريعات وقوانين جديدة [قادمة على الطريق لا محالة].. وسيعرف العالم حينذاك معنى " الفاشية الناعمة" التي تتجه إليها أمريكا والغرب.. وقد كتبتُ عنها منذ بضع سنوات مضت..
ثالثا: إذا نجحت أمريكا في إشعال الحرب بين إيران ودول الخليج فلن تشترك فيها بقوات برية.. لن تكرر خطأها الفاحش في أفغانستان والعراق.. ولن تنفق دولارا واحدا في هذه الحرب.. فسوف تتحمل دول الخليج نفقاتها كاملة.. وتكتوي شعوبها وشعوب المنطقة بنيرانها وكوارثها .. ولكن هذا لا يمنع أن تشترك أمريكا وإسرائيل بصواريخها الموجهة وبقذائفها المدمرة.. وسيكون على رأس أهدافها المفاعلات النووية ومنظومة الصواريخ الإيرانية.. لا لأن إيران تملك قوة نووية كما تملك باكستان.. ولكن للقضاء على أي احتمال أن تملك هذه القوة في المستقبل القريب أو البعيد.. ولا ننسى أن مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية السابقة (في عهد كلينتون) قالت في ردها على سؤال صحفي أثار غضبها بإلحاحة وجداله.. معترضا على استهداف إيران رغم أن كل الأدلة تشير إلى أنها لا تملك أسلحة نووية ولا تقوم بصناعتها..
فقالت غاضبة: نحن –أصلا- لا نريد أن تمتلك إيران [التكنولوجيا] النووية..! فلتة لسان كاشفة.. كما تعلمنا من النمساوي "سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي الشهير...
رابعا: ما يثير العجب والدهشة عند البعض أن أمريكا تحت تأثير أزمتها المالية الخانقة.. والتي تعلم أنها لم تعد تملك في حوزتها ولا في مواردها حلا سلميا لانهيارها الاقتصادي الوشيك، والتي لا تزال متورطة في حرب العراق وأفغانستان.. تجهّز لحرب على ثلاثة دول أخرى من أكبر الدول المسلمة (مرة واحدة) هي مصر وباكستان وإيران..
ولا يستغرب القارئ أنني أضفت مصر إلى القائمة المستهدفة أمريكيا.. فأمريكا بالفعل تشن على مصر حربا من نوع مختلف قليلا.. فكل ماتفعله أمريكا في مصر: [الإغواء والرشوة واللعب بالمعونات والقروض والجاسوسية وشراء الضمائر الميتة] هو حرب خسيسة ضد الشعب المصري وضد ثورته وضد مستقبله الديمقراطي.. وهي تستخدم في حربها جيشا من المصريين، يقومون بالحرب نيابة عنها.. كما تستعين بأنظمة حكم عربية تعيش حالة من الذعر خوفا من انتقال الثورة إلى بلادهم.. وتنتهز أمريكا في تنفيذ مخططاتها ضعف وتشوّش السلطة القائمة الآن في مصر.. والتي تتصرف وكأنها مكبّلة اليد والقدم والدماغ.. أشبه ما يكون بحالة شلل.. أغرت بنيامين نتنياهو أن يعتقد أن هذه السلطة –على حدّ قوله- تمثل "نافذة فرص" لأنه لا يعلم كيف سيكون تعامل السلطات المصرية في أعقاب تلك الانتخابات القادمة، مع قيام الإسلاميين بالترشح فيها...
هاجس إسرائيل هو هاجس أمريكا ولذلك ينتهزان الفرصة القائمة قبل أن يلحق بها التغيير غير المضمون.. والأمر في باكستان وإيران ليس بعيدا عن الصورة المصرية فيما يتعلق بالحكومات الضعيفة المتورّطة في الخطايا والفساد.. والتي تتمتع بقدر غير قليل من الغباء..
وكل هذا يشجع أمريكا وإسرائيل على تسريع خطواتها نحو استدراج هذه الدول لحروب سريعة تؤدي إلى سقوطها وتخريبها: من الداخل كما الحال في مصر.. أو من الخارج كما الحال بالنسبة لإيران وباكستان.. ودول الخليج.. وعندئذ تتداعى الشركات الأمريكية لإعادة بناء ما دمّرته الحرب...! الحجة الأزلية للنهب على أوسع نطاق.. ولعل أمريكا ترى في هذا النهب الواسع فرصتها الأخيرة للنجاة من الانهيار الاقتصادي الوشيك...!
وليس معنى هذا أن تنجح المخططات الأمريكية الإسرائيلية بالضرورة .. ولكننا ننبه إلى مخاطر الطريق.. خصوصا مع ضبابية الرؤى.. وغشاوة الأعين والأفئدة.. وظلمات تكتنف الضمائر.. وغياب الإضاءات الكاشفة على جانبي الطريق... نسأل الله النجاة من كيد الكائدين وتدبير الحاقدين، والله المستعان في كل وقت وحين..
كانت الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي هي حرب الخليج الأولى.. وحرب تحرير الكويت من القوات العراقية هي حرب الخليج الثانية، وكانت الحرب الثالثة هي الغزو الأمريكي للعراق سنة ٢٠٠٣، أما الحرب التي تمهّد لها أمريكا في الوقت الراهن بين السعودية وإيران فهي الحرب الرابعة..
أعرف أن البعض يستبعد أن تفتح أمريكا على نفسها حربا جديدة -وقد فشلت- بعد أن أُنهكت في حربي العراق وأفغانستان.. وهي الآن تمهّد للخروج منهما.. ولكني ما قصدت قط أن أمريكا ستتورط بقواتها البرية في هذه الحرب.. فهي لم تتورط في الحرب العراقية الإيرانية (في ثمانينات القرن الماضي) ولم تنفق دولارا واحدا فيها.. وإنما قامت دول الخليج بكل نفقات الحرب واستفادت أمريكا من بيع أسلحتها للعراق ولدول الخليج.. وشجعت الطرفين على الاستمرار في الحرب وإطالة أمدها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.. على أمل إنهاك الدولتين وتحطيم قواهما العسكرية والاقتصادية تمهيدا لاحتلالهما في المستقبل.. وهذا ما فعلته مع العراق.. وهي تريد اليوم لعب نفس الدور مع السعودية وإيران...
فما الذي يحفز أمريكا الآن لهذا السناريو الخبيث.. وهل من دليل أو مؤشّرات عليه...؟؟ وما هي أهدافه الحقيقية...؟!
كل هذه أسئلة منطقية.. سألتها لنفسي ووجدت لها إجابات تاريخية مقنعة.. يؤكدها واقع الحال...
في مقال سابق بعنوان "مصر وباكستان في قلب إعصار" تحدثت عن استخدام أمريكا لعميل يُدعى "دافيد هيدلى" مزدوج الجنسية ( أمريكي باكستاني) لتوتير العلاقات بين الهند وباكستان: إذ تولى تدريب أشخاص في باكستان وأشرف عليهم لتنفيذ عمليات إرهابية مشهورة في مومباي، واستخدمت شخصا آخر لحمل كمية من اليورانيوم المشع لمنظمات موصومة بالإرهاب في باكستان .. وكان الغرض من هذا هو إشعال حرب بين الدولتين من جهة.. واتهام باكستان من جهة أخرى بعدم قدرتها على حماية أسلحها النووية من التسرّب إلى المنظمات الإرهابية، مما يعرّض الأمن العالمي للخطر.. ورأت في هذا تبريرا كافيا لتفكيك المنشآت النووية الباكستانية أو توجيه ضربة لتدمير هذه المنشآت..
والمهم في القصة أن أمريكا تختار لتنفيذ خططها التآمرية كالعادة عملاء مسلوبي الإرادة.. من مدمني المخدرات.. ومحكوم عليهم بأحكام مختلفة بالسجن.. ليسهل ابتزازهم ووضعهم تحت السيطرة المخابراتية الكاملة.. وهو نفس الأسلوب الخسيس المتكرّر الذي تستخدمه الآن لتصعيد العداء بين السعودية وإيران ، وذلك باختلاق قصة الإيرانيّين اللذيْن قٌبضت عليهما بتهمة محاولة اغتيال السفير السعودي في أمريكا.. وقد اعترف العميلان -وفقا للخطة الأمريكية- بجريمتهما.. كما زعما أنهما يعملان لحساب الحرس الثوري الإيراني.. هذا التشابه بين الحالتين الباكستانية والإيرانية يمثلان عندي مؤشرا قويا لاتجاهات التفكيرالتآمري الأمريكي.. وما تخططه أمريكا من مؤامرات لتخريب المنطقة ، مستغلة التناقضات المذهبية والسياسية بين الفرقاء...
ومن الناحية التاريخية يجب ألا ننسى أساليب جهاز المخابرات الأمريكية في تدبير عمليات اغتيال كبرى في أمريكا على يد عملائها ثم تصفية هؤلاء العملاء: وأبرز مثال على ذلك مقتل "روبرت كنيدى" أثناء حملته الانتخابية للرئاسة سنة ١٩٦٨ .. ثم أُلصقت التهمة بعميل عربي مسكين اسمه "سرحان سرحان".. وقصة وضع قنبلة تحت مقعد السفير السعودي في المطعم الذي اعتاد التردد عليه.. تعتبر قصة ساذجة وعبثية بالنسبة لجرائم القتل المحكمة التي ارتكبتها المخابرات الأمريكية في الماضي: للرئيس جون كنيدى.. وللزعيمين الزنجيين: مارتن لوثر كنج، وملكوم إكس..
ولكن ما هي الدوافع والأهداف الأمريكية الصهيونية من وراء هذا المخطط...؟
أولا: خريف الغضب في أوربا وأمريكا ليس حديث خرافة ولا هزل فيه؛ فقد بدأت الشعوب في دول الغرب تدرك أن النظم المالية الرأسمالية المسيطرة تحابي الأغنياء على حساب الفقراء، وأن النظم السياسية ليست أكثر من أداة في يد أصحب المال والبنوك تستخدم القوانين والضرائب وقوات الأمن لتسخير الدولة في خدمة الأغنياء، ومن ثم فإن انتشار البطالة وغلاء المعيشة وانسداد الأمل في مستقبل أفضل ليس حالة طارئة ستزول.. أو نتيجة أخطاء في سياسات أحزاب أو حكومات سرعان ما يتم تصحيحها.. ولكنها أوضاع ترسّخت لحالة دائمة من انعدام العدالة الاجتماعية وتهميش مقصود للطبقات المتوسطة وسحْقٌ مُمَنْهج للفقراء..
لاحظ هنا أن المظاهرات لم تعد تتوجه إلى المقار الحكومية كما اعتادت في الماضي القريب ولكنها تتوجه إلى أحياء المال والبنوك (في وول ستريت مثلا) حيث تتمركز السلطة الحقيقية الحاكمة .. لقد عرفت الشعوب أخيرا أصل الداء ومصدره.. و يُعتبر هذا تحوّلا خطيرا في اتجاهات الرأي العام الغربي.. وقد يفسر لنا هذا سر العنف غير المألوف الذي تواجه به قوات الأمن الحكومية المتظاهرين السلميين .. كما يفسر الكثرة غير المبررة لعدد المعتقلين.. في مشهد يذكرنا بموقف الحكومات القمعية من المتظاهرين في بلاد العالم الثالث.. (اقرأ إن شئت سلسلة مقالاتي: "الإنسان في عالم التكتلات الاحتكارية"، فستجد فيها إرهاصات لهذه التحوّلات في الرأي العام الغربي تجاه الفساد المالي.. وضد الانحياز للقلة المتحكمة في النظام الاقتصادي العالمي.. واقرأ بعناية محتوى البيان العالمي لحملة «التوحد من أجل تغيير العالم» التي تدعو لتظاهرات سلمية ضد ما أسمته بدكتاتورية المؤسسات المالية.. وستجد أن كثيرا من مفرداتها قد تطرقتُ إليها بتفصيل منذ بضع سنوات في مقالات عديدة.. ولم يكن ذلك إلا بفضل من الله وهدايته...
ثانيا: الأزمة المالية الخانقة التي انتهى إليها الاقتصاد الأوربي والأمريكي، جُرّبت فيها كل العلاجات الممكنة في الترسانة الاقتصادية ولم تنجح.. وما أظنها ستنجح على المدي القريب أو البعيد.. لقد وصل الاقتصاد الغربي القائم على القروض والفوائد إلى طريق مسدود.. وهذا اقتناع أصبح راسخا في عقول الحكومات الغربية لا تصرّح به.. وفي عقول المراقبين والمحللين .. ولذلك تتجه أمريكا إلى علاجات غير تقليدية للخروج من الكارثة: حرب عالمية جديدة.. قد تشتعل ابتداءً في باكستان أو في الخليج كما أشرت.. حرب تمكُنها من السطو على موارد الطاقة والموارد الطبيعية الأخرى والأموال المودعة والمستثمرة في بلادها.. وبصفة خاصة الاستيلاء على الذهب، بتشريعات وقوانين جديدة [قادمة على الطريق لا محالة].. وسيعرف العالم حينذاك معنى " الفاشية الناعمة" التي تتجه إليها أمريكا والغرب.. وقد كتبتُ عنها منذ بضع سنوات مضت..
ثالثا: إذا نجحت أمريكا في إشعال الحرب بين إيران ودول الخليج فلن تشترك فيها بقوات برية.. لن تكرر خطأها الفاحش في أفغانستان والعراق.. ولن تنفق دولارا واحدا في هذه الحرب.. فسوف تتحمل دول الخليج نفقاتها كاملة.. وتكتوي شعوبها وشعوب المنطقة بنيرانها وكوارثها .. ولكن هذا لا يمنع أن تشترك أمريكا وإسرائيل بصواريخها الموجهة وبقذائفها المدمرة.. وسيكون على رأس أهدافها المفاعلات النووية ومنظومة الصواريخ الإيرانية.. لا لأن إيران تملك قوة نووية كما تملك باكستان.. ولكن للقضاء على أي احتمال أن تملك هذه القوة في المستقبل القريب أو البعيد.. ولا ننسى أن مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية السابقة (في عهد كلينتون) قالت في ردها على سؤال صحفي أثار غضبها بإلحاحة وجداله.. معترضا على استهداف إيران رغم أن كل الأدلة تشير إلى أنها لا تملك أسلحة نووية ولا تقوم بصناعتها..
فقالت غاضبة: نحن –أصلا- لا نريد أن تمتلك إيران [التكنولوجيا] النووية..! فلتة لسان كاشفة.. كما تعلمنا من النمساوي "سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي الشهير...
رابعا: ما يثير العجب والدهشة عند البعض أن أمريكا تحت تأثير أزمتها المالية الخانقة.. والتي تعلم أنها لم تعد تملك في حوزتها ولا في مواردها حلا سلميا لانهيارها الاقتصادي الوشيك، والتي لا تزال متورطة في حرب العراق وأفغانستان.. تجهّز لحرب على ثلاثة دول أخرى من أكبر الدول المسلمة (مرة واحدة) هي مصر وباكستان وإيران..
ولا يستغرب القارئ أنني أضفت مصر إلى القائمة المستهدفة أمريكيا.. فأمريكا بالفعل تشن على مصر حربا من نوع مختلف قليلا.. فكل ماتفعله أمريكا في مصر: [الإغواء والرشوة واللعب بالمعونات والقروض والجاسوسية وشراء الضمائر الميتة] هو حرب خسيسة ضد الشعب المصري وضد ثورته وضد مستقبله الديمقراطي.. وهي تستخدم في حربها جيشا من المصريين، يقومون بالحرب نيابة عنها.. كما تستعين بأنظمة حكم عربية تعيش حالة من الذعر خوفا من انتقال الثورة إلى بلادهم.. وتنتهز أمريكا في تنفيذ مخططاتها ضعف وتشوّش السلطة القائمة الآن في مصر.. والتي تتصرف وكأنها مكبّلة اليد والقدم والدماغ.. أشبه ما يكون بحالة شلل.. أغرت بنيامين نتنياهو أن يعتقد أن هذه السلطة –على حدّ قوله- تمثل "نافذة فرص" لأنه لا يعلم كيف سيكون تعامل السلطات المصرية في أعقاب تلك الانتخابات القادمة، مع قيام الإسلاميين بالترشح فيها...
هاجس إسرائيل هو هاجس أمريكا ولذلك ينتهزان الفرصة القائمة قبل أن يلحق بها التغيير غير المضمون.. والأمر في باكستان وإيران ليس بعيدا عن الصورة المصرية فيما يتعلق بالحكومات الضعيفة المتورّطة في الخطايا والفساد.. والتي تتمتع بقدر غير قليل من الغباء..
وكل هذا يشجع أمريكا وإسرائيل على تسريع خطواتها نحو استدراج هذه الدول لحروب سريعة تؤدي إلى سقوطها وتخريبها: من الداخل كما الحال في مصر.. أو من الخارج كما الحال بالنسبة لإيران وباكستان.. ودول الخليج.. وعندئذ تتداعى الشركات الأمريكية لإعادة بناء ما دمّرته الحرب...! الحجة الأزلية للنهب على أوسع نطاق.. ولعل أمريكا ترى في هذا النهب الواسع فرصتها الأخيرة للنجاة من الانهيار الاقتصادي الوشيك...!
وليس معنى هذا أن تنجح المخططات الأمريكية الإسرائيلية بالضرورة .. ولكننا ننبه إلى مخاطر الطريق.. خصوصا مع ضبابية الرؤى.. وغشاوة الأعين والأفئدة.. وظلمات تكتنف الضمائر.. وغياب الإضاءات الكاشفة على جانبي الطريق... نسأل الله النجاة من كيد الكائدين وتدبير الحاقدين، والله المستعان في كل وقت وحين..