الصعود :
يمثل صعود مجلس التعاون الخليجي أبرز مستجد إقليمي كشفت عنه الثورات العربية. فبينما كان المجلس ناشطا في ركن من النظام العربي في منطقة الخليج، ويعكس نجاحا لتجربة تعاون عربي فرعي وحيدة، وبينما ظل معنيا بالأساس بتطورات علاقاته البينية وبمستجدات علاقات دوله مع كل من العراق وإيران، أصبح مع الثورات في قلب المشهد العربي، وتحظي مواقفه وبيانات اجتماعاته -علي مستوي القمة أو علي المستوي الوزاري- بأكبر قدر من الاهتمام والمتابعة، ويكاد يرسخ القناعة بأنه يرث النظام العربي الذي تمركز حول جامعة الدول العربية لعقود، ويهدد باقتلاعه من مكانه الرسمي بالقاهرة، ويكاد مركز الثقل العربي ينتقل سياسيا وجغرافيا إلي الخليج، بعدما انتقل اقتصاديا وإعلاميا منذ سنوات.
لقد أكد ذلك كله نجاح المجلس في جعل نفسه همزة وصل بين مفاصل عمليات التغيير العربية الراهنة، عبر سلسلة من المبادرات الاستراتيجية في الإقليم، وإعطاء الإحساس بأنه النظام الفرعي الوحيد الذي لا تزال وحداته السياسية تتحكم بمفاصل التغيير في الداخل، ولم تخرج الأمور من يدها بعد، بينما خرجت من يد الأنظمة العربية جميعها، أو في سبيلها للخروج. إنه المنظومة العربية الوحيدة التي لا تزال دولها تؤكد وجودها الحقيقي كدول لديها القدرة علي الاختيار والفعل في الداخل، وعلي تطبيق سياسات خارجية نشطة، مع أنظمة حكم لا يزال لديها القدرة علي طرح المبادرات، بعدما أكد واقع الحال اهتراء الدولة العربية، التي عجزت عن الحركة، ووقعت صرعي للثورات. لقد تزعمت أنظمة دول المجلس موجة ثورات مضادة استبقت الثورات الأصلية، وكبحت أفكار الثورة في العقول قبل أن تنزل إلي أرض الواقع. لذلك، لم يكن غريبا أن يكون الصعود الخليجي، إقليميا، هو المشهد الطاغي علي كل المشاهد العربية في ظل موجة الثورات. هكذا، تثبت أنظمة الخليج، التي كثيرا ما وقف منها أغلب القوميين العرب موقف التوجس -والعداء أحيانا- أنها الوحيدة التي تحركت بكفاءة وفعالية عند الخطر.
أهداف الدور :
إذا اقتصرنا علي تقييم خطوات دول مجلس التعاون الخليجي من منظور تحقيق الأهداف الخاصة بحماية الأنظمة وتفادي موجة الثورات، عبر خيارات وبدائل عقلانية، وليس من المنظور الأخلاقي القيمي أو الإصلاحي الديمقراطي، فسنجد أن التحليلات بشأن التوسع والصعود الإقليمي لمجلس التعاون الخليجي تراوحت بين ثلاثة أهداف:
أولا- الهدف الإحلالي: الذي أرجع التحركات النشطة لدول المجلس إلي أن هذه الدول استشعرت تراجع الدور الإقليمي لمصر إثر ثورة 25 يناير، التي توقعت أن تفرض علي القاهرة فترة من التركيز في الداخل، ومن ثم سعت دول المجلس إلي تعبئة الفراغ السياسي والأمني العربي مع غياب مصر المؤقت، حيث كان علي المجموعة الخليجية القيام بمسئولياتها القومية. ولعل ذلك ما دفع البعض للحديث عما لمسه من "تطور في إعادة صياغة الدور الذي تلعبه دول مجلس التعاون". وفقا لذلك، كان احتلال دول المجلس قلب التفاعلات العربية بهدف التعويض عن غياب الدور المصري والإحلال محله. فلا يمكن لدول المجلس - وخصوصا السعودية - أن تنسي ما فرضته ثورة 23 يوليو 1952 من أثر في الواقع العربي في الخمسينيات والستينيات، حين قسم عبد الناصر العالم العربي إلي أنظمة محافظة "رجعية"، وأخري راديكالية، وتواجهت الاثنتان مباشرة في اليمن، ومن ثم تدرك جيدا أن كل ثورة لها انعكاساتها التي قد تمتد لسنين، وقد توقعت فترة من القلق القادم من القاهرة إثر الثورة. وضمن هذا الإطار أيضا، ربما استشعرت دول المجلس احتمال تعرض علاقتها مع الحليف الأمريكي لبعض الاضطراب، إثر ما بدا من تشجيع واشنطن للثورات العربية، وموقفها "الملتبس" إزاء اضطرابات البحرين.
ثانيا- الهدف الاستباقي: الذي أحال الصعود الإقليمي لمجلس التعاون الخليجي إلي مسعي من جانب دوله للتحرك الدفاعي والأمني الهادف إلي تسييج المجلس عبر بناء سور واق يحول دون سقوط أي من أنظمته، ومن ثم ينظر إلي تحركاتها في سياق ذلك الهدف كرد فعل محسوب بهدف أمني ودفاعي بالأساس. لقد تحركت دول المجلس وهي تسابق الزمن عبر مبادرات اتسمت بالديناميكية والحيوية، وفرضت حضورها علي الساحة بحد مكنها من السيطرة علي المشهد الداخلي، بينما كانت الأنظمة العربية الأخري تتهاوي علي وقع ضربات الثورات الشعبية، والعجز عن طرح مبادرة، أو اغتنام أي فرصة. ويكفي الإشارة مثلا إلي قرار دول المجلس الدعوة إلي تدخل دولي في ليبيا، وإدارتها بكفاءة عالية توازنات محسوبة في اليمن، بما يحقق مصالحها، وقرار المجلس تدخل قوات درع الجزيرة في البحرين، وأخيرا قرار توسيع عضوية مجلس التعاون لتشمل كلا من الأردن والمغرب.
ثالثا- الهدف الإغراقي: وطبقا له، يمكننا عزو الاندفاعة الخليجية في الواقع العربي إلي معركة الصراع والتنافس علي قلب وعقل المواطن الخليجي، في سعي لإجهاض عقلية الثورة، من خلال سلسلة مبادرات جريئة علي الجبهات الخارجية، تشتت طاقة الثورة في الداخل. لقد أرهقت مبادرات المجلس السريعة المواطن الخليجي بحد ربما اختطف الأضواء من مشهد الثورات العربية، وأنهي الاستسلام الرسمي لها. حيث أشعرت التفاعلات النشطة لدول المجلس بأن الثورات ليس فقط بالإمكان تفاديها، بل بصعوبة نجاحها علي الأقل في الأمد القصير. وربما كان ذلك هو المستهدف الأول من وراء عملية التنشيط التي مارستها دول المجلس. ويمكن تصور المنطق الخليجي بأنه إذا ترك الفراغ للثورات لتختطف المواطن، فإنها لا محالة واقعة في الخليج، ومن ثم كان التفكير في إبعاد المواطن عن متابعة مشهد الثورات، عبر سلسلة مبادرات، تنتهي بإجهاض أحلام الثورة التي تراود البعض من مواطني دول المجلس، وإعادة المواطن إلي التفكير العقلاني بالمنطق الاستثنائي للخليج. وفي الحقيقة، فقد مكنت المبادرات السريعة لدول المجلس من تجاوز الفترة الأصعب الخاصة بتبديد القناعات الشعبية بقيمة الثورة، علي الأقل في دولة القلب في الجزيرة (المملكة العربية السعودية). وهكذا، قبل أن يحصر المواطن الخليجي تركيزه في مربع الداخل، فاجأته أنظمته بالتحرك في دوائر أوسع أفقدته القدرة علي التفكير في الوضع الداخلي.
ومهما يكن من تفسير لحالة الصعود الإقليمي لدول مجلس التعاون الخليجي، فإنه ليس منقطع الصلة بحقبة ما قبل الثورات العربية، التي برزت فيها منطقة الخليج، باعتبارها بؤرة ثقل النظام العربي. ويكفي الإشارة هنا إلي المبادرات السعودية والقطرية في الشئون العربية علي امتداد السنوات الماضية. ومع ذلك، فإن الهدف الأساسي لخطوات المجلس الراهنة - وفي حقبة ما بعد الثورات العربية - داخلي بالأساس. فحتي لو كانت دول المجلس تهدف إلي توجيه رسائل إقليمية أو دولية، فإن جميعها يتركز حول التعامل مع ردات فعل الثورات العربية داخليا. إن ذكاء دول المجلس في أنها كرست كل تحركاتها لهدف حماية الأنظمة، فكان قلب استراتيجيتها محدد الهدف، برغم تعدد السياسات والتكتيكات. ولأجل نجاح الاستراتيجية الموجهة بالهدف، وظفت كل الأطر الإقليمية المحيطة، مستفيدة من قوي الضغط التي بحوزتها. وهكذا، فإن الخطوة، التي استهدفت دول المجلس منها دفع الأخطار، لم تنته فقط إلي تحقيق الهدف، وإنما أيضا إلي تعظيم المكانة الإقليمية، علي نحو مثل رصيدا إضافيا لها في دفع الأخطار.
رؤية للثورات :
يتجلي التعامل الخليجي مع الثورات العربية فيما بدا أشبه بتقسيم استراتيجي للواقع العربي، في ظل الثورات، إلي بؤر متعددة. إن المبدأ العام أنه إذا خيرت دول المجلس بين الثورة في أي بلد عربي وعدم الثورة، فإنها لا محالة تفضل الخيار الأخير، وترفض الإطاحة بأي نظام عربي عبر فعل ثوري، مهما يكن من طبيعة النظام الحاكم في هذا البلد، وحتي لو كانت تعاديه. ولكن بحكم الواقع الجديد، بدا أن دول المجلس تعاملت مع منطق الثورات العربية قطعة قطعة، من خلال خريطة مجزأة تتضمن تقسيما استراتيجيا واضحا علي النحو التالي:
1- مركز الثورات: ويشمل كلا من مصر وتونس. كان الهدف الخليجي في كلتا الدولتين متمثلا في تجنب تعريض هيبة الحاكم في البلدين -وخصوصا في مصر - لأي ضرر أو إهانة، خشية استنساخ نموذج إهانة الرؤساء، بما يحمله من إسقاطات سياسية في الداخل الخليجي. ولذلك، لم يكن غريبا أن تستضيف السعودية الرئيس "بن علي"، أو أن تعرض خمس من دول الخليج استضافة الرئيس مبارك لديها، في ظل عنفوان الثورة في مصر. في "مركز الثورات"، حرصت دول المجلس علي تجنيب نفسها أثر الثورة، من خلال الاستفادة من جوانب الفشل التي وقع فيها النظامان، عبر تطوير ردود فعل سريعة وجريئة، من خلال سلسلة مبادرات في الداخل تزلزل العقول والقلوب. ومن ناحية أخري، سعت إلي استثمار مشاهد القلق الداخلية بدول الثورات في ترسيخ القناعة ضد الثورة لدي مواطنيها، وحيازة مكاسب في الأرضية السلفية بدول الثورات، تمكن من إفساح مساحة من التفكير للمواطن الخليجي في مشاهد الاضطراب الداخلية التي لا يتصور حجمها في دول المجلس - فيما لو وقعت بها الثورة - علي خلفية تركيباتها الاجتماعية المشكلة من "موزاييك" سكاني قبلي وطائفي ووافد. وفي الوقت نفسه، عملت علي دعم النظام الجديد الذي أفرزته الثورات، بهدف مسح موقفها المساند للنظام السابق، وبناء جسور مع الواقع الجديد. هنا، تحركت دول المجلس ببراجماتية عالية، أكدت قدرتها علي كسب التحالفات. لقد تمكنت السعودية بسرعة من محو حقيقة تأييدها لنظام مبارك، عبر إعلان دعمها المالي لمصر الثورة. ساعد علي ذلك ما يتوافر للمملكة من رصيد شعبي مهم في مصر، واستعداد المواطن المصري لتفهم موقف المملكة، في ضوء سلسلة مواقفها المميزة في السابق.
2- ثورة ليبيا: لا تمتلك دول المجلس رصيدا إيجابيا مع النظام الليبي، وقد ظلت خلافات السعودية مع نظام القذافي في السنوات الأخيرة، كان أبرز معالمها الكشف عن مؤامرة النظام الليبي لاغتيال الملك عبد الله بن عبد العزيز، ومن ثم ليس لدي دول المجلس أي مصلحة في بقاء نظام القذافي. لذلك، عبر التحرك الخليجي إزاء ثورة ليبيا منذ اليوم الأول عن أن دول المجلس قد تبرأت من القذافي مقابل الاحتفاظ بعلاقاتها بالنظام الدولي. وبدا الخوف من استنساخ إهانة الحاكم المصري، مختلفة تماما عن حالة القذافي، الذي لم يبد أن أي دولة خليجية عرضت استضافته. كما بدا أن دول المجلس رأت أن إهانة القذافي - أو إزاحته بأسلوب مهين - مسألة لا تمت لها بصلة، ولم تكتف دول المجلس بتعبئة التحرك الدولي لفرض منطقة حظر جوي في ليبيا، بل فعلت أيضا هذا الطلب في الجامعة العربية، ولم تسع لمنع إحدي دولها (قطر) حين أرسلت طائراتها للإسهام في حملة الناتو علي الجماهيرية. هكذا، وجدت دول المجلس نفسها - بحكم الضرورة - مضطرة إلي تأييد عملية الإطاحة بالزعيم الليبي، وربما ينطوي تأييدها لذلك أيضا علي مسعي لحرف الثورات العربية عن أن تكون شعبية خالصة، وربطها بالفعل الخارجي، مما لا يصب في مصلحة التغيير الشعبي بفعل الثورات في الخليج.
3- ثورة سوريا: علي الرغم من تحالفات سوريا الإقليمية، ومع إيران تحديدا، لا ترغب دول المجلس -ولم تعبر بشكل عام عن رغبتها- في رؤية سقوط النظام السوري. إن بقاء نظام بشار الأسد مكلف لدول المجلس علي المستوي التكتيكي، لكن سقوطه بالثورة يتضمن تداعيات استراتيجية علي أنظمة الحكم، تماثل سقوط نظام مبارك. كلتا الحالتين تكرس نجاح الفعل الشعبي، وهو ما لا يمكن أن تستسيغه دول المجلس. لذلك تعاملت إزاء ثورة سوريا بشكل ملتبس. فليس هناك ردود فعل خليجية علي ما يجابهه نظام دمشق في الداخل إلا ما ندر، وبشكل مزدوج الرسالة بين النظام والشعب. ويبدو أن الموقف الخليجي من النظام السوري يتطور طبقا لتطور موازين القوي بين النظام والثورة. إن الخسارة الاستراتيجية التي يمكن أن تلحق بدول المجلس من سقوط النظام السوري بالثورة الشعبية تفوق أي خسارة ناتجة عن بقائه وبقاء علاقته مع إيران. وربما تكون الرغبة في بقاء النظام السوري أكبر ما يجمع دول المجلس بإيران منذ سنين (من دون قصد). ولكن بينما تصرح إيران بدعم النظام في دمشق، لا تستطيع دول المجلس فعل ذلك. ولا شك في أن موقف دول المجلس في ذلك محكوم بعدم الرغبة في عقد مقارنة بين موقفها من النظام الليبي وموقفها من النظام السوري، رغم أوجه التشابه بين الحالتين. ومن ثم، يبدو أن دول المجلس قررت أن تترك النظام السوري لذاته، فإما أن يكسب معركته الداخلية فيضيف إلي رصيد كبح الثورات العربية، أو يسقط بتكاليف داخلية كبري تزيد من سمك السور الواقي الذي تسعي لبنائه ضد الثورة الشعبية في الخليج.
4- ثورة اليمن: عملت دول المجلس علي الإمساك بورقة المبادرة بين النظام اليمني والثورة منذ اليوم الأول لها، وذلك بحكم الرابطة التاريخية والسياسية والجغرافية، وبحكم كون اليمن - علي نحو ما جري التعارف عليه - خاصرة الجزيرة العربية، ومن شأن أي اضطراب أو قلق فيه أن ينتقل إلي دول المجلس، أو علي الأقل يترك تداعياته الخطيرة عليها. لذلك، كان إخلاء المسرح السياسي لمجلس التعاون في اليمن من الأمور التي جري التوافق عليها - فيما يبدو - مع القوي الكبري، التي سمحت لدول المجلس بتسجيل نقاط إيجابية بإطالة الفعل الثوري وتبطئته، والاستفادة لأقصي مدي من الحالة اليمنية في تأكيد استقرار شرعيتها في الداخل، وفي الإمساك بشبكة التفاعلات اليمنية الداخلية علي نحو يضمن حفظ التوازنات في أي تغيير مقبل، ولا يؤدي إلي تغييرات دراماتيكية تحدث اضطرابات بالجوار الخليجي. ويبدو أن تكتيكات المناورة من جانب الرئيس علي صالح، بشأن مبادرة مجلس التعاون في اليمن، لاقت قبولا ورضا خليجيين غير معلنين، حيث استنفدت أشهرا مكنت من استهلاك طاقة الثورات بالخليج. ويبدو أن وتيرة وإيقاع التقدم في المبادرة الخليجية بشأن اليمن كان يتم الإمساك بهما جيدا من قبل دول المجلس. وربما يمكن تصور مصلحتها في إطالة التفاوض حول المبادرة لأقصي مدي ممكن، وعدم ظهور الرئيس علي صالح بموقف الخائف الذي يتنحي ويترك السلطة بسرعة وبشكل مهين. كان الهدف العمل علي خروجه بأقصي قدر من الجسارة، بعد تمتين الواقع اليمني لما بعد اختفائه، وبقاء التحالفات اليمنية كمصدات عن الخليج لأطول فترة، وإنهاك مطالب الثوار، وإظهار أن أي معركة ثورة في الخليج ستكون لها مشكلاتها الهائلة ولن تتم بسهولة، وربما يحقق الخروج "اللاتوافقي" للرئيس علي صالح - بالشكل الذي جري به- أهدافا كثيرة لدول المجلس.
5- ثورات الخليج: شهدت البحرين وسلطنة عمان علي وجه الخصوص، أشكالا احتجاجية وبؤرا ثورية في قلب مجلس التعاون الخليجي. وفيما يتعلق برقعة دول المجلس، فإن القرار الخليجي بدا قويا في استحالة السماح بسقوط أي من الأنظمة، واعتبار سقوط أحدها مقدمة لسقوطها جميعا. إن الأنظمة الخليجية تدرك جيدا مدي الصلة الوثيقة بينها كأسر حاكمة متماثلة من ناحية بنيان الحكم والسلطة وطبيعتهما، ومتقاربة من الناحية الفعلية من خلال التشابكات الأسرية والامتدادات العائلية والقبلية، والترابط بعلاقات المصاهرة، ومن ثم تقف بالمرصاد دون السماح لأي تغيير ثوري أو ثورة شعبية، ويرتفع ذلك إلي مرتبة القرار الموحد، وهو ما بدا من سلوكها تجاه اضطرابات البحرين، وإرسالها قوات درع الجزيرة التي ساعدت علي كبحها، وإعادة حالة الهدوء والاستقرار مجددا. كما بدت رغبة خليجية في توسيع دائرة "حزام الاستحالة"، من خلال قرار القمة التشاورية ال- 13 في الرياض في 10 مايو بقبول انضمام مملكتي الأردن والمغرب إلي المجلس، وهو ما يعني توسيع "حزام الاستحالة" ليشمل كل الممالك الوراثية في العالم العربي. وعلي الرغم مما أثاره القرار من ردود أفعال داخلية وإقليمية متفاوتة، فإنه عكس تحديد هدف وصياغة رؤية من جانب دول المجلس، بما مثل أول رد فعل إقليمي يعادل المكافئ الاستراتيجي لحدث الثورات العربية علي الصعيد الخليجي.
قرار التوسع :
من بين كل القرارات التي اتخذها مجلس التعاون الخليجي، عقب موجة الثورات - وربما منذ نشأة المجلس - يقف قرار قبول انضمام وعضوية مملكتي الأردن والمغرب كأحد أبرز القرارات، ويدل علي ذلك ليس فقط حجم ردود الأفعال علي القرار، والتي لم تتوقف منذ صدوره، وإنما أيضا حجم ما يطرحه من فرص ومكاسب، أو تهديدات وأخطار. لقد تباينت ردود الفعل علي القرار من جانب النخب الخليجية، ولم يكن غريبا أن يصل الخلاف في الآراء إلي حد الصراع، وأحيانا الاتهامات بالعنصرية والتجريح بالشتائم بين مثقفين خليجيين. فهل كان قرار المجلس متسرعا ومضطربا، أم عكس قدرة دوله علي الإمساك بمقاليد الأمور؟
حتي الآن، لم تتضح أبعاد القرار وأسرار صناعته واتخاذه، ودوافع الأنظمة الخليجية وراءه، رغم تبعاته الهائلة التي لا يمكن تصور أنها كانت غائبة عن فكر الأنظمة الخليجية. وعلي الرغم من بعض التفسيرات التي تحدثت عن "تحالف الملكيات"، أو "حلف العروش"، أو "نادي الملكيات السنية"، فإنه يصعب الكشف عما دار بفكر صناع القرار الخليجيين ودفعهم لاتخاذه. لقد أثار القرار ردود أفعال متباينة، الأقلية من مثقفي الخليج تحدثت عن مزاياه ورحبت به، بينما رفضته الأغلبية، أو انتقدته وتحفظت عليه، إما لطريقة اتخاذه علي نحو مفاجئ دون استفتاء المواطنين، أو أخذ آرائهم في الحسبان، في ظل حقبة يفترض أنها تعلي من شأن الشعوب والديمقراطية، (وفيما يبدو أن أغلبية المواطنين ترفضه)، أو لما يتوقع له من آثار اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، أو لمدي تطابقه مع النظام الأساسي للمجلس. لكن بغض النظر عن كل هذه الآراء، فإن صدور القرار لا يعني نجاح تطبيقه من الناحية الواقعية (فقد لا يكون حظه أفضل من حظ إعلان دمشق بين دول المجلس ومصر وسوريا سنة 1991)، ولأنه حتي الآن لم يعرف مضمون القرار، وطبيعة العضوية التي سوف تمنح للدولتين، ومدي قدرة القيادات الخليجية علي السير فيه، إذا تبلورت اعتراضات ومواقف رفض جادة بالداخل تهدد بالتطور إلي ممارسات عنف. وأخيرا، فإن الأخطر من كل ذلك ما أدخلته مملكتا المغرب والأردن من إصلاحات سياسية أخيرا تقربهما من الملكيات الدستورية، فهل يمكن لدول مجلس التعاون - والسعودية تحديدا - أن تستوعب هذا التغيير؟!
وباختصار، هناك محطات كثيرة يمكن للقرار أن يواجه فيها مصاعب جمة قبل تحققه، وأحد الاحتمالات أن يتعطل عند إحداها، قبل أن يصل لمحطة النهاية. ويؤيد ذلك أن ثلاث دول خليجية تحفظت علي القرار، وهي سلطنة عمان وقطر والكويت. وأخذا في الحسبان أنه في بلد كالكويت مثلا، يوجد مجلس الأمة الذي هدد بعض أعضائه بإسقاط القرار فيه، لذلك فإن التفكير في القرار بترو يدفع إلي تواضع التفاؤل باحتمال وصوله إلي منتهاه. وما يمكن توقعه أن ينال أي تراجع لموجة الثورات الراهنة من الزخم الذي حظي به القرار، كما يمكن أن يتوقف القرار عند حدود بناء تحالف من نوعية خاصة بين السعودية والأردن والمغرب، يتضمن تمتين التحالف الدفاعي الأمني بين بيوت الحكم السعودي والهاشمي والعلوي لتكون معا محورا للدفاع عن الملكيات الوراثية، ويتضمن بالمقابل علاقة اقتصادية خاصة بين السعودية والمملكتين تشدهما إلي مستوي الأمان. وتفيد التقارير بأن الروابط الأمنية والدفاعية قائمة بالفعل بين دول الخليج وكل من المملكتين الأردنية والمغربية، وأن كلتيهما كانت قد أرسلت عناصر من قواتها الأمنية للخليج منذ عقود. ويتردد أن هناك خبرة مشتركة واطمئنانا خليجيا لمؤسستين دفاعيتين وأمنيتين سنيتين، مقابل ما تستشعره دول المجلس من خطر شيعي.
خاتمة :
يتضح مما سبق أن دول مجلس التعاون الخليجي هي الوحيدة في النظام العربي التي تمكنت من صياغة رؤية استراتيجية في ظل الثورات العربية وهي رؤية لها أبعادها وأهدافها، وإيجابياتها وسلبياتها. وعلي الرغم من سرعة الحدث الثوري والتداعيات التي لم تترك للأنظمة فسحة من الوقت، وأصابت مؤسسات صناعة القرار العربية بما يشبه الشلل في المركز، فقد أثبتت دول المجلس أنها الوحيدة التي تجنبت هذه الحالة، ووقفت مؤسسات صناعة القرار بها تتصدي للعواصف دون أن تفقد الرؤية، وعلي الأقل فإنها طرحت مبادرات لا تتسم بسوء التقدير، أو بعدم القدرة علي القراءة والفهم أو بالغباء، وإنما مبادرات ترقي إلي مستوي وجدارة الخلاف عليها وحولها.
يمثل صعود مجلس التعاون الخليجي أبرز مستجد إقليمي كشفت عنه الثورات العربية. فبينما كان المجلس ناشطا في ركن من النظام العربي في منطقة الخليج، ويعكس نجاحا لتجربة تعاون عربي فرعي وحيدة، وبينما ظل معنيا بالأساس بتطورات علاقاته البينية وبمستجدات علاقات دوله مع كل من العراق وإيران، أصبح مع الثورات في قلب المشهد العربي، وتحظي مواقفه وبيانات اجتماعاته -علي مستوي القمة أو علي المستوي الوزاري- بأكبر قدر من الاهتمام والمتابعة، ويكاد يرسخ القناعة بأنه يرث النظام العربي الذي تمركز حول جامعة الدول العربية لعقود، ويهدد باقتلاعه من مكانه الرسمي بالقاهرة، ويكاد مركز الثقل العربي ينتقل سياسيا وجغرافيا إلي الخليج، بعدما انتقل اقتصاديا وإعلاميا منذ سنوات.
لقد أكد ذلك كله نجاح المجلس في جعل نفسه همزة وصل بين مفاصل عمليات التغيير العربية الراهنة، عبر سلسلة من المبادرات الاستراتيجية في الإقليم، وإعطاء الإحساس بأنه النظام الفرعي الوحيد الذي لا تزال وحداته السياسية تتحكم بمفاصل التغيير في الداخل، ولم تخرج الأمور من يدها بعد، بينما خرجت من يد الأنظمة العربية جميعها، أو في سبيلها للخروج. إنه المنظومة العربية الوحيدة التي لا تزال دولها تؤكد وجودها الحقيقي كدول لديها القدرة علي الاختيار والفعل في الداخل، وعلي تطبيق سياسات خارجية نشطة، مع أنظمة حكم لا يزال لديها القدرة علي طرح المبادرات، بعدما أكد واقع الحال اهتراء الدولة العربية، التي عجزت عن الحركة، ووقعت صرعي للثورات. لقد تزعمت أنظمة دول المجلس موجة ثورات مضادة استبقت الثورات الأصلية، وكبحت أفكار الثورة في العقول قبل أن تنزل إلي أرض الواقع. لذلك، لم يكن غريبا أن يكون الصعود الخليجي، إقليميا، هو المشهد الطاغي علي كل المشاهد العربية في ظل موجة الثورات. هكذا، تثبت أنظمة الخليج، التي كثيرا ما وقف منها أغلب القوميين العرب موقف التوجس -والعداء أحيانا- أنها الوحيدة التي تحركت بكفاءة وفعالية عند الخطر.
أهداف الدور :
إذا اقتصرنا علي تقييم خطوات دول مجلس التعاون الخليجي من منظور تحقيق الأهداف الخاصة بحماية الأنظمة وتفادي موجة الثورات، عبر خيارات وبدائل عقلانية، وليس من المنظور الأخلاقي القيمي أو الإصلاحي الديمقراطي، فسنجد أن التحليلات بشأن التوسع والصعود الإقليمي لمجلس التعاون الخليجي تراوحت بين ثلاثة أهداف:
أولا- الهدف الإحلالي: الذي أرجع التحركات النشطة لدول المجلس إلي أن هذه الدول استشعرت تراجع الدور الإقليمي لمصر إثر ثورة 25 يناير، التي توقعت أن تفرض علي القاهرة فترة من التركيز في الداخل، ومن ثم سعت دول المجلس إلي تعبئة الفراغ السياسي والأمني العربي مع غياب مصر المؤقت، حيث كان علي المجموعة الخليجية القيام بمسئولياتها القومية. ولعل ذلك ما دفع البعض للحديث عما لمسه من "تطور في إعادة صياغة الدور الذي تلعبه دول مجلس التعاون". وفقا لذلك، كان احتلال دول المجلس قلب التفاعلات العربية بهدف التعويض عن غياب الدور المصري والإحلال محله. فلا يمكن لدول المجلس - وخصوصا السعودية - أن تنسي ما فرضته ثورة 23 يوليو 1952 من أثر في الواقع العربي في الخمسينيات والستينيات، حين قسم عبد الناصر العالم العربي إلي أنظمة محافظة "رجعية"، وأخري راديكالية، وتواجهت الاثنتان مباشرة في اليمن، ومن ثم تدرك جيدا أن كل ثورة لها انعكاساتها التي قد تمتد لسنين، وقد توقعت فترة من القلق القادم من القاهرة إثر الثورة. وضمن هذا الإطار أيضا، ربما استشعرت دول المجلس احتمال تعرض علاقتها مع الحليف الأمريكي لبعض الاضطراب، إثر ما بدا من تشجيع واشنطن للثورات العربية، وموقفها "الملتبس" إزاء اضطرابات البحرين.
ثانيا- الهدف الاستباقي: الذي أحال الصعود الإقليمي لمجلس التعاون الخليجي إلي مسعي من جانب دوله للتحرك الدفاعي والأمني الهادف إلي تسييج المجلس عبر بناء سور واق يحول دون سقوط أي من أنظمته، ومن ثم ينظر إلي تحركاتها في سياق ذلك الهدف كرد فعل محسوب بهدف أمني ودفاعي بالأساس. لقد تحركت دول المجلس وهي تسابق الزمن عبر مبادرات اتسمت بالديناميكية والحيوية، وفرضت حضورها علي الساحة بحد مكنها من السيطرة علي المشهد الداخلي، بينما كانت الأنظمة العربية الأخري تتهاوي علي وقع ضربات الثورات الشعبية، والعجز عن طرح مبادرة، أو اغتنام أي فرصة. ويكفي الإشارة مثلا إلي قرار دول المجلس الدعوة إلي تدخل دولي في ليبيا، وإدارتها بكفاءة عالية توازنات محسوبة في اليمن، بما يحقق مصالحها، وقرار المجلس تدخل قوات درع الجزيرة في البحرين، وأخيرا قرار توسيع عضوية مجلس التعاون لتشمل كلا من الأردن والمغرب.
ثالثا- الهدف الإغراقي: وطبقا له، يمكننا عزو الاندفاعة الخليجية في الواقع العربي إلي معركة الصراع والتنافس علي قلب وعقل المواطن الخليجي، في سعي لإجهاض عقلية الثورة، من خلال سلسلة مبادرات جريئة علي الجبهات الخارجية، تشتت طاقة الثورة في الداخل. لقد أرهقت مبادرات المجلس السريعة المواطن الخليجي بحد ربما اختطف الأضواء من مشهد الثورات العربية، وأنهي الاستسلام الرسمي لها. حيث أشعرت التفاعلات النشطة لدول المجلس بأن الثورات ليس فقط بالإمكان تفاديها، بل بصعوبة نجاحها علي الأقل في الأمد القصير. وربما كان ذلك هو المستهدف الأول من وراء عملية التنشيط التي مارستها دول المجلس. ويمكن تصور المنطق الخليجي بأنه إذا ترك الفراغ للثورات لتختطف المواطن، فإنها لا محالة واقعة في الخليج، ومن ثم كان التفكير في إبعاد المواطن عن متابعة مشهد الثورات، عبر سلسلة مبادرات، تنتهي بإجهاض أحلام الثورة التي تراود البعض من مواطني دول المجلس، وإعادة المواطن إلي التفكير العقلاني بالمنطق الاستثنائي للخليج. وفي الحقيقة، فقد مكنت المبادرات السريعة لدول المجلس من تجاوز الفترة الأصعب الخاصة بتبديد القناعات الشعبية بقيمة الثورة، علي الأقل في دولة القلب في الجزيرة (المملكة العربية السعودية). وهكذا، قبل أن يحصر المواطن الخليجي تركيزه في مربع الداخل، فاجأته أنظمته بالتحرك في دوائر أوسع أفقدته القدرة علي التفكير في الوضع الداخلي.
ومهما يكن من تفسير لحالة الصعود الإقليمي لدول مجلس التعاون الخليجي، فإنه ليس منقطع الصلة بحقبة ما قبل الثورات العربية، التي برزت فيها منطقة الخليج، باعتبارها بؤرة ثقل النظام العربي. ويكفي الإشارة هنا إلي المبادرات السعودية والقطرية في الشئون العربية علي امتداد السنوات الماضية. ومع ذلك، فإن الهدف الأساسي لخطوات المجلس الراهنة - وفي حقبة ما بعد الثورات العربية - داخلي بالأساس. فحتي لو كانت دول المجلس تهدف إلي توجيه رسائل إقليمية أو دولية، فإن جميعها يتركز حول التعامل مع ردات فعل الثورات العربية داخليا. إن ذكاء دول المجلس في أنها كرست كل تحركاتها لهدف حماية الأنظمة، فكان قلب استراتيجيتها محدد الهدف، برغم تعدد السياسات والتكتيكات. ولأجل نجاح الاستراتيجية الموجهة بالهدف، وظفت كل الأطر الإقليمية المحيطة، مستفيدة من قوي الضغط التي بحوزتها. وهكذا، فإن الخطوة، التي استهدفت دول المجلس منها دفع الأخطار، لم تنته فقط إلي تحقيق الهدف، وإنما أيضا إلي تعظيم المكانة الإقليمية، علي نحو مثل رصيدا إضافيا لها في دفع الأخطار.
رؤية للثورات :
يتجلي التعامل الخليجي مع الثورات العربية فيما بدا أشبه بتقسيم استراتيجي للواقع العربي، في ظل الثورات، إلي بؤر متعددة. إن المبدأ العام أنه إذا خيرت دول المجلس بين الثورة في أي بلد عربي وعدم الثورة، فإنها لا محالة تفضل الخيار الأخير، وترفض الإطاحة بأي نظام عربي عبر فعل ثوري، مهما يكن من طبيعة النظام الحاكم في هذا البلد، وحتي لو كانت تعاديه. ولكن بحكم الواقع الجديد، بدا أن دول المجلس تعاملت مع منطق الثورات العربية قطعة قطعة، من خلال خريطة مجزأة تتضمن تقسيما استراتيجيا واضحا علي النحو التالي:
1- مركز الثورات: ويشمل كلا من مصر وتونس. كان الهدف الخليجي في كلتا الدولتين متمثلا في تجنب تعريض هيبة الحاكم في البلدين -وخصوصا في مصر - لأي ضرر أو إهانة، خشية استنساخ نموذج إهانة الرؤساء، بما يحمله من إسقاطات سياسية في الداخل الخليجي. ولذلك، لم يكن غريبا أن تستضيف السعودية الرئيس "بن علي"، أو أن تعرض خمس من دول الخليج استضافة الرئيس مبارك لديها، في ظل عنفوان الثورة في مصر. في "مركز الثورات"، حرصت دول المجلس علي تجنيب نفسها أثر الثورة، من خلال الاستفادة من جوانب الفشل التي وقع فيها النظامان، عبر تطوير ردود فعل سريعة وجريئة، من خلال سلسلة مبادرات في الداخل تزلزل العقول والقلوب. ومن ناحية أخري، سعت إلي استثمار مشاهد القلق الداخلية بدول الثورات في ترسيخ القناعة ضد الثورة لدي مواطنيها، وحيازة مكاسب في الأرضية السلفية بدول الثورات، تمكن من إفساح مساحة من التفكير للمواطن الخليجي في مشاهد الاضطراب الداخلية التي لا يتصور حجمها في دول المجلس - فيما لو وقعت بها الثورة - علي خلفية تركيباتها الاجتماعية المشكلة من "موزاييك" سكاني قبلي وطائفي ووافد. وفي الوقت نفسه، عملت علي دعم النظام الجديد الذي أفرزته الثورات، بهدف مسح موقفها المساند للنظام السابق، وبناء جسور مع الواقع الجديد. هنا، تحركت دول المجلس ببراجماتية عالية، أكدت قدرتها علي كسب التحالفات. لقد تمكنت السعودية بسرعة من محو حقيقة تأييدها لنظام مبارك، عبر إعلان دعمها المالي لمصر الثورة. ساعد علي ذلك ما يتوافر للمملكة من رصيد شعبي مهم في مصر، واستعداد المواطن المصري لتفهم موقف المملكة، في ضوء سلسلة مواقفها المميزة في السابق.
2- ثورة ليبيا: لا تمتلك دول المجلس رصيدا إيجابيا مع النظام الليبي، وقد ظلت خلافات السعودية مع نظام القذافي في السنوات الأخيرة، كان أبرز معالمها الكشف عن مؤامرة النظام الليبي لاغتيال الملك عبد الله بن عبد العزيز، ومن ثم ليس لدي دول المجلس أي مصلحة في بقاء نظام القذافي. لذلك، عبر التحرك الخليجي إزاء ثورة ليبيا منذ اليوم الأول عن أن دول المجلس قد تبرأت من القذافي مقابل الاحتفاظ بعلاقاتها بالنظام الدولي. وبدا الخوف من استنساخ إهانة الحاكم المصري، مختلفة تماما عن حالة القذافي، الذي لم يبد أن أي دولة خليجية عرضت استضافته. كما بدا أن دول المجلس رأت أن إهانة القذافي - أو إزاحته بأسلوب مهين - مسألة لا تمت لها بصلة، ولم تكتف دول المجلس بتعبئة التحرك الدولي لفرض منطقة حظر جوي في ليبيا، بل فعلت أيضا هذا الطلب في الجامعة العربية، ولم تسع لمنع إحدي دولها (قطر) حين أرسلت طائراتها للإسهام في حملة الناتو علي الجماهيرية. هكذا، وجدت دول المجلس نفسها - بحكم الضرورة - مضطرة إلي تأييد عملية الإطاحة بالزعيم الليبي، وربما ينطوي تأييدها لذلك أيضا علي مسعي لحرف الثورات العربية عن أن تكون شعبية خالصة، وربطها بالفعل الخارجي، مما لا يصب في مصلحة التغيير الشعبي بفعل الثورات في الخليج.
3- ثورة سوريا: علي الرغم من تحالفات سوريا الإقليمية، ومع إيران تحديدا، لا ترغب دول المجلس -ولم تعبر بشكل عام عن رغبتها- في رؤية سقوط النظام السوري. إن بقاء نظام بشار الأسد مكلف لدول المجلس علي المستوي التكتيكي، لكن سقوطه بالثورة يتضمن تداعيات استراتيجية علي أنظمة الحكم، تماثل سقوط نظام مبارك. كلتا الحالتين تكرس نجاح الفعل الشعبي، وهو ما لا يمكن أن تستسيغه دول المجلس. لذلك تعاملت إزاء ثورة سوريا بشكل ملتبس. فليس هناك ردود فعل خليجية علي ما يجابهه نظام دمشق في الداخل إلا ما ندر، وبشكل مزدوج الرسالة بين النظام والشعب. ويبدو أن الموقف الخليجي من النظام السوري يتطور طبقا لتطور موازين القوي بين النظام والثورة. إن الخسارة الاستراتيجية التي يمكن أن تلحق بدول المجلس من سقوط النظام السوري بالثورة الشعبية تفوق أي خسارة ناتجة عن بقائه وبقاء علاقته مع إيران. وربما تكون الرغبة في بقاء النظام السوري أكبر ما يجمع دول المجلس بإيران منذ سنين (من دون قصد). ولكن بينما تصرح إيران بدعم النظام في دمشق، لا تستطيع دول المجلس فعل ذلك. ولا شك في أن موقف دول المجلس في ذلك محكوم بعدم الرغبة في عقد مقارنة بين موقفها من النظام الليبي وموقفها من النظام السوري، رغم أوجه التشابه بين الحالتين. ومن ثم، يبدو أن دول المجلس قررت أن تترك النظام السوري لذاته، فإما أن يكسب معركته الداخلية فيضيف إلي رصيد كبح الثورات العربية، أو يسقط بتكاليف داخلية كبري تزيد من سمك السور الواقي الذي تسعي لبنائه ضد الثورة الشعبية في الخليج.
4- ثورة اليمن: عملت دول المجلس علي الإمساك بورقة المبادرة بين النظام اليمني والثورة منذ اليوم الأول لها، وذلك بحكم الرابطة التاريخية والسياسية والجغرافية، وبحكم كون اليمن - علي نحو ما جري التعارف عليه - خاصرة الجزيرة العربية، ومن شأن أي اضطراب أو قلق فيه أن ينتقل إلي دول المجلس، أو علي الأقل يترك تداعياته الخطيرة عليها. لذلك، كان إخلاء المسرح السياسي لمجلس التعاون في اليمن من الأمور التي جري التوافق عليها - فيما يبدو - مع القوي الكبري، التي سمحت لدول المجلس بتسجيل نقاط إيجابية بإطالة الفعل الثوري وتبطئته، والاستفادة لأقصي مدي من الحالة اليمنية في تأكيد استقرار شرعيتها في الداخل، وفي الإمساك بشبكة التفاعلات اليمنية الداخلية علي نحو يضمن حفظ التوازنات في أي تغيير مقبل، ولا يؤدي إلي تغييرات دراماتيكية تحدث اضطرابات بالجوار الخليجي. ويبدو أن تكتيكات المناورة من جانب الرئيس علي صالح، بشأن مبادرة مجلس التعاون في اليمن، لاقت قبولا ورضا خليجيين غير معلنين، حيث استنفدت أشهرا مكنت من استهلاك طاقة الثورات بالخليج. ويبدو أن وتيرة وإيقاع التقدم في المبادرة الخليجية بشأن اليمن كان يتم الإمساك بهما جيدا من قبل دول المجلس. وربما يمكن تصور مصلحتها في إطالة التفاوض حول المبادرة لأقصي مدي ممكن، وعدم ظهور الرئيس علي صالح بموقف الخائف الذي يتنحي ويترك السلطة بسرعة وبشكل مهين. كان الهدف العمل علي خروجه بأقصي قدر من الجسارة، بعد تمتين الواقع اليمني لما بعد اختفائه، وبقاء التحالفات اليمنية كمصدات عن الخليج لأطول فترة، وإنهاك مطالب الثوار، وإظهار أن أي معركة ثورة في الخليج ستكون لها مشكلاتها الهائلة ولن تتم بسهولة، وربما يحقق الخروج "اللاتوافقي" للرئيس علي صالح - بالشكل الذي جري به- أهدافا كثيرة لدول المجلس.
5- ثورات الخليج: شهدت البحرين وسلطنة عمان علي وجه الخصوص، أشكالا احتجاجية وبؤرا ثورية في قلب مجلس التعاون الخليجي. وفيما يتعلق برقعة دول المجلس، فإن القرار الخليجي بدا قويا في استحالة السماح بسقوط أي من الأنظمة، واعتبار سقوط أحدها مقدمة لسقوطها جميعا. إن الأنظمة الخليجية تدرك جيدا مدي الصلة الوثيقة بينها كأسر حاكمة متماثلة من ناحية بنيان الحكم والسلطة وطبيعتهما، ومتقاربة من الناحية الفعلية من خلال التشابكات الأسرية والامتدادات العائلية والقبلية، والترابط بعلاقات المصاهرة، ومن ثم تقف بالمرصاد دون السماح لأي تغيير ثوري أو ثورة شعبية، ويرتفع ذلك إلي مرتبة القرار الموحد، وهو ما بدا من سلوكها تجاه اضطرابات البحرين، وإرسالها قوات درع الجزيرة التي ساعدت علي كبحها، وإعادة حالة الهدوء والاستقرار مجددا. كما بدت رغبة خليجية في توسيع دائرة "حزام الاستحالة"، من خلال قرار القمة التشاورية ال- 13 في الرياض في 10 مايو بقبول انضمام مملكتي الأردن والمغرب إلي المجلس، وهو ما يعني توسيع "حزام الاستحالة" ليشمل كل الممالك الوراثية في العالم العربي. وعلي الرغم مما أثاره القرار من ردود أفعال داخلية وإقليمية متفاوتة، فإنه عكس تحديد هدف وصياغة رؤية من جانب دول المجلس، بما مثل أول رد فعل إقليمي يعادل المكافئ الاستراتيجي لحدث الثورات العربية علي الصعيد الخليجي.
قرار التوسع :
من بين كل القرارات التي اتخذها مجلس التعاون الخليجي، عقب موجة الثورات - وربما منذ نشأة المجلس - يقف قرار قبول انضمام وعضوية مملكتي الأردن والمغرب كأحد أبرز القرارات، ويدل علي ذلك ليس فقط حجم ردود الأفعال علي القرار، والتي لم تتوقف منذ صدوره، وإنما أيضا حجم ما يطرحه من فرص ومكاسب، أو تهديدات وأخطار. لقد تباينت ردود الفعل علي القرار من جانب النخب الخليجية، ولم يكن غريبا أن يصل الخلاف في الآراء إلي حد الصراع، وأحيانا الاتهامات بالعنصرية والتجريح بالشتائم بين مثقفين خليجيين. فهل كان قرار المجلس متسرعا ومضطربا، أم عكس قدرة دوله علي الإمساك بمقاليد الأمور؟
حتي الآن، لم تتضح أبعاد القرار وأسرار صناعته واتخاذه، ودوافع الأنظمة الخليجية وراءه، رغم تبعاته الهائلة التي لا يمكن تصور أنها كانت غائبة عن فكر الأنظمة الخليجية. وعلي الرغم من بعض التفسيرات التي تحدثت عن "تحالف الملكيات"، أو "حلف العروش"، أو "نادي الملكيات السنية"، فإنه يصعب الكشف عما دار بفكر صناع القرار الخليجيين ودفعهم لاتخاذه. لقد أثار القرار ردود أفعال متباينة، الأقلية من مثقفي الخليج تحدثت عن مزاياه ورحبت به، بينما رفضته الأغلبية، أو انتقدته وتحفظت عليه، إما لطريقة اتخاذه علي نحو مفاجئ دون استفتاء المواطنين، أو أخذ آرائهم في الحسبان، في ظل حقبة يفترض أنها تعلي من شأن الشعوب والديمقراطية، (وفيما يبدو أن أغلبية المواطنين ترفضه)، أو لما يتوقع له من آثار اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، أو لمدي تطابقه مع النظام الأساسي للمجلس. لكن بغض النظر عن كل هذه الآراء، فإن صدور القرار لا يعني نجاح تطبيقه من الناحية الواقعية (فقد لا يكون حظه أفضل من حظ إعلان دمشق بين دول المجلس ومصر وسوريا سنة 1991)، ولأنه حتي الآن لم يعرف مضمون القرار، وطبيعة العضوية التي سوف تمنح للدولتين، ومدي قدرة القيادات الخليجية علي السير فيه، إذا تبلورت اعتراضات ومواقف رفض جادة بالداخل تهدد بالتطور إلي ممارسات عنف. وأخيرا، فإن الأخطر من كل ذلك ما أدخلته مملكتا المغرب والأردن من إصلاحات سياسية أخيرا تقربهما من الملكيات الدستورية، فهل يمكن لدول مجلس التعاون - والسعودية تحديدا - أن تستوعب هذا التغيير؟!
وباختصار، هناك محطات كثيرة يمكن للقرار أن يواجه فيها مصاعب جمة قبل تحققه، وأحد الاحتمالات أن يتعطل عند إحداها، قبل أن يصل لمحطة النهاية. ويؤيد ذلك أن ثلاث دول خليجية تحفظت علي القرار، وهي سلطنة عمان وقطر والكويت. وأخذا في الحسبان أنه في بلد كالكويت مثلا، يوجد مجلس الأمة الذي هدد بعض أعضائه بإسقاط القرار فيه، لذلك فإن التفكير في القرار بترو يدفع إلي تواضع التفاؤل باحتمال وصوله إلي منتهاه. وما يمكن توقعه أن ينال أي تراجع لموجة الثورات الراهنة من الزخم الذي حظي به القرار، كما يمكن أن يتوقف القرار عند حدود بناء تحالف من نوعية خاصة بين السعودية والأردن والمغرب، يتضمن تمتين التحالف الدفاعي الأمني بين بيوت الحكم السعودي والهاشمي والعلوي لتكون معا محورا للدفاع عن الملكيات الوراثية، ويتضمن بالمقابل علاقة اقتصادية خاصة بين السعودية والمملكتين تشدهما إلي مستوي الأمان. وتفيد التقارير بأن الروابط الأمنية والدفاعية قائمة بالفعل بين دول الخليج وكل من المملكتين الأردنية والمغربية، وأن كلتيهما كانت قد أرسلت عناصر من قواتها الأمنية للخليج منذ عقود. ويتردد أن هناك خبرة مشتركة واطمئنانا خليجيا لمؤسستين دفاعيتين وأمنيتين سنيتين، مقابل ما تستشعره دول المجلس من خطر شيعي.
خاتمة :
يتضح مما سبق أن دول مجلس التعاون الخليجي هي الوحيدة في النظام العربي التي تمكنت من صياغة رؤية استراتيجية في ظل الثورات العربية وهي رؤية لها أبعادها وأهدافها، وإيجابياتها وسلبياتها. وعلي الرغم من سرعة الحدث الثوري والتداعيات التي لم تترك للأنظمة فسحة من الوقت، وأصابت مؤسسات صناعة القرار العربية بما يشبه الشلل في المركز، فقد أثبتت دول المجلس أنها الوحيدة التي تجنبت هذه الحالة، ووقفت مؤسسات صناعة القرار بها تتصدي للعواصف دون أن تفقد الرؤية، وعلي الأقل فإنها طرحت مبادرات لا تتسم بسوء التقدير، أو بعدم القدرة علي القراءة والفهم أو بالغباء، وإنما مبادرات ترقي إلي مستوي وجدارة الخلاف عليها وحولها.