تيك توك أمريكا هل نحو عالم منقسم رقميًا ؟
منذ بداية أزمة تيك توك في الولايات المتحدة، وما رافقها من تهديدات بالإغلاق بدوافع أمنية وسيادية، وصولًا إلى مسار بيع التطبيق لمستثمرين أمريكيين وفصل النسخة الأمريكية عن النسخة العالمية، دخل العالم مرحلة جديدة في التعامل مع منصات التواصل الاجتماعي. لم تعد هذه المنصات مجرد تطبيقات ترفيه أو أدوات تواصل، بل أصبحت بنية تحتية رقمية مؤثرة في الأمن القومي، والوعي العام، والاقتصاد، والثقافة.حتى وصلنا الى ديسمبر 2025، حيث أُعلن عن توقيع اتفاقية مبدئية لفصل التطبيق الأمريكي حيث ينص الاتفاق الجديد على إنشاء كيان أمريكي شبه مستقل، تسيطر عليه أطراف استثمارية أمريكية ودولية بنسبة مع تقليص حصة بايت دانس وفصل البيانات والخوارزميات الخاصة بالمستخدم الأمريكي، وتخزين البيانات محليًا، وإخضاع الإشراف على المحتوى لإدارة داخل الولايات المتحدة. بهذا، لم تعد القضية مجرد تنظيم أو غرامات، بل تفكيك فعلي لمنصة عالمية وتحويلها إلى نسخة محلية ذات سيادة رقمية مستقلة.
هذه الخطوة أسست سابقة بالغة الأهمية. ما حدث في أمريكا كسر فكرة التطبيق العالمي الواحد وأثبت أن الدول قادرة سياسيًا وقانونيًا وتقنيًا على فرض فصل إقليمي كامل على أي منصة رقمية كبرى إذا رأت فيها تهديدًا أمنيًا، أو خطرًا على الرأي العام، أو أداة تأثير خارجي. الأخطر أن المبررات لا تقتصر على الأمن القومي فقط، بل يمكن أن تمتد بسهولة إلى الثقافة، والهوية، والقيم الاجتماعية، وحتى حماية الأطفال.
الأكثر دلالة هو أن الصين نفسها سبقت العالم في هذا المجال. التطبيق المحلي في الصين يُدعى دويين (Douyin)، وهو مختلف جوهريًا عن النسخة العالمية (TikTok). بينما يركز تيك توك العالمي بشكل كبير على المحتوى الترفيهي، الراقص، والفكاهي (وأحيانًا ما يُوصف بـ"التافه")، يُشجع دويين على المحتوى التعليمي، العلمي، المهاري، والقيمي، خاصة للشباب. هناك نسخة خاصة للأطفال محدودة الوقت (40 دقيقة يوميًا) وتركز على التجارب العلمية والمتاحف والقيم الوطنية. هذا الفرق ليس صدفة، بل نتيجة سياسات رقابية صارمة من الحكومة الصينية لتوجيه استخدام التكنولوجيا الإيجابي والبنّاء.
انطلاقًا من هذه السوابق، يصبح الحديث عن تكرار التجربة في مناطق أخرى حديثًا واقعيًا لا افتراضيًا. الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يعيش توترًا متصاعدًا مع منصة X (تويتر سابقًا)، خاصة بعد التغييرات التي أدخلها إيلون ماسك. الخلافات تدور حول حرية التعبير، وخطاب الكراهية، والمعلومات المضللة، والامتثال لقوانين الخدمات الرقمية الأوروبية. ومع تصاعد الغرامات والتهديدات التنظيمية، يمكن ان يؤدي الى ظهور سيناريو فصل نسخة أوروبية من X أو فرض خوارزميات وإشراف محلي أقرب مما كان يُتصور قبل سنوات.
الخلاصة أن العالم يتجه نحو إنترنت مجزأ، أو على الأقل منصات متعددة الوجوه، حيث لا توجد نسخة واحدة للجميع. تجربة تيك توك في أمريكا لم تكن استثناءً، بل بداية مرحلة جديدة ستشهد إعادة رسم العلاقة بين الدول الكبرى والمنصات الرقمية، وبين السيادة الوطنية والخوارزميات العابرة للحدود. السؤال لم يعد: هل يمكن تكرار التجربة؟ بل: أين ستكون المحطة التالية، وأي منصة ستكون الهدف القادم؟