شـهـادة ســـامى شـــرف ..... الطفولة والنشأة والنيابة وحرب فلسطين والبــــداية ...
--------------------------------------------------------------------------------
سنوات مع عبد الناصر 1 - سامي شرف
* من الجذور والطفولة والشباب المبكر الى الحياة العامة فالشيخوخة
* كلمة لا بدّ منها إرضاء لضمير ووفاءً لرجل
الجزء الأول - البداية الأولى
الحلقة الأولى
وأستأذنك عزيزي القارئ أن أبدأ من الفيلا رقم 12 شارع “كومانوس” الصومال حالياً بمصر الجديدة الساعة الثالثة من صباح يوم 21 ابريل/ نيسان 1929 بدأت أصرخ معلناً بدء حياتي.
ومن المفارقات والمصادفات الغربية أن المقر الانتخابي الذي أدلي فيه بصوتي في الانتخابات والاستفتاءات طبقاً لبطاقتي الانتخابية ورقم قيدي 225 حرف “ع” قسم مصر الجديدة، أقول إن مقر إدلائي بصوتي هو الفيلا نفسها، بل والغرفة نفسها التي وُلدت فيها، حيث أصبحت البناية الآن عبارة عن مدرسة حكومية.
كانت الفيلا التي وُلدت فيها لجدّي لوالدتي محمد زكي صالح (بك) مدير محافظ الآن بني سويف. وكان والدي في هذا الوقت مفتشاً لصحة بندر الجيزة وهو الدكتور عبدالعزيز محمد شرف الذي كان قد عاد قبل عامين من المملكة المتحدة حاملاً شهادة الدكتوراه في الجراحة العامة من كلية الطب في ادنبرة. وقام والدي بتسجيل شهادة ميلادي في مكتب صحة الجيزة يوم 26 ابريل/ نيسان ،1929 ولكن بتاريخ الميلاد الصحيح وفي الصفحة 23 جزء 17/- بالطلب ،2185 سجلت تحت رقم 572.
وترجع أصول عائلتي والدي ووالدتي إلى قبائل عربية استقرت في مديرية (محافظة البحيرة) مركز شبراخيت وإيتاي البارود، وهما مركزان متجاوران. وتعود أصول عائلة والدي كما عُرف عنها وكما قال لنا الأجداد والمعمرون، إنها عائلة الشاعر المنتسبة للشاعر حسان بن ثابت شاعر الرسول عليه الصلاة والسلام، وتعود عائلة والدتي إلى قبيلة الصوالح التي هاجرت من الأراضي الحجازية إلى المغرب ومنها إلى مصر حيث استقرّت في إقليم البحيرة، ولكن جدتي لوالدتي كانت من عائلة النواوي وجدها كان الإمام الأكبر الشيخ حسونة النواوي شيخ الجامع الأزهر.
والدتي المرحومة السيدة روحية محمد زكي صالح الثانية من بين أخوات سبع غيرها وشقيقين توفوا كلهم فيما عدا اثنتين منهما.
كانت الوالدة من أوليات من انضممن للتعليم في المدرسة السنية في العقد الأول من القرن العشرين، وحصلت على شهادة الابتدائية ثم الكفاءة تعادل منتصف التعليم الثانوي الآن مع فارق كبير في مستوى التحصيل العلمي حيث كن يتلقين مواد ولغات تفوق التعليم الجامعي الآن.
كانت أماً ومدرسة فعلاً في كل شيء، تسهر الليالي تستذكر معنا دروسنا حتى المرحلة الثانوية، وأتقنت خلال هذه الفترة اللغة الفرنسية إلى جانب الإنجليزية التي كانت تجيدها أصلاً. كانت تصادقنا، كل حسب مواصفاته وميوله، وبثت فينا روح الانتماء والترابط العائلي.
كان لدينا في البيت بيانو أجادت العزف عليه، سواء سماعي أو على النوتة، وعزفت جميع الألحان العربية والأجنبية الكلاسيكية، وشجعتني على تعلم أصول العزف على البيانو والهارمونيكا التي ما زلت أعزفها حتى الآن.
أما أخواتي البنات، فإلى جانب الاهتمام بتعليمهن في مدارس الراهبات الفرنسية عندما كنا في الأقاليم، ثم الليسيه الفرنسية في مصر الجديدة عندما استقرينا فيها سنة ،1945 ووصلت شقيقتنا الكبرى رحمها الله إلى تدريس اللغة الفرنسية في كلية البنات في جامعة عين شمس، وعملت في الوقت نفسه مترجمة في وكالة الأنباء الفرنسية ثم وكالة أنباء الشرق الأوسط.
الوالدة كانت تؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وفي الوقت نفسه كانت تحترم قواعد وتقاليد الأسرة المصرية. وكما شاركت في تظاهرات ،1919 فقد شجعتنا جميعاً على المشاركة السياسية في أمور بلدنا. كما كانت اجتماعية بشوشة حتى في غضبها، وحرصت على توطيد العلاقات مع زوجات المسؤولين والشخصيات العامة في كل العواصم التي عشنا فيها، خصوصاً زوجات الأطباء زملاء الوالد، واستمرت هذه العلاقات حتى آخر يوم في حياتها، وبالذات مع زوجات الدكاترة: صالح ثابت، وعبدالعزيز محمد، وعلي عبدالعال الذي كان والده سكرتيراً لجدي وعلي زين العابدين أول مدير للقصر العيني، وكورنيليوس بقطر، وغيرهم.
أذكر أنه عندما كنا في الأقاليم، كانت تقيم يوماً للاستقبال يبدأ من الخامسة حتى الثامنة أو التاسعة مساء، تستقبل فيه زوجات مدير المديرية ومفتش الري ورئيس المحكمة ورئيس النيابة ومدير التعليم والطبيب الشرعي والحكمدار مدير الأمن ونظار الابتدائي والثانوي ومأموري الأقسام وناظرات مدارس البنات الابتدائية والثانوية، كن يقمن بنشاط اجتماعي ويقمن معارض لإنتاجهن اليدوي، مثل شغل الإبرة والكانافاة والصور واللوحات.. إلخ، وكانت الحصيلة التبرّع بالدخل إلى الجمعيات الخيرية أو المستشفيات العامة.
كانت الوالدة تشجعنا على القراءة ليس فقط باللغة العربية ولكن بالفرنسية والإنجليزية ومن هنا فقد كانت إجادتنا كلنا للغات منذ الصغر، بل إن شقيقيّ السفيرين أجادا لغات البلاد التي مثلا مصر فيها. فرنسا، تركيا، السويد، الاتحاد السوفييتي، الصين، باكستان.
كان بيت الدكتور عبدالعزيز شرف، من دون مبالغة، هو بيت العائلة الكبير.. كل العائلة كانت تلجأ للوالدة في مشكلاتها العامة والخاصة.
لم تدع زيارة تفوتها وأنا أطوف في سجون السادات، وكانت تقول لي في كل زيارة وبصوت عالٍ في حضور الضباط الحراس: “يا بني القوالب نامت والأنصاص قامت!”.. وكانت آخر زيارة لي وهي مصابة باشتباه في ذبحة صدرية قبل وفاتها بأيام، كما أصرّت ليلة الوفاة على الاتصال بي تليفونياً في معتقل المسجونين في القصر العيني لتقول لي: يا سامي اقرأ لي الفاتحة وانت بتصلي.. ثم أغلقت التليفون.
وفي يوم 28 مارس/ آذار 1981 جاء محمد سامي شرف إلى السجن ليبلغني برحيل الوالدة، وأنه تتم محاولات واتصالات لحضوري تشييع الجنازة. وفعلاً اتصل بي تليفونياً اللواء رشيد وكيل المباحث العامة وقدم لي العزاء وأبلغني أنه قد تقرّر حضوري تشييع الجنازة وتقبل العزاء. وعدت في المساء إلى سجن القصر العيني. وبالمناسبة فقد دار حديث بيني وبين الضابط الذي رافقني أهم ما دار فيه قوله: “مش كفاية يا فندم بقى، بقى لك في السجن عشر سنين، مش كانت تبقى مناسبة لها أثرها لو أفرجوا عنك اليوم مثلاً؟ هو انتم عملتم إيه؟ ده القتلة والمجرمين وتجار المخدرات بيُحكم عليهم بخمس سنين ويُفرج عنهم بعد نصف المدة!” فقلت له: يا صديقي كله بأمر الله.
رحم الله الوالدة رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته.
انتقل والدي بعد ذلك مفتشاً لصحة مديرية (محافظة) بني سويف، وانتقلت العائلة معه حيث التحق إخوتي سميحة (1922) في مدرسة الراهبات وعمر (1925) والذي أصبح سفيراً فيما بعد، وعزالدين (1927) الذي أصبح مساعداً لوزير الخارجية فيما بعد، ألحقا بالمدارس الابتدائية الأميرية. وفي سن الرابعة أدخلت كتّاب الشيخ مسعود في بني سويف، حيث تسلمت جزء “عمّ” وبدأ الشيخ مسعود في تحفيظنا القرآن الكريم، وكان أخواي عمر وعزالدين قد سبقاني في الالتحاق بهذا الكتّاب أيضاً. ولا أنسى أبداً منظر “الفلكة” التي كان يمدنا عليها ليضربنا على أرجلنا عندما كنا لا نحفظ كما ينبغي أو عندما نخطئ في التلاوة الصحيحة، ولم يكن يفرق في هذا بين ابن المدير أو ابن الغفير.. كما لم يكد ينتهي العام الدراسي إلا وكنت أحفظ وما زلت والحمد لله جزء “عمّ”.
وفي العام الدراسي 34/ 1935 التحقت بمدرسة مصر الجديدة الابتدائية، حيث كان والدي قد انتقل للعمل مفتش صحة مديرية القليوبية واختار لنا السكن في مصر الجديدة وكان عليه أن يتوجه في الصباح الباكر إلى بنها ليعود في المساء. وكان سكننا في عمارة جديدة من عمارات شركة مصر الجديدة في شارع شريف باشا الذي كان يقيم هو شخصياً أي شريف باشا وكان أحد اللواءات في الجيش، في فيلا في أول الشارع، وفي هذا المنزل انضمت للأسرة الصغيرة أختي سلوى سنة 1935 وأخي طارق في ديسمبر ،1936 وقد ختم حياته ككبير للمترجمين العرب في منظمة الأمم المتحدة في جنيف.
وأذكر أنه كان يقيم في الدور الأول أحد الكونستبلات الإنجليز من الذين كانوا يعملون في البوليس المصري في ذلك الوقت، وكان بيننا عمر وعزالدين وأنا وبينه مشاحنات لأننا كنا نلقي على موتوسيكله القاذورات، كما كنا نقوم بغرس المسامير في الاسفلت لتخرق عجلاته، كان يشتكي للوالد الذي كان يغمز لنا بعينيه بمعنى أن يقول لنا: استمروا في ما تقومون به ولا تسألوا فيه! وكان يشاركنا في هذه العملية محمد عبدالرحمن نصير زميلنا في المدرسة وأحد الضباط الأحرار فيما بعد وشقيقه سيد نصير.
في مدرسة مصر الجديدة الابتدائية كانت تعتبر من مدارس أبناء الذوات في القاهرة، فقد كانت تضم أبناء ذوالفقار باشا والد الملكة فريدة الذي كان يقيم في قصره أمام مبنى المدرسة، وأحفاد الفريق عزيز المصري باشا وأبناء شريف باشا، وأبناء شرارة باشا، وأحفاد لطفي السيد باشا، وأبناء النقراشي باشا، وعبدالحميد بدوي وشاكر باشا وأحمد باشا حسنين وخلوصي باشا.. إلخ، وكان ناظر المدرسة إسماعيل (بك) توفيق كان بك رسمي كما كان المدرسون من أبرز رجال التعليم في مصر. كان مدرس اللغة الإنجليزية المستر “دولبي” حيث كنا نتلقى دروس اللغة الإنجليزية اعتباراً من السنة الأولى الابتدائية.
وفي العام الدراسي 1937/ 1938 انتقل الوالد إلى منصب مفتش صحة مديرية المنيا واصطحبنا معه حيث استأجر شقة كبيرة عبارة عن سبع حجرات في أحدث عمارة في شارع “ابن خصيب” وهي تعلو بنك قليني، وكان صادق بك قليني أحد كبار تجار القطن في صعيد مصر وكان يدير هذا البنك ليرعى مصالح الفلاحين في مقابل ما كان يقوم به المرابون اليهود والمتمصرين من إذلال للفلاحين.
وفي مدرسة المنيا الابتدائية وكان ناظرها عبدالعزيز (بك) لطفي كانت الدراسة تتبع نظام اليوم الكامل سبع حصص في اليوم خمس منها مرحلة أولى ثم فسحة لمدة ساعتين، نتناول فيها طعام الغداء الذي تقدمه المدرسة. ومن المفارقات الظريفة التي أذكرها عن مدرسة المنيا الابتدائية أن مدرس اللغة العربية كان يُدعى الأستاذ طنطاوي وكان يقوم برحلة سنوية صيفية على المركب إلى اليونان وعندما يعود في أول العام الدراسي كان يحكي لنا نوادره ومشاهداته هناك، كما كان يلقننا بعض الكلمات اليونانية التي يلتقطها مثل: كليميرا تي بو تاه أفكار إستوه ثغابوه.. وهكذا.
انضممت في هذه المدرسة إلى فريق الموسيقا الذي كان يتولاه الأستاذ السيد البدوي مدرس الرسم والأشغال اليدوية، وبدأت أتعلم العزف على آلة البيانو التي استمريت في العزف عليها حتى منتصف الأربعينات، واضطررت لتركها لظروف عائلية مادية خاصة، وكذلك آلة الهارمونيكا التي أتقنتها وأجيد العزف عليها حتى اليوم وكانت بالمناسبة تسليتنا في فترة سجون السادات. وكان مدرسونا في هذه المرحلة الأساتذة الأفاضل محمد الوليلي وحنا عبدالمسيح للرياضة ووديع أبسخرون للغة الإنجليزية والشيخ عبدالرحيم محمد للغة العربية. ولعل من أبرز الزملاء في هذه المدرسة محمد إبراهيم دكروري ود. جمال القشيري.
في عام ،1940 وبعد أن حصلت على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية من مدرسة المنيا الابتدائية وكانت على مستوى القطر المصري كله التحقت بمدرسة المنيا الثانوية التي كان يتولى نظارتها أحمد بك حلمي محمد، وكان يقوم بعمل فصول للتقوية في مادة الرياضيات التي كان متخصصاً فيها وكان يقوم هو شخصياً بالتدريس والشرح لنا، وكان مدرسو الإنجليزية والفرنسية أساتذة إنجليز وفرنسيين أذكر منهم: جيوم، ولولو، وبراون. وكان جيوم يمتطي دراجة في حضوره ومغادرته للمدرسة، وفي منتصف العام الدراسي نُقل ناظر المدرسة وعُين بدلاً منه السيد يوسف (عديل الرئيس جمال عبدالناصر فيما بعد الذي سيرد الكلام عنه بالتفصيل في فصل سكرتارية الرئيس للمعلومات).
طيلة فترة إقامتنا في المنيا، استأجرنا أيضاً إحدى فيلات شركة مصر الجديدة في القاهرة، وكانت تقع على ناصية شارعي البارون (15 شارع نزيه خليفة الآن) وإسماعيل (بغداد الآن)، وأذكر أن إيجارها كان سبعة جنيهات في الشهر، وقد أصبحت هذه الفيلا الآن مدرسة للبنات الراهبات، وكان جدي لوالدتي مستأجراً الفيلا المقابلة لها وعلى الجانب الآخر من شريط المترو والمجاورة لفيلا الملكة فريدة.
انتقل الوالد بعد ذلك ليُعين مفتش صحة مديرية الدقهلية، وبالتالي انتقلنا معه إلى المنصورة الثانوية. واستأجر لنا الوالد شقة في عمارة في حي تورييل على البحر الصغير ملك الحاج خليل خليل القصيفي أحد كبار المقاولين في كل من الدقهلية ودمياط وبورسعيد وكانت تجاور حديقة البلدية ومنزل مدير المديرية ومستعمرة الري في الدقهلية وبالمناسبة كانت مستعمرات الري في مصر تُعتبر من أرقى الأماكن التي يمكن أن يتخيّلها الإنسان من حيث النظام والنظافة والناحية الجمالية، وفي حدائقها البديعة التي لم تكن تختلف في المنصورة عنها في المنيا أو في بني سويف أو في بنها أو القناطر الخيرية، وكان تخطيط حي تورييل مشابهاً إلى حد كبير تخطيط مصر الجديدة من حيث الشوارع المتقاطعة مع بعضها بعضاً بشكل منتظم طولياً وعرضياً، وكل منزل كانت فيه حديقة، كما كانت تتدفق في البحر الصغير المياه النظيفة التي ترى قاعه من خلالها. وكان يقيم في هذا الحي كبار الموظفين ومجموعة من الأعيان وكبار المهنيين من أطباء ومحامين ومهندسين. ويحد الحي من الناحية الشمالية نهر النيل العظيم الذي كان يتسع بشكل ملحوظ في مقابل مدينة المنصورة، وكانت تزين كورنيشه مؤسسات مدنية وحكومية تمتاز بالأناقة والجمال، منها على سبيل المثال منزل مدير المديرية ومستعمرة وتفتيش الري ثم مكتبة المنصورة الحكومية الأنيقة العامرة أبداً ودوماً بالكتب وقاعة المطالعة، ثم مجموعة من الكازينوهات والسينمات ومنها سينما عدن الشهيرة، ودار البلدية ومحلات راندوبولو للحلوى والقهوة، ثم قصر الشناوي باشا، فحديقة شجرة الدر وإلى جوارها مدارس المنصورة ومستشفياتها، ثم المدرسة الثانوية والصنائع والرشاد والمستشفى الأميري، فالحميات، أما المدرسة الابتدائية فقد كانت تقع في حي المختلط في وسط المدينة، وبجوار ميدان محطة السكك الحديدية.
في مدرسة المنصورة الثانوية كان ناظرنا للمرة الثانية أحمد حلمي محمد بك، وكان يقوم بالتدريس فيها مجموعة من أعظم رجال التعليم في ذلك الوقت. وكانت المنصورة الثانوية هي المدرسة الثانوية لثلاث مديريات هي: الدقهلية والشرقية ودمياط، فكانت تزخر بأعداد كبيرة من أبناء هذه المحافظات الثلاث من عائلات العلايلي ونيازي وأبو سمرة والجمال وعبدالهادي “المليجي” واللوزي والبدراوي عاشور وسراج الدين وغيرها من العائلات المعروفة.
وبهذه المناسبة فقد كنت طيلة دراستي في المدارس الابتدائية والثانوية طالباً متوسط التحصيل وإن تفوقت في اللغات والجغرافيا والتاريخ، وانضممت إلى فريق الموسيقا وفريق الكشافة الذي كان يتولاه الزميل إسماعيل صبري حمدي، وآخر عهدي به كان في منتصف الستينات حيث كان يقوم بالتدريس في إحدى المدارس الليبية. وقد قمنا بمعسكرات عدة ورحلات سيراً على الأقدام منها إلى المحلة الكبرى وأخرى إلى دمياط وثالثة إلى طنطا، هذا بخلاف معسكرات المبيت في الهايك (خيمة صغيرة) ليلة أو ليلتين لاستكشاف منطقة جديدة في محافظة الدقهلية كبحيرة المنزلة مثلاً وعمل دراسة ميدانية عنها.
كان يزاملني في مدرسة المنصورة الثانوية ومن أبرز الطلبة فيها في هذه الفترة: محمد فايق وزير الإعلام فيما بعد الذي زاملني في فصل واحد ودكّة واحدة طيلة السنوات الأربع وحتى مرحلة الثقافة العامة، والذي زاملني في المخابرات العامة ورئاسة الجمهورية وفي زنزانة مجاورة في سجون السادات ومن زملائي أيضاً محمد المصري مساعد سكرتير الرئيس للمعلومات للشؤون العربية فيما بعد وأحد الضباط الأحرار في سلاح المدفعية وشقيقه السعدي حامد المصري أحد الضباط الأحرار في سلاح المدفعية فيما بعد، ونعمان العلايلي المحاسب القانوني المعروف ورئيس مجلس إدارة نادي السيارات فيما بعد، ومحيي الدين سلامة الخولي أحد الضباط الأحرار في سلاح المدفعية وزول من أذاع بيان قيام ثورة يوليو 1952 قبل أن يصل البكباشي أنور السادات إلى مبنى الإذاعة، وخالد حسونة رئيس محكمة استئناف القاهرة فيما بعد، ومحمود عباس عبدالهادي أحد الضباط الأحرار والسفير فيما بعد، ونصر وفاروق العزيزي اللذين أصبحا ضابطين فيما بعد، وفتحي قنديل من الضباط الأحرار والسفير فيما بعد وشقيقيه محمد قنديل المحامي وحسني قنديل، وجمال حماد المهندس الذي أصبح وكيل وزارة الأشغال، وشقيقه محيي الدين حماد الدكتور ونائب رئيس شركة مصر للطيران ومدير مستشفى وزارة الكهرباء فيما بعد، والإخوان فايز وفاروق التاودي، وكانا أوائل المدرسة بجدارة، وعبداللطيف الطرشوبي، وأنيس منصور وعوض الدحة ومحمود البرهمتوشي زعيم المدرسة وكانوا يسبقونا بسنتين دراسيتين. وآخرين لم تسعفني الذاكرة في حصرهم.. وأرجو أن يعذرني كل عزيز زاملني في هذه المرحلة لم أذكر اسمه.
وأذكر أن أنيس منصور كان يصل إلى المدرسة ومعه مجموعة من الطلبة من أبناء العاملين في دائرة عمر طوسون باشا في دميرة، مستقلين سيارة نصف نقل سوداء ماركة فورد 1929 وكانت عبارة عن كابينة للسائق وباقي السيارة مكشوفة تغطيه “تندة” من قماش الخيام ومثبت على أرضيتها مقاعد خشبية متقابلة، ثم تعود السيارة نفسها عقب انتهاء اليوم الدراسي لإعادتهم إلى دميرة.
كانت المنصورة الثانوية تُعتبر من أهم معامل تفريخ رجال مصر المستقبل وما زالت حتى الآن.
كانت مدرستا المنصورة الثانوية والصنائع الثانوية متجاورتين، وكانتا تنضمان مع بعضهما بعضاً عند قيام التظاهرات في المناسبات الوطنية، مما كان يشكل قوة ضاغطة فعالة لتشكيل الرأي العام الطلابي في تلك المرحلة، وكان أبرز تيارين سياسيين في ذلك الوقت هما الوفد والإخوان المسلمين.
وبالمناسبة، فقد كان الأستاذ أحمد حمامة مراقب مدرسة الصنائع يقيم في عمارة في مقابل المدرسة مباشرة، كما شاهدنا نحن طلبة مدارس المنصورة في تلك المرحلة صعود نجم السيدة فاتن حمامة عندما اختارها الفنان محمد عبدالوهاب للتمثيل أمامه في أفلامه، وكان شقيقاها منير ومظهر زملاء لنا في المنصورة الثانوية، وتخرّج منير في كلية البوليس فيما بعد.
وبعد أن حصلت على شهادة الثقافة العامة من مدرسة المنصورة الثانوية نُقل الوالد إلى القاهرة، حيث عُين وكيلاً مساعداً لوزارة الصحة، وطبعاً عدنا إلى مصر الجديدة التي لم نفارقها طيلة إقامتنا في الأقاليم، حيث كان لنا هناك باستمرار فيلا سكنية نمضي فيها شهور الإجازة الصيفية، إلا أن الوالد استأجر شقة جديدة كانت تقع في شارع “فارسكور” العمارة رقم 5.
والتحقت بمدرسة مصر الجديدة الثانوية ودخلت فصلاً دراسياً يشمل عشرين طالباً فقط، كانوا يُعتبرون زبدة طلبة المدرسة، وكانوا يسمّونه فصل المتميزين، وفعلاً فقد تخرّج من طلبة هذا الفصل أطباء وقضاة ومحامون ودبلوماسيون وضباط ومهندسون أذكر منهم الزملاء: د. ممدوح حفني، ود. عبدالخالق ترزاكي، ود. محمد مأمون دياب، ود. مدحت رضا، والمستشار سمير مشرقي وكيل مجلس الدولة فيما بعد ود. كمال جبريال، وحسن حافظ رئيس الهيئة المصرية للتأمين فيما بعد وعبدالحليم بدوي، وأيوب شرارة، وحسن عبدالصمد كامل، ومصطفى حمدي، وعصمت رضا السفراء المعروفين. وكان الزميل مصطفى حمدي أحد الخبراء الأوائل في علم الإدارة، وأسهم في تأسيس جهاز المخابرات العامة تحت إشراف زكريا محيي الدين عام 1953/ ،1954 وقد أشرت إلى هذا الموضوع تفصيلاً في فصل سكرتارية الرئيس للمعلومات.
بداية العمل السياسي
لأول مرة في حياتي أمارس النشاط السياسي أثناء الدراسة في مدرسة مصر الجديدة الثانوية، حيث شاركت في التظاهرات التي قامت سنة ،1946 وكان يقود التظاهرات الزميل مجدي الدين محمد الذي انقطعت الصلة به بالتحاقي بالكلية الحربية. ولأول مرة كذلك أساق إلى أحد أقسام البوليس، قسم مصر الجديدة، حيث نبّه علينا مأمور القسم الصاغ حسن خالد بترك السياسة وعدم القيام بالتظاهرات وتجنب الالتقاء برؤساء الأحزاب في ذلك الوقت، ولقد كنا تقابلنا مع علي ماهر باشا في مقر حزبه “حزب مصر” في شارع سليمان باشا وتناقشنا معه في قضايا الوطن، كما نصحنا مأمور القسم أن نلتفت لدروسنا أحسن، ولما تكرّر اشتراكي في التظاهرات لم ينقذني من تحويلي إلى النيابة العامة سوى معاون البوليس في قسم مصر الجديدة اليوزباشي حسن كامل الذي كان يدرب أخي عزالدين الطالب في كلية البوليس في ذلك الوقت أثناء الإجازة الصيفية وكان معجباً بنشاطه. وأذكر أنه وعد مأمور القسم أن يتولى هو إقناعي بترك السياسة، فأخذني إلى مكتبه حيث حثّني على عدم الاندفاع، وفي الوقت نفسه شجعني على ضرورة الاحتفاظ بالإحساس بالوطن وبقضاياه والتمسك بها. وبمضي الزمن توطدت العلاقة بين حسن كامل وبيني حتى استشهد حسن كامل بعد ذلك في سنة 1969 وهو محافظ للبحر الأحمر عندما أصرّ على الحضور إلى القاهرة لاستكمال تجهيزات محافظته ضد العدو “الإسرائيلي” وتصادف أن كانت عملية الهجوم “الإسرائيلي” على الزعفرانة في اليوم نفسه، وقصفت سيارته واستشهد وهو فيها، وقد كلفني الرئيس جمال عبدالناصر بأن أنوب عنه في مواساة أسرته وتقديم واجب العزاء والتقدير لشخصه.
وبعد حصولي على شهادة إتمام الدراسة الثانوية من مصر الجديدة الثانوية القسم العلمي بنسبة تقارب من ال 60% أبدى لي والدي رغبته في أن يلتحق أحد أبنائه بكلية الطب ليكمل مسيرته، وذلك بعد أن التحق عمر بكلية الحقوق وعزالدين بكلية البوليس.
ولما كانت العلاقة بيني وبين والدي دون باقي إخوتي لها طابع خاص جداً، وكان دائماً يصرّ على أن أصاحبه في أثناء الإجازة الصيفية في مروره على مكاتب الصحة، عند قيامه بعمليات تشريح جثة أحد القتلى في جرائم القتل باعتباره الطبيب الشرعي، فلم أرد أن أخالف أو أعارض رغبته وقبلت بالرغم من أنني في تلك الفترة كنت قد بدأت أفكر في اختيار الطريق الذي يحدد مستقبلي وكنت أميل إلى الناحية العسكرية حيث كنت من المتابعين لتطورات الحرب العالمية الثانية تفصيلاً. أقول إنني لم أستطع أن أعارض رغبة الوالد صراحة، ومن باب الذوق قلت له: ليس لديّ مانع على أساس التجربة، فأخذني من يدي فوراً إلى كلية الطب حيث كان العميد الدكتور علي إبراهيم باشا وقال له: يا باشا أنا عايز ابني سامي يكمل مشواري، وطلب استثنائي من المجموع باعتباري ابن طبيب فوافق الباشا وقال له: “روح ادفع المصروفات يا عبدالعزيز”.
كانت المصروفات نحو خمسة وأربعين جنيهاً في السنة الدراسية غير ثمن الكتب، ولم يكن مع الوالد هذه المصروفات، فاتجهنا إلى شارع عدلي في وسط البلد حيث عمارة بحري. وطلعنا إلى الدور الأول وكان يحوي شققاً مفتوحة وكل حجرة يجلس فيها مرابي يهودي، وكان الوالد معتاداً أن يستلف من أحدهم، ولما طلب منه مبلغ خمسة وعشرين جنيهاً قال له مسيو حنانيا: يا دكتور عبدالعزيز العشرين يتردوا أربعين يوم الخميس، ولما كنا يوم الاثنين فقد كانت نسبة الربا 100% في ثلاثة أيام! ثرت وفار دمي في عروقي عندما شاهدت لأول مرة في حياتي شخص ما يلوي ذراع والدي، وقررت شيئاً في نفسي لم أبح به للوالد في ذلك الوقت، ولكني قلت له: يا والدي ما نجرب الكلية الأول وإذا عجبتني نبقى ندفع المصروفات. فوافق الوالد على مضض، ونزلنا وقد قررت تنفيذ ما جال بخاطري وهو: الانخراط في السلك العسكري مهما كان الثمن.
وبالفعل دخلت كلية الطب لمدة يومين اثنين، وقلت للوالد: إنني آسف جداً لن أستطيع أن أكمل الدراسة. وسامحني يا أبي. ولما كانت العلاقة بيننا قوية جداً ولم يسبق أن رفض لي طلباً، فقد وافقني وقدمت أوراقي لكلية التجارة في جامعة القاهرة انتظاراً لموعد التقديم للكلية الحربية الذي عندما أعلن عنه تقدمت بأوراقي إليها. وتشاء الأقدار أن أصاب يوم الكشف الطبي بالتيفوئيد فلم أستطع الالتحاق بهذه الدفعة وكان هذا من حظي الكبير ومن بركة دعاء الوالدين، فقد كانت هي دفعة ،1948 دفعة شمس بدران التي تعرضت لها تفصيلاً في فصل آخر من هذه المذكرات. وأكملت العام الدراسي في كلية التجارة في جامعة القاهرة، وكانت من أمتع السنوات الدراسية في حياتي، حيث انتقلت من مرحلة حياتية وشبابية إلى مرحلة رجولة مبكرة واختلاط جديد في مجتمع جديد.
كانت مجموعة مصر الجديدة تتكوّن من نحو ثمانية عشر طالباً، وكنّا نتوجه سوياً إلى الكلية، وكنّا في كثير من الأحيان نستقل عربة كارو من ميدان الجيزة نتوجه بها إلى بوابة الجامعة. كان عدد الطالبات في دفعتنا لا يزيد على عدد أصابع اليدين، وكنّ يجلسن في الصف الأول من المدرج، وكانت مجموعة مصر الجديدة تتولى حراستهن حيث كنّ كلهنّ قاهريات، ولذلك فقد كان أغلبنا يجلس في الصفوف الأولى مما سبب لنا مشكلة مع أحد المعيدين في ذلك الوقت، الأستاذ الدكتور أحمد أبو اسماعيل حيث كان له لازمة أرجو أن يسامحني لذكرها. فقد كان ينطق كلمة ثم يسكت ليقول: “هيه” ثم يكمل باقي الجملة وهكذا. ولم نكن قد نضجنا بما فيه الكفاية ونتيجة لشقاوة الشباب فقد كان بعضنا وأنا من بينهم عندما يدخل المحاضرة ويبدأ الكلام أن نقول “هيه”. وكان الرجل يسكت إلى أن كان امتحان آخر السنة وكان هو أحد المراقبين علينا وأخذ يمرّ علينا واحداً بعد الآخر، وهو طبعاً حافظ شكلنا واحدا واحدا، ويقف أمام أحدنا ويسأله “هيه”؟ فيقول له: “هيه”، فيقوم بوضع علامة على ورقة الإجابة، وهكذا سقطنا كلنا في مادته.
وكان من بين أساتذتنا في كلية التجارة الدكتور عبدالمنعم القيسوني والدكتور رضوان خالد وكان من بين أساتذتنا في كلية التجارة الدكتور عبدالمنعم القيسوني والدكتور رضوان خالد عميد الكلية ووالد الدكتور أحمد خالد أستاذ الروماتيزم في كلية الطب، والذي كان له مواقف رجولية ومشرفة معنا أثناء اغترابنا في سجون السادات والدكتور حسين كامل سليم.
انتهى العام الدراسي وقمت بالتقدم بأوراقي بعد سحبها من كلية التجارة إلى الكلية الحربية في صيف ،1946 وبعد الترتيبات اللازمة مالياً بخلاف المصروفات الرسمية التي كانت في حدود 60 جنيهاً سنوياً لأن دخول الكلية الحربية في ذلك الوقت كان يستلزم التقدم بما يُسمى “ورد”، وهو يعادل ما يثبت أن الطالب من ذوي الأملاك هو وعائلته فكان أن جمعنا كل ما يملكه كل فرد في العائلة ووضعناه في إقرار ذمة مالية.
وبعد ذلك أعددنا الوساطة، وهي الأهم والركن الأساسي في قبول الطالب في الكلية الحربية في ذلك الوقت، وكان هو اللواء إبراهيم عطا الله باشا رئيس هيئة أركان حرب الجيش وذلك عن طريق أحد الأطباء في الخدمات الطبية للجيش الذي كان زميلاً للوالد وهو اللواء طبيب محمد المهتدي.
وفي هذه الفترة استأجر والدي شقة جديدة في 5 شارع الفاطميين في منطقة ميدان الاسماعيلية في مصر الجديدة، وهي فيلا من دورين أقيم عليها دور ثالث، وكان يمتلكها الأميرألاي نورالدين حسن مظهر بك ضابط جيش على المعاش وكانت هذه النقلة أهم نقطة تحول في حياتي الشخصية كما سيرد فيما بعد.
التحقت بالكلية الحربية في شهر سبتمبر 1946 واطلق على دفعتنا اسم دفعة “الكوليرا” نظرا لانتشار مرض الكوليرا في تلك السنة، وتم عزلنا في عنبرين كبيرين في أحد أطراف مبنى الكلية الحربية القديم وهو المبنى الذي تشغله الآن الكلية الفنية العسكرية بكوبري القبة وكان عددنا 261 طالبا. وقد عاصرنا دفعة 48 دفعة شمس بدران الذي لم يكن من بين الطلبة البارزين فيها ولكنه برز بعد قيام الثورة لوضعه في تنظيم الضباط الأحرار.
وكان من أبرز عناصر هذه الدفعة محمد فائق وعبدالمحسن فائق، وهما ليسا قريبين، والأخير هو الذي جند رفعت الجمال (رأفت الهجان). واحمد بدوي سيد احمد ويوسف صبري أبو طالب وزراء الدفاع فيما بعد واحمد عبدالغفار حجازي وزكي عجرمة وفؤاد عزيز غالي قائد جيش في حرب ،1973 ومحمد زغلول كامل من الضباط الأحرار وهو الذي كشف انحراف المخابرات العامة في الستينات ، ومحمد محمود السقا من الضباط الأحرار ورئيس مؤسسة السياحة، وعبدالمجيد شديد من الضباط الأحرار ومدير مكتب كمال الدين حسين وعلي صبري ومحافظ الدقهلية، ومصطفى كامل مراد من الضباط الأحرار ورئيس حزب الأحرار، ويوسف عفيفي محافظ البحر الأحمر، وعمر عبدالآخر محافظ القاهرة وغيرهم ممن لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم الآن. وقد تخرجت دفعة 48 كما تخرجنا نحن قبل اكتمال الدورات الثلاث نظرا لقيام حرب فلسطين سنة 1948؛ فكان ان تخرجت الدفعة الأولى في اغسطس 1948 وتخرجت دفعتنا في فبراير 1949.
وكان من أبرز خريجي هذه الدفعة الرئيس محمد حسني مبارك، والزملاء مختار هلودة رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، وتوفيق عبده اسماعيل وجمال الليثي ومحمد وفاء حجازي مساعد وزير الخارجية، ومحمود عباس عبدالهادي السفير بوزارة الخارجية واحمد شوقي المتيني محافظ اسوان ومحمد يسري الشامي محافظ البحر الاحمر وعلي طه حبيب السفير بوزارة الخارجية. كما برز منهم من عملوا في المخابرات العامة وهم محمد حلمي القاضي ومنير محمد المهدي، ومحمود محمد عطية ومحمد عبدالفتاح الشربيني، ومحمد مختار عمر، وعادل علي جبريل، واحمد محمود احمد العقاد، وعبدالحفيظ محمد الشناوي، ومحمد منير مرسي حسبو. وبرز منهم قادة عسكريون ممن بقوا في الخدمة العسكرية وشاركوا في حروب 48 و56 و67 و73 وهم: محمود شاكر عبدالمنعم قائد القوات الجوية، وقاسم محمد حاتم وفؤاد حلمي السماع ويوسف صلاح الدين محمد وفاروق محمد فهمي بشير والمشير محمد عبدالحليم أبو غزالة وزير الدفاع، وحسن علي أبو سعدة الذي اصبح سفيرا ايضا، وحسن احمد الكاتب ومحمد علي متولي وعبد رب النبي حافظ رئيس اركان حرب القوات المسلحة، وسمير يسري عوض وصبحي الملاح وحمدي حسن حمدي قائد الدفاع الجوي، ومحمد عطية سليمان وبهيج الكرداني.
فوجئت يوم التخرج في الكلية الحربية ان يعلن كاتم اسرار حربية عن تعييني في سلاح المدفعية حيث كنت قد وعدت بناء على طلبي ان أعين في سلاح المشاة، ولم اعرف السبب لهذا التغيير حتى اليوم. وبعد اجازة قصيرة تقدمنا للالتحاق بمدرسة المدفعية كضباط اصاغر، وبدأت الدراسة وكان مجموع الضباط 24 من دفعتنا والملازم محمد محمد فائق من دفعة ،48 وكان قد تخلف لإصابته بكسر في قدمه حال دون ان يحصل على فرقة التأهيل للمدفعية مع عناصر دفعته، بدأت دورة القسم العام من علوم المدفعية، وكانت الدراسة على مدار أيام الاسبوع ما عدا يوم الجمعة، وكان من المفروض ان نبيت في مبنى المدرسة على ان نحصل على اجازة نصف يوم في يومي الاثنين والخميس. وبعد ثلاثة اسابيع بدأت الدراسة التخصصية كل حسب رغبته، واخترت الدفاع الجوي الذي كان ينقسم الى ثلاثة اقسام هي المدفعية الثقيلة المضادة للطائرات، والمدفعية الخفيفة المضادة للطائرات، والأنوارالكاشفة والرادار المضاد للطائرات.
منذ اليوم الأول الذي التحقت فيه بسلاح المدفعية قمت بعمل المستحيل لنقلي الى سلاح المشاة، بما في ذلك محاولة عمل بدل مع أحد الزملاء من سلاح المشاة على أساس قبول كل منا ان يحل محل الآخر في سلاحه. ولكن باءت جميع هذه المحاولات بالفشل، لدرجة ان مدير سلاح المدفعية في ذلك الوقت اللواء محمد شريف بك استدعاني لمكتبه وعنفني مندهشا لمطلبي هذا قائلا لي: “أنا يا أفندي بقى لي خمسة وثلاثين سنة في سلاح المدفعية وأول مرة اسمع فيها ان ضابط مستجد يطلب نقله من السلاح اللي كل الضباط بتعمل وسايط علشان يخدموا فيه، علشان تروح فين؟ تروح سلاح المشاة! انت أيه يا أفندي! انصراف”.
ويشاء الله سبحانه ان ابقى في هذا السلاح وافخر بانتمائي اليه حتى آخر لحظة من عمري.. كما يشاء ان يستدعيني مدير السلاح اللواء محمد بك شريف لمكتبه بعد ثلاثة شهور من تعنيفه اياي ليقول لي: “ازاي تبقى اخ الملازم أول عز الدين شرف ضابط مباحث قسم مصر الجديدة وتطلب انك تسيب سلاح المدفعية.. ده اخوك رد لي كل ما سرق من بيتي في ظرف ساعتين اثنين من ابلاغي عن السرقة.. انت حاتقعد هنا ولو عزت أي حاجة أو حد ضايقك تعالى لي من نفسك فورا”.
كان تفكيري في ذلك الوقت ان سلاح المشاة هو السلاح المقاتل الرئيسي، وان ضابط المشاة هو العنصر الأساسي في أي معركة وباقي الضباط هم عناصر معاونة، ولكن تغيرت هذه الفكرة بعد اتمام الدراسة حيث ثبت لي ان المنظومة القتالية متكاملة، وان كان جندي المشاة هو الذي ينهي المعركة.
من طرائف العمل في مدرسة المدفعية بعض تقاليدها المتوارثة من قديم الزمن كما قال لنا الضباط الاقدم ومنها ان الضابط المستجد لا يقوم بتعليق شارة المدفعية (الشرابنيل) على البدلة العسكرية إلا بعد التخرج في مدرسة المدفعية. وان الضابط الاحدث عندما يعطي التمام للضابط الأقدم أو للقائد لا بد ان يتم بالخطوة السريعة وليس بالخطوة المعتادة كما يتم باقي اسلحة الجيش، هذا علاوة على تقديس الأقدمية مهما كانت الأسباب والظروف.
وأذكر ان أول مرتب تسلمته كان له قصة طريفة كان بطلها الصاغ محمد مصطفى لطفي قائد ثان جناح مدفعية الميدان بمدرسة المدفعية؛ فقد حل يوم أول مارس سنة 1949 ونودي علينا من أركان حرب المدرسة الصاغ كمال الدين ايوب لنتوجه الى جناح الميدان لتسلم مرتباتنا، وهناك انتظرنا خارج المبنى حيث كان الصاغ محمد مصطفى لطفي يجلس على كرسي ميدان وأمامه بالطول ترابيزة خشب 6 أقدام وكان يقرأ اسم الضابط الذي يتقدم ويؤدي التحية ويتسلم مرتبه ويؤدي التحية وينصرف وهكذا، الى ان جاء دوري وقام بالنداء على اسمي فتقدمت وأديت التحية له وفوجئت بأنه رمى المرتب على امتداد ذراعه على الترابيزة ولم ينظر الي. فوقفت مكاني ولم اتقدم خطوة، وهنا رفع رأسه باستغراب قائلا لي: “ما بتاخدش مرتبك ليه يا ضابط؟” فقلت له: “والله دي مش الطريقة اللي يتعامل بها الضباط مع بعض!”، فرد: “مش فاهم قصدك إيه؟”.. فقلت له: “انتم علمتونا ان الضابط له كرامة.. وأعتقد ان هذا الأسلوب اللي اتبعته حضرتك ينال من كرامتي كضابط ولذلك أنا بارفض التعامل به”، فنظر الي معلقا: “لك حق”، وقام وناولني بيده المرتب قائلا: “اتفضل يا حضرة الضابط”.. فشكرته وتناولت مرتبي وانصرفت، وأتذكر انه كان عشرة جنيهات وعشرة قروش وسبعة مليمات.
وكان الصاغ محمد مصطفى لطفي ضابط عظيم نوبتجي المدرسة في ذلك اليوم وحضر الى ميس الضباط حيث نقيم والتقى معنا، وانتحى بي جانبا وشجعني على التمسك بسلوكي هذا. ومنذ هذا اليوم وحتى الآن صارت بيننا صداقة متينة جدا واحترام متبادل، وهو بالمناسبة من الضباط الاحرار، وقد عين ليلة الثورة ضابط الاتصال بين الثورة ووزارة الداخلية، ثم نقل لوزارة الخارجية سفيرا وممثل مصر في بلدان ذات أهمية خاصة كالسويد والجزائر وقبرص.
التحقت بفرع الدفاع الجوي للأنوار الكاشفة والرادار، وكنا خمسة من الزملاء هم جمال الليثي، من الضباط الاحرار والمنتج السينمائى فيما بعد، ومحسن امين عوف وبهيج الكرداني وكمال الدين شاهين وأنا. وكان مدرسو الجناح الصاغ محمد يحيى الصواف الحاكم الاداري لقطاع غزة فيما بعد واليوزباشي احمد حمروش من الضباط الاحرار ورئيس هيئة المسرح ورئيس تحرير مجلة روز اليوسف ورئيس اللجنة المصرية للتضامن الآن والملازم مهندس عباس الدهيمي، وكان صف الضباط المعلمون هما الباشجاويش محمد ابو رجيلة والشاويش فرج السوداني.
أعود بالقارئ العزيز الى التذكرة بأن العائلة كانت قد استقرت في السكن الجديد في 5 شارع الفاطميين بمصر الجديدة اعتبارا من منتصف العام 1948. وكان أصحاب المنزل يقيمون في الطابق الأول، وكانت والدتي اجتماعية بطبيعتها فقامت صداقة بينها وبين حرم الأميرالاي نور الدين حسن مظهر صاحب البيت، وكانت شقيقة الشهيد المحامي اسماعيل عبدالله زهدي الذي اغتيل على أنه محمد فريد بك، وفي الوقت نفسه كانت خالة الصاغ محمد فوزي (الفريق أول فيما بعد)، وكانت العائلة تتكون من خمس آنسات وصبي واحد احمد وكان من الطبيعي ان تلتقي العائلتان ببعضهما يوميا إما بالمصادقة أو بالزيارات، ومن هنا وقد كنت في سن يسمح لي بالتفكير في اكمال نصف ديني، وكنت ابحث عن شريكة حياتي من أجل حياة مستقرة، ومن دون اطالة فقد اخترت الابنة الثالثة “تغريد” لتكون شريكة حياتي، وذلك بعد أخذ رأي صاحبة الشأن نفسها والوالدة والوالد، تقدمت لخطبتها في ربيع عام ،1950 ثم تم عقد قراننا في يوم الخميس السادس من صفر 1370 الموافق 16 نوفمبر/تشرين الثاني ،1950 وتزوجنا يوم الخميس 13 رجب 1370 الموافق 19 ابريل/نيسان سنة 1951 ليلة ذكرى ميلادي وكنت قد ترقيت الى رتبة الملازم الأول وأصبح مرتبي 12 جنيها في الشهر. كان أول سكن خاص لي بعد الزواج عبارة عن شقة في العمارة رقم 8 شارع “فرديناند دي لسيبس” في مصر الجديدة من غرفتين وصالة وكان ايجارها خمسة جنيهات في الشهر. طبعا لم يكن الراتب الشهري يكفينا فكنا في اغلب ايام الاسبوع نقيم طوال النهار في منزل حماتي أو والدتي ونعود في المساء لمنزلنا للمبيت فيه.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1949 أتممت الدراسة في مدرسة المدفعية، وتخرجت وتوزع أفراد مجموعتي على وحدات افرع سلاح المدفعية المختلفة، وكان من نصيبي ان عينت في اللواء الأول المضاد للطائرات الذي كان يقوده الأمير ألاي (العميد) محمد صادق بك، ويتولى مناصب أركان حربه كل من الصاغ أ.ح ابو الفرج علي والصاغ أ.ح حسان عبدالرحيم.
ففي أحد الايام استدعاني قائد البطارية وكلفني بأن اقوم في خلال ساعتين بتجهيز اربعة بواعث أنوار كاشفة جهاز ضخم يستطيع ان ينير السماء بضوء باهر وكان الغرض من استخدامه هو كشف أماكن الطائرات المعادية التي تغير على مواقعنا ويتتبعها بمعاونة جهاز الرادار الى ان تتمكن وحدات المدفعية المضادة للطائرات من اصابتها واسقاطها واعتقدت اننا سنقوم بمناورات ، إلا انني فوجئت به يقول لي وهو في حالة من الضيق والغضب “والقرف”: “يا سيدي جت اشارة من رئاسة اللواء لتجهيز هذه الأجهزة، غالية الثمن، لكي نضيء بها أحد الاحتفالات التي سيحضرها الملك فاروق في قصر “الزعفران” مكان جامعة عين شمس حاليا وكانت تقيمه الملكة نازلي لجمع تبرعات في شكل حفل خيري. وأضاف الصاغ منير صدقي ان التنفيذ يجب ان يتم قبل غروب شمس ذلك اليوم، وحيث ان دور الخدمات الخارجية يقع على شخصي فقد أصبحت المسؤول عن تنفيذ هذه المهمة. وفعلا قمت بالمهمة وتوجهت مع جنودي الى قصر الزعفران حيث وجدت في انتظاري الأمير ألاي محمد صادق بك قائد اللواء بنفسه واستقبلني بقوله: “انت اتأخرت ليه يا حضرة الضابط؟” فرديت: “يا أفندم الأوامر لدي ان أكون هنا قبل آخر ضوء والآن الشمس لم تغرب بعد”. فقال: “شوف شغلك يا حضرة الضابط ومش عايز اسمع أي ملاحظات”. فعلقت: “احب اعرف إيه هو شغلي هنا وحا أعمل إيه بهذه الاجهزة؟” فقال الرجل: “تنور المكان”.. ثم استدار وهو يقول لي: “اتصرف يا حضرة الضابط!” فقمت باستطلاع المكان فوجدت حمام سباحة وحوله بعض الكراسي والطاولات، فاستنتجت أنه الهدف المطلوب انارته. وفعلا صح استنتاجي وبدأت التجارب، وانتظرت مسؤولاً من القصر ليبلغني متى نبدأ عملنا وبعد الغروب بساعة تقريبا حضر شاب أنيق لمقابلتي وعرفني بنفسه على أنه احد رجال التشريفات، وبعد ان تأكد ان كل الترتيبات قد تمت همس لي: “انصحك أنت ورجالك يا حضرة الضابط ان تغمضوا أعينكم اذا رأيتم أي شيء”.. وسكت! وطبعا فهمت ما يقصد ولكني أردت التأكد لئلا أسيئ الظن فتساءلت: “ماذا تقصد بكلامك؟” فقال لي: “هذا كل ما أستطيع ان اصرح لك به.. وانت طبعا فاهم ماذا اقصد!”.
وما قصده وما فهمته حصل.. فقد دارت في الحفل كؤوس الخمر وتمايل السكارى من الحضور من الأمراء والأميرات وعلية القوم، ولم يحضر الملك هذا الحفل، أو لكي أكون صادقا فإنني لم أره أو المحه. وفي فجر اليوم التالي جاءني الأمير ألاي محمد صادق ليقول: إن علي ان أحزم معداتي وأرحل برجالي لأعود الى وحدتي.
وفي شهر ديسمبر/كانون الأول 1951 رشحت لحضور فرقة الشؤون الادارية التي تؤهل الضابط للترقي لرتبة اليوزباشي (النقيب)، وهي الفرقة التي التقيت فيها لأول مرة بالرئيس جمال عبدالناصر. وقد انتظمت في الدراسة حتى 26 يناير/كانون الثاني 1952 يوم حريق القاهرة حيث الغيت جميع فرق الجيش نظرا لاعلان حالة الطوارئ ونزول الجيش للسيطرة على الأمن في البلاد، وكنت من ضمن القوات التي عسكرت في حديقة الازبكية فانتدبت للعمل مع هيئة اركان حرب وعمليات رئاسة القطاع في ميدان باب الحديد محطة مصر .
ولقد خضعت لسلسلة من تحقيقات النيابة العامة نتيجة وجودي مع الزميلين مختار هلودة ومحمد حلمي عبدالخالق في ميدان الاسماعيلية التحرير صباح يوم 26 يناير/كانون الثاني 1952 اثناء قيامنا ببعض المشتروات، والتي اعقبها مشاركة الزميل محمد حلمي عبدالخالق، قسرا، جنود البوليس في تظاهرهم في الميدان وهم في طريقهم لمبنى مجلس الوزراء، حيث حملوه على اكتافهم رغما عنه وكان يرتدي ملابسه الرسمية وكنا مختار وأنا قد غادرنا الميدان قبل وصول المظاهرات اليه.
ولنكمل المسيرة الشخصية في مرحلة جديدة، وأعني بها المرحلة التي عشتها في ظل ثورة 23 يوليو 1952.. فبعد قيام الثورة بثلاثة ايام ندبت للعمل بالمخابرات الحربية (العامة فيما بعد). وبعد شهور قليلة نقلت للعمل في القسم الخاص، وكانت مكاتبنا في مجمع التحرير في الدور العاشر، وبدأت في الفترة فكرة انشاء جهاز المباحث العامة وكانت الخطوات الأولى لتشكيل هذا الجهاز في الدور العاشر ايضا من المبنى نفسه.
وقد يندهش القارئ الكريم انه لم يكن لدي تليفون في الكابينة التي كنت استأجرها بعقد مكتوب من المحافظة ولم يتم تركيبه الا سنة 1968 عندما طلبني الرئيس جمال عبدالناصر تليفونيا وكنت في الكابينة، فاستمهله من رد على مكالمته في المنزل الى ان ابلغوني ان الرئيس على التليفون فلما طلبته قال لي: “انت بتنهج ليه؟” فقلت له إنني قادم من الكابينة، والاندهاش كان مرجعه الى ان الرئيس لم يكن يطلبني في المنزل أو الكابينة إلا نادرا، لأنه اعتاد تواجدي باستمرار في مكتبي سواء في منشية البكري أو في المعمورة.
وأنهي هذه الحدوتة الشخصية بأني قد منحت من الأوسمة من رؤساء وملوك الدول العربية والاجنبية ما يفوق الخمسة وعشرين نيشانا ووساما من كل من اليمن والسودان والمغرب وتونس ويوغوسلافيا وكمبوديا وافغانستان وساحل العاج واثيوبيا والنيجر وبولندا وبلغاريا وماليزيا ورومانيا وموريتانيا وفنلندا والسنغال والكونغو الشعبية والمجر وافريقيا الوسطى.
أما الأوسمة التي منحتها من مصر فهي الاوسمة العسكرية التي حزتها قبل قيام ثورة 52 كضابط في الجيش المصري وهي وسام محمد علي الكبير ووسام نجمة فلسطين وسام التحرير بمناسبة قيام ثورة 23 يوليو 1952.
.................."
إنتهى القسم الأول
د. يحى الشاعر
لـلـــتـــكــــمــلـــة ... إنـقـــــر هــنــا
http://samy-sharaf.bravehost.com/
http://samy-sharaf.bravehost.com/
مصدر السطور أعلاه وما يليهم من حلقات هو "موافقة وتصريح شخصى من السيد ســامى شرف" [/size]
[/size]
--------------------------------------------------------------------------------
سنوات مع عبد الناصر 1 - سامي شرف
* من الجذور والطفولة والشباب المبكر الى الحياة العامة فالشيخوخة
* كلمة لا بدّ منها إرضاء لضمير ووفاءً لرجل
الجزء الأول - البداية الأولى
الحلقة الأولى
وأستأذنك عزيزي القارئ أن أبدأ من الفيلا رقم 12 شارع “كومانوس” الصومال حالياً بمصر الجديدة الساعة الثالثة من صباح يوم 21 ابريل/ نيسان 1929 بدأت أصرخ معلناً بدء حياتي.
ومن المفارقات والمصادفات الغربية أن المقر الانتخابي الذي أدلي فيه بصوتي في الانتخابات والاستفتاءات طبقاً لبطاقتي الانتخابية ورقم قيدي 225 حرف “ع” قسم مصر الجديدة، أقول إن مقر إدلائي بصوتي هو الفيلا نفسها، بل والغرفة نفسها التي وُلدت فيها، حيث أصبحت البناية الآن عبارة عن مدرسة حكومية.
كانت الفيلا التي وُلدت فيها لجدّي لوالدتي محمد زكي صالح (بك) مدير محافظ الآن بني سويف. وكان والدي في هذا الوقت مفتشاً لصحة بندر الجيزة وهو الدكتور عبدالعزيز محمد شرف الذي كان قد عاد قبل عامين من المملكة المتحدة حاملاً شهادة الدكتوراه في الجراحة العامة من كلية الطب في ادنبرة. وقام والدي بتسجيل شهادة ميلادي في مكتب صحة الجيزة يوم 26 ابريل/ نيسان ،1929 ولكن بتاريخ الميلاد الصحيح وفي الصفحة 23 جزء 17/- بالطلب ،2185 سجلت تحت رقم 572.
وترجع أصول عائلتي والدي ووالدتي إلى قبائل عربية استقرت في مديرية (محافظة البحيرة) مركز شبراخيت وإيتاي البارود، وهما مركزان متجاوران. وتعود أصول عائلة والدي كما عُرف عنها وكما قال لنا الأجداد والمعمرون، إنها عائلة الشاعر المنتسبة للشاعر حسان بن ثابت شاعر الرسول عليه الصلاة والسلام، وتعود عائلة والدتي إلى قبيلة الصوالح التي هاجرت من الأراضي الحجازية إلى المغرب ومنها إلى مصر حيث استقرّت في إقليم البحيرة، ولكن جدتي لوالدتي كانت من عائلة النواوي وجدها كان الإمام الأكبر الشيخ حسونة النواوي شيخ الجامع الأزهر.
والدتي المرحومة السيدة روحية محمد زكي صالح الثانية من بين أخوات سبع غيرها وشقيقين توفوا كلهم فيما عدا اثنتين منهما.
كانت الوالدة من أوليات من انضممن للتعليم في المدرسة السنية في العقد الأول من القرن العشرين، وحصلت على شهادة الابتدائية ثم الكفاءة تعادل منتصف التعليم الثانوي الآن مع فارق كبير في مستوى التحصيل العلمي حيث كن يتلقين مواد ولغات تفوق التعليم الجامعي الآن.
كانت أماً ومدرسة فعلاً في كل شيء، تسهر الليالي تستذكر معنا دروسنا حتى المرحلة الثانوية، وأتقنت خلال هذه الفترة اللغة الفرنسية إلى جانب الإنجليزية التي كانت تجيدها أصلاً. كانت تصادقنا، كل حسب مواصفاته وميوله، وبثت فينا روح الانتماء والترابط العائلي.
كان لدينا في البيت بيانو أجادت العزف عليه، سواء سماعي أو على النوتة، وعزفت جميع الألحان العربية والأجنبية الكلاسيكية، وشجعتني على تعلم أصول العزف على البيانو والهارمونيكا التي ما زلت أعزفها حتى الآن.
أما أخواتي البنات، فإلى جانب الاهتمام بتعليمهن في مدارس الراهبات الفرنسية عندما كنا في الأقاليم، ثم الليسيه الفرنسية في مصر الجديدة عندما استقرينا فيها سنة ،1945 ووصلت شقيقتنا الكبرى رحمها الله إلى تدريس اللغة الفرنسية في كلية البنات في جامعة عين شمس، وعملت في الوقت نفسه مترجمة في وكالة الأنباء الفرنسية ثم وكالة أنباء الشرق الأوسط.
الوالدة كانت تؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وفي الوقت نفسه كانت تحترم قواعد وتقاليد الأسرة المصرية. وكما شاركت في تظاهرات ،1919 فقد شجعتنا جميعاً على المشاركة السياسية في أمور بلدنا. كما كانت اجتماعية بشوشة حتى في غضبها، وحرصت على توطيد العلاقات مع زوجات المسؤولين والشخصيات العامة في كل العواصم التي عشنا فيها، خصوصاً زوجات الأطباء زملاء الوالد، واستمرت هذه العلاقات حتى آخر يوم في حياتها، وبالذات مع زوجات الدكاترة: صالح ثابت، وعبدالعزيز محمد، وعلي عبدالعال الذي كان والده سكرتيراً لجدي وعلي زين العابدين أول مدير للقصر العيني، وكورنيليوس بقطر، وغيرهم.
أذكر أنه عندما كنا في الأقاليم، كانت تقيم يوماً للاستقبال يبدأ من الخامسة حتى الثامنة أو التاسعة مساء، تستقبل فيه زوجات مدير المديرية ومفتش الري ورئيس المحكمة ورئيس النيابة ومدير التعليم والطبيب الشرعي والحكمدار مدير الأمن ونظار الابتدائي والثانوي ومأموري الأقسام وناظرات مدارس البنات الابتدائية والثانوية، كن يقمن بنشاط اجتماعي ويقمن معارض لإنتاجهن اليدوي، مثل شغل الإبرة والكانافاة والصور واللوحات.. إلخ، وكانت الحصيلة التبرّع بالدخل إلى الجمعيات الخيرية أو المستشفيات العامة.
كانت الوالدة تشجعنا على القراءة ليس فقط باللغة العربية ولكن بالفرنسية والإنجليزية ومن هنا فقد كانت إجادتنا كلنا للغات منذ الصغر، بل إن شقيقيّ السفيرين أجادا لغات البلاد التي مثلا مصر فيها. فرنسا، تركيا، السويد، الاتحاد السوفييتي، الصين، باكستان.
كان بيت الدكتور عبدالعزيز شرف، من دون مبالغة، هو بيت العائلة الكبير.. كل العائلة كانت تلجأ للوالدة في مشكلاتها العامة والخاصة.
لم تدع زيارة تفوتها وأنا أطوف في سجون السادات، وكانت تقول لي في كل زيارة وبصوت عالٍ في حضور الضباط الحراس: “يا بني القوالب نامت والأنصاص قامت!”.. وكانت آخر زيارة لي وهي مصابة باشتباه في ذبحة صدرية قبل وفاتها بأيام، كما أصرّت ليلة الوفاة على الاتصال بي تليفونياً في معتقل المسجونين في القصر العيني لتقول لي: يا سامي اقرأ لي الفاتحة وانت بتصلي.. ثم أغلقت التليفون.
وفي يوم 28 مارس/ آذار 1981 جاء محمد سامي شرف إلى السجن ليبلغني برحيل الوالدة، وأنه تتم محاولات واتصالات لحضوري تشييع الجنازة. وفعلاً اتصل بي تليفونياً اللواء رشيد وكيل المباحث العامة وقدم لي العزاء وأبلغني أنه قد تقرّر حضوري تشييع الجنازة وتقبل العزاء. وعدت في المساء إلى سجن القصر العيني. وبالمناسبة فقد دار حديث بيني وبين الضابط الذي رافقني أهم ما دار فيه قوله: “مش كفاية يا فندم بقى، بقى لك في السجن عشر سنين، مش كانت تبقى مناسبة لها أثرها لو أفرجوا عنك اليوم مثلاً؟ هو انتم عملتم إيه؟ ده القتلة والمجرمين وتجار المخدرات بيُحكم عليهم بخمس سنين ويُفرج عنهم بعد نصف المدة!” فقلت له: يا صديقي كله بأمر الله.
رحم الله الوالدة رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته.
انتقل والدي بعد ذلك مفتشاً لصحة مديرية (محافظة) بني سويف، وانتقلت العائلة معه حيث التحق إخوتي سميحة (1922) في مدرسة الراهبات وعمر (1925) والذي أصبح سفيراً فيما بعد، وعزالدين (1927) الذي أصبح مساعداً لوزير الخارجية فيما بعد، ألحقا بالمدارس الابتدائية الأميرية. وفي سن الرابعة أدخلت كتّاب الشيخ مسعود في بني سويف، حيث تسلمت جزء “عمّ” وبدأ الشيخ مسعود في تحفيظنا القرآن الكريم، وكان أخواي عمر وعزالدين قد سبقاني في الالتحاق بهذا الكتّاب أيضاً. ولا أنسى أبداً منظر “الفلكة” التي كان يمدنا عليها ليضربنا على أرجلنا عندما كنا لا نحفظ كما ينبغي أو عندما نخطئ في التلاوة الصحيحة، ولم يكن يفرق في هذا بين ابن المدير أو ابن الغفير.. كما لم يكد ينتهي العام الدراسي إلا وكنت أحفظ وما زلت والحمد لله جزء “عمّ”.
وفي العام الدراسي 34/ 1935 التحقت بمدرسة مصر الجديدة الابتدائية، حيث كان والدي قد انتقل للعمل مفتش صحة مديرية القليوبية واختار لنا السكن في مصر الجديدة وكان عليه أن يتوجه في الصباح الباكر إلى بنها ليعود في المساء. وكان سكننا في عمارة جديدة من عمارات شركة مصر الجديدة في شارع شريف باشا الذي كان يقيم هو شخصياً أي شريف باشا وكان أحد اللواءات في الجيش، في فيلا في أول الشارع، وفي هذا المنزل انضمت للأسرة الصغيرة أختي سلوى سنة 1935 وأخي طارق في ديسمبر ،1936 وقد ختم حياته ككبير للمترجمين العرب في منظمة الأمم المتحدة في جنيف.
وأذكر أنه كان يقيم في الدور الأول أحد الكونستبلات الإنجليز من الذين كانوا يعملون في البوليس المصري في ذلك الوقت، وكان بيننا عمر وعزالدين وأنا وبينه مشاحنات لأننا كنا نلقي على موتوسيكله القاذورات، كما كنا نقوم بغرس المسامير في الاسفلت لتخرق عجلاته، كان يشتكي للوالد الذي كان يغمز لنا بعينيه بمعنى أن يقول لنا: استمروا في ما تقومون به ولا تسألوا فيه! وكان يشاركنا في هذه العملية محمد عبدالرحمن نصير زميلنا في المدرسة وأحد الضباط الأحرار فيما بعد وشقيقه سيد نصير.
في مدرسة مصر الجديدة الابتدائية كانت تعتبر من مدارس أبناء الذوات في القاهرة، فقد كانت تضم أبناء ذوالفقار باشا والد الملكة فريدة الذي كان يقيم في قصره أمام مبنى المدرسة، وأحفاد الفريق عزيز المصري باشا وأبناء شريف باشا، وأبناء شرارة باشا، وأحفاد لطفي السيد باشا، وأبناء النقراشي باشا، وعبدالحميد بدوي وشاكر باشا وأحمد باشا حسنين وخلوصي باشا.. إلخ، وكان ناظر المدرسة إسماعيل (بك) توفيق كان بك رسمي كما كان المدرسون من أبرز رجال التعليم في مصر. كان مدرس اللغة الإنجليزية المستر “دولبي” حيث كنا نتلقى دروس اللغة الإنجليزية اعتباراً من السنة الأولى الابتدائية.
وفي العام الدراسي 1937/ 1938 انتقل الوالد إلى منصب مفتش صحة مديرية المنيا واصطحبنا معه حيث استأجر شقة كبيرة عبارة عن سبع حجرات في أحدث عمارة في شارع “ابن خصيب” وهي تعلو بنك قليني، وكان صادق بك قليني أحد كبار تجار القطن في صعيد مصر وكان يدير هذا البنك ليرعى مصالح الفلاحين في مقابل ما كان يقوم به المرابون اليهود والمتمصرين من إذلال للفلاحين.
وفي مدرسة المنيا الابتدائية وكان ناظرها عبدالعزيز (بك) لطفي كانت الدراسة تتبع نظام اليوم الكامل سبع حصص في اليوم خمس منها مرحلة أولى ثم فسحة لمدة ساعتين، نتناول فيها طعام الغداء الذي تقدمه المدرسة. ومن المفارقات الظريفة التي أذكرها عن مدرسة المنيا الابتدائية أن مدرس اللغة العربية كان يُدعى الأستاذ طنطاوي وكان يقوم برحلة سنوية صيفية على المركب إلى اليونان وعندما يعود في أول العام الدراسي كان يحكي لنا نوادره ومشاهداته هناك، كما كان يلقننا بعض الكلمات اليونانية التي يلتقطها مثل: كليميرا تي بو تاه أفكار إستوه ثغابوه.. وهكذا.
انضممت في هذه المدرسة إلى فريق الموسيقا الذي كان يتولاه الأستاذ السيد البدوي مدرس الرسم والأشغال اليدوية، وبدأت أتعلم العزف على آلة البيانو التي استمريت في العزف عليها حتى منتصف الأربعينات، واضطررت لتركها لظروف عائلية مادية خاصة، وكذلك آلة الهارمونيكا التي أتقنتها وأجيد العزف عليها حتى اليوم وكانت بالمناسبة تسليتنا في فترة سجون السادات. وكان مدرسونا في هذه المرحلة الأساتذة الأفاضل محمد الوليلي وحنا عبدالمسيح للرياضة ووديع أبسخرون للغة الإنجليزية والشيخ عبدالرحيم محمد للغة العربية. ولعل من أبرز الزملاء في هذه المدرسة محمد إبراهيم دكروري ود. جمال القشيري.
في عام ،1940 وبعد أن حصلت على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية من مدرسة المنيا الابتدائية وكانت على مستوى القطر المصري كله التحقت بمدرسة المنيا الثانوية التي كان يتولى نظارتها أحمد بك حلمي محمد، وكان يقوم بعمل فصول للتقوية في مادة الرياضيات التي كان متخصصاً فيها وكان يقوم هو شخصياً بالتدريس والشرح لنا، وكان مدرسو الإنجليزية والفرنسية أساتذة إنجليز وفرنسيين أذكر منهم: جيوم، ولولو، وبراون. وكان جيوم يمتطي دراجة في حضوره ومغادرته للمدرسة، وفي منتصف العام الدراسي نُقل ناظر المدرسة وعُين بدلاً منه السيد يوسف (عديل الرئيس جمال عبدالناصر فيما بعد الذي سيرد الكلام عنه بالتفصيل في فصل سكرتارية الرئيس للمعلومات).
طيلة فترة إقامتنا في المنيا، استأجرنا أيضاً إحدى فيلات شركة مصر الجديدة في القاهرة، وكانت تقع على ناصية شارعي البارون (15 شارع نزيه خليفة الآن) وإسماعيل (بغداد الآن)، وأذكر أن إيجارها كان سبعة جنيهات في الشهر، وقد أصبحت هذه الفيلا الآن مدرسة للبنات الراهبات، وكان جدي لوالدتي مستأجراً الفيلا المقابلة لها وعلى الجانب الآخر من شريط المترو والمجاورة لفيلا الملكة فريدة.
انتقل الوالد بعد ذلك ليُعين مفتش صحة مديرية الدقهلية، وبالتالي انتقلنا معه إلى المنصورة الثانوية. واستأجر لنا الوالد شقة في عمارة في حي تورييل على البحر الصغير ملك الحاج خليل خليل القصيفي أحد كبار المقاولين في كل من الدقهلية ودمياط وبورسعيد وكانت تجاور حديقة البلدية ومنزل مدير المديرية ومستعمرة الري في الدقهلية وبالمناسبة كانت مستعمرات الري في مصر تُعتبر من أرقى الأماكن التي يمكن أن يتخيّلها الإنسان من حيث النظام والنظافة والناحية الجمالية، وفي حدائقها البديعة التي لم تكن تختلف في المنصورة عنها في المنيا أو في بني سويف أو في بنها أو القناطر الخيرية، وكان تخطيط حي تورييل مشابهاً إلى حد كبير تخطيط مصر الجديدة من حيث الشوارع المتقاطعة مع بعضها بعضاً بشكل منتظم طولياً وعرضياً، وكل منزل كانت فيه حديقة، كما كانت تتدفق في البحر الصغير المياه النظيفة التي ترى قاعه من خلالها. وكان يقيم في هذا الحي كبار الموظفين ومجموعة من الأعيان وكبار المهنيين من أطباء ومحامين ومهندسين. ويحد الحي من الناحية الشمالية نهر النيل العظيم الذي كان يتسع بشكل ملحوظ في مقابل مدينة المنصورة، وكانت تزين كورنيشه مؤسسات مدنية وحكومية تمتاز بالأناقة والجمال، منها على سبيل المثال منزل مدير المديرية ومستعمرة وتفتيش الري ثم مكتبة المنصورة الحكومية الأنيقة العامرة أبداً ودوماً بالكتب وقاعة المطالعة، ثم مجموعة من الكازينوهات والسينمات ومنها سينما عدن الشهيرة، ودار البلدية ومحلات راندوبولو للحلوى والقهوة، ثم قصر الشناوي باشا، فحديقة شجرة الدر وإلى جوارها مدارس المنصورة ومستشفياتها، ثم المدرسة الثانوية والصنائع والرشاد والمستشفى الأميري، فالحميات، أما المدرسة الابتدائية فقد كانت تقع في حي المختلط في وسط المدينة، وبجوار ميدان محطة السكك الحديدية.
في مدرسة المنصورة الثانوية كان ناظرنا للمرة الثانية أحمد حلمي محمد بك، وكان يقوم بالتدريس فيها مجموعة من أعظم رجال التعليم في ذلك الوقت. وكانت المنصورة الثانوية هي المدرسة الثانوية لثلاث مديريات هي: الدقهلية والشرقية ودمياط، فكانت تزخر بأعداد كبيرة من أبناء هذه المحافظات الثلاث من عائلات العلايلي ونيازي وأبو سمرة والجمال وعبدالهادي “المليجي” واللوزي والبدراوي عاشور وسراج الدين وغيرها من العائلات المعروفة.
وبهذه المناسبة فقد كنت طيلة دراستي في المدارس الابتدائية والثانوية طالباً متوسط التحصيل وإن تفوقت في اللغات والجغرافيا والتاريخ، وانضممت إلى فريق الموسيقا وفريق الكشافة الذي كان يتولاه الزميل إسماعيل صبري حمدي، وآخر عهدي به كان في منتصف الستينات حيث كان يقوم بالتدريس في إحدى المدارس الليبية. وقد قمنا بمعسكرات عدة ورحلات سيراً على الأقدام منها إلى المحلة الكبرى وأخرى إلى دمياط وثالثة إلى طنطا، هذا بخلاف معسكرات المبيت في الهايك (خيمة صغيرة) ليلة أو ليلتين لاستكشاف منطقة جديدة في محافظة الدقهلية كبحيرة المنزلة مثلاً وعمل دراسة ميدانية عنها.
كان يزاملني في مدرسة المنصورة الثانوية ومن أبرز الطلبة فيها في هذه الفترة: محمد فايق وزير الإعلام فيما بعد الذي زاملني في فصل واحد ودكّة واحدة طيلة السنوات الأربع وحتى مرحلة الثقافة العامة، والذي زاملني في المخابرات العامة ورئاسة الجمهورية وفي زنزانة مجاورة في سجون السادات ومن زملائي أيضاً محمد المصري مساعد سكرتير الرئيس للمعلومات للشؤون العربية فيما بعد وأحد الضباط الأحرار في سلاح المدفعية وشقيقه السعدي حامد المصري أحد الضباط الأحرار في سلاح المدفعية فيما بعد، ونعمان العلايلي المحاسب القانوني المعروف ورئيس مجلس إدارة نادي السيارات فيما بعد، ومحيي الدين سلامة الخولي أحد الضباط الأحرار في سلاح المدفعية وزول من أذاع بيان قيام ثورة يوليو 1952 قبل أن يصل البكباشي أنور السادات إلى مبنى الإذاعة، وخالد حسونة رئيس محكمة استئناف القاهرة فيما بعد، ومحمود عباس عبدالهادي أحد الضباط الأحرار والسفير فيما بعد، ونصر وفاروق العزيزي اللذين أصبحا ضابطين فيما بعد، وفتحي قنديل من الضباط الأحرار والسفير فيما بعد وشقيقيه محمد قنديل المحامي وحسني قنديل، وجمال حماد المهندس الذي أصبح وكيل وزارة الأشغال، وشقيقه محيي الدين حماد الدكتور ونائب رئيس شركة مصر للطيران ومدير مستشفى وزارة الكهرباء فيما بعد، والإخوان فايز وفاروق التاودي، وكانا أوائل المدرسة بجدارة، وعبداللطيف الطرشوبي، وأنيس منصور وعوض الدحة ومحمود البرهمتوشي زعيم المدرسة وكانوا يسبقونا بسنتين دراسيتين. وآخرين لم تسعفني الذاكرة في حصرهم.. وأرجو أن يعذرني كل عزيز زاملني في هذه المرحلة لم أذكر اسمه.
وأذكر أن أنيس منصور كان يصل إلى المدرسة ومعه مجموعة من الطلبة من أبناء العاملين في دائرة عمر طوسون باشا في دميرة، مستقلين سيارة نصف نقل سوداء ماركة فورد 1929 وكانت عبارة عن كابينة للسائق وباقي السيارة مكشوفة تغطيه “تندة” من قماش الخيام ومثبت على أرضيتها مقاعد خشبية متقابلة، ثم تعود السيارة نفسها عقب انتهاء اليوم الدراسي لإعادتهم إلى دميرة.
كانت المنصورة الثانوية تُعتبر من أهم معامل تفريخ رجال مصر المستقبل وما زالت حتى الآن.
كانت مدرستا المنصورة الثانوية والصنائع الثانوية متجاورتين، وكانتا تنضمان مع بعضهما بعضاً عند قيام التظاهرات في المناسبات الوطنية، مما كان يشكل قوة ضاغطة فعالة لتشكيل الرأي العام الطلابي في تلك المرحلة، وكان أبرز تيارين سياسيين في ذلك الوقت هما الوفد والإخوان المسلمين.
وبالمناسبة، فقد كان الأستاذ أحمد حمامة مراقب مدرسة الصنائع يقيم في عمارة في مقابل المدرسة مباشرة، كما شاهدنا نحن طلبة مدارس المنصورة في تلك المرحلة صعود نجم السيدة فاتن حمامة عندما اختارها الفنان محمد عبدالوهاب للتمثيل أمامه في أفلامه، وكان شقيقاها منير ومظهر زملاء لنا في المنصورة الثانوية، وتخرّج منير في كلية البوليس فيما بعد.
وبعد أن حصلت على شهادة الثقافة العامة من مدرسة المنصورة الثانوية نُقل الوالد إلى القاهرة، حيث عُين وكيلاً مساعداً لوزارة الصحة، وطبعاً عدنا إلى مصر الجديدة التي لم نفارقها طيلة إقامتنا في الأقاليم، حيث كان لنا هناك باستمرار فيلا سكنية نمضي فيها شهور الإجازة الصيفية، إلا أن الوالد استأجر شقة جديدة كانت تقع في شارع “فارسكور” العمارة رقم 5.
والتحقت بمدرسة مصر الجديدة الثانوية ودخلت فصلاً دراسياً يشمل عشرين طالباً فقط، كانوا يُعتبرون زبدة طلبة المدرسة، وكانوا يسمّونه فصل المتميزين، وفعلاً فقد تخرّج من طلبة هذا الفصل أطباء وقضاة ومحامون ودبلوماسيون وضباط ومهندسون أذكر منهم الزملاء: د. ممدوح حفني، ود. عبدالخالق ترزاكي، ود. محمد مأمون دياب، ود. مدحت رضا، والمستشار سمير مشرقي وكيل مجلس الدولة فيما بعد ود. كمال جبريال، وحسن حافظ رئيس الهيئة المصرية للتأمين فيما بعد وعبدالحليم بدوي، وأيوب شرارة، وحسن عبدالصمد كامل، ومصطفى حمدي، وعصمت رضا السفراء المعروفين. وكان الزميل مصطفى حمدي أحد الخبراء الأوائل في علم الإدارة، وأسهم في تأسيس جهاز المخابرات العامة تحت إشراف زكريا محيي الدين عام 1953/ ،1954 وقد أشرت إلى هذا الموضوع تفصيلاً في فصل سكرتارية الرئيس للمعلومات.
بداية العمل السياسي
لأول مرة في حياتي أمارس النشاط السياسي أثناء الدراسة في مدرسة مصر الجديدة الثانوية، حيث شاركت في التظاهرات التي قامت سنة ،1946 وكان يقود التظاهرات الزميل مجدي الدين محمد الذي انقطعت الصلة به بالتحاقي بالكلية الحربية. ولأول مرة كذلك أساق إلى أحد أقسام البوليس، قسم مصر الجديدة، حيث نبّه علينا مأمور القسم الصاغ حسن خالد بترك السياسة وعدم القيام بالتظاهرات وتجنب الالتقاء برؤساء الأحزاب في ذلك الوقت، ولقد كنا تقابلنا مع علي ماهر باشا في مقر حزبه “حزب مصر” في شارع سليمان باشا وتناقشنا معه في قضايا الوطن، كما نصحنا مأمور القسم أن نلتفت لدروسنا أحسن، ولما تكرّر اشتراكي في التظاهرات لم ينقذني من تحويلي إلى النيابة العامة سوى معاون البوليس في قسم مصر الجديدة اليوزباشي حسن كامل الذي كان يدرب أخي عزالدين الطالب في كلية البوليس في ذلك الوقت أثناء الإجازة الصيفية وكان معجباً بنشاطه. وأذكر أنه وعد مأمور القسم أن يتولى هو إقناعي بترك السياسة، فأخذني إلى مكتبه حيث حثّني على عدم الاندفاع، وفي الوقت نفسه شجعني على ضرورة الاحتفاظ بالإحساس بالوطن وبقضاياه والتمسك بها. وبمضي الزمن توطدت العلاقة بين حسن كامل وبيني حتى استشهد حسن كامل بعد ذلك في سنة 1969 وهو محافظ للبحر الأحمر عندما أصرّ على الحضور إلى القاهرة لاستكمال تجهيزات محافظته ضد العدو “الإسرائيلي” وتصادف أن كانت عملية الهجوم “الإسرائيلي” على الزعفرانة في اليوم نفسه، وقصفت سيارته واستشهد وهو فيها، وقد كلفني الرئيس جمال عبدالناصر بأن أنوب عنه في مواساة أسرته وتقديم واجب العزاء والتقدير لشخصه.
وبعد حصولي على شهادة إتمام الدراسة الثانوية من مصر الجديدة الثانوية القسم العلمي بنسبة تقارب من ال 60% أبدى لي والدي رغبته في أن يلتحق أحد أبنائه بكلية الطب ليكمل مسيرته، وذلك بعد أن التحق عمر بكلية الحقوق وعزالدين بكلية البوليس.
ولما كانت العلاقة بيني وبين والدي دون باقي إخوتي لها طابع خاص جداً، وكان دائماً يصرّ على أن أصاحبه في أثناء الإجازة الصيفية في مروره على مكاتب الصحة، عند قيامه بعمليات تشريح جثة أحد القتلى في جرائم القتل باعتباره الطبيب الشرعي، فلم أرد أن أخالف أو أعارض رغبته وقبلت بالرغم من أنني في تلك الفترة كنت قد بدأت أفكر في اختيار الطريق الذي يحدد مستقبلي وكنت أميل إلى الناحية العسكرية حيث كنت من المتابعين لتطورات الحرب العالمية الثانية تفصيلاً. أقول إنني لم أستطع أن أعارض رغبة الوالد صراحة، ومن باب الذوق قلت له: ليس لديّ مانع على أساس التجربة، فأخذني من يدي فوراً إلى كلية الطب حيث كان العميد الدكتور علي إبراهيم باشا وقال له: يا باشا أنا عايز ابني سامي يكمل مشواري، وطلب استثنائي من المجموع باعتباري ابن طبيب فوافق الباشا وقال له: “روح ادفع المصروفات يا عبدالعزيز”.
كانت المصروفات نحو خمسة وأربعين جنيهاً في السنة الدراسية غير ثمن الكتب، ولم يكن مع الوالد هذه المصروفات، فاتجهنا إلى شارع عدلي في وسط البلد حيث عمارة بحري. وطلعنا إلى الدور الأول وكان يحوي شققاً مفتوحة وكل حجرة يجلس فيها مرابي يهودي، وكان الوالد معتاداً أن يستلف من أحدهم، ولما طلب منه مبلغ خمسة وعشرين جنيهاً قال له مسيو حنانيا: يا دكتور عبدالعزيز العشرين يتردوا أربعين يوم الخميس، ولما كنا يوم الاثنين فقد كانت نسبة الربا 100% في ثلاثة أيام! ثرت وفار دمي في عروقي عندما شاهدت لأول مرة في حياتي شخص ما يلوي ذراع والدي، وقررت شيئاً في نفسي لم أبح به للوالد في ذلك الوقت، ولكني قلت له: يا والدي ما نجرب الكلية الأول وإذا عجبتني نبقى ندفع المصروفات. فوافق الوالد على مضض، ونزلنا وقد قررت تنفيذ ما جال بخاطري وهو: الانخراط في السلك العسكري مهما كان الثمن.
وبالفعل دخلت كلية الطب لمدة يومين اثنين، وقلت للوالد: إنني آسف جداً لن أستطيع أن أكمل الدراسة. وسامحني يا أبي. ولما كانت العلاقة بيننا قوية جداً ولم يسبق أن رفض لي طلباً، فقد وافقني وقدمت أوراقي لكلية التجارة في جامعة القاهرة انتظاراً لموعد التقديم للكلية الحربية الذي عندما أعلن عنه تقدمت بأوراقي إليها. وتشاء الأقدار أن أصاب يوم الكشف الطبي بالتيفوئيد فلم أستطع الالتحاق بهذه الدفعة وكان هذا من حظي الكبير ومن بركة دعاء الوالدين، فقد كانت هي دفعة ،1948 دفعة شمس بدران التي تعرضت لها تفصيلاً في فصل آخر من هذه المذكرات. وأكملت العام الدراسي في كلية التجارة في جامعة القاهرة، وكانت من أمتع السنوات الدراسية في حياتي، حيث انتقلت من مرحلة حياتية وشبابية إلى مرحلة رجولة مبكرة واختلاط جديد في مجتمع جديد.
كانت مجموعة مصر الجديدة تتكوّن من نحو ثمانية عشر طالباً، وكنّا نتوجه سوياً إلى الكلية، وكنّا في كثير من الأحيان نستقل عربة كارو من ميدان الجيزة نتوجه بها إلى بوابة الجامعة. كان عدد الطالبات في دفعتنا لا يزيد على عدد أصابع اليدين، وكنّ يجلسن في الصف الأول من المدرج، وكانت مجموعة مصر الجديدة تتولى حراستهن حيث كنّ كلهنّ قاهريات، ولذلك فقد كان أغلبنا يجلس في الصفوف الأولى مما سبب لنا مشكلة مع أحد المعيدين في ذلك الوقت، الأستاذ الدكتور أحمد أبو اسماعيل حيث كان له لازمة أرجو أن يسامحني لذكرها. فقد كان ينطق كلمة ثم يسكت ليقول: “هيه” ثم يكمل باقي الجملة وهكذا. ولم نكن قد نضجنا بما فيه الكفاية ونتيجة لشقاوة الشباب فقد كان بعضنا وأنا من بينهم عندما يدخل المحاضرة ويبدأ الكلام أن نقول “هيه”. وكان الرجل يسكت إلى أن كان امتحان آخر السنة وكان هو أحد المراقبين علينا وأخذ يمرّ علينا واحداً بعد الآخر، وهو طبعاً حافظ شكلنا واحدا واحدا، ويقف أمام أحدنا ويسأله “هيه”؟ فيقول له: “هيه”، فيقوم بوضع علامة على ورقة الإجابة، وهكذا سقطنا كلنا في مادته.
وكان من بين أساتذتنا في كلية التجارة الدكتور عبدالمنعم القيسوني والدكتور رضوان خالد وكان من بين أساتذتنا في كلية التجارة الدكتور عبدالمنعم القيسوني والدكتور رضوان خالد عميد الكلية ووالد الدكتور أحمد خالد أستاذ الروماتيزم في كلية الطب، والذي كان له مواقف رجولية ومشرفة معنا أثناء اغترابنا في سجون السادات والدكتور حسين كامل سليم.
انتهى العام الدراسي وقمت بالتقدم بأوراقي بعد سحبها من كلية التجارة إلى الكلية الحربية في صيف ،1946 وبعد الترتيبات اللازمة مالياً بخلاف المصروفات الرسمية التي كانت في حدود 60 جنيهاً سنوياً لأن دخول الكلية الحربية في ذلك الوقت كان يستلزم التقدم بما يُسمى “ورد”، وهو يعادل ما يثبت أن الطالب من ذوي الأملاك هو وعائلته فكان أن جمعنا كل ما يملكه كل فرد في العائلة ووضعناه في إقرار ذمة مالية.
وبعد ذلك أعددنا الوساطة، وهي الأهم والركن الأساسي في قبول الطالب في الكلية الحربية في ذلك الوقت، وكان هو اللواء إبراهيم عطا الله باشا رئيس هيئة أركان حرب الجيش وذلك عن طريق أحد الأطباء في الخدمات الطبية للجيش الذي كان زميلاً للوالد وهو اللواء طبيب محمد المهتدي.
وفي هذه الفترة استأجر والدي شقة جديدة في 5 شارع الفاطميين في منطقة ميدان الاسماعيلية في مصر الجديدة، وهي فيلا من دورين أقيم عليها دور ثالث، وكان يمتلكها الأميرألاي نورالدين حسن مظهر بك ضابط جيش على المعاش وكانت هذه النقلة أهم نقطة تحول في حياتي الشخصية كما سيرد فيما بعد.
التحقت بالكلية الحربية في شهر سبتمبر 1946 واطلق على دفعتنا اسم دفعة “الكوليرا” نظرا لانتشار مرض الكوليرا في تلك السنة، وتم عزلنا في عنبرين كبيرين في أحد أطراف مبنى الكلية الحربية القديم وهو المبنى الذي تشغله الآن الكلية الفنية العسكرية بكوبري القبة وكان عددنا 261 طالبا. وقد عاصرنا دفعة 48 دفعة شمس بدران الذي لم يكن من بين الطلبة البارزين فيها ولكنه برز بعد قيام الثورة لوضعه في تنظيم الضباط الأحرار.
وكان من أبرز عناصر هذه الدفعة محمد فائق وعبدالمحسن فائق، وهما ليسا قريبين، والأخير هو الذي جند رفعت الجمال (رأفت الهجان). واحمد بدوي سيد احمد ويوسف صبري أبو طالب وزراء الدفاع فيما بعد واحمد عبدالغفار حجازي وزكي عجرمة وفؤاد عزيز غالي قائد جيش في حرب ،1973 ومحمد زغلول كامل من الضباط الأحرار وهو الذي كشف انحراف المخابرات العامة في الستينات ، ومحمد محمود السقا من الضباط الأحرار ورئيس مؤسسة السياحة، وعبدالمجيد شديد من الضباط الأحرار ومدير مكتب كمال الدين حسين وعلي صبري ومحافظ الدقهلية، ومصطفى كامل مراد من الضباط الأحرار ورئيس حزب الأحرار، ويوسف عفيفي محافظ البحر الأحمر، وعمر عبدالآخر محافظ القاهرة وغيرهم ممن لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم الآن. وقد تخرجت دفعة 48 كما تخرجنا نحن قبل اكتمال الدورات الثلاث نظرا لقيام حرب فلسطين سنة 1948؛ فكان ان تخرجت الدفعة الأولى في اغسطس 1948 وتخرجت دفعتنا في فبراير 1949.
وكان من أبرز خريجي هذه الدفعة الرئيس محمد حسني مبارك، والزملاء مختار هلودة رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، وتوفيق عبده اسماعيل وجمال الليثي ومحمد وفاء حجازي مساعد وزير الخارجية، ومحمود عباس عبدالهادي السفير بوزارة الخارجية واحمد شوقي المتيني محافظ اسوان ومحمد يسري الشامي محافظ البحر الاحمر وعلي طه حبيب السفير بوزارة الخارجية. كما برز منهم من عملوا في المخابرات العامة وهم محمد حلمي القاضي ومنير محمد المهدي، ومحمود محمد عطية ومحمد عبدالفتاح الشربيني، ومحمد مختار عمر، وعادل علي جبريل، واحمد محمود احمد العقاد، وعبدالحفيظ محمد الشناوي، ومحمد منير مرسي حسبو. وبرز منهم قادة عسكريون ممن بقوا في الخدمة العسكرية وشاركوا في حروب 48 و56 و67 و73 وهم: محمود شاكر عبدالمنعم قائد القوات الجوية، وقاسم محمد حاتم وفؤاد حلمي السماع ويوسف صلاح الدين محمد وفاروق محمد فهمي بشير والمشير محمد عبدالحليم أبو غزالة وزير الدفاع، وحسن علي أبو سعدة الذي اصبح سفيرا ايضا، وحسن احمد الكاتب ومحمد علي متولي وعبد رب النبي حافظ رئيس اركان حرب القوات المسلحة، وسمير يسري عوض وصبحي الملاح وحمدي حسن حمدي قائد الدفاع الجوي، ومحمد عطية سليمان وبهيج الكرداني.
فوجئت يوم التخرج في الكلية الحربية ان يعلن كاتم اسرار حربية عن تعييني في سلاح المدفعية حيث كنت قد وعدت بناء على طلبي ان أعين في سلاح المشاة، ولم اعرف السبب لهذا التغيير حتى اليوم. وبعد اجازة قصيرة تقدمنا للالتحاق بمدرسة المدفعية كضباط اصاغر، وبدأت الدراسة وكان مجموع الضباط 24 من دفعتنا والملازم محمد محمد فائق من دفعة ،48 وكان قد تخلف لإصابته بكسر في قدمه حال دون ان يحصل على فرقة التأهيل للمدفعية مع عناصر دفعته، بدأت دورة القسم العام من علوم المدفعية، وكانت الدراسة على مدار أيام الاسبوع ما عدا يوم الجمعة، وكان من المفروض ان نبيت في مبنى المدرسة على ان نحصل على اجازة نصف يوم في يومي الاثنين والخميس. وبعد ثلاثة اسابيع بدأت الدراسة التخصصية كل حسب رغبته، واخترت الدفاع الجوي الذي كان ينقسم الى ثلاثة اقسام هي المدفعية الثقيلة المضادة للطائرات، والمدفعية الخفيفة المضادة للطائرات، والأنوارالكاشفة والرادار المضاد للطائرات.
منذ اليوم الأول الذي التحقت فيه بسلاح المدفعية قمت بعمل المستحيل لنقلي الى سلاح المشاة، بما في ذلك محاولة عمل بدل مع أحد الزملاء من سلاح المشاة على أساس قبول كل منا ان يحل محل الآخر في سلاحه. ولكن باءت جميع هذه المحاولات بالفشل، لدرجة ان مدير سلاح المدفعية في ذلك الوقت اللواء محمد شريف بك استدعاني لمكتبه وعنفني مندهشا لمطلبي هذا قائلا لي: “أنا يا أفندي بقى لي خمسة وثلاثين سنة في سلاح المدفعية وأول مرة اسمع فيها ان ضابط مستجد يطلب نقله من السلاح اللي كل الضباط بتعمل وسايط علشان يخدموا فيه، علشان تروح فين؟ تروح سلاح المشاة! انت أيه يا أفندي! انصراف”.
ويشاء الله سبحانه ان ابقى في هذا السلاح وافخر بانتمائي اليه حتى آخر لحظة من عمري.. كما يشاء ان يستدعيني مدير السلاح اللواء محمد بك شريف لمكتبه بعد ثلاثة شهور من تعنيفه اياي ليقول لي: “ازاي تبقى اخ الملازم أول عز الدين شرف ضابط مباحث قسم مصر الجديدة وتطلب انك تسيب سلاح المدفعية.. ده اخوك رد لي كل ما سرق من بيتي في ظرف ساعتين اثنين من ابلاغي عن السرقة.. انت حاتقعد هنا ولو عزت أي حاجة أو حد ضايقك تعالى لي من نفسك فورا”.
كان تفكيري في ذلك الوقت ان سلاح المشاة هو السلاح المقاتل الرئيسي، وان ضابط المشاة هو العنصر الأساسي في أي معركة وباقي الضباط هم عناصر معاونة، ولكن تغيرت هذه الفكرة بعد اتمام الدراسة حيث ثبت لي ان المنظومة القتالية متكاملة، وان كان جندي المشاة هو الذي ينهي المعركة.
من طرائف العمل في مدرسة المدفعية بعض تقاليدها المتوارثة من قديم الزمن كما قال لنا الضباط الاقدم ومنها ان الضابط المستجد لا يقوم بتعليق شارة المدفعية (الشرابنيل) على البدلة العسكرية إلا بعد التخرج في مدرسة المدفعية. وان الضابط الاحدث عندما يعطي التمام للضابط الأقدم أو للقائد لا بد ان يتم بالخطوة السريعة وليس بالخطوة المعتادة كما يتم باقي اسلحة الجيش، هذا علاوة على تقديس الأقدمية مهما كانت الأسباب والظروف.
وأذكر ان أول مرتب تسلمته كان له قصة طريفة كان بطلها الصاغ محمد مصطفى لطفي قائد ثان جناح مدفعية الميدان بمدرسة المدفعية؛ فقد حل يوم أول مارس سنة 1949 ونودي علينا من أركان حرب المدرسة الصاغ كمال الدين ايوب لنتوجه الى جناح الميدان لتسلم مرتباتنا، وهناك انتظرنا خارج المبنى حيث كان الصاغ محمد مصطفى لطفي يجلس على كرسي ميدان وأمامه بالطول ترابيزة خشب 6 أقدام وكان يقرأ اسم الضابط الذي يتقدم ويؤدي التحية ويتسلم مرتبه ويؤدي التحية وينصرف وهكذا، الى ان جاء دوري وقام بالنداء على اسمي فتقدمت وأديت التحية له وفوجئت بأنه رمى المرتب على امتداد ذراعه على الترابيزة ولم ينظر الي. فوقفت مكاني ولم اتقدم خطوة، وهنا رفع رأسه باستغراب قائلا لي: “ما بتاخدش مرتبك ليه يا ضابط؟” فقلت له: “والله دي مش الطريقة اللي يتعامل بها الضباط مع بعض!”، فرد: “مش فاهم قصدك إيه؟”.. فقلت له: “انتم علمتونا ان الضابط له كرامة.. وأعتقد ان هذا الأسلوب اللي اتبعته حضرتك ينال من كرامتي كضابط ولذلك أنا بارفض التعامل به”، فنظر الي معلقا: “لك حق”، وقام وناولني بيده المرتب قائلا: “اتفضل يا حضرة الضابط”.. فشكرته وتناولت مرتبي وانصرفت، وأتذكر انه كان عشرة جنيهات وعشرة قروش وسبعة مليمات.
وكان الصاغ محمد مصطفى لطفي ضابط عظيم نوبتجي المدرسة في ذلك اليوم وحضر الى ميس الضباط حيث نقيم والتقى معنا، وانتحى بي جانبا وشجعني على التمسك بسلوكي هذا. ومنذ هذا اليوم وحتى الآن صارت بيننا صداقة متينة جدا واحترام متبادل، وهو بالمناسبة من الضباط الاحرار، وقد عين ليلة الثورة ضابط الاتصال بين الثورة ووزارة الداخلية، ثم نقل لوزارة الخارجية سفيرا وممثل مصر في بلدان ذات أهمية خاصة كالسويد والجزائر وقبرص.
التحقت بفرع الدفاع الجوي للأنوار الكاشفة والرادار، وكنا خمسة من الزملاء هم جمال الليثي، من الضباط الاحرار والمنتج السينمائى فيما بعد، ومحسن امين عوف وبهيج الكرداني وكمال الدين شاهين وأنا. وكان مدرسو الجناح الصاغ محمد يحيى الصواف الحاكم الاداري لقطاع غزة فيما بعد واليوزباشي احمد حمروش من الضباط الاحرار ورئيس هيئة المسرح ورئيس تحرير مجلة روز اليوسف ورئيس اللجنة المصرية للتضامن الآن والملازم مهندس عباس الدهيمي، وكان صف الضباط المعلمون هما الباشجاويش محمد ابو رجيلة والشاويش فرج السوداني.
أعود بالقارئ العزيز الى التذكرة بأن العائلة كانت قد استقرت في السكن الجديد في 5 شارع الفاطميين بمصر الجديدة اعتبارا من منتصف العام 1948. وكان أصحاب المنزل يقيمون في الطابق الأول، وكانت والدتي اجتماعية بطبيعتها فقامت صداقة بينها وبين حرم الأميرالاي نور الدين حسن مظهر صاحب البيت، وكانت شقيقة الشهيد المحامي اسماعيل عبدالله زهدي الذي اغتيل على أنه محمد فريد بك، وفي الوقت نفسه كانت خالة الصاغ محمد فوزي (الفريق أول فيما بعد)، وكانت العائلة تتكون من خمس آنسات وصبي واحد احمد وكان من الطبيعي ان تلتقي العائلتان ببعضهما يوميا إما بالمصادقة أو بالزيارات، ومن هنا وقد كنت في سن يسمح لي بالتفكير في اكمال نصف ديني، وكنت ابحث عن شريكة حياتي من أجل حياة مستقرة، ومن دون اطالة فقد اخترت الابنة الثالثة “تغريد” لتكون شريكة حياتي، وذلك بعد أخذ رأي صاحبة الشأن نفسها والوالدة والوالد، تقدمت لخطبتها في ربيع عام ،1950 ثم تم عقد قراننا في يوم الخميس السادس من صفر 1370 الموافق 16 نوفمبر/تشرين الثاني ،1950 وتزوجنا يوم الخميس 13 رجب 1370 الموافق 19 ابريل/نيسان سنة 1951 ليلة ذكرى ميلادي وكنت قد ترقيت الى رتبة الملازم الأول وأصبح مرتبي 12 جنيها في الشهر. كان أول سكن خاص لي بعد الزواج عبارة عن شقة في العمارة رقم 8 شارع “فرديناند دي لسيبس” في مصر الجديدة من غرفتين وصالة وكان ايجارها خمسة جنيهات في الشهر. طبعا لم يكن الراتب الشهري يكفينا فكنا في اغلب ايام الاسبوع نقيم طوال النهار في منزل حماتي أو والدتي ونعود في المساء لمنزلنا للمبيت فيه.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1949 أتممت الدراسة في مدرسة المدفعية، وتخرجت وتوزع أفراد مجموعتي على وحدات افرع سلاح المدفعية المختلفة، وكان من نصيبي ان عينت في اللواء الأول المضاد للطائرات الذي كان يقوده الأمير ألاي (العميد) محمد صادق بك، ويتولى مناصب أركان حربه كل من الصاغ أ.ح ابو الفرج علي والصاغ أ.ح حسان عبدالرحيم.
ففي أحد الايام استدعاني قائد البطارية وكلفني بأن اقوم في خلال ساعتين بتجهيز اربعة بواعث أنوار كاشفة جهاز ضخم يستطيع ان ينير السماء بضوء باهر وكان الغرض من استخدامه هو كشف أماكن الطائرات المعادية التي تغير على مواقعنا ويتتبعها بمعاونة جهاز الرادار الى ان تتمكن وحدات المدفعية المضادة للطائرات من اصابتها واسقاطها واعتقدت اننا سنقوم بمناورات ، إلا انني فوجئت به يقول لي وهو في حالة من الضيق والغضب “والقرف”: “يا سيدي جت اشارة من رئاسة اللواء لتجهيز هذه الأجهزة، غالية الثمن، لكي نضيء بها أحد الاحتفالات التي سيحضرها الملك فاروق في قصر “الزعفران” مكان جامعة عين شمس حاليا وكانت تقيمه الملكة نازلي لجمع تبرعات في شكل حفل خيري. وأضاف الصاغ منير صدقي ان التنفيذ يجب ان يتم قبل غروب شمس ذلك اليوم، وحيث ان دور الخدمات الخارجية يقع على شخصي فقد أصبحت المسؤول عن تنفيذ هذه المهمة. وفعلا قمت بالمهمة وتوجهت مع جنودي الى قصر الزعفران حيث وجدت في انتظاري الأمير ألاي محمد صادق بك قائد اللواء بنفسه واستقبلني بقوله: “انت اتأخرت ليه يا حضرة الضابط؟” فرديت: “يا أفندم الأوامر لدي ان أكون هنا قبل آخر ضوء والآن الشمس لم تغرب بعد”. فقال: “شوف شغلك يا حضرة الضابط ومش عايز اسمع أي ملاحظات”. فعلقت: “احب اعرف إيه هو شغلي هنا وحا أعمل إيه بهذه الاجهزة؟” فقال الرجل: “تنور المكان”.. ثم استدار وهو يقول لي: “اتصرف يا حضرة الضابط!” فقمت باستطلاع المكان فوجدت حمام سباحة وحوله بعض الكراسي والطاولات، فاستنتجت أنه الهدف المطلوب انارته. وفعلا صح استنتاجي وبدأت التجارب، وانتظرت مسؤولاً من القصر ليبلغني متى نبدأ عملنا وبعد الغروب بساعة تقريبا حضر شاب أنيق لمقابلتي وعرفني بنفسه على أنه احد رجال التشريفات، وبعد ان تأكد ان كل الترتيبات قد تمت همس لي: “انصحك أنت ورجالك يا حضرة الضابط ان تغمضوا أعينكم اذا رأيتم أي شيء”.. وسكت! وطبعا فهمت ما يقصد ولكني أردت التأكد لئلا أسيئ الظن فتساءلت: “ماذا تقصد بكلامك؟” فقال لي: “هذا كل ما أستطيع ان اصرح لك به.. وانت طبعا فاهم ماذا اقصد!”.
وما قصده وما فهمته حصل.. فقد دارت في الحفل كؤوس الخمر وتمايل السكارى من الحضور من الأمراء والأميرات وعلية القوم، ولم يحضر الملك هذا الحفل، أو لكي أكون صادقا فإنني لم أره أو المحه. وفي فجر اليوم التالي جاءني الأمير ألاي محمد صادق ليقول: إن علي ان أحزم معداتي وأرحل برجالي لأعود الى وحدتي.
وفي شهر ديسمبر/كانون الأول 1951 رشحت لحضور فرقة الشؤون الادارية التي تؤهل الضابط للترقي لرتبة اليوزباشي (النقيب)، وهي الفرقة التي التقيت فيها لأول مرة بالرئيس جمال عبدالناصر. وقد انتظمت في الدراسة حتى 26 يناير/كانون الثاني 1952 يوم حريق القاهرة حيث الغيت جميع فرق الجيش نظرا لاعلان حالة الطوارئ ونزول الجيش للسيطرة على الأمن في البلاد، وكنت من ضمن القوات التي عسكرت في حديقة الازبكية فانتدبت للعمل مع هيئة اركان حرب وعمليات رئاسة القطاع في ميدان باب الحديد محطة مصر .
ولقد خضعت لسلسلة من تحقيقات النيابة العامة نتيجة وجودي مع الزميلين مختار هلودة ومحمد حلمي عبدالخالق في ميدان الاسماعيلية التحرير صباح يوم 26 يناير/كانون الثاني 1952 اثناء قيامنا ببعض المشتروات، والتي اعقبها مشاركة الزميل محمد حلمي عبدالخالق، قسرا، جنود البوليس في تظاهرهم في الميدان وهم في طريقهم لمبنى مجلس الوزراء، حيث حملوه على اكتافهم رغما عنه وكان يرتدي ملابسه الرسمية وكنا مختار وأنا قد غادرنا الميدان قبل وصول المظاهرات اليه.
ولنكمل المسيرة الشخصية في مرحلة جديدة، وأعني بها المرحلة التي عشتها في ظل ثورة 23 يوليو 1952.. فبعد قيام الثورة بثلاثة ايام ندبت للعمل بالمخابرات الحربية (العامة فيما بعد). وبعد شهور قليلة نقلت للعمل في القسم الخاص، وكانت مكاتبنا في مجمع التحرير في الدور العاشر، وبدأت في الفترة فكرة انشاء جهاز المباحث العامة وكانت الخطوات الأولى لتشكيل هذا الجهاز في الدور العاشر ايضا من المبنى نفسه.
وقد يندهش القارئ الكريم انه لم يكن لدي تليفون في الكابينة التي كنت استأجرها بعقد مكتوب من المحافظة ولم يتم تركيبه الا سنة 1968 عندما طلبني الرئيس جمال عبدالناصر تليفونيا وكنت في الكابينة، فاستمهله من رد على مكالمته في المنزل الى ان ابلغوني ان الرئيس على التليفون فلما طلبته قال لي: “انت بتنهج ليه؟” فقلت له إنني قادم من الكابينة، والاندهاش كان مرجعه الى ان الرئيس لم يكن يطلبني في المنزل أو الكابينة إلا نادرا، لأنه اعتاد تواجدي باستمرار في مكتبي سواء في منشية البكري أو في المعمورة.
وأنهي هذه الحدوتة الشخصية بأني قد منحت من الأوسمة من رؤساء وملوك الدول العربية والاجنبية ما يفوق الخمسة وعشرين نيشانا ووساما من كل من اليمن والسودان والمغرب وتونس ويوغوسلافيا وكمبوديا وافغانستان وساحل العاج واثيوبيا والنيجر وبولندا وبلغاريا وماليزيا ورومانيا وموريتانيا وفنلندا والسنغال والكونغو الشعبية والمجر وافريقيا الوسطى.
أما الأوسمة التي منحتها من مصر فهي الاوسمة العسكرية التي حزتها قبل قيام ثورة 52 كضابط في الجيش المصري وهي وسام محمد علي الكبير ووسام نجمة فلسطين وسام التحرير بمناسبة قيام ثورة 23 يوليو 1952.
.................."
إنتهى القسم الأول
د. يحى الشاعر
لـلـــتـــكــــمــلـــة ... إنـقـــــر هــنــا
http://samy-sharaf.bravehost.com/
http://samy-sharaf.bravehost.com/
مصدر السطور أعلاه وما يليهم من حلقات هو "موافقة وتصريح شخصى من السيد ســامى شرف" [/size]
[/size]