بدا الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، عهده بتقديم أجندته السياسية كوسيلة "لجعل هذا القرن قرنا أمريكيا جديدا"، ولكن تصريحاته أثناء زيارته الأخيرة لأوروبا (مايو 2011)، عكست قناعته بأن علي "القيادة الغربية أن تتكيف مع الواقع العام الجديد". بذلك، انضم أوباما إلي ما يشبه الإجماع بين الساسة والأكاديميين، في مختلف أنحاء العالم، علي أن تحول الثروة والقوة عن الدول الغربية إلي دول الشرق والجنوب قد وصل إلي نقطة اللاعودة.
فعلي المستوي الاقتصادي، صرح بن برنانكي، رئيس البنك المركزي الأمريكي ، في محاضرة مهمة في نوفمبر 2010، بأن مجمل إنتاج الاقتصادات الصاعدة، في الربع الثاني من عام 2010، قد زاد بنسبة 41% عما كان في بداية عام 2005 . وقد بلغت الزيادة نسبة 70% في الصين، ونحو 55% في الهند. أما في الاقتصادات المتقدمة، فقد كانت الزيادة لا تتجاوز 5%. لقد تجاوزت الاقتصادات الصاعدة الأزمة الاقتصادية بسهولة، ولكن آثارها كانت كارثية علي الدول المتقدمة(1).
كما اضطرت الدول الغربية، تحت ضغط مشكلة الديون، إلي تقليص حجم قواتها العسكرية وإنفاقها علي التسلح، بينما اتجهت الدول الصاعدة، خاصة في آسيا والشرق الأوسط، إلي استخدام قوتها الاقتصادية في تدعيم قدراتها العسكرية، عن طريق صفقات تسلح ضخمة. ويشير تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية لعام 2011 إلي أنه أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة والقوي الغربية الأخري في طريقها لأن تفقد احتكارها لأنواع مهمة من تكنولوجيا الدفاع لصالح هذه الدول الصاعدة. كما أن الصين بصفة خاصة تتجه باطراد إلي عبور الفجوة في مجال التكنولوجيا العسكرية مع الغرب(2).
تشكل هذه التحولات في القوة الاقتصادية والعسكرية، وما يصاحبها من نفوذ سياسي علي الساحة الدولية، ما وصفه أوباما ب-"الواقع العالمي الجديد"، الذي أصبح يهدد قواعد وأسس النظام الدولي الذي تشكل بعد نهاية الحرب الباردة. وقد وصف أستاذ التاريخ، نيل فيرجسون، هذا الواقع الجديد، في محاضرة ألقاها أخيرا، بأنه نهاية لعصر من السيطرة والصعود الغربي، في مقابل أكبر وأسرع ثورة صناعية شهدها العالم تجري علي أرض الصين، والتي من المقرر أن تتجاوز الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم في المستقبل القريب. لقد كان من المتوقع أن تصل الصين إلي المركز الأول بحلول عام 2040، ثم تمت إعادة النظر في هذا التقدير، نظرا لسرعة الصعود الصيني، وأصبح التاريخ المقدر هو 2027 . والآن، تشير بعض الدراسات إلي أن ذلك قد يحدث خلال السنوات العشر القادمة(3).
دفعت هذه التغيرات الضخمة والسريعة العديد من المحللين لمناقشة تداعياتها المنتظرة علي تماسك النظام الدولي. وقد وضع تقرير مجموعة أوراسيا عن أهم المخاطر التي ستواجه العالم في 2011، التغير في النظام العالمي نفسه علي رأس القائمة. يشير التقرير إلي أن العالم علي أعتاب نظام عالمي جديد تماما، بما يعنيه ذلك من طرق جديدة للتفاعل بين الدول علي المستويين الاقتصادي والسياسي. ويكمن الخطر في أن نطاق التغيير ممتد بشكل شديد الاتساع، مما يجعل من إدارته مهمة عسيرة(4).
عالم ما بعد الغرب" .. خريطة جيوستراتيجية جديدة:
في مقاله "الحركة نحو عالم ما بعد الغرب"، يلقي سيمون سيرفاتي، أستاذ العلاقات الدولية، نظرة شاملة علي اللاعبين الرئيسيين في عالم ما بعد الغرب والعلاقة بينهم(5). يقرر الكاتب في البداية أن عصر الأحادية القطبية قد ولي إلي غير رجعة، كما يستبعد أن يعود العالم إلي حالة من الثنائية القطبية. فرغم تراجع القوة الأمريكية، فإنه ليست هناك أي قوة دولية أخري قادرة علي فرض الهيمنة عليها، أو حتي الوصول إلي موقع الندية معها.
الواقع العالمي الجديد إذن يتسم "باللاقطبية"، حيث تتعدد فيه القوي الصاعدة بشكل غير مسبوق، بالإضافة إلي العديد من الدول التي، وإن كانت أقل حجما، فإنها تكتسب، لأسباب مختلفة، نفوذا متصاعدا علي الساحة الدولية. يري الكاتب أن هناك اليوم حاجة ملحة لصياغة هيكل جديد للنظام العالمي، حتي يمكن استيعاب هذا العدد الكبير من الفاعلين المنتشرين بشكل غير مسبوق في جميع أنحاء العالم. لقد كانت التجارب التاريخية الغربية السابقة في إعادة تشكيل النظام الدولي تتم عادة من خلال إعادة تدوير الصياغات القديمة المتعلقة بتوازن القوي ومصلحة الدولة، بدلا من إنشاء صياغات جديدة، ولكن مثل هذه المقاربة لن تصلح في عالم القرن الحادي والعشرين.
إن غياب أي شكل من أشكال القيادة في عالم متعدد القوي يوجد مناخا من الفوضي، وربما يكون محفوفا بالمخاطر. فهناك مصالح متشابكة قد تدعم التعاون فيما بين الأقطاب المتعددة، لكن اختلاف الرؤي والمناهج فيما بين هذه الأقطاب يجعل الخريطة الجيوسياسية حافلة بالتناقضات وعدم الوضوح. وسوف تصبح عملية اختيار الحلفاء والأصدقاء، وردع الخصوم، وتفادي النزاعات، في ظل هذا الوضع العالمي الجديد، شديدة الصعوبة.
الفاعلون الرئيسيون:
الولايات المتحدة: رغم التراجع في قوتها، ستظل الولايات المتحدة تتمتع بقدر من القوة لا تتمتع به أي دولة أخري علي الساحة الدولية. ورغم أنها لن تستطيع فرض هيمنتها علي المجتمع الدولي مرة أخري، فإنه أيضا ليس من المطلوب أن تنسحب من الساحة، حيث يظل دورها محوريا في إضفاء قدر من التنظيم علي الفوضي الدولية.
الاتحاد الأوروبي: لقد نجح الاتحاد الأوروبي في إنشاء نموذج يحتذي به في الحوكمة ما بعد الحداثية، ولكنه يعاني حاليا عددا من الأزمات الحادة التي تهدد بسقوطه في حالة من الشلل، لا تقل خطورة عن تفكك المشروع الأوروبي نفسه. وسوف تتوقف قدرة أوروبا علي لعب دور عالميرئيسي علي الخطوات التي تتخذها لمواجهة مشاكلها في السنوات القليلة القادمة.
روسيا: رغم أن روسيا ليست مثل "أي دولة أوروبية"، فإنها تظل قوة رئيسية علي الساحة الأوروبية. وليس من الممكن أن تتجاهل أوروبا روسيا، فهي قريبة جدا، وعندها قدرات نووية وعسكرية، وغنية بالموارد، كما أن لديها شعور بالغبن والرغبة في استعادة مكانتها المفقودة. لكل ذلك، ليس من مصلحة أوروبا استفزاز روسيا.
ورغم أن الحرب القصيرة في جورجيا عام 2008 قد أعادت إلي الأذهان لمحات من القوة الروسية التاريخية، فمن المشكوك فيه أن تستعيد روسيا هيمنتها الإقليمية ونفوذها العالمي. فهي تعاني تدهورا في الإمكانات العسكرية، وفسادا منتشرا في مؤسسات الدولة، ومشاكل ديموجرافية، وغير ذلك من عوامل الضعف الداخلي. وما تحتاج إليه روسيا هو شريك قادر علي مساعدتها في تخطي هذه المشاكل، واستعادة قوتها الضائعة. ولن تستطيع روسيا تحقيق ذلك دون مساعدة من الغرب.
المثلث الآسيوي:
الصين: تعد الصين قوة عظمي علي المستوي الاقتصادي، لكنها تواجه مشاكل متعددة علي الصعيدين الاجتماعي والسياسي. تمارس الصين، بشكل واسع وغير مسبوق دوليا، دبلوماسية "الأموال السائلة" (cash diplomacy)،مما أدي إلي أن تمتد مصالحها الحيوية إلي مختلف أنحاء العالم. فقد وعدت الصين اليونان والبرتغال وإسبانيا بأن تساعدها في اجتياز أزماتها المالية. كما نمت تجارة الصين مع أمريكا اللاتينية بمقدار عشرة أضعاف في الفترة ما بين عامي 2000 و 2007، وتجاوزت 142 مليار دولار عام 2008 .
من ناحية أخري، تمتد حدود الصين لنحو 10 آلاف ميل مع 14 دولة مختلفة، مما يمثل عبئا أمنيا. وتتقاطع مصالحها مع مصالح القوي المجاورة في عدة مناطق. فهناك تقاطع في المصالح بين الصين وروسيا في آسيا الوسطي، ومع أوروبا والولايات المتحدة فيما يتعلق بإيران وافغانستانوكوريا الشمالية. كما أن للصين نزاعا حدوديا مع الهند، وتتقاطع معها في المصالح في باكستان وسيرلانكا. وهناك عداء تاريخي بين الصين واليابان، لا يزال يلقي بظلاله علي العلاقة ما بين البلدين.
الهند: هي ثالث أكبر اقتصاد في آسيا. ورغم أنها قد اجتازت الركود الاقتصادي بنجاح، فإن مركزها الاستراتيجي في آسيا محفوف بالمخاطر، ويلقي عليها أعباء كبيرة. فقد دخلت الهند في نزاعات مسلحة متكررة منذ عام 1947 مع باكستان، وبنجلاديش وسيرلانكا والمالديف، بالإضافة إلي حربها الحدودية القصيرة والمهينة مع الصين عام 1962 .
في الهند 300 مليون مواطن، يعيش الواحد منهم علي أقل من دولار في اليوم، و 70% من سكانها تحت سن 35، و50% تحت سن العشرين. وهناك تعددية عرقية وإثنية ودينية كبيرة، مما أدي إلي مطالبة عدة مناطق بالانفصال عن الهند، خاصة في ظل غياب جهود التنمية عن عدد كبير من هذه المناطق. كل هذه المشاكل تضعف من التوقعات القائلة بصعود الهند إلي مركز نفوذ عالمي في المستقبل القريب. وحتي الآن، تعد كل من الصين والهند قوي إقليمية، لم تصعد بعد إلي مرتبة العالمية.
اليابان: وهي الضلع الثالث في المثلث الآسيوي، وكانت حتي منتصف عام 2010 ثاني أكبر اقتصاد علي مستوي العالم. ولكنها تعاني منذ سنوات تراجعا اقتصاديا، وعدم استقرار سياسي، بحيث يبدو أن الزمن قد تخطاها لصالح جيرانها الآسيويين. ويمكن لليابان أن تلعب دورا أكثر فاعلية علي المستوي الإقليمي، خاصة لو قامت بتطوير قدراتها العسكرية. وقد يتيح لها ذلك أن تحتل مكانة متميزة علي الصعيد الآسيوي، وأن تظل شريكا فاعلا في تحالف غربي داعم للاستقرار علي المستوي الإقليمي.
بالإضافة إلي هذه القوي، هناك مجموعة من الدول الأصغر حجما، والتي في طريقها إلي اكتساب قدر معتبر من النفوذ علي الساحة الدولية. وتعد البرازيل الدولة الأبرز في هذه المجموعة، حيث تعد قوة إقليمية، لا تضاهيها أي دولة مجاورة في القوة أو النفوذ. ويتجاوز إنفاق البرازيل العسكري، الذي بلغ 33.1 مليار دولار عام 2010، الإنفاق العسكري لكل دول أمريكا الجنوبية مجتمعة. وتحتل البرازيل مكانة مقاربة لروسيا والهند والصين في اجتماعات مجموعة العشرين، والمنتديات الدولية الأخري، حيث تلعب أدوارا علي الصعيد الدولي تتجاوز قدراتها الحقيقية. ومن دول هذه المجموعة أيضا تركيا وجنوب إفريقيا وإندونيسيا.
يري الكاتب أن مكانة ونفوذ الدول علي الساحة الدولية، في الوقت الحالي، أصبحا لا يقاسان بالمعايير التقليدية مثل الإنفاق العسكري. كما أنه لم يعد من الممكن تجاهل أي منطقة جغرافية، لأنها بعيدة أو ضعيفة أو صغيرة، بحيث لا يتوقع أن يكون لها تأثير يتجاوز محيطها المباشر.
ولن يكون من السهل إدماج كل هؤلاء الفاعلين الدوليين، بخلفياتهم الثقافية المتعددة، ورؤاهم المختلفة لمكانتهم في العالم، في نظام عالمي جديد. ولكنه أيضا ليس من الضروري أن تمنع هذه الخريطة الجديدة من تطوير إطار جديد ومستقر للنظام العالمي. وبالمقارنة، فقد كانت خريطة النظام الأحادي القطبية تبدو بسيطة، ولكن ثبت أنها أرهقت الولايات المتحدة، وكانت خريطة النظام الثنائي القطبية تتميز بالاستقرار، لكنها ظلت محفوفة بالمخاطر."
"G Zero" عالم بلا أقطاب:
التداعيات الاقتصادية والاستراتيجية:
في مقال بعنوان "فوضي عالمية جديدة"، يطرح أستاذ الدراسات الأوروبية بجامعة أوكسفورد، تيموثي جارتون آش، رؤية لتداعيات الأزمة المالية العالمية علي النظام الدولي(8). فرغم أن هذه الأزمة، في رأيه، لم تؤد إلي الانهيار التام للرأسمالية الليبرالية الديمقراطية، فإنها في المقابل لم تدفع إلي عملية إصلاح شاملة، كما كان الأمل معقودا. وبينما تواصل الرأسمالية الغربية مسيرتها، مثقلة بالجراح والديون والقلاقل الاجتماعية، فقد ظهرت علي الساحة أنماط مختلفة من الرأسمالية: صينية، وهندية، وروسية، وبرازيلية، تحقق نجاحا ملحوظا، وتحول ديناميكيتها الاقتصادية بشكل سريع إلي قوة ونفوذ علي الصعيد السياسي.
نحن إذن لم نعد أمام عالم متوافق حول نموذج اقتصادي واحد، وهو الرأسمالية الليبرالية الديمقراطية. بل نحن في عالم بلا أقطاب، تتعدد فيه الأشكال والنماذج الاقتصادية، التي كثيرا ما تكون غير ليبرالية. نحن لسنا بصدد نظام عالمي جديد، بل فوضي عالمية، وعالم منقسم، ساخن، من المنتظر أن تندلع فيه نزاعات متعددة في المستقبل القريب.
لقد أوجدت الشعوب خارج الغرب نماذج جديدة تمزج ما بين ديناميكية اقتصاد السوق وحكم الحزب الواحد أو العائلة الواحدة. وقد تكون ملكية الشركات الكبري في هذه النماذج للدولة وحدها، أو مشتركة بين الدولة وأطراف أخري. كما أنه من الشائع أن ينتشر الفساد بشكل واسع في هذه النظم، وأن تتم الاستهانة بتطبيق حكم القانون.
ويشير آش إلي رؤية المحلل الصيني للعلاقات الدولية، يان زيوتونج، بأن القوي الصاعدة عادة ما تأتي بالقيم السائدة فيها إلي "المائدة الدولية"، حيث تسعي لنشرها، كيفما استطاعت. ولتحديد تصاعد نفوذ هذه النماذج الجديدة، علينا أن نتساءل عما إذا كانت الصين أو روسيا، أو الهند أو البرازيل، أكثر أم أقل استعدادا اليوم لتقبل مفاهيم غربية عما كانت عليه منذ عشر سنوات. هي بالتأكيد أقل استعدادا. كما أن دول الجنوب بلاشك أكثر اهتماما بالأفكار والمفاهيم الصينية عما كانت عليه منذ عشر سنوات.
إن أحد الملامح الرئيسية للواقع العالمي الجديد هو انتشار قيم ومعايير متعددة ومتباينة علي الصعيد العالمي في الوقت نفسه. وربما يكون الزعماء السياسيون الحاليون أكثر سعادة في عالم يدير فيه كل من الأمريكيين والصينيين والأوروبيين شئونهم، وفق معاييرهم وقيمهم الخاصة داحل حدودهم. وربما يسعون - وهنا تكون المشكلة - إلي نشر هذه القيم والمعايير في المناطق المجاورة التي يعدونها مناطق نفوذ.
وفي مثل هذا العالم، فإن الاتفاق الدولي علي قواعد التعامل لن يتعدي الحد الأدني من القوانين اللازمة لتنظيم الحركة الدولية، مثل تلك المتعلقة بالتجارة أو الطيران. وسوف يكون هناك احترام شديد لمبادئ السيادة وعدم التدخل. وسوف يكون علي العالم لذلك أن يحدد بشكل دقيق القضايا التي يجب أن تأخذ الأولوية للاتفاق عليها.
يصف تقرير مجموعة أوراسيا هذا الواقع الجديد ب""G-Zero، وفيه تنحي القوي الدولية الرئيسية جانبا طموحاتها في قيادة العالم، سواء منفردة أو مجتمعة، وتنشغل بشكل أساسي بقضاياها الداخلية، وهو وضع غريب وجديد علي المستوي الدولي(7)
وقد انعكس هذا "الواقع الجديد" في تدهور فعالية المنتديات والمؤسسات الدولية. وبعد أن كانت الآمال معقودة علي أن تتولي مجموعة العشرين قيادة الاقتصاد العالمي، ثبت أن تعاونها كان قصير المدي. ففي أواخر عام 2010، اندلعت الخلافات بين الدول أعضاء المجموعة، منذرة باشتعال حرب عملات، وبعودة الإجراءات الاقتصادية الحمائية التي سادت في الثلاثينيات من القرن الماضي. لقد أصبح التعارض بين استراتيجيات الاقتصادات العالمية الكبري واضحا للعيان.
ويتوقع التقرير أن يتواصل انهيار المؤسسات الدولية خلال عام 2011، نظرا لاتساع الفجوة بين مصالح الدول المتقدمة، والدول النامية من ناحية، واستمرار انشغال وانقسام الدول الغربية واليابان فيما بينها حول أفضل السبل لمعالجة تداعيات الأزمة الاقتصادية من ناحية أخري. لذلك، من المنتظر أن يأخذ الاقتصاد الأولوية عن السياسة في المرحلة القادمة. وفي عالم بلا قيادة، فمن المنتظر أيضا أن تندلع النزاعات بين الدول بشكل واسع.
الأبعاد الاستراتيجية:
في مقال بعنوان "تحولات القوة"، يتناول هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، الواقع العالمي الجديد من منظور استراتيجي(8). يذكر كيسنجر بالنظام العالمي الذي كان سائدا في السبعينيات من القرن الماضي، حيث كان هناك خط استراتيجي واضح يفصل بين القوي الدولية،يمر في وسط القارة الأوروبية. أما في عالم اليوم، فمن الصعب حصر الخطوط الاستراتيجية الفاصلة، أو تحديد عامل مشترك أدني يجمع بينها.
وقد ظهرت تفاوتات جوهرية في المعايير والقوة علي المستوي الاستراتيجي. فالدور الأمريكي علي هذا المستوي في تراجع لعدة أسباب اقتصادية وسياسية. وسوف يكون من الصعب علي الإدارات الأمريكية في المستقبل القريب إقناع الناخبين بضرورة التدخل العسكري الخارجي إلا تحت ظروف مشددة. كما أن أوروبا ابتعدت بشكل عام عن استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف استراتيجية، واتجه اهتمامها إلي عمليات حفظ السلام وما شابهها. وقد تركت الحروب الأخيرة التي خاضتها الدول الأطلسية جراحا وانقسامات عميقة داخل المجتمعات الغربية، مما يقلل من احتمالات استخدام هذه الدول لقواها العسكرية في مواجهة مشاكل أو نزاعات في مختلف أنحاء العالم.
ولكن الوضع يختلف تماما في آسيا، التي أصبحت المركز الجديد للتفاعلات الدولية، خاصة في المحيطين الهادي والهندي. فالدول الآسيوية تتبني منطق الدفاع عن المصالح القومية بشكل صريح، أقرب ما يكون إلي سلوك الدول الأوروبية في النصف الأول من القرن العشرين. ولذلك، فإن اندلاع النزاعات في هذه المنطقة وارد ومحتمل.
ويري كيسنجر أن تعدد الفاعلين بشكل كبير في النظام الدولي الحالي، واختلاف قيمهم وتوجهاتهم علي الصعيد الاستراتيجي، يجعل من تطبيق المفهوم الكلاسيكي للأمن الجماعي عملية شاقة وصعبة. وتعطي المواقف الدولية المختلفة من قضية الانتشار النووي مثالا علي ذلك. فالولاياتالمتحدة، وبعض حلفائها، تنظر إلي المشكلة بشكل تقني، حيث تبلور سياسات تهدف لمنع الانتشار، وتقدم العقوبات الدولية كحل رادع. ولكن الدول المجاورة لكوريا الشمالية أو لإيران تنظر للقضية من زاوية مختلفة. فمن المؤكد أن الصين، مثلا، لا ترغب في وجود دولة نووية، مثل كوريا أو فيتنام أو حتي اليابان علي حدودها، ولكن الصين لديها مخاوف عميقة تجاه مستقبل النظام السياسي في كوريا الشمالية. وهي تخشي من أن تؤدي الضغوط الهادفة لإقناعها بالتخلي عن الخيار النووي إلي اندلاع أزمة داخلية، سوف تنتقل إليها بالتأكيد عبر الحدود. ولذلك، فإن الصين ليست علي استعداد لممارسة ضغوط علي النظام الكوري قد تصل به إلي مرحلة الأزمة. وينطبق مثل هذا التحليل أيضا علي موقف روسيا والصين من القضية النووية الإيرانية، حيث تقتصر موافقة الدولتين علي إجراءات ضد إيران لا تمس مصالحهما الاقتصادية.
وبهذا الشكل، فإن سنوات من المفاوضات حول البرنامجين الكوري والإيراني لم تسفر عن نتائج ملموسة. والوقت في هذا الصدد ليس محايدا، حيث إن اتساع الانتشار النووي سيجبر النظام الدولي، عند نقطة ما، علي أن يختار ما بين اتخاذ إجراءات حاسمة، أيا كانت، لمنع هذا الانتشار، أو القبول بالحياة في عالم نووي. وهنا، سوف تنشأ مشاكل وأسئلة جديدة، حول كيفية إدارة مثل هذا العالم، وعن معني مفهوم الردع وأسس التحالف فيه. ومن هذه الأسئلة: هل ستستخدم الدول النووية الكبري ترساناتها النووية لمنع استخدام الأسلحة النووية في الحروب؟ وهل ستسمح باستخدام أسلحة نووية في نزاعات دولية، حتي لو لم تكن طرفا مباشرا في هذه النزاعات?
وسوف يفاقم تراجع الدور الأمريكي علي الساحة الدولية من المشاكل المتعلقة بتطبيق نظام جماعي للأمن، حيث كان التدخل الأمريكي، إما منفردا أو مع حلفاء، يلعب دورا مهما في رأب التصدعات المختلفة التي يعانيها هذا النظام.
ويؤكد كيسنجر أن الولايات المتحدة، برغم تراجع قوتها، ستظل طرفا رئيسيا لا يمكن الاستغناء عنه في أي نظام دولي للأمن الجماعي. وعلي الولايات المتحدة أن توطد نفسها علي ممارسة فن القيادة في إطار عالم معقد، سوف تضطر فيه إلي تقاسم أعباء المسئولية عن النظام العالميمع مراكز القوة الصاعدة.
"E Zero" .. هل ينهار المشروع الأوروبي؟
يواجه مشروع الاتحاد الأوروبي حاليا أزمة اقتصادية سياسية متداخلة وحادة، قد تكون لها تداعيات بعيدة المدي علي مستقبل القارة ودورها العالمي. وقد قدم ديفيد ميليباند، وزير الخارجية البريطاني السابق (2007-2010)، تحليلا يقارن فيه بين المشاكل الهيكلية التي يواجهها المشروع الأوروبي، ومشاكل النظام العالمي(9). فهناك عدم توازن داخل أوروبا بين دول "القلب" القوية ودول "الأطراف" التي تعاني أزمات مالية حادة، يتوازي مع عدم التوازن الدولي الذي تمثله الفوائض الصينية الكبيرة والعجز الأمريكي غير المسبوق.
وكما أن هناك غيابا للقيادة السياسية علي المستوي الدوليG Zeroس" فهناك غياب للقيادة الاقتصادية علي مستوي النظام الأوروبي"E Zeroس. لقد أصبح التكامل الاقتصادي، الذي هو قلب المشروع الأوروبي وسبب قوته، في خطر نتيجة للواقع السياسي والاقتصادي الجديد في القارة.
يطرح الباحث سباستيان روساتو في بحثه، "سياسات القوة وحالة المشروع الأوروبي"، رؤية تحليلية تربط تطور الاتحاد الأوروبي بنمط توزيع القوة في القارة(10). يقول الباحث إن بناء الاتحاد الأوروبي كان مدفوعا بالخوف من وجود قوة الاتحاد السوفيتي القاهرة علي حدود أوروبا، حيث كان من المستحيل، في ظل موازين القوي السائدة، أن تستطيع أي دولة أوروبية غربية بمفردها موازنة الاتحاد السوفيتي. وكان هناك تخوف أوروبي من أن الولايات المتحدة سوف تسحب قواتها العسكرية من القارة إن عاجلا أم آجلا. ولذلك، بدأت الدول الأوروبية في البحث عن وسيلة تمكنها من موازنة قوة الاتحاد السوفيتي بدون مساعدة الولايات المتحدة.
ولأن الرؤية السائدة في ذلك الوقت كانت أن القوة الاقتصادية هي المفتاح الأساسي للقوة العسكرية، فقد اتفق الأوروبيون علي تشكيل تحالف اقتصادي، يأخذ شكل اقتصاد إقليمي موحد، تحكمه إدارة مركزية. ورغم أن ذلك كان يعني تخلي الدول الأوروبية عن بعض أبعاد السيادة، فقد شعر الأوروبيون في ذلك الوقت بأنه ليس لديهم خيار آخر للدفاع عن أنفسهم.
تغيرت موازين القوي بشكل جذري عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991. ومنذ ذلك الوقت، لم يواجه الأوروبيون خصما يتفوق عليهم بشكل واضح في القوة. لذلك، فلم يستمر تطور الاتحاد الأوروبي في اتجاه الوحدة السياسية أو العسكرية. من ناحية أخري، لم يعد للأوروبيين سبب جيوسياسي قوي للحفاظ علي وحدتهم الاقتصادية. ولكن هذه الوحدة استمرت، لأن التسعينيات من القرن الماضي كانت سنوات رخاء في أوروبا. ففي السنوات الخمس التي سبقت توقيع اتفاقية ماستريخت، كان معدل النمو السنوي للاقتصاد الألماني 4%، والفرنسي 3%، بينما كان المعدل في الولايات المتحدة 2.5%.
ولكن الوضع تغير في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فقد تراجع معدل نمو الاقتصاد في فرنسا إلي أقل من 2% سنويا ما بين سنوات 2001 و2007، بينما لم يتعد 1% في ألمانيا خلال هذه الفترة، كما ارتفعت معدلات البطالة. ولم يترتب علي إطلاق العملة الأوروبية الموحدة"اليورو" أي تحسن ملموس في معدل النمو أو الإنتاجية الأوروبية. ومع اندلاع المشكلات الاقتصادية، لجأت اقتصادات أوروبا الكبيرة، ألمانيا وفرنسا، إلي مخالفة القوانين التي تحكم الوحدة الاقتصادية الأوروبية، في سبيل الدفاع عن مصالحها القومية. اتجهت هذه الدول، علي سبيل المثال، إلي تقديم الدعم إلي صناعاتها الوطنية، مما صادف قبولا من القواعد الانتخابية، خاصة في ظل تنامي السخط الشعبي تجاه أسلوب عمل المؤسسات الأوروبية.
وقد أخذ هذا الاتجاه القومي شكلا أكثر حدة بعد إندلاع الأزمة المالية العالمية عام 8002. وبدأت الانتقادات توجه، خاصة إلي ألمانيا، بتجاهل المصلحة الأوروبية في سبيل دعم المصلحة الوطنية. وقد عبر عن ذلك صراحة وزير الداخلية الألماني عام 2010، حيث صرح بأن هناك تغيرا في التوجهات الألمانية، وأن ألمانيا تسعي بشكل نشط لتحقيق مصالحها القومية.
تشهد الساحة الأوروبية اليوم توزيعا يكاد يكون متساويا للقوة بين دولها. ورغم أن ألمانيا هي الدولة الأقوي، فإن تفوقها في موازين القوي الشاملة علي كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا يقل عن نسبة 2:1. وبغياب خصم قوي يهدد القارة، فليس لدي الأوروبيين دافع استراتيجي لدفع مشروع الوحدة الأوروبية إلي الإمام، أو حتي لتغليب مصالح الوحدة الاقتصادية الأوروبية علي مصالحهم القومية.
إذا لم تتحسن الأوضاع الاقتصادية، ولم يحدث تغير جذري في توزيع القوة، فإن التفكك البطئ الذي تشهده أوروبا منذ بداية هذا القرن سوف يستمر. وسيواصل الأوروبيون تعاونهم معا، ولكن المشروع الأوروبي سوف يضعف تدريجيا، حتي يصبح مجرد مؤسسة دولية أخري علي الساحة، بدلا من التجربة المتميزة التي كان الأوروبيون يأملون في تحقيقها.
ألمانيا "الجديدة" :
أصبحت ألمانيا المثال الأكثر وضوحا علي تفكك البنيان الأوروبي. ورغم أن أوروبا لم تكن في يوم من الأيام أكثر حاجة إلي ألمانيا مما هي عليه اليوم، فإن المواقف الألمانية أصبحت تتسم أكثر فأكثر بالانفصالية والانعزالية عن المواقف الأوروبية والأطلسية. وتعد المواقف الألمانية من التدخل في ليبيا ومن أزمة اليورو الأخيرة أمثلة واضحة علي ذلك.
وقد عالجت دراسة، أصدرها المجلس الأوروبي للشئون الخارجية، من إعداد الباحثين أولريك جيرو ومارك لينورد، بعنوان: "المسألة الألمانية الجديدة.. كيف تحصل أوروبا علي ألمانيا التي تحتاج إليها؟"، ما يسمي بالتوجهات الألمانية الجديدة. استعرضت الدراسة اختلاف الرؤي بينألمانيا وجيرانها الأوروبيين، فأوضحت أن النخبة الألمانية تعتقد بأن النموذج المالي والاقتصادي الألماني هو الحل الوحيد لتجاوز أزمة اليورو. لكن هناك دولا في أوروبا تري أن ألمانيا هي المستفيد الأكبر من السوق الموحدة ومنطقة اليورو، بل ومن سياسات البنك المركزي الأوروبي، فعليها ألا تتذمر وتفرض شروطها بخصوص خطط الإنقاذ المالي المطروحة. وهناك أيضا من يري أن نموذج الاقتصاد الألماني القائم علي النمو من خلال التصدير هو بالفعل أحد أسباب مشاكل أوروبا الاقتصادية.
ولا تعود الاختلافات بين ألمانيا وجيرانها الأوروبيين فقط إلي زيادة قوتها الاقتصادية، وارتباط مصالحها القومية أكثر فأكثر بمراكز قوي أخري، مثل دول مجموعة ال- BRICS،ولكنها -حسبما توضح الدراسة- ترتبط أيضا بتغيرات داخلية مهمة. فرغم أن ألمانيا الجديدة تبدو أكثرقوة وفاعلية، فهي تعاني مشاكل عديدة تضعفها بنيويا علي الصعيد الداخلي. فهي تعاني مشاكل تتعلق بالهجرة، وبالحاجة الملحة لتطوير النظام التعليمي، وبعدم العدالة في توزيع عوائد النمو الاقتصادي بين المناطق المختلفة، حيث توجد عدة مناطق في غرب ألمانيا أوشكت علي إعلان إفلاسها.
وعلي الصعيد السياسي، يعاني النظام الألماني التفتت، حيث لا يستطيع أي من الحزبين الكبيرين، اللذين ساندا الاندماج الأوروبي في الماضي، ضمان الحصول علي 40% من أصوات الناخبين. كما ظهرت العديد من الأحزاب الجديدة علي اليمين واليسار، والتي تتبني مواقف معادية للمشروع الأوروبي، وقد أخذت قوة هذه الأحزاب في الازدياد. لكل ذلك، أصبحت الإدارة السياسية للبلاد أكثر صعوبة، ولم يعد من الممكن للحكومات الألمانية أن تتجاهل المواقف الشعبية من السياسة الخارجية، كما كانت تفعل في السابق.
وتعد الأجيال الألمانية الجديدة، التي تشكل وعيها في الفترة التي تلت سقوط حائط برلين، أقل انبهارا بأوروبا وأقل تمسكا بالانتماء إليها من الأجيال السابقة. فحسب إحصاءات حديثة للرأي، لا يشعر 53% من الألمان بأن أوروبا تمثل بالنسبة لهم المستقبل. وهناك تذمر شعبي من أن يتحمل دافعو الضرائب الألمان أعباء إضافية من أجل إنقاذ الاقتصادات المنهارة علي أطراف أوروبا. وتشير استطلاعات للرأي إلي أن 63% من الألمان ليس لديهم أي ثقة، أو لديهم ثقة محدودة جدا، في مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
في ظل كل هذه الظروف، قد تجنح ألمانيا إلي سلوك طريق مستقل عن حلفائها الأوروبين والأطلسيين، في محاولة للصعود علي الساحة الدولية كفاعل إقليمي جديد. ولكن من المبكر التكهن بما إذا كانت بالفعل ستنجح في لعب مثل هذا الدور أم لا.
هل يصمد النظام العالمي الليبرالي بدون الهيمنة الأمريكية؟
في مقال بعنوان: "مستقبل النظام العالمي الليبرالي" -في مجلة فورين أفيرز الأمريكية، عدد مايو/يونيو 2011- يقدم أستاذ العلاقات الدولية بجامعة برينستون، ج. جون ايكنبري، رؤية أكثر تفاؤلا عن قدرة النظام العالمي الحالي علي الاستمرار، وعلي استيعاب كل القوي الصاعدة. يقول أيكنبري إن النظام الدولي المعاصر ليس في جوهره أمريكي أو غربي الصبغة، حتي وإن بدا كذلك لظروف تاريخية. فهو نظام تراتبي ارتكز علي القوة الأمريكية، ولكنه ذو صفات ليبرالية. وبينما تتجه الهيمنة الأمريكية إلي التراجع، فإن الأبعاد التراتبية لهذا النظام تتداعي، بينما تستمر أبعاده الليبرالية. يري أيكنبري أن النظام الدولي سوف يظل متماسكا، حتي في ظل محاولة الصين أو دول صاعدة أخري انتزاع مرتبة الصدارة من الولايات المتحدة. فالدول الصاعدة لديها الدافع للتفاعل مع هذا النظام الدولي والاندماج فيه، لأن ذلك يخدم مصالحها.
إن الطريق إلي الحداثة بالنسبة للدول الصاعدة يمر عبر النظام الدولي القائم، لأنه يشكل نوعا من التجمع العالمي الذي يوفر لأعضائه أدوات التقدم الاقتصادي والسياسي. فالمشاركون في هذا النظام يحظون بفرص للتجارة، وأدوات لحل النزاعات، وأطر للعمل الجماعي، وضمانات أمنية تحالفية، وإمدادات في حالات الكوارث والأزمات.
إن الدول الصاعدة لديها مصلحة كبيرة في الحفاظ علي نظام مفتوح قائم علي قواعد متفق عليها، حيث يمهد لها الطريق إلي التجارة والاستثمار ومشاطرة المعلومات مع مجتمعات أخري. كما أن قواعد منظمة التجارة العالمية، التي تمنع الإجراءات الحمائية، سوف تكون ذات أهمية حاسمة في مواصلة هذه الدول لصعودها الاقتصادي. إن الصين، علي سبيل المثال، مندمجة بشكل عميق في نظام التجارة العالمية، حيث إن 40% من إجمالي الناتج القومي تتمثل في شكل صادرات، تذهب 25% منها إلي الولايات المتحدة.
من ناحية أخري، فإن هناك نخبا ذات توجهات دولية تكتسب المزيد من النفوذ داخل مجتمعاتها في البرازيل والصين والهند وغيرها من الدول الصاعدة، وهم يمثلون جبهة ضغط لاستمرار هذا النظام الدولي المفتوح. ولكن لأن هذه النخب لم تكن جزءا من الصفقة الكبري التي واكبت إنشاءهذا النظام، فهم يسعون إلي إعادة التفاوض بشأن موقع بلادهم بداخله.
تستفيد هذه الدول من الحماية والحقوق التي تترتب علي استناد النظام العالمي لمبدأ السيادة الوطنية، وتبغي الحماية والحقوق التي يوفرها فيما يتعلق بالتجارة والاستثمار. كما يرغب هؤلاء الفاعلون الجدد في استغلال منابر المؤسسات الدولية -مجلس الأمن، مجموعة العشرين وغيرهما- لممارسة نفوذهم علي الصعيد الدولي، وتدعيم شرعيتهم علي الصعيد الداخلي. وليس هناك علي الصعيد العالمي مقاربة تنافس بشكل حقيقي الليبرالية الدولية. إن أي نظام بديل غير ليبرالي سوف يقوم في الغالب علي تكتلات إقصائية ومناطق نفوذ وشبكات ميركنتالية. ولكن مثل هذا النظام لن يدعم مصالح أي من الدول الصاعدة، حتي الصين. فمثل هذه الممارسات قد تكون مربحة، عندما يستغل بعض أعضاء النظام بشكل أناني الأسواق المفتوحة. ولكن إذا استخدمت كل الدول مثل هذه الممارسات، فإن النظام لن يعود مفتوحا، بل يصبح مفتتا وحمائيا، مما يعود بالضرر علي الجميع.
ورغم أن هناك احتمالا لأن تتحرك الصين مستقبلا في مثل هذا الاتجاه، فإنها لن تتمكن من أن تصبح قطبا دوليا مهيمنا غير ليبرالي يعيد تنظيم المؤسسات والقواعد العالمية. ومن المرجح أن تحاول الصين في هذا السيناريو العمل داخل وخارج النظام الليبرالي في الوقت نفسه. ولكن بمرور الوقت، وإذا أصرت باقي الدول علي تطبيق قواعد الليبرالية، فإن الصين سوف تجد نفسها تحت ضغوط قوية لاحترام هذه القواعد أيضا.
لقد نزعت الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة الشرعية عن التوجهات "النيوليبرالية" و"الأصولية السوقية"، خاصة في الاقتصادات البازغة. ولكن الليبرالية الدولية تختلف عن هذه النظريات، حيث تعتمد أفكارا أكثر شمولية عن السوق، والانفتاح والاستقرار الاجتماعي. والعالم ليس بصدد رفض مبادئ السوق والانفتاح، ولكنه يطالب بتوجهات أشمل تضمن الاستقرار والأمن الاقتصادي.
وسوف تكتشف الدول الصاعدة أن التزامها بالقواعد والمؤسسات الدولية القائمة سوف يخفف من قلق جيرانها، كلما ازدادت قوة وثراء. وإذا كانت الصين، علي سبيل المثال، جادة في إقناع جيرانها بنياتها الطيبة للصعود السلمي، فيجب أن تصبح أكثر اندماجا في النظام الدولي.
وبشكل أكثر عمومية، فإن التحديات التي سيواجهها العالم في القرن الحادي والعشرين تجعل لكل القوي الرئيسية مصلحة متصاعدة في التمسك بنظام دولي مفتوح قائم علي قواعد واضحة. ففي ظل الاعتماد الدولي المتبادل، اقتصاديا وأمنيا، تصبح تكلفة عدم الالتزام بالقواعد، وعدم تكوين روابط تعاونية، أكثر ارتفاعا. وسوف يكون من الصعب، حتي علي أكثر الدول قوة، تحقيق الرخاء بدون التعاون مع الآخرين.
وبينما تزداد الحاجة إلي التعاون بين أطراف متعددة حول قضايا مثل الطاقة النظيفة وحماية البيئة، ومنع الانتشار، فلا يزال هناك خلاف بين القوي القديمة والصاعدة حول كيفية إدارة هذا التعاون. ولكن القوي جميعا في النهاية لديها مصلحة في تفادي انهيار النظام نفسه.
إن الانقسام القادم في السياسة الدولية لن يكون بين الولايات المتحدة والدول الغربية من ناحية، والدول الصاعدة غير الغريبة من ناحية أخري، بل إن الصراع سيدور بين هؤلاء الذين يسعون إلي تجديد وتوسيع النظام التعددي الحالي للحوكمة، وهؤلاء الذين يسعون للانتقال إلي نظام جديد أقل تعاونية يقوم علي مناطق النفوذ.
خاتمة:
تستند معظم التحليلات المتعلقة بتحولات النظام الدولي إلي فرضية أن مراحل الانتقال ترتبط دائما بقدر ما، قد يزيد أو يقل، من الفوضي الدولية. ينطبق ذلك بشكل خاص علي فترات التحول من نظام أحادي القطبية، الذي كان جل المحللين الأمريكيين يرون فيه ضمانا للاستقرار الدولي، إلي نظام تتعدد فيه القوي والأقطاب. ولكن هناك من المحللين من يربط ذلك باستناد هذه التحليلات إلي تجربة تاريخية محددة، وهي فترة الهيمنة الغربية، بينما قد يؤدي اتخاذ منظور تاريخي أوسع إلي رؤية مختلفة(13).
وقد أشارت الباحثة جانيت أبو اللغد، علي سبيل المثال، منذ نحو عشرين عاما، إلي أن فترة الهيمنة الأحادية الأمريكية تمثل في الواقع نهاية لعهد السيطرة الغربية (الأوروبية ثم الأمريكية)، ومؤشرا علي العودة إلي النظام الدولي السائد في الفترات التاريخية التي سبقته، حين شهد العالم وجود مراكز قوة متعددة ومتوازنة فيما بينها. وهناك من يري أن النظام الدولي، الذي سينتج عن انهيار الهيمنة الأمريكية، سوف يتشكل من عدة مناطق للنفوذ تتكون حول قوي إقليمية متقاربة القوة.
ولكن علي الجانب الآخر، يري هنري كيسنجر أن مثل هذا النظام لا يصلح في العصر الحديث(14). فالولايات المتحدة، علي سبيل المثال، دولة باسيفيكية، ولا يمكن إقصاؤها عن شرق آسيا. كما أنه لا يمكن إقصاء الصين أو الهند من الشرق الأوسط أو غيرها من المناطق الغنية بالموارد الطبيعية. وهناك العديد من القضايا الدولية الملحة، مثل الطاقة الخضراء، والحفاظ علي البيئة، لا يمكن التعامل معها علي المستوي الإقليمي، بل تحتاج إلي مقاربات عالمية.
يطرح كيسنجر مقاربة "وظيفية" للتعامل مع قضايا النظام العالمي، تكون أوسع من المستوي الإقليمي، ولكن أقل شمولا من المستوي العالمي. تقوم هذه المقاربة علي تولي الدول الأكثر تضررا من مشكلة ما قيادة وتنسيق العمل الدولي لمواجهتها. ويطرح كيسنجر مشكلة أفغانستان كمثال، حيث لا توجد دولة في محيط أفغانستان الاستراتيجي، بل وفي المنطقة بأسرها، لها مصلحة في انتصار طالبان، أو استمرار وجود القاعدة كدولة داخل الدولة، أو قيام صراعات عرقية قد تمتد إلي الدول المجاورة. فسوف تتضرر إيران من وصول نظام شديد العداء للشيعة إلي السلطة في كابول، كما أن تصاعد قوة الجهاديين الإسلاميين سوف يزيد من زعزعة الاستقرار في باكستان. ولروسيا مصالح في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، تتأثر بشكل أو بآخر بسيطرة قوي متطرفة علي مقدرات الأمور في أفغانستان، كما أن لصعود التيار الإسلامي المتطرف هناك تداعيات محتملة بالنسبة للأقاليم المسلمة في الصين.
كل هذه الدول لها مصلحة أكثر إلحاحا من الولايات المتحدة في تحقيق الاستقرار في أفغانستان. ولن يأتي التدخل الأمريكي بأي حلول طويلة المدي، بل إن ذلك لن يكون متاحا سوي عبر ائتلاف من الدول المجاورة، يعمل علي تحقيق الاستقرار ثم ضمان استمراره.
يتبني كيسنجر منظورا مختلفا أيضا لقضية الصعود الصيني، حيث يري أنه لا ينبغي أن ينظر للصين كدولة قومية مثل الدول الأوروبية التي صعدت في القرن الماضي، فهي تعد كيانا حضاريا وقوة قارية شاملة، كما أن الولايات المتحدة أيضا دولة تجسد هوية ثقافية علي امتداد قاري واسع. ويري كيسنجر أن العلاقة بين الصين والولايات المتحدة محورية بالنسبة لتحقيق السلام والاستقرار العالمي. وعلي القادة أن يدركوا أن أيا من الدولتين لن تستطيع أن تفرض سيطرتها أو هيمنتها علي الأخري، وأن الصراع بينهما لن يؤدي إلا إلي استنزاف مجتمعاتهم بشكل كبير، بالإضافة إلي تقويض فرص السلام العالمي.
كما يري كيسنجر أن إعادة التوازن إلي النظام الدولي هي مسئولية تقع علي عاتق القادة السياسيين، الذين عليهم بذل الجهود لتجنيب العالم مخاطر الفوضي والصراع في مراحل التحول التاريخية. ولكن المؤرخ بول كيندي يذكرنا بمقولة كارل ماركس الشهيرة، إن الرجال قد يصنعون التاريخ، ولكنهم مقيدون في ذلك بالمعطيات الموجودة علي أرض الواقع، وبالتحولات التاريخية العريضة التي لا يمكن الوقوف أمامها(15). فهناك حدود لقدرة الساسة علي صناعة التاريخ أو تغيير مساره. وعند نقطة ما في المسافة بين جهود الساسة ومعطيات الواقع علي الأرض، سوف تبدأ ملامح النظام العالمي الجديد في التشكل.