"اذا عربت خربت"
وللاسف الشديد ان يكون مصدر هذه المقولة هو المؤرخ الفذ والعلامة الكبير عبد الرحمن ابن خلدون
نقل هذه المناقشة الهادئة لموقف ابن خلدون رحمه الله من العرب وقد استللتها من كتاب للدكتور خالد كبير علال
بعنوان : "أخطاء المؤرخ ابن خلدون في كتابه المقدمة" فلتتفضلوها مشكورين ..
موقف ابن خلدون من العرب:
أصدر ابن خلدون أحكاما قاسية و غريبة في حق العرب ، و في بعضها ذم صريح لهم ،و إنقاص من مكانتهم ، فهل قصد بذلك أهل البادية ، أم أهل الحضر ، أم قصدهم كلهم بدوا و حضرا ؟ و ما هي الأحكام التي أصدرها في حقهم ؟ .
فبالنسبة للتساؤل الأول ، فقد ذهب الباحث فاروق النبهان إلى القول بأن ابن خلدون استخدم مصطلح العرب ، وقصد به الأعراب ،و هم أهل البادية الذين يسكنون الصحراء ، ثم قال إن كلام ابن خلدون لا يستقيم إلا إذا قلنا إنه يقصد الأعراب ، فهل قوله هذا صحيح ؟
لقد تبين لي من تتبع أقوال ابن خلدون في أحكامه التي أطلقها على العرب ، أنه أطلق اسم العرب على العرب كلهم بدوا و حضرا معا ، و لكنه قد يطلقه على البدوا تحديدا، و قد يطلقه على الحضر فقط ، و قد يطلقه عليهم كلهم ، دون أن يفرق بينهم من حيث اللفظ ، و هو بلا شك يُدرك الفرق بين عرب البادية و عرب المدينة ، لكنه مع ذلك أطلق اسم العرب على الجميع ، حتى و إن قصد أحدهما تحديدا ، بحكم أن مصطلح العرب يشملهم جميعا ، فعرب البادية و عرب المدينة في النهاية كلهم عرب ، و قد نجد القبيلة العربية الواحدة ، تجمع بين سكن البادية و الحضر ، فبعض أفرادها يسكنون الحضر ، و آخرون يسكنون البادية ،و جميعهم عرب .
و بناء على ذلك فنحن لا نوافق ابن خلدون في تعميمه لذلك المصطلح ،و التسوية المطلقة بين الأعراب و أهل الحضر ، نعم كلهم عرب ، لكن لعرب البادية خصائص و وضعيات و أحوال تختلف عن عرب المدينة ، و قد فرّق الشرع بينهم ، قال تعالى (( الأعراب أشد كفرا و نفاقا ))-سورة التوبة /97- ، و (( و من الأعراب من يُؤمن بالله و اليوم الآخر،و يتخذ ما يُنفق قربات عند الله و صلوات الرسول، ألا إنها قربة ))-سورة التوبة /99- . و قد نهى رسول الله –عليه الصلاة و السلام- أصحابه عن التعرّب ، أي الرجوع إلى حياة البادية .
و الشواهد الآتية تثبت ما قررته عن ابن خلدون ، أولها إنه عندما تكلم عن زوال دول العرب ، قال إنهم في الأصل أمة متوحشة همهم نهب ما عند الناس ، و حتى عندما كونوا دولا منذ زمن الخلافة الراشدة ، فقد زالت بسرعة ،و تقوّض عمرانها و أفقر ساكنه . فواضح من كلامه أنه يقصد العرب جميعا بدوا و حضرا ، فأهل التوحش و النهب ما عند الناس ، هم الأعراب ، و الذين كونوا الدولة الراشدة و الأموية و العباسية ، هم عرب المدينة .
و الشاهد الثاني هو إن ابن خلدون قال إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة ، بسبب خُلق التوحش المتأصل فيهم . و كلامه هذا صريح كل الصراحة في أنه يقصد أساسا العرب من أهل الحضر ، لأن الملك الذي حصل للعرب كان في أهل المدينة ،و فيهم ظهر الإسلام أساسا و كونوا دولته .
و الشاهد الثالث هو إن ابن خلدون قال إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك ، لأنهم أكثر الناس بداوة ، و من طبعهم نهب ما عند غيرهم ، و حتى إنهم عندما ملكوا كان ذلك بسبب الدين ، فلما تركوه نسوا السياسة ،و عادوا إلى بداوتهم . و هذا أيضا نص صريح في أن ابن خلدون يقصد بمصطلح العرب ، البدو و الحضر معا ، فكلهم عرب و هم الذين قصدهم ، فهم أهل البادية الذين ينهبون ما عند غيرهم ، و هم الذين كونوا دولا باسم الإسلام ، و هم الذين عادوا إلى البداوة عندما تركوا الدين ، و عليه فإن ما ذهب إليه الباحث فاروق النبهان غير صحيح ، و لا يستقيم كلام ابن خلدون عن العرب إلا مع الذي ذهبنا إليه .
و أما عن الأحكام التي أصدرها ابن خلدون في حق العرب ، فسنذكر منها ثلاثة ، أولها إنه قال : (( إن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط )) ، بسبب طبيعة التوحش التي فيهم ، فلا يطلبون إلا الأمور السهلة ،و لا يركبون المخاطر ،و لا يذهبون إلى المزاحفة و المحاربة إلا دفاعا عن النفس .
و أقول : أولا إن حكمه هذا خاطئ من أساسه ،و لا يصح إصداره في حق أي شعب من الشعوب ، شرعا و لا عقلا ، و ليس له في زعمه هذا دليل شرعي ، و لا عقلي ،و لا تاريخي ، فكيف سمح لنفسه بإصدار هذا الحكم المطلق الجائر المضحك ؟ ، نعم ليس له في ذلك دليل صحيح ، و هو حكم لا يصح إصداره في حق أي أمة من الأمم ، لأن كل الشعوب لها القابلية و الاستعداد للنهوض و السقوط ، و الانتصار و الانهزام ، و هي المتحكمة في زمام أمرها ، فإذا اجتهدت و توحدت انتصرت و حققت أهدافها ، و إذا تناحرت و تكاسلت و اختلفت فيما بينها ، انهزمت و ذهب ريحها و فقدت مكانتها بين الدول ، قال تعالى (( و تلك الأيام نداولها بين الناس )) –سورة آل عمران/ 140-، و أما ما زعمه ابن خلدون فهو زعم باطل و مضحك ، بعيد كلية عن النظرة العلمية الموضوعية الصحيحة .
و ثانيا إنه لو كان العرب لا يتغلبون إلا على البسائط ما وصف الله تعالى العرب المسلمين بأنهم خير أمة ، في قوله تعالى (( كنتم خير امة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر))-سورة آل عمران/110- . و ما حملهم أيضا مسؤولية تبليغ رسالته إلى البشرية جمعاء ، و ما وعدهم أيضا بالنصر المؤزر ،و التمكين في الأرض ، في قوله تعالى : (( و عد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم ،و ليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم ))-سورة المائدة /9- . و لاشك أن أمة لا تتغلب إلا على البسائط ، لا يمكن أن يصفها الله تعالى بتلك الصفات ، و لا يُحملها تلك المسؤوليات الجسام ، و لا يعدها بتلك الانتصارات و التمكين في الأرض، و بما أنه وصفها و وعدها بذلك ، فلا شك أنها أهلا لذلك .
و ثانيا إن ما وعد الله به العرب المسلمين قد تحقق على أيديهم على أرض الواقع ، فحققوا انتصارات باهرة ، و هزموا دولتي الفرس و الروم ، و ملكوا أراضيهم و أموالهم ، و كانت لهم دول في المشرق و المغرب ، كدولة الراشدين ، و دولة بني أمية بالمشرق و الأندلس ، و دولة بني العباس ، و كانت لهم أيضا انتصارات باهرة في مقاومتهم للاستعمار الغربي الحديث ، فهل أمة تلك هي انتصاراتها يُقال فيها إنها لا تتغلب إلا على البسائط ؟ و هل الذي حققته هو من البسائط ؟ ، و أليس ما حققه العرب المسلمون من انتصارات لم تحققه شعوب إسلامية أخرى ؟ ، فمال بال ابن خلدون يخص العرب بذلك الحكم الجائر ، دون غيرهم من باقي شعوب العالم الإسلامي؟ ! .
و أما الحكم الثاني الذي أصدره ابن خلدون في حق العرب فهو أن (( العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب )) ، لأنهم أمة وحشية استحكمت فيهم عوائد التوحش و أسبابه ، فصار لهم خلقا و جبلة ، همهم نهب ما عند الناس ، و رزقهم في ظلال رماحهم ، و عندما تغلبوا و ملكوا تقوّض عمرانهم الذي بنوه ، و أقفر ساكنه ، و عندما اجتاح عرب بنو هلال و بنو سليم بلاد المغرب خرّبوها ، و كان ذلك في القرن الخامس الهجري .
و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، و هو مجازفة من مجازفاته ، بدليل الشواهد الآتية، أولها إن العرب أنشئوا أوطانا و مدنا قبل الإسلام ، و بعضها ما يزال قائما إلى يومنا هذا ، كاليمن و مدنها القديمة ، و أخرى في باقي مناطق الجزيرة العربية ، كمكة المكرمة و المدينة المنورة . و أنشئوا أخرى في العصر الإسلامي ، و هي ما تزال عامرة إلى يومنا هذا ، كمدينة البصرة ، و الكوفة ، و الفسطاط ، و القيروان ، و بغداد و سامراء .
و الشاهد الثاني هو إن العرب أقاموا دولا بعضها عمر طويلا ، و بعضها الآخر لم يعمر طويلا ، شأنهم في ذلك شأن باقي دول شعوب العالم الأخرى ، فمن دولهم التي لم تعمر طولا الخلافة الراشدة عمرت 30سنة ، و دولة بني أمية بالمشرق ، عاشت 91سنة ، و أما التي عمرت طولا ، فمنها الدولة الأموية بالأندلس ، فقد عاشت أكثر من 200سنة ، و الدولة العباسية عمرت 524سنة . و مقابل ذلك هناك دول أخرى كثيرة ليست عربية عاشت أقل من قرن من الزمن ، كدولة القرامطة ، و الدولة المرابطية ، و الدولة الأيوبية . و بذلك يتبين أن ما زعمه ابن خلدون غير صحيح تماما ، و لا يختلف العرب عن غيرهم في مسألة سقوط الدول و استمرارها ، لأن الأمر يتوقف على أسباب و ظروف بشرية داخلية و خارجية كثيرة ، و لا دخل فيها للأعراق و الأجناس .
و الشاهد الثالث هو إن قوله بأن التوحش جبلة في العرب و متأصل فيهم مهما تحضّروا هو قول باطل من أساسه لا يصدق على العرب ،و لا على غيرهم من الأمم ، لأن البشر كلهم لهم استعداد للتحضر و النهوض و الرقي ، كما لهم استعداد للسقوط و التدهور و الانعزال و التخلف ، فالظروف البشرية الداخلية و الخارجية هي السبب الأساسي في نهوض أمة و سقوط أخرى . كما أن العرب لم يكونوا كلهم بدوا أجلافا ، فقد كانت لهم حضارات عامرة قبل الإسلام ، في جنوب الجزيرة العربية و شمالها ، و الإسلام ظهر بين الحضر بمكة و المدينة ، و لم يظهر بين الأعراب ، و نهى الصحابة عن التعرّب و العودة إلى حياة البادية ، مما كان له الأثر البعيد في دفع العرب المسلمين إلى إنشاء المدن و الإقامة فيها ، و ما يزالون يقطنونها إلى يومنا هذا بالجزيرة العربية و العراق و الشام و غيرها من البلاد .
و الشاهد الرابع هو إن مثال بني هلال و بني سليم الذي ذكره ابن خلدون ، لا يصدق على كل العرب ، و لا يخص بني هلال و بني سليم دون غيرهم من قبائل شعوب العالم ، و لا يصدق عليهم في كل زمان و مكان. فالأعمال التي صدرت عن هؤلاء في تخريبهم لكثير من مظاهر العمران بالمغرب الإسلامي ، ليست خاصة بهم و لا بالعرب عامة ، و إنما هي موجودة في كل بدو العالم تقريبا ، ببلاد المغرب و فارس و خراسان و الصين وغيرها . و مثال ذلك قبائل المغول ، فهي قبائل بدوية متوحشة ، اجتاحت المشرق الإسلامي و دمرته تدميرا خلال القرن السابع الهجري و ما بعده . و كذلك قبائل الغجر في أوروبا المعاصرة ، فهم يُفسدون و يُقلقون و ليسوا عربا . و عليه فإنه من الخطأ الفاحش إصدار ذلك الحكم على العرب بطريقة فيها تأكيد و تأبيد .
و أما الحكم الثالث ، فهو قوله : (( إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة، بسبب خلق التوحش الذي فيهم ،و هم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض ، للغلظة و الأنفة و بعد الهمة ، و المنافسة في الرياسة ، فقلما تجتمع أهواؤهم )) .
و ردا عليه أقول: أولا إن ذلك الحكم لا يصح إطلاقه على أية أمة من الأمم ، لأنه لا توجد علاقة حتمية بين الدين و الدولة ، فقد تظهر الدولة و يتخلف الدين ، و قد يظهر الدين و تتخلف الدولة ، و قد كانت للعرب دول في جنوب الجزيرة العربية و شمالها قبل أن يظهر الإسلام ، هذا إذا كان ابن خلدون يقصد بالدين الإسلام فقط ، أما إذا كان يقصد مطلق الدين ، فلا شك أنه كانت للعرب أديان قبل الإسلام ، مع العلم أن كل الدول المعروفة التي ظهرت في العصور القديمة كانت تقوم على الدين ، و لم يكن ذلك خاصا بالعرب دون غيرهم من الأجناس .
و ثانيا إن للعرب في العصر الحديث دول كثيرة معظمها لا يقوم على الدين ، و إن تظاهر به بعضها ، فهي لا تحتكم إليه في سياستها ،و لا في اقتصادها ، و لا في اجتماعها ، و لا في قانونها ، و لا في علاقاتها الخارجية ، و بعضها يُحارب الدين و أهله علانية ، فكيف إذن تمكنت هذه الدول من تكوين دول عربية بعيدا عن الدين في معظم أحوالها ؟ .
و يتبين مما ذكرناه إن ابن خلدون في استخدامه لمصطلح العرب كان يقصد العرب جميعا بدوا و حضرا ، و لم يخص البدو بأحكامه القاسية دون الحضر ، و قد ناقشناه فيها و بينا أنه كان مخطئا في إطلاقها عليهم جميعا ، و إن صدقت على بعضهم فلا تصدق عليهم كلهم ،و لا تخصهم دون غيرهم ، و لا تصدق عليهم –إن صدقت- في كل زمان و مكان . __________________
وللاسف الشديد ان يكون مصدر هذه المقولة هو المؤرخ الفذ والعلامة الكبير عبد الرحمن ابن خلدون
نقل هذه المناقشة الهادئة لموقف ابن خلدون رحمه الله من العرب وقد استللتها من كتاب للدكتور خالد كبير علال
بعنوان : "أخطاء المؤرخ ابن خلدون في كتابه المقدمة" فلتتفضلوها مشكورين ..
موقف ابن خلدون من العرب:
أصدر ابن خلدون أحكاما قاسية و غريبة في حق العرب ، و في بعضها ذم صريح لهم ،و إنقاص من مكانتهم ، فهل قصد بذلك أهل البادية ، أم أهل الحضر ، أم قصدهم كلهم بدوا و حضرا ؟ و ما هي الأحكام التي أصدرها في حقهم ؟ .
فبالنسبة للتساؤل الأول ، فقد ذهب الباحث فاروق النبهان إلى القول بأن ابن خلدون استخدم مصطلح العرب ، وقصد به الأعراب ،و هم أهل البادية الذين يسكنون الصحراء ، ثم قال إن كلام ابن خلدون لا يستقيم إلا إذا قلنا إنه يقصد الأعراب ، فهل قوله هذا صحيح ؟
لقد تبين لي من تتبع أقوال ابن خلدون في أحكامه التي أطلقها على العرب ، أنه أطلق اسم العرب على العرب كلهم بدوا و حضرا معا ، و لكنه قد يطلقه على البدوا تحديدا، و قد يطلقه على الحضر فقط ، و قد يطلقه عليهم كلهم ، دون أن يفرق بينهم من حيث اللفظ ، و هو بلا شك يُدرك الفرق بين عرب البادية و عرب المدينة ، لكنه مع ذلك أطلق اسم العرب على الجميع ، حتى و إن قصد أحدهما تحديدا ، بحكم أن مصطلح العرب يشملهم جميعا ، فعرب البادية و عرب المدينة في النهاية كلهم عرب ، و قد نجد القبيلة العربية الواحدة ، تجمع بين سكن البادية و الحضر ، فبعض أفرادها يسكنون الحضر ، و آخرون يسكنون البادية ،و جميعهم عرب .
و بناء على ذلك فنحن لا نوافق ابن خلدون في تعميمه لذلك المصطلح ،و التسوية المطلقة بين الأعراب و أهل الحضر ، نعم كلهم عرب ، لكن لعرب البادية خصائص و وضعيات و أحوال تختلف عن عرب المدينة ، و قد فرّق الشرع بينهم ، قال تعالى (( الأعراب أشد كفرا و نفاقا ))-سورة التوبة /97- ، و (( و من الأعراب من يُؤمن بالله و اليوم الآخر،و يتخذ ما يُنفق قربات عند الله و صلوات الرسول، ألا إنها قربة ))-سورة التوبة /99- . و قد نهى رسول الله –عليه الصلاة و السلام- أصحابه عن التعرّب ، أي الرجوع إلى حياة البادية .
و الشواهد الآتية تثبت ما قررته عن ابن خلدون ، أولها إنه عندما تكلم عن زوال دول العرب ، قال إنهم في الأصل أمة متوحشة همهم نهب ما عند الناس ، و حتى عندما كونوا دولا منذ زمن الخلافة الراشدة ، فقد زالت بسرعة ،و تقوّض عمرانها و أفقر ساكنه . فواضح من كلامه أنه يقصد العرب جميعا بدوا و حضرا ، فأهل التوحش و النهب ما عند الناس ، هم الأعراب ، و الذين كونوا الدولة الراشدة و الأموية و العباسية ، هم عرب المدينة .
و الشاهد الثاني هو إن ابن خلدون قال إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة ، بسبب خُلق التوحش المتأصل فيهم . و كلامه هذا صريح كل الصراحة في أنه يقصد أساسا العرب من أهل الحضر ، لأن الملك الذي حصل للعرب كان في أهل المدينة ،و فيهم ظهر الإسلام أساسا و كونوا دولته .
و الشاهد الثالث هو إن ابن خلدون قال إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك ، لأنهم أكثر الناس بداوة ، و من طبعهم نهب ما عند غيرهم ، و حتى إنهم عندما ملكوا كان ذلك بسبب الدين ، فلما تركوه نسوا السياسة ،و عادوا إلى بداوتهم . و هذا أيضا نص صريح في أن ابن خلدون يقصد بمصطلح العرب ، البدو و الحضر معا ، فكلهم عرب و هم الذين قصدهم ، فهم أهل البادية الذين ينهبون ما عند غيرهم ، و هم الذين كونوا دولا باسم الإسلام ، و هم الذين عادوا إلى البداوة عندما تركوا الدين ، و عليه فإن ما ذهب إليه الباحث فاروق النبهان غير صحيح ، و لا يستقيم كلام ابن خلدون عن العرب إلا مع الذي ذهبنا إليه .
و أما عن الأحكام التي أصدرها ابن خلدون في حق العرب ، فسنذكر منها ثلاثة ، أولها إنه قال : (( إن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط )) ، بسبب طبيعة التوحش التي فيهم ، فلا يطلبون إلا الأمور السهلة ،و لا يركبون المخاطر ،و لا يذهبون إلى المزاحفة و المحاربة إلا دفاعا عن النفس .
و أقول : أولا إن حكمه هذا خاطئ من أساسه ،و لا يصح إصداره في حق أي شعب من الشعوب ، شرعا و لا عقلا ، و ليس له في زعمه هذا دليل شرعي ، و لا عقلي ،و لا تاريخي ، فكيف سمح لنفسه بإصدار هذا الحكم المطلق الجائر المضحك ؟ ، نعم ليس له في ذلك دليل صحيح ، و هو حكم لا يصح إصداره في حق أي أمة من الأمم ، لأن كل الشعوب لها القابلية و الاستعداد للنهوض و السقوط ، و الانتصار و الانهزام ، و هي المتحكمة في زمام أمرها ، فإذا اجتهدت و توحدت انتصرت و حققت أهدافها ، و إذا تناحرت و تكاسلت و اختلفت فيما بينها ، انهزمت و ذهب ريحها و فقدت مكانتها بين الدول ، قال تعالى (( و تلك الأيام نداولها بين الناس )) –سورة آل عمران/ 140-، و أما ما زعمه ابن خلدون فهو زعم باطل و مضحك ، بعيد كلية عن النظرة العلمية الموضوعية الصحيحة .
و ثانيا إنه لو كان العرب لا يتغلبون إلا على البسائط ما وصف الله تعالى العرب المسلمين بأنهم خير أمة ، في قوله تعالى (( كنتم خير امة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر))-سورة آل عمران/110- . و ما حملهم أيضا مسؤولية تبليغ رسالته إلى البشرية جمعاء ، و ما وعدهم أيضا بالنصر المؤزر ،و التمكين في الأرض ، في قوله تعالى : (( و عد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم ،و ليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم ))-سورة المائدة /9- . و لاشك أن أمة لا تتغلب إلا على البسائط ، لا يمكن أن يصفها الله تعالى بتلك الصفات ، و لا يُحملها تلك المسؤوليات الجسام ، و لا يعدها بتلك الانتصارات و التمكين في الأرض، و بما أنه وصفها و وعدها بذلك ، فلا شك أنها أهلا لذلك .
و ثانيا إن ما وعد الله به العرب المسلمين قد تحقق على أيديهم على أرض الواقع ، فحققوا انتصارات باهرة ، و هزموا دولتي الفرس و الروم ، و ملكوا أراضيهم و أموالهم ، و كانت لهم دول في المشرق و المغرب ، كدولة الراشدين ، و دولة بني أمية بالمشرق و الأندلس ، و دولة بني العباس ، و كانت لهم أيضا انتصارات باهرة في مقاومتهم للاستعمار الغربي الحديث ، فهل أمة تلك هي انتصاراتها يُقال فيها إنها لا تتغلب إلا على البسائط ؟ و هل الذي حققته هو من البسائط ؟ ، و أليس ما حققه العرب المسلمون من انتصارات لم تحققه شعوب إسلامية أخرى ؟ ، فمال بال ابن خلدون يخص العرب بذلك الحكم الجائر ، دون غيرهم من باقي شعوب العالم الإسلامي؟ ! .
و أما الحكم الثاني الذي أصدره ابن خلدون في حق العرب فهو أن (( العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب )) ، لأنهم أمة وحشية استحكمت فيهم عوائد التوحش و أسبابه ، فصار لهم خلقا و جبلة ، همهم نهب ما عند الناس ، و رزقهم في ظلال رماحهم ، و عندما تغلبوا و ملكوا تقوّض عمرانهم الذي بنوه ، و أقفر ساكنه ، و عندما اجتاح عرب بنو هلال و بنو سليم بلاد المغرب خرّبوها ، و كان ذلك في القرن الخامس الهجري .
و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، و هو مجازفة من مجازفاته ، بدليل الشواهد الآتية، أولها إن العرب أنشئوا أوطانا و مدنا قبل الإسلام ، و بعضها ما يزال قائما إلى يومنا هذا ، كاليمن و مدنها القديمة ، و أخرى في باقي مناطق الجزيرة العربية ، كمكة المكرمة و المدينة المنورة . و أنشئوا أخرى في العصر الإسلامي ، و هي ما تزال عامرة إلى يومنا هذا ، كمدينة البصرة ، و الكوفة ، و الفسطاط ، و القيروان ، و بغداد و سامراء .
و الشاهد الثاني هو إن العرب أقاموا دولا بعضها عمر طويلا ، و بعضها الآخر لم يعمر طويلا ، شأنهم في ذلك شأن باقي دول شعوب العالم الأخرى ، فمن دولهم التي لم تعمر طولا الخلافة الراشدة عمرت 30سنة ، و دولة بني أمية بالمشرق ، عاشت 91سنة ، و أما التي عمرت طولا ، فمنها الدولة الأموية بالأندلس ، فقد عاشت أكثر من 200سنة ، و الدولة العباسية عمرت 524سنة . و مقابل ذلك هناك دول أخرى كثيرة ليست عربية عاشت أقل من قرن من الزمن ، كدولة القرامطة ، و الدولة المرابطية ، و الدولة الأيوبية . و بذلك يتبين أن ما زعمه ابن خلدون غير صحيح تماما ، و لا يختلف العرب عن غيرهم في مسألة سقوط الدول و استمرارها ، لأن الأمر يتوقف على أسباب و ظروف بشرية داخلية و خارجية كثيرة ، و لا دخل فيها للأعراق و الأجناس .
و الشاهد الثالث هو إن قوله بأن التوحش جبلة في العرب و متأصل فيهم مهما تحضّروا هو قول باطل من أساسه لا يصدق على العرب ،و لا على غيرهم من الأمم ، لأن البشر كلهم لهم استعداد للتحضر و النهوض و الرقي ، كما لهم استعداد للسقوط و التدهور و الانعزال و التخلف ، فالظروف البشرية الداخلية و الخارجية هي السبب الأساسي في نهوض أمة و سقوط أخرى . كما أن العرب لم يكونوا كلهم بدوا أجلافا ، فقد كانت لهم حضارات عامرة قبل الإسلام ، في جنوب الجزيرة العربية و شمالها ، و الإسلام ظهر بين الحضر بمكة و المدينة ، و لم يظهر بين الأعراب ، و نهى الصحابة عن التعرّب و العودة إلى حياة البادية ، مما كان له الأثر البعيد في دفع العرب المسلمين إلى إنشاء المدن و الإقامة فيها ، و ما يزالون يقطنونها إلى يومنا هذا بالجزيرة العربية و العراق و الشام و غيرها من البلاد .
و الشاهد الرابع هو إن مثال بني هلال و بني سليم الذي ذكره ابن خلدون ، لا يصدق على كل العرب ، و لا يخص بني هلال و بني سليم دون غيرهم من قبائل شعوب العالم ، و لا يصدق عليهم في كل زمان و مكان. فالأعمال التي صدرت عن هؤلاء في تخريبهم لكثير من مظاهر العمران بالمغرب الإسلامي ، ليست خاصة بهم و لا بالعرب عامة ، و إنما هي موجودة في كل بدو العالم تقريبا ، ببلاد المغرب و فارس و خراسان و الصين وغيرها . و مثال ذلك قبائل المغول ، فهي قبائل بدوية متوحشة ، اجتاحت المشرق الإسلامي و دمرته تدميرا خلال القرن السابع الهجري و ما بعده . و كذلك قبائل الغجر في أوروبا المعاصرة ، فهم يُفسدون و يُقلقون و ليسوا عربا . و عليه فإنه من الخطأ الفاحش إصدار ذلك الحكم على العرب بطريقة فيها تأكيد و تأبيد .
و أما الحكم الثالث ، فهو قوله : (( إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة، بسبب خلق التوحش الذي فيهم ،و هم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض ، للغلظة و الأنفة و بعد الهمة ، و المنافسة في الرياسة ، فقلما تجتمع أهواؤهم )) .
و ردا عليه أقول: أولا إن ذلك الحكم لا يصح إطلاقه على أية أمة من الأمم ، لأنه لا توجد علاقة حتمية بين الدين و الدولة ، فقد تظهر الدولة و يتخلف الدين ، و قد يظهر الدين و تتخلف الدولة ، و قد كانت للعرب دول في جنوب الجزيرة العربية و شمالها قبل أن يظهر الإسلام ، هذا إذا كان ابن خلدون يقصد بالدين الإسلام فقط ، أما إذا كان يقصد مطلق الدين ، فلا شك أنه كانت للعرب أديان قبل الإسلام ، مع العلم أن كل الدول المعروفة التي ظهرت في العصور القديمة كانت تقوم على الدين ، و لم يكن ذلك خاصا بالعرب دون غيرهم من الأجناس .
و ثانيا إن للعرب في العصر الحديث دول كثيرة معظمها لا يقوم على الدين ، و إن تظاهر به بعضها ، فهي لا تحتكم إليه في سياستها ،و لا في اقتصادها ، و لا في اجتماعها ، و لا في قانونها ، و لا في علاقاتها الخارجية ، و بعضها يُحارب الدين و أهله علانية ، فكيف إذن تمكنت هذه الدول من تكوين دول عربية بعيدا عن الدين في معظم أحوالها ؟ .
و يتبين مما ذكرناه إن ابن خلدون في استخدامه لمصطلح العرب كان يقصد العرب جميعا بدوا و حضرا ، و لم يخص البدو بأحكامه القاسية دون الحضر ، و قد ناقشناه فيها و بينا أنه كان مخطئا في إطلاقها عليهم جميعا ، و إن صدقت على بعضهم فلا تصدق عليهم كلهم ،و لا تخصهم دون غيرهم ، و لا تصدق عليهم –إن صدقت- في كل زمان و مكان . __________________