كتاب الذكرى الـ 50 للعدوان الثلاثي محمود مراد

يحي الشاعر

كبير المؤرخين العسكريين
عضو مميز
إنضم
2 فبراير 2008
المشاركات
1,560
التفاعل
98 0 0
كتاب الذكرى الـ 50 للعدوان الثلاثي محمود مراد
فيما يلي ما نشره الكاتب محمود مراد عن تلك الحرب ، ويلاحظ أن معظم ما يرد ، قد إعتمد علي ما ورد في كتابي "الوجه الأخر للميدالية"

د. يحي الشاعر
(1)

التخطيط للعدوان بدأ في اليوم التالي لتأميم قناة السويس
ملفات يكتبها:

انه اليوبيل الذهبي لمعارك ال 150 يوما بين تأميم القناة وتحقيق النصر، ذكرى حرب السويس التي كانت وبكل المقاييس، حدا فاصلا بين عصرين، تبدأ "الخليج" بالتزامن مع "الأهرام" اليوم نشر دراسة مهمة تعتمد على الوثائق المصرية ويوميات القتال، وعلى الوثائق العسكرية للأطراف الثلاثة التي شاركت في العدوان وهي: انجلترا وفرنسا و"اسرائيل". واذا كان العدوان المسلح قد بدأ في اليوم التاسع والعشرين من أكتوبر سنة ألف وتسعمائة وست وخمسين.. فإنه قد سبقتها ولحقتها معارك سياسية ونضالية بدأت مباشرة بعد اعلان قرار تأميم قناة السويس يوم 26 يوليو/تموز 1956 واستمرت حتى تحقق النصر الكامل بجلاء القوات المعتدية في الثاني والعشرين من ديسمبر نفس العام. وبهذا استغرقت ملحمة السويس مائة وخمسين يوما كاملة.ان القيمة الأساسية لهذه الغزوة أو لهذا العدوان أو كما أصبح معروفا باسم حرب السويس، انها لم تكن مجرد حرب تحمل رقم اثنين في مسلسل الصراع العربي - “الاسرائيلي” الذي لا يعلم أحد متى ينتهي ولا في انها تحالف علني سافر بين دولتين كانتا من اكبر دول العالم هما بريطانيا الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، وفرنسا الامبراطورية التي تمتد مستعمراتها عبر القارات، وبين دولة صغيرة مشكوك في شرعية وجودها هي “اسرائيل” التي قال ابرز قادتها العسكريين “موشي ديان” ان اشتراكها كان اشبه براكب دراجة تعلق بسيارة كبيرة تصعد سفح الجبل فانطلق بسرعة لكنه فقد توازنه، ذلك ان القيمة الأساسية لحرب السويس هي، في انها كانت حدا فاصلا بين عصرين، بين عصر السيطرة الاستعمارية الاستعبادية المستغلة المستنزفة بلا حدود، وبين عصر الاستقلال والتحرر السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي.وكانت بداية النتائج قطع ذيل الأسد البريطاني وكسر أنيابه فبدأ يلملم بقاياه من مستعمراته ويرحل، وهزيمة القوى اليمينية الفرنسية فاشتدت عزائم الثوار في المستعمرات مثل الجزائر وتونس ودول افريقية وغيرها حتى تحقق الاستقلال، بل ان ما حدث في حرب السويس كانت له تأثيراته الايجابية في أقصى الجنوب الافريقي وفي أقصى القارة الأمريكية الجنوبية وفي آسيا.ولهذه القيمة الكبرى، بالغة الأهمية، حفرت حرب السويس مكانتها في التاريخ السياسي والانساني للعالم، وأكد المصريون قدرهم وقدرتهم، ومن ثم يحتفي بها العالم بشرقه وغربه، واذا كان العالم يهتم بها ولا تزال المطابع ودور الصحف ومراكز الدراسات والأبحاث تنشر عنها حتى اللحظة دراسات وكتب عن خفاياها ونتائجها وما ترتب عليها، فإنه من الأجدر أن تكون هذه مهمتنا نحن ولا أعني المصريين فقط بل كل العرب لأسباب عديدة، أذكر فقط ثلاثة منها:
1- اننا نحن الذين تصدينا لهذه الحرب وخضناها ببسالة وخرجنا منها بنتائج مشرفة، واحتذى بنا الآخرون من الأشقاء.
2- إننا نحن في مصر والدول العربية أول من انعكست عليه هذه النتائج.
3- انه اذا كان هدف التذكر والدراسة هو التحليل الاستراتيجي للحرب من الجوانب والأبعاد السياسية والعسكرية وغيرها. فإننا نحن أول من يهمه هكذا المفروض هذا التحليل ونتائجه، ولكننا للأسف الشديد لا نبالي بهذا، ونبدو أحيانا وقد قطعنا الصلة بالماضي وبما أنجزناه فنبدأ من فراغ كما لو كانت الدنيا تولد “اليوم” فلا نستفيد بما فعلنا في حين يستفيد الآخرون ولا نبني فوق ما بنينا فنرتفع، بينما الآخرون يفعلون، في حين انه اذا كنا نتنبه ونتحسب ونعي الدرس لما كان قد حدث ما حدث على الساحة العربية التي تبدو من دون ساحات العالم ومناطقه مهانة مجروحة مباحة لكل من يريد ان يغزوها بالسلاح، أو، يتهجم عليها بالاساءات والبذاءات، أو، يشوه تاريخها وزعماءها، ويشككها في نفسها!لهذا، تجيء هذه المحاولة بالوثائق الكاملة للملحمة من تأميم قناة السويس الى العدوان الثلاثي اضافة لما قيل عن حرب السويس، واستثارة للمبادئ والمعاني والقيم، وللتعرف الى النموذج ليس لتكراره فالحدث مثل الانسان، بصمة غير قابلة للتكرار، وانما تصلح لأن نستفيد منها، باستخلاص الثوابت وهي أشبه بأوعية وقوالب، تصلح لكل زمان وان كان محتواها يتغير جزئيا أو، كليا حسب المتغيرات وايقاع العصر، ومزاجه الحاكم.

ان بداية العمل العسكري للجولة العربية “الاسرائيلية” الثانية الشهيرة بحرب السويس كانت صباح 27 يوليو 1956 أي اليوم التالي مباشرة لإعلان الرئيس جمال عبد الناصر لتأميم قناة السويس وذلك عندما جمع سير أنتوني ايدن رئيس وزارة بريطاني وقتها رؤساء اركان حرب المملكة المتحدة وطلب منهم: اعداد خطة لعمل عسكري يستهدف انتزاع القناة من مصر.
لقد كانت الاستراتيجية في هذا اليوم 27 يوليو 1956 تعتمد على ان تعمل بريطانيا وحدها ضد مصر واذا قبلت فرنسا الاشتراك فلتكن مساهمتها بقوات رمزية. فإن بريطانيا كانت تريد أن تسترد وحدها هيبتها الضائعة في الشرق الأوسط، كذلك كان في تخطيط القيادة الانجليزية الاعتماد على تعضيد من الولايات المتحدة الأمريكية تتمثل في قيام الأسطول السادس الأمريكي الموجود في البحر الأبيض بتغطية استراتيجية للعمل العسكري الانجليزي، وذلك بتأمين القتال ضد احتمالات التدخل من جانب الاتحاد السوفييتي.وعلى هذا الأساس وضع رؤساء أركان حرب الامبراطورية خطة الغزو باسم “العملية700” وهي تدخل في نطاق الحروب المحلية المحددة.وقد دارت مناقشات كثيرة أثناء وضع هذه الخطة عن مكان انزال قوات الغزو، وتأرجحت الأفكار بين الاسكندرية وبورسعيد، وأخيرا تغلب الرأي القائل بأن الاسكندرية هي أنسب مكان لإنزال قوات الغزو، واصبحت العملية بالتالي عبارة عن غزو بحري للاسكندرية تتلوه معركة على الاتجاه الاستراتيجي الاسكندرية القاهرة يتم فيها تدمير القوات المصرية، وبعد ذلك تحتل قوات الغزو القاهرة لتسقط الحكم الثوري القائم بها.
وعندما عرضت هذه الخطة على سير ايدن في اغسطس كان من الطبيعي أن يرفضها، اذ انها تقتضي احتلال مصر كلها الأمر الذي سيستغرق وقتا طويلا، بينما كان سير ايدن يرغب في توجيه ضربة حاسمة سريعة، وفي هذا الوقت عرضت فرنسا مساهمتها الكاملة وأبلغت بريطانيا أنها على استعداد لتقديم قوات بنسبة 5:،3 وقبل ايدن اشتراك الفرنسيين بأمل تحقيق عاملي: الحسم والسرعة.
* * *
وفي هذه المرحلة عرضت فرنسا على بريطانيا فكرة اشراك “اسرائيل” في الغزو.. ومن الجدير بالذكر هنا أن نبين علاقة فرنسا ب “اسرائيل” في ذلك الوقت.. وفي الواقع فإنه لم يكن هناك في يوم من الأيام رباط قوي بين فرنسا و”اسرائيل” سوى ذلك الشعور بالعطف الذي أعقب الحرب العالمية الثانية واتجاه زعماء الصهيونية للتقرب الى الدول الكبرى، على أن السبب الأهم والأول تزايد عداء العرب للسياسة الاستعمارية الفرنسية في شمال افريقيا وبزوغ المقاومة الجزائرية ومن ثم فقد بدأت فرنسا تلقي بالتبعة على مبادئ القومية العربية وتعتقد أن القاهرة هي الموجهة والمثيرة للعداء العربي، وحاملة راية التحرر والحرية ولذلك كله تلقفت “اسرائيل” الفرصة وأخذت تقترب من فرنسا وتبارك المشاعر الخبيثة التي تولدت في فرنسا نتيجة تقلص سيادتها الاستعمارية على شمال افريقيا، كما أخذت “اسرائيل” تؤكد لفرنسا انها ركيزتها وسندها الأول في الشرق الأوسط وأن كليهما له عدو واحد وهو القاهرة، واذا تمكنا من تدمير القاهرة فسوف تحل كل مشاكلهما.. وصدقت فرنسا التي كانت تتخبط في سياستها في تلك الأيام وانهال السلاح الفرنسي على “اسرائيل” وبدأ عهد جديد بين فرنسا و”اسرائيل” اتسم بالتعاون الشديد..
ولكن عندما عرضت فرنسا على بريطانيا اشراك “اسرائيل” رفض سير ايدن رغبة منه في أن لا تظهر دولته أمام العرب في صورة الدولة المتواطئة مع “اسرائيل” مما قد يهدد المصالح البريطانية الكثيرة في العالم العربي.وقدم البريطانيون الى الفرنسيين خطة “العملية700” فوافق عليها الفرنسيون، ودارت دراسات بين قادة الجانبين لتحديد حجم القوات التي ستشترك في الغزو من الجانبين ولتخصيص واستخدام قواعد الهجوم وبدء القيادة المشتركة وكيفية تنفيذها، وقد اتفق على أن يتولى الجنرال تشارلس كيتلي (الانجليزي) القيادة العامة للحملة بينما يتولى الأدميرال الفرنسي بارجو منصب نائب القائد العام، وبالمثل اتفق على أن تكون القيادة للبريطانيين والنيابة للفرنسيين في كل فرع من فروع العمليات والخدمات والقوات.وسميت الخطة بعد اتفاق الجانبين “هاميلكار” وتقرر ان تنتهي الاستعدادات ويبدأ الهجوم في منتصف سبتمبر، وأخذت القوات البريطانية والفرنسية تتجه الى قاعدتي الغزو والتي أصبحتا “مالطة وقبرص” كما أمرت القوات بأن تضع “حرف: “ه H “ وهو الحرف الأول من اسم هاميلكار فوق خوذها وعلى اسطح عرباتها وطائراتها، ولكن وقبل أن يجف الطلاء صدرت الأوامر بتغيير الخطة “هاميلكار” الى الخطة “موسكتير -1”.
* * *
لقد بنيت الخطة موسكتير (1) على نفس أسس الخطة هاميلكار من ناحية التصميم على أن تكون الاسكندرية هي مكان الغزو وأيضا على ان يكون ميعاد الغزو يوم 15 سبتمبر الا ان خطة موسكتير فاقت في تفصيلاتها خطة هاميلكار واستندت الى ضرورة توفير السيطرة الجوية بمهاجمة المطارات المصرية أولا وقبل أن يبدأ الغزو بيومين ثم على ضرب ميناء الاسكندرية بالاسطولين الانجليزي والفرنسي في يوم الغزو وانزال قوة مظلات يتلوها انزال القوات البرية المشتركة، وقد استمر الهدف الرئيسي أيضا وهو الاستيلاء على القاهرة بعد تدمير القوات المصرية وبالتالي اسقاط نظام الحكم التحرري الثوري.
وفي 15 أغسطس أقرت الحكومتان الخطة وبدأتا في ارسال القوات، ولكن سرعان ما دب الخلاف بين البريطانيين والفرنسيين حيث رغب الفرنسيون في القيام بهجوم مندفع بينما رغب البريطانيون في ان يكون الأسلوب هو الأسلوب التقليدي البريطاني البطيء والذي يميل الى استخدام خطط وضعت من قبل لحالات مماثلة، كما اعترض الفرنسيون على اختيار منطقة الاسكندرية كمنطقة نزول لقوات الغزو.
متى اشتركت “اسرائيل”؟
وفي ذلك الوقت بدأت فرنسا تسفه فكرة “موسكتير -1” وترى وجوب ادخال “اسرائيل” وبذلك يسهل استدراج الجيش المصري الى سيناء الأمر الذي يخلق فراغا في منطقة القناة وبذلك يمكن للقوات الانجلو فرنسية سرعة احتلال القناة وايقاع القوات المصرية بين المطرقة والسندان، وفي نفس الوقت يخلق اشتراك “اسرائيل” ذريعة التدخل للدولتين اللتين ستظهران كأنهما ترغبان في تأمين منطقة القناة والفصل بين المتحاربين !
وأخيرا وافقت بريطانيا على اشراك “اسرائيل”، وقد تم ذلك في المؤتمر الذي عقد بلندن يومي 10و11 سبتمبر وعليه الغيت الخطة “موسكتير -1” وظهرت الخطة “موسكتير” المعدلة والتي غيرت مكان الغزو من الاسكندرية الى بورسعيد يتلوه زحف مشترك نحو الاسماعيلية ومن ثم تتجه القوات البريطانية الى “ابو صوير” بينما تتجه القوات الفرنسية الى السويس. وبعد ذلك يوجه الطرفان ضربة موحدة تجاه القاهرة، بينما كان على “اسرائيل” استدراج القوات المصرية الى سيناء ثم تدميرها هناك بمعاونة القوات الجوية الانجليزية والفرنسية.
وفي 18 سبتمبر وصلت الخطة الى تل أبيب، وانتهز بن جوريون الفرصة وسرعان ما طالب بتدعيمات تمثلت في كميات كبيرة من الاسلحة والمعدات وزيادة المعونة الجوية والبحرية البريطانية ل “اسرائيل” مع ترك تحديد بدء العدوان ل “اسرائيل”، وفي 20 سبتمبر تمت الموافقة على ذلك واصبحت الخطة تعرف باسم الخطة موسكتير المعدلة
النهائية.
وفي 22 أكتوبر طار بن جوريون لباريس حيث أخذ يطالب بضمان على شكل معاهدة يوقعها الأطراف الثلاثة.. وتتم الاتصالات..
وفي يوم 24 أكتوبر وبرحلة سريعة تسلك الطرق والشوارع المهجورة مضى المتآمرون الى سيفر (احدى ضواحي باريس) يناقشون ثم يوقعون المعاهدة التي تفضح التواطؤ وتحمل ذات الاسم، وهذا هو نص المعاهدة بالحرف:
“ لا تنشر الى الأبد
بروتوكول سيفر
24 أكتوبر سنة 1956
* تقوم القوات “الاسرائيلية” بخلق حالة صراع مسلح على مشارف قناة السويس لتستغلها بريطانيا وفرنسا كذريعة للتدخل العسكري ضد مصر.
* توفر القوات الجوية الفرنسية الحماية الجوية ل “اسرائيل”، كما توفر القوات البحرية الفرنسية الحماية البحرية للمياه الاقليمية “الاسرائيلية”.
* تصدر بريطانيا وفرنسا انذارا مشتركا لكل من مصر و”اسرائيل” لوقف اعمال القتال والابتعاد عن القناة، مع قبول مصر احتلال منطقة القناة احتلالا مؤقتا بواسطة القوات الانجلو فرنسية لحماية الملاحة البحرية فيها.
* تقوم القوات الجوية البريطانية بتدمير المطارات والطائرات والأهداف العسكرية المصرية وتحقق السيطرة الجوية في سماء مصر.
* تدافع فرنسا عن موقف “اسرائيل” في الأمم المتحدة وفي نفس الوقت تبذل بريطانيا جهودها بصفة سرية بالاتصالات الخاصة لمساندة “اسرائيل” من دون ان تكشف علانية عن ذلك حتى لا يضار مركزها في الوطن العربي”.
توقيعات:
عن المملكة المتحدة باتريك دين
عن الجمهورية الفرنسية كريستيان بينو
عن دولة “اسرائيل” دافيد بن جوريون
واتفق على ان يحتفظ كل طرف بنسخته ولا يظهرها أبدا،!!
* * *
وقد حصل بن جوريون على الاتفاق بسرور بالغ وعاد في ذات اليوم الى “اسرائيل” لتبدأ خطوات العمل التنفيذية، ففي اليوم التالي مباشرة وأنا أنقل هذا عن موشي ديان (يوميات معركة سيناء):
“وبعد المباحثات الداخلية الكثيرة، وبعد الاتصالات والتفسيرات مع العناصر الخارجية التي بدأت منذ حوالي شهرين، يمكن اليوم تلخيص الأمور التالية:
1- أقر بن جوريون رئيس الحكومة ووزير الدفاع مبدئيا خطة المعركة وأهدافها.
2- ستبدأ قواتنا عملها يوم الاثنين 29/10/1956 مع الظلام وعلينا أن ننهي احتلال شبه جزيرة سيناء بسرعة ليتم الاحتلال خلال 7-10 أيام،
3- القرار على المعركة وكذلك تخطيطها يعتمدان على فرض انه من المنتظر أن تعمل قوات بريطانية وفرنسية ضد مصر.
4- ومن المعلومات الموجودة لدينا فإنه من المنتظر أن تقوم القوات البريطانية والفرنسية بعمليتها يوم31/10/1956 وهدفها السيطرة على منطقة قناة السويس، ولهذا يجب عليها النزول من البحر أو اسقاط قوات من الجو وسيعملون هذا بالطبع تحت تغطية جوية مناسبة”.
ونلاحظ على كلام ديان ما يلي:
انه نتيجة لاتفاق سيفر تحددت عمليات “اسرائيل” يوم29/10 لكنه لم يذكر صراحة اتفاق سيفر أو ما هي الاتصالات الخارجية ؟
انه ونتيجة لاتفاق سيفر تحددت عمليات “اسرائيل” يوم29/10 وذلك لأن الاتفاق كان يوم 24 وسيبدأ التحضير الجوي في اليوم التالي و”اسرائيل” تستغرق 4 أيام لإعلان التعبئة العامة.
يعترف ديان بنوعية العمل العسكري “الاسرائيلي” (وبسرعة يتم الاحتلال) ذلك لأنه كما يقول في موضع آخر، “نحن لا نستطيع أن نواصل الحرب لأكثر من اسبوعين”.
وفي نفس هذا اليوم 25/10 وضع موشي ديان بصفته رئيسا لهيئة اركان العامة الرتوش النهائية لخطة قادش الخاصة بدور “اسرائيل” ثم وقعها وارسلها الى القادة وأبرزهم: “دان تلكوفسكي” قائد القوات الجوية و”صمويل تانكوس” قائد القوات البحرية و “اساف سمحوني” قائد القوات البرية والى رئيس شعبة العمليات، وهذا الأخير ننقل طبقا للوثائق “الاسرائيلية” نص ما ارسل اليه:
للمرسل اليه فقط
الى رئيس شعبة العمليات
الموضوع: توجيهات عمليات الغرض:
(أ) خلق تهديد عسكري على القناة باحتلال أغراض مجاورة لها.
(ب) احتلال مضايق ايلات (أي خليج العقبة).
(ج) احداث ارتباك في تشكيل قتال القوات المصرية الموجودة في سيناء..
الطريقة:
(د) عام:
يوم ع (أي يوم بداية العمليات): يوم الاثنين 29 أكتوبر سنة 1956.
ساعة الهجوم: الساعة 1700.
(ه) المراحل:
1- المرحلة الأولى (3) ليلة ع (29/10-30/10)
وكانت هذه هي المهمة المباشرة للمنطقة الجنوبية:
(أ) احتلال تقاطع الطرق عند صدر الحيطان باستخدام قوات ابرارجوي.
(ب) احتلال نخل.
(ج) احتلال الكونتلا ورأس النعيت.
(د) تأمين مدخل القصيمة نخل.
(ه) تأمين محور الكونتلا نخل.
(و) تأمين محور رأس النقب نخل.
(ز) تستعد القيادات الأخرى (خلال قيادة المنطقة الجنوبية للدفاع أول ضوء يوم30أكتوبر).
(ح) يستعد سلاح الطيران والسلاح البحري استعدادا تاما ابتداء من ساعة الهجوم لتنفيذ ما يكلفان به من مهام بالاسبقيات التالية:
الدفاع عن سماء البلاد.
مساندة القوات البرية.
مهاجمة المطارات المصرية.
2- المرحلة الثانية (ب): في ليلة ع + 1 (30/10-31/10)
(أ) التقدم في محور رأس النقب شرم الشيخ..
(ب) الاستعداد لصد الهجوم المضاد من القطاع الأردني.
(ج) الاستيلاء على القصيمة.
(د) الاستعداد للدفاع عن الحدود “الاسرائيلية” المتاخمة لسوريا ولبنان.
3- المرحلة الثالثة (ج) ليلة 4+2 (31/10-1/11) والأيام التالية:
(أ) احتلال مضايق ايلات.
(ب) احتلال رفح وأبو عجيلة والعريش.
(ج) تأمين طريق الاقتراب من صدر الحيطان الطور وفتح محور الى شرم الشيخ.
(د) فتح محور أبو زنيمة الى دهب.
(ه) التقدم الى صوب القناة والتشبث بخط يبعد عنها بما لا يقل عن 15 كيلومترا.
رالف الوف (لواء)
موشي ديان رئيس هيئة الاركان العامة.
ثم تتوالى الأحداث بعرض بن جوريون الخطة على حكومته يوم 28/10/56 ويذيع بيانا مخادعا يقول فيه ان “التعبئة جرت عقب النشاط المعادي العربي فلا نقف أمام هجوم مفاجئ من دون دفاع كاف” ويطرد ديان مراقبي الأمم المتحدة من بئر السبع والعوجة، ويقول “كان خيرا لنا أن يتقدموا بشكوى ضدنا للأمم المتحدة من أن يشاهدوا تحركاتنا ويبلغوا عنها”.ويأتي يوم 29 أكتوبر وتدق القلوب انتظارا لما سيحدث.



... (2)

يوميات القتال على مدى 201 ساعة

.لا شك في أن كشف حقيقة ما جرى يستلزم منا متابعة يوميات القتال بأمانة تستند إلى الوثائق العسكرية المصرية والبريطانية والفرنسية و”الإسرائيلية”، وهذا يؤدي إلى تعرية الموقف أو بتشبيه أدق رفع الغطاء عن الطعام الفاسد الذي صنعه الطباخون الانجلو فرنسي “إسرائيليون”.
وبداية.. نقول إن القتال بدأ في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول وامتد على مدى 201 ساعة حتى صدر قرار مجلس الأمن بوقف اطلاق النيران في الساعة الثانية فجر يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني.وقد كان دور “إسرائيل” أثناء القتال هو طبقاً لتوجيهات القيادية العامة “الإسرائيلية” “القتال على المجهود الثانوي داخل سيناء وغزة بهدف خلق تهديد عسكري على القناة”.
أما دور القوات الانجليزية- الفرنسية فكان القتال على المجهود الرئيسي بشن غزو بحري على امتداد الخط التعبوي الاستراتيجي لقناة السويس. وفي ما يلي نص أمر عمليات الغزو البحري الانجلو- فرنسي:
المهمات:
بعد تمهيد جوي مركز ابتدائي لمدة ستة أيام، وتمهيد مباشر بالطيران وبمدفعية الأسطول من س ،3 تقوم قوات الغزو المشتركة أول ضوء “يوم ي 9” باقتحام منطقة بورسعيد والاستيلاء على رأس الشاطئ فيها بمواجهة 10 كيلو مترات وعمق 40 كيلو مترا كمهمة مباشرة لها على أن تتم “يوم ي 11”، وتطور الهجوم وتستولي على منطقة الإسماعيلية “يوم ي 12” كمهمة أساسية لها طبقا للخطة (أ) على أن تكون مستعدة لاستغلال النجاح لحسم الحرب بالاندفاع صوب السويس والقاهرة للاستيلاء عليهما وتحقيق المهمات الأساسية طبقاً للخطة (ب).
التشكيل التعبوي لعملية الغزو البحري ومهمات القوات:
(أ) نسق أول قوات الغزو البحري:
1 قوة الاقتحام الجوي:
القائد: بريجادير بتلر قائد مجموعة اللواء 16 مظلات.
القوات: مجموعة اللواء 16 مظلات عدا كتيبتين وآلاي مظلات من الفرقة 10 مظلات.
المهمات: اقتحام منطقة بورسعيد جوا أول ضوء “يوم ي 9” وتأمين مخارجها والاستيلاء على الأهداف الحيوية فيها.
2 قوة الاقتحام البرمائي:
القائد: الرير أدميرال هولاندمارتن.
القوات: مجموعة اللواء 3 الفدائيين البحريين، رئاسة الفرقة 10 مظلات.
كتيبة مظلات من الفرقة 10 مظلات أورطة دبابات خفيفة ثلاث كتائب فدائيين بحريين.
المهمات: الاستيلاء على رأس الشاطئ وتأمينه كمهمة مباشرة “يوم ي 11” بمواجهة 10 كيلو مترات وعمق 40 كيلو متراً وتطوير الهجوم والاستيلاء على منطقة الاسماعيلية كمهمة أساسية يوم ي 12 طبقا للخطة (أ).
(ب) نسق ثاني قوات الغزو البحري:
القوات اللاحقة:
القائد جنرال هيوستوكويل.
القوات: الفرقة 3 مشاة. مجموعة اللواء 51 المشاة المستقل مجموعة اللواء 50 المشاة المستقل، كتيبتان من مجموعة اللواء 16 المظلات، الآلاي 6 المدرع، آلاي سيارات مدرعة، كتيبة مظلات من الفرقة الأجنبية الفرنسية، الآلاي الخفيف.
المهمات: استغلال نجاح قوة الاقتحام البرمائي وتطوير الهجوم نحو القاهرة والسويس معا للاستيلاء عليهما وحسم الحرب.
(ج) الاحتياطي العام:
القوات: الكتيبة الأولى رويال وست كنت 2 آلاي مظلات فرنسية.
ومن هذه الخطة العسكرية تتضح الأهداف السياسية والتي يمكن أجمالها في الآتي:
1 الاستيلاء على قناة السويس.
2 إبادة القوات المسلحة المصرية ومعداتها.
3 القضاء على الحكم الثوري في مصر الذي كان يساعد الثورة الجزائرية.
4 انهاء الحركات التحررية في الشرق الأوسط والقضاء على القومية العربية.
5 استعادة السيطرة على الوطن العربي.
المراحل الأربع للقتال
على هذا النحو اذن كان دور الغزاة.. وكانت أهدافهم من القتال فإذا نظرنا إلى المجهود المصري فاننا نجد أن القتال دار خلال 4 مراحل استراتيجية.
المرحلة الأولى:
مرحلة حصر العدوان “الإسرائيلي” المدعم بالجهد الجوي والبحري الانجلو فرنسي، وقد استغرقت هذه المرحلة 47 ساعة بدأت في الخامسة مساء يوم 29/10 وانتهت في الرابعة مساء يوم 31/10 وفيها نجحت القوات المصرية في حصر العدوان وتثبيته واستعدت لتدمير قواته نهائيا تمهيدا لنقل المعركة إلى قلب “إسرائيل” ذاتها.
المرحلة الثانية:
مرحلة النضال من اجل تحقيق التوازن الاستراتيجي في مسرح العمليات وقد استغرقت 86 ساعة بدأت في الساعة الرابعة مساء يوم 31/10 عندما تكشفت نوايا العدوان و.. انتهت في السادسة صباح يوم 4/11 وخلالها صدر قرار توحيد الجبهة المصرية غرب السويس في الوقت المناسب لتحقيق التوزان الاستراتيجي وتركيز قوى النضال في مثلث (بورسعيد السويس القاهرة).
المرحلة الثالثة:
مرحلة الصراع في اتجاه المجهود الرئيسي، وقد استغرقت 68 ساعة من السادسة صباح يوم 4/11 حتى الثانية صباح يوم 7/،11 وكان الصراع المسلح فيها بين القوات البريطانية والفرنسية من جهة، وبين القوات المسلحة المصرية وقوى النضال الشعبي من جهة أخرى وكان القتال دفاعا عن العقيدة والأرض تحت شعار “الحرب من بيت إلى بيت”.
المرحلة الرابعة:
مرحلة فشل العدوان الثلاثي، وقد استغرقت 120 يوما بين 7 نوفمبر سنة 1956 وقف اطلاق النار وبين 6 مارس 1957 نهاية الانسحاب وتميزت هذه المرحلة بصمود الإرادة الممثلة في الإنسان المصري وتحفزه متأهبا لأي طارئ.
هذه هي مراحل القتال من وجهة النظر الإستراتيجية المصرية.. وهي هنا مقدمة نبدأ بعدها في يوميات القتال.. وكيف جري؟
اليوم الأول : 29 أكتوبر:
المظليون “الإسرائيليون”.. ذريعة العدوان!
اختارت القيادة “الإسرائيلية” منطقة “صدر الحيطان” بسيناء لتبدأ فيها أولى عملياتها تنفيذا لدورها في اتفاق “سيفر”.. ولقد أثير في هيئة الأركان “الإسرائيلية” أن “صدر الحيطان” بعيدة عن القواعد “الإسرائيلية”.. وهي في ذات الوقت قريبة من القواعد المصرية (نحو 65 كيلومترا من القناة) كما انها تحت أنف مطار كبريت المصري (نحو 70 كيلو متراً) لكن دايان رد بأن المهمة هي: جذب الجيش المصري إلى أعماق سيناء وترك قلب الدولة المصري خالياً من القوات، وفي ذات الآن: خلق صراع مسلح على مشارف القناة.. كذلك فإن الهجوم سيكون تحت حماية مظلة جوية فرنسية، علما بأن منطقة “صدر الحيطان” خالية من القوات المصرية.وعلى هذا الأساس انطلقت في الساعة الخامسة من بعد ظهر هذا اليوم (29/10) أو بالضبط قبل تمام الخامسة بدقيقة واحدة 16 طائرة داكوتا منتظمة في 4 تشكيلات، كل منها يحمل سرية من جنود المظلات.واتجهت إلى الهدف الا أن الطيارين طبقا ليوميات دايان “اخطأوا وأسقطوا الجنود بالمظلات شرق المكان المحدد بخمسة كيلو مترات”.على أي حال لقد هبطت القوة وهي تضم 395 فردا بأمتعتهم وأسلحتهم ومعداتهم، وهؤلاء يشكلون الكتيبة 890 مظلات، ثم سار الجنود على أقدامهم مسافة الخمسة كيلومترات التي أخطأوها فوصلوا مكانهم المحدد في الساعة السابعة والنصف مساء.. وفي الساعة التاسعة مساء أسقطت لهم الطائرات كمية من الامدادات، وذلك قبل أن تأتي الطائرات الفرنسية المتعاونة وهي من نوع “نورد أطلس” لتلقى في الواحدة بعد منتصف الليل امدادات جاءت بها من قاعدة قبرص وهي عبارة عن 8 عربات جيب و4 مدافع عديمة الارتداد 106 مم ومدفعين هاون 120 مم وصناديق الذخيرة اللازمة.وقد صدرت الأوامر لهذه الكتيبة بالتحصن في موقعها بمنطقة “صدر الحيطان” دون أن تتقدم او تتحرك حتى لا تتورط في قتال مع القوات المصرية.وفي العاشرة من مساء ذات اليوم 29 أكتوبر تحرك اللواء 202 مظلات “الإسرائيلي”، عبر الحدود المصرية عند الكونتيلا بهدف مساندة كتيبة المظلات التي اسقطت في صدر الحيطان.خلال هذا الوقت، وعندما أيقنت قيادة المنطقة الشرقية المصرية من بدء العدو عملياته الغادرة أصدرت أوامرها بالسيطرة عل ممر متلا، وسرعة القضاء عل القوة المعادية المسقطة مع تعطيل تقدم القوات البرية المعادية التي تنضم إلى القوة المسقطة، وقد كلف بالمهمة الأولى اللواء الثاني المشاة “كتيبة مشاة” أما المهمة الثانية فقد كلف بها الآلاي الثاني حدود كما أمرت قيادة المنطقة الشرقية المصرية قوتها الاحتياطية بالاستعداد لعبور قناة السويس والتحرك غرباً بهدف القضاء على قوات العدو “الإسرائيلي”.وفي الساعة الحادية عشرة بدأت وحدات اللواء الثاني المشآة المصري في عبور القناة متجهة إلى صدر الحيطان عبر ممر متلا.. وقد استغرقت عملية العبور وقتا طويلا اذ لم تنته الا في الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم التالي 30/10 وكان السبب في ذلك أنه رئي عدم تعطيل الملاحة في القناة والعبور في الفواصل التي تتخلل عبور قوافل السفن، مستخدمة في ذلك “المعدية”.. وقد استطاعت العناصر المتقدمة من اللواء المصري أن تصل إلى المدخل الشرقي لممر متلا في نحو الساعة الثامنة صباحاً.
اليوم الثاني30 أكتوبر
ملاحم في سيناء.. وانذار مرفوض!
اعترف دايان: القوات المصرية حاربت جيداً.. و”الإسرائيلية” رديئة!
طلعت شمس هذا النهار على وحدات اللواء الثاني مشاة المصري وهو يستكمل عبوره، وفي الساعة الخامسة صباحا وصل اللواء 202 مظلات “الإسرائيلية” إلى “التمد” التي كان فيها عناصر من الالاي الثاني التابع لسلاح الحدود المصري مزودين بأسلحة خفيفة إذ تنحصر مهمتهم في القتال التعطيلي، ورغم صغر حجم قوة الحدود المصرية أمام القوة “الإسرائيلية” المتفوقة عدداً وعدة، إلا أن الإنسان المصري هنا أبرز كفاءة ممتازة في القتال الصامد الانتحاري وفق مبدأ “لن يمر العدو إلا على جثثنا”.. يقول دايان في يومياته عن “معركة التمد” لقد جرى فيها قتال حقيقي. ويقول الكاتب الصهيوني “روبرت هنريك” في كتابه “مائة ساعة إلى السويس”: “وصل الطابور “الإسرائيلي” في الفجر وصدرت الأوامر إلى جنود المشاة بالتقدم متباعدين عن بعضهم في خطوط منتظمة على جانبي الطريق وباقي الطابور من خلفهم متباعدا أيضاً. وأطلق المصريون النيران من أعالي المنطقة، وجرح القائد “الإسرائيلي” من جراء لغم ورغم ذلك أمر الطابور أن يتقدم على أن يحميه بسحب الدخان”.وهكذا جرى القتال، كان بطله إنسان مصر الذي عرف أن إمكاناته أقل من العدو حجماً وسلاحاً وذخيرة ورغمها ظل يقاتل ويقاوم.. ولم يستطيع الطابور “الإسرائيلي” أن يستولي على الموقع الا بعد استشهاد معظم أفراد القوة المصرية الأمر الذي يدل على صلابة وشجاعة قواتنا واستبسالها في القتال.وبينما كان القتال يجري في “التمد” كانت أربع طائرات “ميج 15” مصرية تلقى قذائفها على أفراد كتيبة المظلات “الإسرائيلية” في صدر الحيطان.. ما كبدها خسائر جسيمة دفعت قائدها إلى أن يبعث برسالة عاجلة لقائد اللواء 202 مظلات يقول فيه كما جاء في كتاب “مائة ساعة إلى السويس”: “تعرضنا لعدة هجمات جوية نجم عنها عدد من القتلى.. وحاولنا صد الضرب بمدافعنا.. نفكر في إجراء هجوم عندما يحين الليل، نتوقع هجوما علينا، نطلب نجدات جوية بالحاح”.لكن قائد اللواء 202 وقع في موقف حرج، إذ بينما قواته تعيد تنظيم تشكيلها بعد معركة التمد فوجئ بطائرتي ميج مصريتين تقصفانه بعنف فأسرع يأمر وحداته بالانتشار في الجبل خوفا وهرباً.. وقد تسلم القائد أشارة من قيادته تبلغه أنه يستطيع طلب المعونة الجوية ابتداء من الساعة الواحة ظهرا. لكنه بعث برد سريع: نريد العون فوراً.. لكن المعونة لم تصله.. فأخذ يتجه إلى ممر متلا..وفي هذه الأثناء كان اللواء الرابع مشاة “الإسرائيلي” قد تحرك إلى القصيمة، وفي الساعة التاسعة والنصف صباحا اشتبك هذا اللواء مع الاورطة الثانية المدرعة الخفيفة المصرية التي كانت متمركزة في القصيمة ومعها كتيبة من الحرس الوطني.. وقد دار قتال عنيف بين الجانبين ما دفع “الإسرائيليين” نتيجة سوء موقفهم إلى الاستعانة باللواء السابع المدرع ليشترك في المعركة التي استمرت حتى الظهر.كما تحرك أيضاً اللواء العاشر المشاة “الإسرائيلي” من العوجة إل”أم بسيس” ليؤمن هجوم اللواء السابع والثلاثين المدرع “الإسرائيلي” على “أم قطف”.. وأثناء تحركه فاجأته طائرات ميج مصرية بالضرب.والجدير بالذكر هنا أن طائرات العدو لم تظهر فوق المعركة إلا في الساعة الحادية عشرة صباحاً.. وهنا يقفز السؤال: لماذا تأخرت.. ولماذا لم تظهر منذ الصباح؟
يقول موشى دايان في “يوميات معركة سيناء” بالحرف : “لسبب ما لم يكن في الجو أثناء الهجوم المصري الجوي أي طائرة من طائراتنا” ثم لا يشرح دايان هذا السبب ال.. ما.الحقيقة أن مهمة الحماية الجوية كانت معطاة للطائرات الفرنسية لكن خلال العمليات كان تنظيم التعاون بينها وبين القوات البرية “الإسرائيلية” صعباً للغاية مما أحدث ارتباكاً للقوات.. حتى أمكن تلافي ذلك في وقت متأخر.
.......
عند الظهر كان اللواء الرابع مشاة “الإسرائيلي”.. واللواء السابع مدرع “الإسرائيلي” قد تمكنا بعد جهد عنيف من القضاء على المقاومة المصرية في القصيمة إذ كان كما قلنا لم يكن فيها سوى أورطة مدرعة خفيفة وكتيبة حرس وطني.. ونتجية لذلك أتجه اللواء السابع المدرع “الإسرائيلي” إلى ابو عجيلة التي كان متجها اليها أيضاً اللواء 202 مظلات “الإسرائيلي”.(وفي نفس الوقت كان الاحتياطي الاستراتيجي للقيادة المصرية يعبر قناة السويس على الاتجاهين الاوسط والشمالي).. ماذا حدث؟
في ممر متلا..كما يقول الصحفيان الفرنسيان “ميري وسيرج بروميرجر” في كتابهما “أسرار الحملة على مصر”: “اتخذت القوات المصرية مواقعها في المغارات الكامنة على جانبي مدخل الممر.. وبدأ أفرادها يسلطون نيران مدافعهم عل جنود المظلات.. ونشطت طائرات الميج مرة أخرى ما أوقع القوات “الإسرائيلية” في موقف حرج.. وبالرغم من أنها قاتلت قتال المستميت، وبالرغم من مساعدة طائرات الميستير لها.. إلا أنها لم تتمكن من التقدم ولم تتمكن حتى من أجبار المصريين على ترك أماكنهم”.وهكذا ظهر الطيران المعادي “الإسرائيلي” الفرنسي ليساعد قواته البرية بعد أن وصلته نجدات كبيرة من قواعد خارجية في قبرص، كذلك ركز الطيران المعادي هجومه على القوات المصرية في متلا. أما اللواء المدرع “الإسرائيلي” الذي وصل إلى أبو عجيلة فإنه وجد قتالاً رهيباً عبر عنه ديان بقوله: “إن القوات المصرية حاربت بحالة جيدة جدا في الوقت الذي حاربت فيه قواتنا بصورة رديئة جداً” وقال في موضع أخر من كتابه “يوميات معركة سيناء”: “لقد قاتلت القوات المصرية في هذا القطاع قتالاً جيداً” و”مع القيمة التكتيكية لخط أبو عجيلة فأنه تعذر احتلالنا لجزء منه حتى ولو في البداية”.
***
في أبو عجيلة كان القتال مثيرا واستمر 84 ساعة حتى انسحبت القوة المصرية بناء على أوامر القيادة فلقد كانت الروح المعنوية عالية رغم منشورات العدو التي طلب فيها الاستسلام، وقدم الإغراء بأن من يسلم نفسه سيعامل معاملة حسنة.ورغم ذلك كله فإن القوة “الإسرائيلية” التي انضم إليها اللواء العاشر مشاة فشلت في اختراق أبو عجيلة مما دفع قائد المنطقة الجنوبية إلى إعفاء قائد القوة وهو برتبة لواء من منصبه واحلال أخر مكانه. وقد أعترف ديان بهذا وقال إنه اعتمد هذا التغيير!!
***
ولقد شهد هذا اليوم أيضا نشاطاً آخر للقوات الجوية المصرية، اذ انطلقت الطائرات المصرية أكثر من مرة لقصف قواعد العدو كما يلي طبقاً للوثائق العسكرية المصرية:
جرى ضرب مطار رامات دافيد خمس مرات: في الساعة 45.7 مساء، وبعدها بربع ساعة، وفي الساعة الثامنة و55 دقيقة، وفي التاسعة و42 دقيقة والمرة الأخيرة كانت في الساعة العاشرة مساء.
جرى ضرب مطار عكير ثلاث مرات : في الساعة 55.7 و25.8 و40.8 مساء.
جرى ضرب مطار كاستينا مرة واحدة: في الساعة الثامنة ودقيقتين مساء.
وكان الهجوم الجوي ناجحا بصفة عامة،رغم الحماية الفرنسية الجوية، وقد أعترف دايان نفسه بتدمير عدد من طائراته وهي على الأرض.
الإنذار.. و.. المؤامرة
خلال هذه العملية العنيفة، والشمس تسحب آخر خيط لأ شعتها المبتلة من مياه القناة.. في الساعة السادسة مساء أذاعت أنجلترا وفرنسا إنذارهما الشهير إلى كل من مصر و”إسرائيل” لتسحب كل منهما قواتها إلى مسافة عشرة أميال من قناة السويس. مع ان “الإسرائيليين” كانوا بعيدين جدا عنها!.. وقال الإنذار الموجه إلى مصر:
“إن حكومتي المملكة المتحدة وفرنسا تطالبان الحكومة المصرية:
1 بوقف جميع العمليات الحربية في البر والبحر والجو وخلافه.
2 بأن تسحب جميع القوات المسلحة المصرية إلى مسافة عشرة أميال من القناة.
3 بأن تقبل الاحتلال المؤقت للمواقع الحيوية في بورسعيد والاسماعيلية والسويس بواسطة القوات الانجليزية والفرنسية حتى يتسنى ضمان حرية مرور سفن جميع الدول عبر القناة وحتى يمكن الفصل بين المتحاربين.أن حكومتي المملكة المتحدة وفرنسا تطالبان بالرد على هذا التبليغ في خلال اثنتي عشرة ساعة، وفي حالة انتهاء هذا الوقت دون قيام إحدى الدولتين أو كلاهما بالإذعان لتلك الطلبات فإن قوات المملكة المتحدة وفرنسا ستتدخل بالدرجة الكافية لضمان الاذعان”.كان هذا الانذار يعني لمصر: مؤامرة خطيرة.. وقد عبر عنه زعيم الهند الراحل نهرو بقوله: “لا أذكر عدوانا صارخاً يماثل في بشاعته ما يحدث اليوم ضد مصر”.أما بالنسبة ل”إسرائيل” فقد كان الانذار يعني ان تتقدم قواتها المتورطة في قتال فاشل إلى قناة السويس، أوكما يقول الانذار الى مسافة عشرة أميال منها رغم أنها كانت على مسافة بعيدة، أقربها في “صدر الحيطان” حيث الكتيبة 890 مظلات في حالة سيئة لم يتحسن موقفها إلا في العاشرة والنصف مساء عندما وصل إليها اللواء 202 مظلات الذي كان يقصد متلا.. ولم يكد هذا اللواء يستريح حتى فوجئ بالآلاي الثاني استطلاع مدرع المصري القادم من الإسماعيلية يصل إلى نطاقه ويشتبك معه، وقد تكبد المظليون “الإسرائيليون” خسائر فادحه عبر عنها دايان بقوله: “لقد دفعت وحدة المظلات الثمن الكامل من دمها” كان الموقف سيئاً بالنسبة ل”إسرائيل” على مستويين:
عسكرياً... في مسرح العمليات. سياسياً... في دول العالم.ولقد أدى هذا الموقف، ورفض مصر الإنذار، إلى أن تتلقى القيادة المشتركة في “أبسكوبي” بقبرص تعليمات عاجلة باعداد خطة تعجل بالغزو البحري الانجلو فرنسي لمصر بحيث يتم في الأيام الأولى من شهر نوفمبر “3 أو 4 نوفمبر” أي قبل بدء الهجوم حسب توقيتات الخطة “موسكتير المعادلة”.
وعلى هذا اجتمع جنرال كيتلي مع هيئة أركان حربه لوضع الخطة الجديدة..


[/size]
 
حرب السويس.. فاصل بين عصرين

اليوم الثالث 31 أكتوبر:
لم ينم أحد ليلة أمس.. ظلت الاعصاب مشدودة . أرسلت “اسرائيل” إلى لندن وباريس الحليفتين توافقاً على الانذار بينما أعلنت مصر رفضها.. وفتحت العيون حدقاتها على آخرها في انتظار تنفيذ الانذار مع السادسة صباحا.. لكن جاءت السادسة ثم السابعة ولم ينفذ شيء.
هنا أسقط الأمر في يد بن جوريون..
إن قواته في متلا يعبر عنها رئيس أركانه دايان بقوله: “لا داعي لأن أقول إلى أي مدى قد أسفنا جميعا لهذه الخسائر الجسيمة الى تكبدناها في معركة متلا.. ويغيظني أنني لم أنجح في أن تتوافر بيني وبين هذه القيادة علاقة ثقة”.
أما قواته في أبو عجيلة فيقول دايان معبرا عن حقيقة الموقف: “ولو كان قد تم في هذه اللحظات هجوم مضاد مصري لما استطاعت وحداتنا أن تصمد له”.
وبسبب موقف القوات “الإسرائيلية” السيئ ولأن انجلترا وفرنسا لم تنفذا الإنذار دارت الظنون بالسياسي العجوز دافيد بن جوريون الذي كان لم يزل يعاني من وعكة برد أصابته، فتحدث مع دايان كما اعترف الأخير في يومياته عن سحب القوات من سيناء.. مبتدئا بسحب اللواء 202 مظلات من متلا.
وبالفعل بدأ التحضير للانسحاب، لكن “دايان” الطموح أخفى كثيراً من موقف قواته عن بن جوريون وحتى يرضي طموحه وفي ذات الوقت يتماشى مع قرار بن جوريون بالتحضير للانسحاب.. قرر دايان: “وقف الأعمال التعرضية في سيناء والاكتفاء بتأمين مواقع حول جبل لبنى والحسنة ونخل وهي عقد مواصلات، وذلك تمهيدا لسحب القوات أو لاستئناف حملة “قادش” وهذا هو اسم خطة الهجوم “الاسرائيلي” حسب موقف انجلترا وفرنسا. أيضا فإن قائد اللواء 202 مظلات طلب الإذن من دايان عندما التقى به في منطقة “صدر الحيطان” ليستطلع داخل ممر متلا بهدف شن هجوم عام على القوات المصرية المتمسكة بالممر، وبالفعل بدأ الهجوم بكامل قوته في الواحدة ظهرا إلا أن النيران المصرية صدته فتعثر وانسحب في الثامنة مساء بعد أن تحطمت هيبته، إذ إن هذا اللواء بالذات كان يتفاخر بشجاعته وكان هو الذي توكل إليه مهام ضرب القرى العربية المجاورة ل”اسرائيل”.
***
وبالنسبة للموقف العسكري المصري.. فلقد استعدت القوات المصرية لشن هجوم مضاد ينقل المعركة إلى داخل “إسرائيل” طبقا لنظرية “ليس الغرض من الحرب هو الزج بالقوات في معارك قتالية ولكن البحث عن مواقف استراتيجية تنجح في قلب موقف العدو رأسا على عقب”.. ولهذا فلقد قامت القوات المصرية بتأمين الاتجاهين الأوسط والشمالي مع استمرار الاتجاه الجنوبي عند المدخل الشرقي لممر متلا في وجه العدو.. واستكمال عمليات القوات الرئيسية لتوجيه الضربة المضادة الشاملة عن طريق هجومين:
* الأول: مع آخر ضوء يوم 31/ 10 بقوة لواءين من جيش التحرير الوطني، وأورطتي استطلاع ومجموعة لواء مشاة وكتيبة مظلات وسرية وذلك بغرض تدمير قوات “إسرائيلية” داخل مثلث: الحسنة نخل صدر الحيطان وتأمين الهجوم الثاني.
* الثاني: على أول ضوء يوم 1/11 في اتجاه أبو عجيلة العوجة بقوة فرقة مدرعة من مجموعتين مدرعتين ومجموعتي لواءين من المشاة وعناصر استطلاع مدرع ومجهود جوي متفوق، بغرض القضاء على قوات “إسرائيل” الرئيسية في الاتجاه الاوسط وتهيئة الظروف المناسبة لنقل الحرب داخل “اسرائيل”.
* بطولة المدمرة إبراهيم
في هذا اليوم أيضا 31/10 قامت البحرية المصرية بعمل مجيد ممثلا في المهمة التي نفذتها بنجاح المدمرة المصرية إبراهيم.
إن قصة “إبراهيم” تستحق مزيداً من الاهتمام.. لقد كانت المدمرة المصرية، وهي إحدى قطع البحرية الممتازة راسية في البحر الأبيض المتوسط أمام بورسعيد مع مجموعة أخرى من قطع البحرية، وذلك منذ الساعة الثامنة من صباح يوم 30 أكتوبر/ تشرين الأول ثاني أيام القتال ولأنها كانت خلال الأربع والعشرين ساعة السابقة تقوم بعمليات مرور فقد ألقت مراسيها بجوار بيت البحرية في ميناء بورسعيد وأعطى قائدها حسن رشدي أوامره لنظافة المدمرة وتموينها بينما اتجه هو وبعض ضباطه إلى الميس لتناول الإفطار والقاء نظرة على صحف الصباح..
وفجأة دق جرس الهاتف.. كان قائد قاعدة بورسعيد على الطرف الآخر يطلب الاجتماع فورا بقائد “إبراهيم”..
وكان الاجتماع قصيرا.. فقد قال قائد القاعدة إن “اسرائيل” تهاجم سيناء.. وإن هناك غارات جوية متوقعة على قاعدة بورسعيد.. وعلى المدمرة “إبراهيم” أن تستعد..
وبدأت الغارات فعلا.. وأدت “إبراهيم” دورها.. ثم توقفت الغارات.. ونزل أفراد الطاقم (150 ضابطا وبحارا) لتناول طعام الغداء بعد موعده المقرر في الأحوال العادية بثلاث ساعات..
كان على المائدة بطاطس وأرز ولحم..
وصاح الجميع:.. أمال فين السمان؟
وقال السفرجي: السمان للعشاء.
وعلى أحلام أكلة السمان في العشاء تناولوا الغداء.. ولم يكن أحد منهم يعلم أن البطاطس سوف تكون آخر طعام له على ظهر المدمرة.. بل لم يكن أحد منهم يعلم أنه بعد دقيقة واحدة سوف لا يستطيع حتى أن يكمل طبق البطاطس..
وفعلا.. وبعد دقيقة واحدة قيل للقائد إن القيادة تطلبه من الإسكندرية فأسرع إلى الهاتف ليدور بينه وبين رئيس أركان البحرية الحوار التالي:
أريد أن أعرف درجة استعداد المدمرة؟
مستعدة يا فندم.
أنت حتكلف بعملية تشرف مصر، تشرف البحرية.. جاهز؟
جاهز يا فندم..
إذن رتب نفسك.. أخرج من الميناء ثم اتصل بي باللاسلكي. لا أريد أن يحس أي مخلوق أنك خارج في مهمة طارئة.. قل إنه مرور عادي.. ولا تخرج من الميناء إلا عندما يحل الظلام.
وتم كل شيء في هدوء.. ترك الضباط والجنود غداءهم.. بدأوا في تجهيز المدمرة لعملية مرور سرية كما قال قائدهم.. وجرى كل شيء من دون أن يلحظ أحد على الأرصفة.
وكانت خيوط الظلام قد بدأت تزحف على مدينة بورسعيد.. وصعد قائد “إبراهيم” إلى برج المراقبة ونادى الباش ريس “خضري” وهمس له أن ينفذ بمنتهى الدقة هذه الأوامر “سوف نخرج حالا.. اسحب العائمات بهدوء.. أطفئ جميع الأنوار. لا أريد حتى عود كبريت.. التعليمات تخرج من فمك إلى آذان البحارة.. لا نفخ في البوري ولا صفارة”.
ثم نزل الباش ريس خضري ينفذ التعليمات..
وراجع القائد بنفسه كل شيء..
وخرجت المدمرة من الميناء وأمر القائد أن تكون السرعة 40 ميلا في الساعة.. وفي هذه اللحظة ارسل إشارة لاسلكية عاجلة إلى عمليات الاسكندرية.
“الخروج من الميناء الساعة 7 وعشر دقائق ( مساء) أوامركم”.
بعد عشر دقائق جاء الرد: “اتجه شمالا بأقصى سرعة، التعليمات باللاسلكي”.
وبعد عشر دقائق أخرى جاءت إشارة جديدة لكنها هذه المرة بالشيفرة فنزل القائد مع ضابط الإشارة يحل رموز الشيفرة.. وكانت التعليمات:
“تتوجه السفينة إلى ميناء حيفا، يصير ضرب المنشآت العسكرية وصهاريج البترول والسفن الراسية.. ابدأ الضرب في أول ضوء . وفقكم الله”..
ودخل القائد قمرته..
وعلى الضوء الخافت نشر أمامه خريطة حيفا موضحا عليها جميع الأهداف، ثم نادى ضابط الملاحة وراح يدرس معه خط السير والسرعة.. ثم أمر بعقد مؤتمر لكل الضباط حيث أطلعهم على المهمة وحدد معهم كيفية التنفيذ.. واقترح القائد أن يبدأ الضرب الساعة الثالثة صباحاً وأرسل برقية الى عمليات الإسكندرية بهذا.. فوافقت.
وانتهى المؤتمر بعد 45 دقيقة، في لحظة تغير فيها خط سير المدمرة من الشمال إلى الشمال الشرقي.
كان الهدوء شاملا.. وكانت المدمرة قطعة من الظلام تشق الموج وفجأة افتتحت مكبرات الصوت تذيع في جميع أرجاء المدمرة..
“هنا القائد.. هنا القائد.. لقد كلفنا بمأمورية اذا تمت بنجاح كما نرجو باذن الله.. فسوف يكون لها أثر عظيم في شأن مصر وبحريتها وشأن مدمرتنا.. وقد كلفت اليوزباشي فرغل بأن يشرح لكم المأمورية بالتفصيل”.
وأمسك فرغل بالميكرفون يعلن المهمة لأول مرة.. وانقلبت المدمرة إلى ساحة للمظاهرة.. تصفيق وهتاف يشتعل حماسة..ثم عاد الصمت لينصرف كل واحد من الرجال.. إلى مهمته..
وفجأة. وفي الساعة الحادية عشرة والنصف تقريبا اهتز مؤشر الرادار أمام اليوزباشي حسن نجاتي.. وظهرت على الشاشة ثلاثة أهداف: كانت الأهداف الثلاثة سفنا حربية..
وكانت تسير في تشكيل حربي.. وكانت على بعد 18 ميلا جنوب المدمرة “إبراهيم”، على نفس خط سيرها لكن بسرعة أبطأ. وأبلغ نجاتي القائد الذي طلب أن تميل المدمرة قليلا نحو اليسار حتى يمعن في التمويه وكأنه ذاهب إلى اللاذقية أو بيروت.. وفي نفس الوقت استعد لأي طارئ..
ومرت دقائق، واتضح أن السفن الثلاث لم تر المدمرة أو ظنت أنها مركب تجاري فابتعدت عنها.. وواصلت “إبراهيم” مسيرتها..
وفي الساعة الثانية صباحا كانت على مسافة 30 ميلا من الساحل “الاسرائيلي” وهنا غير القائد اتجاهه لآخر مرة بحيث أصبحت مقدمة المدمرة تتجه رأساً إلى ميناء حيفا.
وبعد نصف ساعة ظهرت حيفا في الأفق.. شيئا فشيئا وارتفع صوت القائد ينادي الباش ريس خضري الذي قفز من “إغفاءة” سريعة وقال له القائد:
امسك الدومات.. عايز أعصاب من حديد . السرعة على 12 عقدة بس..
كانت هذه أول معركة للرجال.. لكل أفراد الطاقم.. وكانوا يتعجلون اللحظة الحاسمة..
دخلت “إبراهيم” بين عشرات من قوارب الصيد “الإسرائيلية”.. وأصبحت في دائرة كشافات الضوء التي تمسح المياه للمراقبة.. لكنها استطاعت بمهارة شديدة من الرجال أن تفلت إلى خلف منطقة الضوء.. وأصبحت على بعد اربعة أميال فقط من أرصفة الميناء.. واستدارت لتصبح موازية للميناء “الاسرائيلي”..
واستدارت معها طوابي مدافعها الأربعة عيار 4 بوصات.. كانت الساعة الثالثة و35 دقيقة وصاح القائد:
اضرب.
وانطلق الجحيم من مدافع المدمرة..
هنا يقول الصحافيان الفرنسيان “ميري وسيرج برميرجر”:
“إن أجواء الفضاء في سماء حيفا اهتزت في الساعة الثالثة والنصف صباح يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول على قصف المدافع وصوت صفارات الانذار.. واخذت النساء تدفع بأطفالهن إلى المخابئ الباردة التي لم يجف الإسمنت على جدرانها ونحو الأخاديد التي شقت في الأرض للوقاية”.
“وتجمع المستطلعون الذين كانوا لا يزالون يرتدون ثياب النوم يتساءلون من أين تأتي هذه القنابل.. وقد شاهد أهالي طريق بانوراما على جبل الكرمل من خلال الظلام ومضات الضرب تأتي من جهة البحر.. وساد الذعر كل الميناء، كما انتشر الرعب في كل الأنحاء فقد كانت مدن “إسرائيل” على موعد مع الموت”.
واستمر الضرب.. خلاله أطلقت إبراهيم 220 قنبلة مؤثرة.. وبعدها أمر القائد بالعودة.. وفي هذه اللحظات بدأت سفينة حربية فرنسية هي “كيرسانت” تطلق مدافعها الثقيلة على “إبراهيم” وكانت النيران دقيقة حيث إنها موجهة بالرادار.. وأدارت إبراهيم مدافعها تجاه مصدر اللهب المنبعث وأطلقت 20 قذيفة بينما تتابع في نفس الوقت ابتعادها عن منطقة الميناء حتى استطاعت أن تخرج منها وأرسلت في الساعة الرابعة صباحا إشارة إلى عمليات الاسكندرية نصها: “تمت العملية بنجاح.. نريد حماية جوية. يصير إرسالها بسرعة لخطورة الحالة”.
وجاء الرد من العمليات: “استمر بأقصى سرعة للغرب”.
وانطلقت “إبراهيم” تجاه بورسعيد، وفي حوالي الساعة الخامسة والنصف ظهرت على شاشة رادار “إبراهيم” مدمرتان وكانت المدمرتان المعاديتان على مسافة 12 ميلا يسار “إبراهيم” وبالإشارة الضوئية سألت سفينة القيادة منهما إبراهيم عن جنسيتها واسمها لكن “إبراهيم” لم ترد فهي قد عرفت أن المدمرتين من طراز(z) وأن تسليح كل منهما أقوى منها وسرعتها أكبر.. فالمدمرةz)) تتمير بالآتي:
سرعتها 32 عقدة بينما سرعة “إبراهيم” 24 فقط.
لديها 4 طوابي مدفعية 4 بوصات ونصف البوصة مفرد وعند “إبراهيم” طابيتان مدفعية 4 بوصات مجوز.
مدى مدفعيتها 9 أميال ونصف الميل، ومدى مدفعية “إبراهيم” 8 أميال فقط.
عليها 8 أنابيب طوربيد 21 بوصة، وإبراهيم غير مسلحة بهذا.
معها 8 مدافع 40 ملليمترا و4 قذائف أعماق، ومع إبراهيم مدفع واحد مزدوج 40 مم وقذيفتان للأعماق فقط.
واقتربت المدمرتان.. وأعادتا السؤال.. وردت “إبراهيم”: من أنتم؟ وما جنسيتكم؟
وكان الرد قذائف مدفعية مستمرة على “إبراهيم”..
ودارت معركة.. وأصيب قائد “إبراهيم” في يده..
واقتربت المدمرتان إلى مسافة 8 آلاف ياردة تقريبا من “إبراهيم”. وفي السادسة إلا ربعا ظهرت فرقاطة معادية انضمت إلى المدمرتين في المعركة ضد “إبراهيم” الوحيدة..
وفي السادسة و41 دقيقة جاءت 3 طائرات “ميستير” تنقض على “إبراهيم” واحدة بعد الأخرى...
وبعد ساعتين من المعركة اصيبت “إبراهيم” إصابات بالغة أعجزتها عن الحركة بينما نفدت ذخيرتها تماما وأصبحت عاجزة كلية أمام سفن العدو التي استمرت في إطلاق نيرانها.. وصدرت الأوامر لقائد المدمرة “إبراهيم” بنسف كل وثائقها وأجهزتها.. لتأسرها “اسرائيل” بعد ذلك قطعة حديد عائمة لا نفع بها...
......
لا نزال في أحداث اليوم الثالث 31 أكتوبر.. فلقد كان يوما حافلا بالنشاط.
في أبسكوبي مقر القيادة المشتركة للغزو انتهى جنرال كيتلي ومساعدوه من إعداد الخطة الجديدة، ولقد سميت “أومليت” لأن الكلمة معناها “العجة” وكان هدف الخطة جعل بورسعيد مثل “قرص العجة” بقصفها بعنف من مدفعية الاسطول والطيران لتدمير مبانيها وهدمها تماماً.
ولتحقيق ذلك نصت الخطة على تشديد الهجوم الجوي، وانزال المظليين الانجليز غربي بورسعيد في “الجميل”.. والفرنسيين جنوبها عند منطقة الرسوة.. ثم تسقط المدينة.
وجرى بعد ذلك تعديل بسيط فسميت الخطة “أومليت 2” أو “ساملكس”.
وكان هدف التعديل هو انزال الفرنسيين ايضا في بور فؤاد لاحتلالها. وفيها أصبحت “أومليت” خطة تبادلية مع “موسكتير المعدلة” أي تنفذها مبكرا في 3 أو 4 نوفمبر/ تشرين الثاني بينما موسكتير تنفذ في 7 أو 8 نوفمير ولذلك اعتمدت “أومليت” أساسا على المظليين.
* الساعة الحاسمة:
في نفس اليوم.. وفي القاهرة حدث شيء مهم وجوهري تسبب في تغيير مجرى القتال كله.
كانت الساعة الرابعة بعد ظهر ذلك اليوم: ساعة حاسمة في تاريخ الحرب.. اذ علمت القاهرة أن “إسرائيل” لا يمكن أن تجازف وحدها بالحرب وإنما ستتدخل بريطانيا وفرنسا ودلائل ذلك الأسطول البحري في البحر الأبيض المتوسط الذي قيل إنه للمناورات لكن المؤشرات وأوضاع القطع البحرية تقول عكس ذلك وتنبئ عن نية الأسطول في غزو مصر.. كذلك وصلت معلومات أن قوات بريطانية تضم لواء فدائيين بحريين وآليات سيارات مدرعة.. وصلت من مالطة إلى قبرص وقد جاءت هذه المعلومات من ضباط اتصال مصريين كانوا في قبرص اذ كانت هناك صلات تربط القاهرة بحركة تحرير الجزيرة.
وهنا صدر القرار التالي:
“توقف جميع الأعمال التعارضية والتحركات للأمام في سيناء.. تتخذ الاجراءات لسحب الاحتياطي الاستراتيجي من سيناء الى غرب قناة السويس.
يتحرك الاحتياطي المدرع للقيادة الشرقية من منطقة الحمة إلى منطقة الجفجافة توطئة لسحبه غرب القناة.
تستعد القوات الأخرى بسيناء للانتقال غرب القناة بمجرد صدور أوامر وأعمال إعادة التجميع.
تخطر القيادة المشتركة لايقاف العمليات التعرضية من جبهتي سوريا والأردن ضد “اسرائيل” مع الاستعداد للعمل طبقا لتطور الموقف”.
وفي الساعة السابعة مساء بدأت قنابل الطائرات “الكانبرا” البريطانية تنهال على مصر وزال كل شك في حقيقة وضرورة أن:
1 ينقل المجهود الرئيسي للقوات المسلحة المصرية إلى غرب قناة السويس للتمسك بالمنطقة: بورسعيد السويس القاهرة بحيث يتم ذلك قبل أول ضوء يوم 2 نوفمبر.
2 تخلى القوات المسلحة المصرية من سيناء إخلاء كاملا غرب القناة وتتخذ الاجراءات اللازمة لسحب القوات المسلحة في قطاع غزة ورفح والعريش وشرم الشيخ وقوات الاحتياطي المدرع والاحتياطي المشاة للقيادة الشرقية.
3 تنتقل رئاسة الفرقة الرابعة المدرعة والمجموعة الثانية المدرعة إلى غرب القناة وتعمل كاحتياطي استراتيجي هناك.
4 تقتصر أعمال الدفاع الجوي على أعمال المدفعية المضادة للطائرات والدفاع الجوي السلبي.
5 تنقل الطائرات إلى المطارات الجنوبية توطئة لاقلاعها إلى قواعد صديقة خارج الجمهورية.
6 تقتصر أعمال القوات البحرية على تنظيم الدفاع عن الساحل والقيام بالدوريات والاستطلاع البحري في المياه الإقليمية.
7 تنظم قوى النضال الشعبي الموضوعة تحت قيادة الجبهات والمناطق العسكرية، تنسق أعمالها مع عمليات القوات المسلحة وتركز الجهود المشتركة للدفاع عن المدن والقرى لآخر طلقة ولآخر رجل.
في خلال هذا الوقت، وكما قلنا بدأت في الساعة السابعة مساء.. الطائرات الانجلو فرنسية تقوم بغاراتها على مصر.. وهنا اطمأن بن جوريون وواصل القتال كما يلي:
مجموعة اللواء 7 المدرع تهجم على مؤخرة دفاعات أبو عجيلة.
مجموعة 77 عمليات تهاجم دفاعات رفح.
اللواء 202 مظلات يستمر في محاولة اقتحام ممر متلا بمساندة اللواء 37 المدرع ومجموعة اللواء 9 مشاة.
..............
..............
في ذلك اليوم أيضا سجلت وثائق الأمم المتحدة الاستقالة التاريخية لامينها العام الراحل داج همرشلد الذي كتب فيها:
“لقد ضاعت هباء كل الجهود الضخمة التي بذلناها في أوائل العام الحالي للوصول إلى اتفاق بوقف اطلاق النار بين مصر و”اسرائيل”، كما ضاعت الجهود التي بذلت للوصول إلى إقرار المبادئ الستة للمفاوضات بين مصر وبريطانيا وفرنسا لتسوية مسألة قناة السويس. وذلك نتيجة للانذار البريطاني الفرنسي الغاشم الذي وجه في الليلة الماضية إلى مصر.
من أجل ذلك أطلب إلى مجلس الأمن أن يعفيني من منصبي”.
داج همرشولد
السكرتير العام للأمم المتحدة
31 أكتوبر سنة 1956
غير أن جمال عبد الناصر أرسل إلى داج همرشولد يناشده البقاء في منصبه، وبالفعل بقي همرشولد لتقتله القوى الاستعمارية بعد ذلك بسنوات في الكونغو الإفريقي خلال ثورته بزعامة “باتريس لومومبا” الذي قتل هو أيضا واعتبر شهيد القارة السمراء.. وننتقل إلى يوم جديد..




(4)

معارك اليوم الرابع في البر والبحر والجو

اليوم الرابع: أول نوفمبر:

صمود شرم الشيخ ومعارك البحرية في مذكرات حية ع البداية المبكرة لهذا اليوم وفي الدقيقة الخامسة والعشرين بعد منتصف الليل وقعت أمام رأس غارب في البحر الأحمر معركة بحرية غير متكافئة بالمرة.كانت المدمرة “دمياط” قد أبحرت من السويس متجهه إلى شرم الشيخ لإمداد السفينة الحربية “رشيد” بما تحتاجه من مؤن ومهمات. لكن عندما وصلت إلى رأس غارب اعترضها الطراد البريطاني “نيوفوندلاند” والمدمرتان “ديانا” و”جازيل” ورغم عدم تكافؤ القوتين لم يفكر قائد دمياط أو بحارته في الاستسلام بل ظلوا يقاتلون حتى غرقت بهم المدمرة في المياه.
كان تسليح دمياط: مدفع واحد عيار 4 بوصة، مدفعان بوفر 40 مم مزدوج ، مدفعان بوفر 20 مم مفرد. وكانت حمولتها 1660 طناً. وتسليح نيوفوندلاند: 9 مدافع عيار 6 بوصة، 8 مدافع عيار 4 بوصة، 12 مدفعاً عيار 20 مم، 6 أنابيب طوربيد عيار 26 بوصة، وحمولتها 8800 طن.


وتسليح ديانا: 6 مدافع 5.4 بوصة، 6 مدافع 40 مم ، 10 أنابيب طوربيد 21 بوصة، وحمولتها 2610 أطنان.

وتسليح “جازيل” مثل “ديانا”.

هكذا كانت بداية اليوم الرابع في قتال السويس، ذلك اليوم الذي تغير فيه شكل مسرح العمليات في سيناء واتخذت فيه ترتيبات كثيرة لتنفيذ قرار الارتداد إلى غرب القناة.وصباح ذلك اليوم استولت السلطات الفرنسية على سفينتين تجاريتين حبشيتين كانتا فى ميناء مصوع بالصومال وهما “إيبيتا” و”كاترينا جاردي” وقد تم شحنهما بالمعدات الحربية والمؤن وركب فيهما 72 بحارا فرنسيا تجاريا واتجهتا إلى شرم الشيخ لمساعدة وإمداد اللواء 9 مشاة “الإسرائيلي” الذي كان عليه أن يتجه إلى المنطقة.وفي الساعة السابعة و 15 دقيقة في ذات اليوم هاجمت الطائرات الفرنسية من طراز “كورسير” و”افنو” والمدمرة “ناصر” والفرقاطة “طارق” أمام ميناء الأسكندرية.. وكانت الوحدتان منشغلتين في السيطرة وتنظيم عملية اقتراب السفن الأمريكية لترحيل رعايا الولايات المتحدة من مصر! وقد نشبت معركة جوية بحرية استمرت حتى العاشرة و22 دقيقة دون أن تنجح الطائرات في احداث إصابات مؤثرة. كذلك قامت الطائرات البريطانية والفرنسية بمهاجمة الطائرات المصرية في مطارات انشاص وبلبيس والدخيلة وغرب القاهرة وذلك بواقع ثلاث طلعات لكل طائرة كل منها 65 دقيقة.

الموقع الصامد

وفي شرم الشيخ وقعت أحداث مهمة، وفيما يتعلق بأحداث اليوم الرابع (أول نوفمبر) فإننا ننقلها من مذكرات الفريق رؤوف محفوظ (وكان وقتها عقيدا وقائدا لقوات شرم الشيخ).

يقول القائد: “الخميس أول نوفمبر/تشرين الثاني. أبلغوني ساعة الفجر أن طرادا وبارجة لم نتبين جنسيتهما قد ظهرا أمام ميناء شرم الشيخ على بعد”.

خرجت إلى الساحل.. ولم أستطع بسبب شحوب ضوء الفجر أن أعرف جنسيتهما.. بعثت بمن يرسل إلى القيادة العامة بإشارة لاسلكية أقول فيها: “بارجة وطراد مجهولا الجنسية أمام مدخل الخليج. افتح المواصلات معنا باستمرار”، ولكن لم تكد تمضي دقائق حتى ايقنت أنها لابد ان تكون سفنا معادية.

إذ أنني لمحت المركب الشراعية التي كانت قد انتهت من تحميل قوتي صنافير وتيران تأخذ طريقها في اتجاهنا، ولكنها ما كادت تقترب من السفن الواقفة حتى استدارت بسرعة ومضت في طريق يدور حولها ثم اتجهت رأسا الى خليج السويس إلى حيث الموانئ الجنوبية المصرية على الخليج.

عدت إلى قيادتي لأجد في انتظاري مفاجأة كبرى.. القيادة العامة تبعث لي بإشارة لاسلكية تقول: “جهز نفسك للانسحاب. ستصلك الأوامر تفصيلاً..”.. والحق.. إني جلست بعدها دقائق طويلة لا أستطيع فيها أن أتصرف أو حتى أفكر.. كل ما كان يدور في رأسي خلالها مجرد أسئلة بلا أجوبة لماذا أنسحب ؟ وكيف أنسحب وماذا حدث؟

كان هذا الأمر أكبر مفاجأة لي في حياتي العسكرية.. لم يكن يدور بخلدي أي تفكير في مثل هذا الأمر.. بل لم أكن حتى مهيأ لتسلمه..

ثم انتبهت.. وأفقت على ضابط يقدم لي إشارة لاسلكية. كانت تحمل تفصيل أمر الانسحاب: “انسحاب كامل نحو مدينة الطور مع نسف وتدمير الأسلحة والمعدات الثقيلة”.

الآن وضح لي غموض الأمر الأول الانذاري بالانسحاب.. ولكن.. ماذا حدث؟

وعلمت أن الانذار الانجلو فرنسي قد بدأ ينفذ منذ الساعة السابعة من مساء الأمس بضرب المطارات العربية والمنشآت العسكرية.. وقلت لنفسي: إذن لابد ان هناك خطة وراء أمر الانسحاب.

وما كادت كلمة الانسحاب تقفز إلى خاطري.. حتى إتجه تفكيري كله إلى أن معنى الانسحاب الكامل هو أن أنسف وأدمر جميع الأسلحة الثقيلة والمعدات والمنشآت.

لكن سيارات نقل الجنود التي عندي ليست مهيأة لهذه العملية.. فقد كانت معدة فقط للنقل الداخلي في المنطقة والمفروض أننا سننسحب إلى أقرب منطقة عسكرية وهي نقطة الشط (السويس) التي تبعد عنا بنحو 400 كيلو متر.

وماذا لو قمنا بمعركة دفاعية خالدة؟ ماذا لو جعلنا من شرم الشيخ طبرق ثانية؟

لو نجحت المعركة لأصبحت شرم الشيخ معركة خالدة في تاريخ المعارك؟

لو نجحت لاكتسبت شرم الشيخ شهرة عالمية واكتسبت القوات المسلحة فخرا وأضافت إلى أمجاد شعبها مجداً على مر العصور.

لو نجحت لاكتسبت أنا أيضاً مجداً عسكرياً.. وهذا عامل بشري لا يمكن تجاهله أو إخفاؤه إذ إن فرصة القائد لا تسنح إلا مرة واحدة في الحياة.

ثم ماذا سيحدث لقواتي اثناء الانسحاب؟ لسوف نسير في خط انسحاب طويل.. جداً.. أطول من 300 كيلو متر.

ولسوف يكون تدخل الطيران في عملية الانسحاب شديدا. طيران إسرائيل.. وطيران فرنسا.. وانجلترا أيضا!

إذن.. فان الطابور المنسحب سوف يتعرض إلى أعنف الغارات الجوية.. وستكون مذبحة يتحدث عنها تاريخ العسكرية.. وقد تكتب لي النجاة والعودة فأجد من أبناء الجنود واسرهم من يصرخ في وجهي: أيها القائد.. أين جنودك؟

وعند هذا الحد استقر تفكيري على قرار بعثت به إلى القيادة بإشارة: “أرى انه من الأفضل أن أقاتل في مواقعي حيث أن الانسحاب إلى الطور باهظ التكاليف.. أفد”.. وجلست انتظر ساعة.. وساعتين.. وثلاث ساعات..

وفي الثانية بعد الظهر جاء في الرد: “نوافق على طلبكم. تلغى تعليمات الانسحاب. استمر في الدفاع. وفقك الله. أفد”.

وفي لحظة كنت أبعث إلى القيادة بالتالي: “نحن في مواقعنا لآخر طلقة وآخر رجل”.

ثم.. ناديت قائد السفينة الحربية رشيد وقلت له: أخرج أنت إلى أي ميناء سعودي أو مصري قريب.

ولاحظت أن أمري كان قاسيا عليه. فإن ضباط رشيد كانوا قد علموا بما حدث للمدمرة “إبراهيم” والتقطوا بأنفسهم إشارة استغاثة من المدمرة “دمياط” وكانوا يريدون الاشتراك في أي معركة.

وقلت له : أن بقاءك في شرم الشيخ ضرب من الانتحار. إن الغارات المقبلة سوف تتركز عليك.. وقطعا ستموت الباخرة موتاً محققاً.

وشاهدته يرمي ببصره ناحية الخليج.. وقال: أنا لا يمكن أن أسلم للإنجليز.

قلت: ومن قال لك سلم للإنجليز: أخرج بعد الغروب. واتخذ لنفسك أي طريق ترسمه. والجأ إلى أقرب ميناء مصري أو أي ميناء سعودي.. وإذا التقيت بإسطول الأعداء عليك أن تقاتل.. ولو حدث وغرقت السفينة وكان أعداؤك شرفاء فسوف يلتقطونك. ثم قمت أصافحه وأتمنى له حظاً سعيداً.

تحركت رشيد في السابعة والنصف مساء ومضت وهي تطفئ أنوارها تماما حتى غابت عن أنظارنا..

وكان الأسطول الذي يحاصرنا قد اتجه نحو الغرب.. فقد كانت مهمته أن يحاصر مدخل خليجنا أي العقبة ومدخل خليج السويس..

وفي هذه اللحظات كانت تمر قافلة بترول.. ولاحظت أن “رشيد” قد أضاءت أنوارها فجأة ودخلت وسط قافلة البترول ثم نفدت منها وبدأت تجنح نحو الساحل السعودي..

كان واضحاً أن قائد رشيد قد استطاع بهذه الخدعة أن يتفادى أي خطر يقابله.. وكان واضحاً أنه بجنوحه نحو الساحل السعودي يريد أن يستعين بالجبال التي على الساحل لكي تبطل مفعول رادار أسطول العدو فلا يكتشفه.

ودخلت رشيد ميناء “شرم الوجه”.

......

......

وأسدل الليل ستائره_

[/SIZE]
 
(5)



عبدالناصر في الأزهر: سنقاتل ولن نستسلم

اليوم الخامس 2 نوفمبر
عبد الناصر في الأزهر: سنبني تاريخا ومستقبلا
فى هذا اليوم بدأ الهجوم على شرم الشيخ جوا بقصفات عنيفة تقوم بها 12 طائرة فرنسية و”إسرائيلية” دفعة واحدة ثم تذهب لتجيء مجموعة غيرها مماثلة وهكذا.. ورغم الهجمات الضارية فقد تم إسقاط خمس طائرات للعدو.
الأولى: كان يقودها قائد السرب المهاجم برتبة صاغ وقد هبط بمظلته وخرجت سيارة مدرعة مصرية للقبض عليه لكن الطائرات انقضت عليها وأوقفتها حتى استطاع الطيار الهرب بين الصخور وجاءت هليكوبتر لتلتقطه.
والثانية: سقطت أمام “نبق” وقد تم اسر طيارها الذي كان مصابا في فخذه. أما الأخريات فقد ابتلعها البحر هي وطياريها.
ثم حط الليل رحاله على شرم الشيخ.. وسكت الرصاص.. وفي الحادية عشرة مساء حلقت فوق المنطقة طائرة بطيئة السرعة ومن خلال مكبرات الصوت تكلم من فيها:
“يا قائد شرم الشيخ.. يا قوات شرم الشيخ.. لقد استولينا على الطور وسنقضي عليكم قضاء مبرما.. سنفنيكم.. سندمركم.. سلموا فورا”.
ثم ألقت الطائرة منشورات بذات الكلمات.. ومضت!
وبعث قائد شرم الشيخ إلى القيادة يقول:
“حلقت طائرة للعدو وبها ميكروفونات تنادي القوات بالتسليم، لم يكن لها اثر على الروح المعنوية. مستمرون في دفاعنا”.
استمرت قوات شرم الشيخ تؤدي واجبها.. وقبل أن يغرب قرص الشمس بساعة واحدة ظهرت 9 طائرات نفاثة قادمة من اتجاه الطور إلى الشرم ثم دارت حول “رأس نصراني” و”شرم الشيخ” لكنها لم تلق قنبلة واحدة.. ولمح القائد المصري على أجنحتها العلامات “الإسرائيلية” ودهش: لماذا لم تضرب؟
فجأة انقضت هذه الطائرات على المدمرة الإنجليزية “كرين” التي كانت واقفة عند مدخل خليج العقبة.. وراحت الطائرات واحدة بعد أخرى تهاجم المدمرة البريطانية بعنف لمدة 15 دقيقة أصيبت بعدها المدمرة بإصابات أحدثت فيها حريقا.. لماذا حدث ذلك؟
لقد ظنت الطائرات “الإسرائيلية” أن هذه المدمرة البريطانية هي السفينة المصرية “رشيد” التي عرفنا من أحداث اليوم السابق أنها قد خدعت العدو واتجهت إلى الميناء السعودي!
* ملحوظة: اعترف موشي دايان بهذا الخطأ من جانب طائراته وقال “إنها ضربت المدمرة الإنجليزية “كرين” التي سبق أن اشتركت في مهاجمة المدمرة المصرية (دمياط).
إن هذه الحادثة تدلنا على سوء تدريب “الإسرائيليين” إذ ضربوا هدفا من دون ان يتبينوا حقيقته.. كما تشير هذه الحادثة من جديد إلى سوء تنظيم التعاون بين القوات المشتركة في الغزو.. الإنجليزية والفرنسية وبين القوات “الإسرائيلية”.
في نفس اليوم 2 نوفمبر، وفي سيناء استطاعت القوات المصرية أن تتخلص من عمليات القتال لترتد غرب القناة طبقا للأوامر. وهنا فقط انسحبت قوة أبو عجيلة البطلة برجالها بعد أن صمدت أمام هجمات العدو وكبدته خسائر.. فكان ان غير قيادته.
***
وبوصول القوات إلى غرب القناة، بدأت أوضاع جديدة للتعامل مع الغزو الجوي، كما بدأ تنظيم القطاعات الداخلية للمقاومة الشعبية.
وقد أغلقت قناة السويس، ذلك اليوم، واستمر الهجوم الجوي المعادي الأنجلو - فرنسي وضرب ألماظة ومستودعات الجيش بالقاعدة الرئيسية في القاهرة ومخازن عربات هاكستب، كما هوجمت البحرية في الإسكندرية.
***
لقد كان اليوم يوم جمعة وفي منتصف نهاره يؤدي المسلمون صلاة الجمعة.. ولقد ذهب جمال عبد الناصر وسط كل ما يجري ورغم الغارات الجوية في حماية الله.. وفي حماية شعبه، إلى جامع الأزهر الشريف مخترقا شوارع القاهرة بسيارة مكشوفة يحيي الجماهير المناضلة المصطفة على الجانبين بغير خوف.. ومن فوق المنبر الشريف قال عبد الناصر:
“سأقاتل معكم ضد أي غزو.. سنقاتل لآخر نقطة دم ولن نسلم أبدا.. وسنبنى بلدا وتاريخا ومستقبلا.. سنجاهد ونقاتل وننتصر بإذن الله”.
* اليوم السادس 3 نوفمبر
خلافات الشركاء تتفجر.. واستقالة ناتنج
في هذا اليوم فقط وبعد 5 أيام من القتال، وبعد انسحاب القوات المصرية دخل اللواء 202 مظلات “الإسرائيلي” إلى ممر متلا.. كما دخل اللواء المدرع موقع أبو عجيلة.. وأيضًا دخلت قوات أخرى خان يونس بعد معركة عنيفة وبعد أن استطاعت القوة المصرية أن تعبر إلى الأردن.. أيضا تم الاستيلاء على رأس سدر على خليج السويس.
أما قوات شرم الشيخ فلا تزال مستمرة في القتال. فقد تقدمت تجاهها القوات “الإسرائيلية” برئاسة الجنرال إبراهام يوف قائد اللواء التاسع.. من كل جهة، لذلك قرر القائد المصري أن يجمع قواته المبعثرة في رأس نصراني للتماسك مع القوة الرئيسية وأدخل جميع المدنيين والمرضى في مركب شراعي ليبحر بهم إلى أي ميناء مصري أو سعودي.. ثم أرسل إلى القيادة ليقول إن قواته محاصرة برا وبحرا وجوا..
في هذا اليوم 3 نوفمبر فكر الفرنسيون أن يعملوا من خلف ظهر البريطانيين، بالتواطؤ فقط مع “إسرائيل”، وعلى هذا الأساس قام القادة الفرنسيون بإعداد خطة جديدة كان هدفها أن تحتل “إسرائيل” القنطرة شرق يوم 4 نوفمبر ويستولي الفرنسيون على بور فؤاد بعد ضربها بالطيران. ولتنفيذ ذلك أرسل الأدميرال ديسكادر بارجو نائب قائد قوات الغزو البحري المشتركة في الساعة الخامسة والنصف بعد الظهر رسالة إلى حكومته في باريس يطلب سحب وحدات المظلات الفرنسية من قبرص أي سحبها عن قيادة جنرال كيتلي، وإرسالها إليه مع الاتصال بالحكومة “الإسرائيلية” لتنسيق عدوان ثنائي بدون انجلترا، وذلك لما يبدو من ترددها. كما ارسل بارجو: رئيس أركان حربه جنرال جازان الى معسكر ميشيل لوجران في قبرص ليعبئ كتيبتي مظلات فرنسية تتأهب للنزول فوق القنطرة شرق وبور فؤاد صباح اليوم التالي 4/11.
وفي مساء ذات النهار 3/ 11 وبناء على تعليمات حكومته ذهب الملحق العسكري الفرنسي في تل أبيب إلى وزارة الدفاع وقيادة الأركان حيث التقى مع الجنرال دايان.
قال الملحق الفرنسي: إن حكومتي تشعر بخيبة أمل من عناد البريطانيين الذين يرفضون تقديم موعد نزولهم في منطقة القناة المحدد له يوم 6 نوفمبر، لكن يوم 5 نوفمبر ستنعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة وتريد حكومتي أن تكون قواتنا في هذا اليوم موجودة فعلا في قناة السويس. ولذلك تريد قيادتها العسكرية تقديم موعد الغزو ليكون ميعاده صباح الغد.ورد دايان: إنني يجب أن أعرض هذا الموضوع بالطبع على وزير الدفاع “بن جوريون” ولكنني أستطيع من الناحية العسكرية أن أعطيك موافقتي فورا... إن قوات الغزو البحري الفرنسي يجب أن تنزل على ساحل العريش لتستقبلها القوات “الإسرائيلية” وتفتح أمامها محاور سيناء الثلاثة لتصل إلى قناة السويس عن طريق القنطرة والإسماعيلية والسويس في وقت واحد ومن دون التعرض لمقاومة شديدة في بورسعيد (كخطة الانجلي) أو أن يعرقلها قائد بريطاني متخاذل!!
وبعد حوار سريع ومهم بين الاثنين ذهب دايان إلى بن جوريون الذي “وافق على الفور وبكل ود”.
الاجتماع المريب
لكن الجنرال كيتلي قائد عام قوات الغزو علم بالأمر فعقد في الحادية عشرة مساء مجلس حرب ضم إليه الأدميرال الفرنسى بارجو والجنرال “بوفر” المؤرخ العسكري وأستاذ الاستراتيجية في فرنسا فيما بعد وجنرال جيل مدير الإدارة التكتيكية للقوات الفرنسية المنقولة جوا وجنرال ماسو قائد الفرقة 10 مظلات فرنسية وبريجادير بتلر قائد مجموعة اللواء 16 مظلات، ولم يحضر جازان.
وفي هذا الاجتماع طالب بارجو بتنفيذ خطة سريعة، فاتفق الطرفان على عقد زواج بين خطة “ساملكس” أو “أومليت”، وبين خطة “موسكتير” المعدلة وتأخذ الخطة الجديدة اسم “تليسكوب” رمزا إلى أن التليسكوب له عدستان وكل عدسة ترمز إلى إحدى الخطتين.
وكانت “تليسكوب” بذلك عملا ديناميكيا جرى إعداده أثناء المعركة واحتضنته الظروف.. وتنفذ كما يلي:
* في صباح يوم 4 نوفمبر (أي اليوم التالي) تقوم الطائرات الجوية البريطانية والفرنسية بتدمير المدفعية الساحلية المصرية ومحطات الرادار والمدفعية المضادة للطائرات ومراكز المقاومة في رأس الشاطئ ببورسعيد.
* في صباح يوم 5 نوفمبر تنفذ ساملكس بهبوط المظليين البريطانيين في الجميل غرب بورسعيد والفرنسيين جنوبها أي في منطقة الرسوة وأيضا في بورفؤاد لتأمين المحيط الخارجي لرأس الشاطئ.
* في صباح يوم 6 نوفمبر: يتم الانزال البحرى وفق خطة موسكتير المعدلة.
وانتهى الاجتماع في الثانية عشرة والنصف مساء، ونهض المجتمعون لاعداد عمليات التنفيذ، لكن بعد ثلاث ساعات ونصف ساعة وصل أنتوني هيد وزير الحرب البريطاني ومعه جنرال “جيرالد تمبلر” رئيس هيئة أركان حرب الإمبراطورية وعقد اجتماعا مع نفس القادة كما حضره جنرال جازان، واستغرق المؤتمر ساعتين ونصف ساعة واتفقوا فيه على الخطة كما بحثوا تقرير عمليات الطيران يوم 3 حيث تمت مهاجمة كوبري الجميل في بورسعيد ومحطة إرسال الإذاعة في أبو زعبل، خلال هجمات عنيفة مركزة أصابت بورسعيد ومنشآت مدنية. وقال هيد في مؤتمره العسكري: إنه جاء للإسراع في العملية التي لابد وأن تتم بنجاح لأن رئيس الوزراء أيدن قد أعلن في مجلس العموم صباح اليوم (3/ 11) أن قوات “محدودة العدد” ستهبط في بورسعيد لإنهاء القتال بين المصريين و”الإسرائيليين”!!
وفي هذا الاجتماع لمجلس العموم، ومع الكذبة التي أطلقها أيدن ظهر نبأ إيجابي يتمثل في استقالة أنتونى ناتنج وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط والأمم المتحدة.
قال ناتنج في استقالته:
“السير أنتوني أيدن”
لقد أصبح من العسير علي أن أستمر في مؤازرة السياسة التي تنتهجها حكومة جلالة المملكة الآن سواء في الشرق الأوسط أو في الأمم المتحدة. وأجدني مضطرا إلى أن أوضح أسباب استقالتي لكم قبل اجتماع مجلس العموم في جلسته بعد ظهر السبت 3 نوفمبر”.
أنتونى ناتنجوزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط والأمم المتحدة







... (6)



الخطة المصرية للجيش والمقاومة في مواجهة الغزو

* اليوم السابع 4 نوفمبر
الخطة المصرية للجيش والمقاومة في مواجهة الغزو كان “الإسرائيليون” يصرخون.. والمصريون يركزون نيرانهم في الساعة السادسة من صباح هذا اليوم كانت القوات المصرية التي أعيدت إلى غرب القناة قد تمركزت في القطاعات الدفاعية التي جرى تقسيمها داخل مثلث الدفاع الحيوي: بورسعيد السويس القاهرة.والتحمت هذه القوات مع قوى النضال الشعبي في مواجهة الغزو..وربما لا تدعونا الحاجة هنا إلى سرد تفاصيل القطاعات الدفاعية المصرية.. وإنما يتطلب الأمر أن نتعرض لمنطقة بورسعيد باعتبار أنها هي المنطقة الوحيدة التي تعرضت بشكل مباشر ومؤثر لأعمال العدو. كانت القوات المصرية الموجودة في منطقة بورسعيد تضم:
اللواء 97 المشاة الاحتياطي الذي تكون من كتيبتي مشاة احتياط.
الكتيبة الرابعة المشاة من اللواء الثالث المشاة.
كتيبتين من الحرس الوطني.
بطاريتين للمدفعية الساحلية...
قوات من الآلي الرابع مدفعية ميدان. أي في واقع الأمر 4 مدافع ذاتية الحركة.
قوات من المدافع الخفيفة المضادة للطائرات.أيضا فإنه من الواجب أن تقول إن الكتيبة الرابعة مشاة كانت قد دفعت إلى سيناء ثم عادت تحت هجمات العدو الجوية الأمر الذي أحدث بها خسائر، وبالمثل تعرض اللواء 97 المشاة الاحتياطي أثناء قدومه إلى بورسعيد لغارات جوية عنيفة من طائرات العدو وأحدثت به أيضا خسائر كبيرة.هكذا كان الموقف العسكري المصري في بورسعيد.وعند فجر هذا اليوم 4 نوفمبر كانت مجموعة بحرية تضم ثلاثة لنشات طوربيد تمرّ في وسط مياه البحر المتوسط أمام شمال فنار البرلس.. وفي هذه الأثناء شاهدت مجموعة من الأسطول البحري البريطاني.. وقرر أفراد اللنشات المصرية وهنا تبرز قيمة الإنسان المصري القيام بمهمات انتحارية هي مهاجمة أسطول العدو رغم تفوقه الكامل.. وبالفعل اندفع اللنش القائد يطلق طوربيداته على القطع البحرية الإنجليزية وتبعه اللنشان الآخران في محاولة لصيد فريسة دسمة. وبعد معركة انتحارية فلح المصريون في اصطياد الفريسة إذ تمكنوا من إغراق مدمرة بريطانية.
......
......
في هذا الوقت،ومع الخيوط الأولى لضوء نهار 4 نوفمبر/تشرين الثاني مرت في الفضاء أسراب من الطائرات البريطانية والفرنسية لتنفيذ خطة “تليسكوب” بقرب مدينة بورسعيد وتدمير دفاعاتها. وكان الضرب وحشيا لم يفرق بين هدف عسكري أو مدني!
........
........
وفي الوقت ذاته أيضا كان موشى دايان يعقد اجتماعا لهيئة أركان القوات “الإسرائيلية” ليبحث تطورات الموقف العسكري على مسرح العمليات وكان من بين ما أثير:
1 انسحاب الجيش المصري من سيناء : قال دايان نقلا عن كتابه “.. ولم يستطع أي منا بالطبع أن يعرف متى تم الانسحاب بالضبط. وليس هناك شك في أن الوحدات المصرية لم تضيع دقيقة واحدة زائدة ولم تبطئ الأمر أو بأكثر دقة المهلة التي أعطيت لها للانسحاب”.
2 ... وكما يقول دايان “السلب والسرقة اللذان كان يقوم بهما “الإسرائيليون” بملابس عسكرية ومن دونها، بعد ان دخلوا سيناء، ففي البداية اقتحم جنودنا المحلات بحجة رؤية ما إذا كانوا لا يخفون فيها جنودا مصريين مسلحين.. ولكن بعد ذلك بدأ جنودنا في وضع ايديهم على الممتلكات التي تركت من دون إشراف أصحابها بسبب حظر التجول”.
3 الموقف في شرم الشيخ. يقول دايان: “كانت هناك قيمة خاصة من الناحية السياسية للسيطرة على مضايق إيلات، وكان هو الهدف الرئيسي للمعركة، ولو توقفت المعارك وفي أيدينا كل شبه جزيرة سيناء دون شرم الشيخ لكان الحصار قائما على الملاحة إلى “إسرائيل” ويكون معنى الأمر أننا خسرنا المعركة.. ويضيف دايان: إن هدفنا هو السيطرة على مضايق إيلات وليس النزال في معركة مع الجيش المصري هناك”.
4 تدعيم القوات “الإسرائيلية” لتوجيه ضربتين متتاليتين ضد الدفاعات المصرية في شرم الشيخ : الضربة الأولى اليوم (14/11) من الشمال لمفاجأة القوات المصرية.
وانتهى الاجتماع وبدأ دايان يتتبع ما يجري في شرم الشيخ.. ولقد كان ما جرى ضد توقعاته فهو يقول عن الضربة الأولى: “ولكن هذه المفاجأة لم تأت بآية ميزة تكتيكية للواء “الإسرائيلي””.
كيف؟
نعود إلى يوميات القوات المصرية الصامدة..
الإنسان يهزم الجحيم:
جاء فجر يوم 4 نوفمبر/تشرين الثاني..
وبدأت الغارات مع أول ضوء.. وكانت في هذه المرة غارات لم تشهدها شرم الشيخ في اليومين السابقين..
كان العدو يستخدم جميع أنواع طائراته ويضرب بجميع أشكال قنابله.. وقد نجحت الطائرات في إسكات المدافع المضادة للطائرات..وبالفعل أصبحت لها السيطرة الكاملة.. و .. أصبحت تضرب من ارتفاع لا يزيد على 500 قدم. ثم تحولت لتضرب أفراد المشاة في خنادقهم.. و.. ركزت على أطقم مدافع الماكينة المتوسطة والمضادة للدبابات.ولقد.. ضربت الطائرات أفراد المشاة بالمدافع الأوتوماتيكية وبالصواريخ وقنابل النابالم الحارقة.. المحرمة دوليا!جاءت الساعة العاشرة صباحا.. الغارات الجوية لا تزال مستمرة.. اللواء التاسع “الإسرائيلي” صاحب المفاجأة وصل إلى رأس نصراني، وبدأت تحضيراته للمعركة الأرضية بضرب المواقع المصرية بمدفعية الميدان 25 رطلا والهاون 12 مم. وبعد تمهيد طويل من المدفعية والطيران هاجمت القوات “الإسرائيلية” لتجد أن القوات المصرية كانت قد أخلت موقع “راس نصراني” وانسحبت إلى شرم الشيخ... ولقد كانت هذه المفاجأة شديدة لقائد العدو الذي أضاع وقتا طويلا وذخيرة كثيرة لاقتحام موقع خال.وتقدمت قوات العدو حيث توقفت أمام نقطة الارتفاع رقم 105 التي تتحكم في الطريق الموصل من رأس نصراني إلى شرم الشيخ.. وهي هضبة مرتفعة تقع أمام الموقع الدفاعي الرئيسي في الشرم وتبعد عنه بخمسة كيلومترات وكان فيها جماعة مشاة مصرية مدعمة بالرشاشات المتوسطة، وقد فتحت الجماعة المصرية نيرانا كثيفة ومؤثرة أحدثت خسائر كبيرة في العناصر المتقدمة للعدو الذي توقف تقدمه تماما وطلب قائده مساعدة الطيران الذي جاء يصب حممه على الموقع المصري الباسل.. وحاول قائد الكتيبة المصري الذي تتبعه الجماعة دفع فصيلة مشاة لتعزير جماعة نقطة 105 لكن طائرات العدو حالت دون تحقيق ذلك.. وأخيرا وبعد قتال استغرق أكثر من ساعتين تغلبت الكثرة واستولى “الإسرائيليون” على النقطة 105 بعد أن استشهد معظم أفرادها في بسالة تعبر عن الإنسان المصري المحارب.. لقد استشهد هؤلاء الشجعان بعد أن تمكنوا هم وزملاؤهم من تعطيل تقدم لواء كامل لمدة ساعتين وبعد أن يئس قائد العدو رغم تفوقه فأوقف تقدمه، كما ترك الطيران والمدفعية للتعامل مع الدفاعات المصرية الرئيسية في شرم الشيخ.هكذا توالى الجحيم على شرم الشيخ.. وأصبح اللون الأحمر يصبغ النهار.. وبلغ الموقف ذروة الخطر..هنا بعث قائد شرم الشيخ بإشارة إلى القيادة العامة يصف الموقف.
“أشد ماعرفته الإنسانية المتوحشة من غارات محرقة بالنابالم.. ست ساعات حتى الغروب والقوات “الإسرائيلية” تضرب شرم الشيخ بالطائرات ومدفعية الميدان والهاونات ومدافع الدبابات”.
وكلما كان الغروب يقترب كان الضرب يعنف.. وجاء الظلام.
ولكن أضواء الحرائق والانفجارات كانت تحيله إلى نهار.. كان ذلك علامة الهجوم “الإسرائيلي” الليلي الكبير الذي أعده دايان ومساعدوه ليكون الضربة الأولى الكبيرة لاختراق مواقع شرم الشيخ.
كانت هذه المواقع تتكون من:
سرية مشاة في أقصى اليمين تسد طريق رأس نصراني الشرم.
سرية مشاة في اليسار على الطريق القادم إلى شرم الشيخ من الطور..
سرية مشاة بين السريتين السابقتين تصل فيما بينهما..
سرية مشاة الخلف للدفاع عن المطار وللمعاونة في رصد الاختراق إذا حدث..
وكان للسرية اليمنى موقعان: أمامي تحتله نهارا.. وخلفي على مسافة 500 ياردة تحتله ليلا... ولهذا عندما هبط الليل احتلت السرية موقعها الخلفي وبدأت ترقب الهجوم الرئيسي “الإسرائيلي” الأول: أو الضربة الأولى:
في الساعة الثامنة والنصف مساء، كان ميعاد هذه الضربة.. ولما وجدته خاليا ظنت أن القوات المدافعة قد تركت مواقعها وانسحبت تماما فاندفعت إلى الأمام وما أن وقعت في المرمى المؤثر لنيران الأسلحة المصرية.. حتى فتحت القوة المصرية كل نيرانها على القوة المهاجمة..
كانت نيرانا بشعة.. بالبنادق والرشاشات والهاونات.. وتساقط الجنود “الإسرائيليون” قتلى في موجات متتالية كبيرة.. تقول المجلة العسكرية الأمريكية “أمريكان ميليتري ريفيو” في وصفها للجنود “الإسرائيليين” الذين لم يصابوا “لقد التصقوا بالأرض بينما راحت صرخات المصابين تعلوا، والمصريون يزيدون من تركيز نيرانهم”.و.. خلال المعركة بعث قائد شرم الشيخ إلى القيادة في القاهرة: “المعركة في أعنف مراحلها .. انتظروا النتائج”.كانت النتيجة فاشلة بالنسبة ل “الإسرائيليين”.. لذلك ففي الساعة الرابعة و 20 دقيقة فجرا كما يقول دايان صدر أمر الانسحاب. وبعث قائد شرم الشيخ إلى القاهرة بالنتائج تفصيلا.. وبعد دقائق جاء رد القيادة:
إلى القائمقام أركان الحرب رؤوف محفوظ: “أقدر فيك وجنودك البطولة والإقدام .. ستكون مثالا للوطنية والتضحية في سبيل الواجب. إذا لم يمكنك الاستمرار حتى أول ضوء فإني آمرك أن تسلم. تخلص من جميع أنواع الأسلحة حتى البنادق والطبنجات ولو بإلقائها في البحر.. تدمر جميع المنشآت إذا أمكن. تحياتي”.
تسلم القائد المصري رسالة القيادة ثم وكما يقول في مذكراته: “قرأت الرسالة أكثر من مرة.. ولقد خامرني الشك في ان تكون هذه الرسالة قد أرسلت بفعل تدخل العدو كخدعة يريد بها أن ينهي المعركة بأسهل الطرق..
وسألت ضابط الإشارة: كيف وصلت هذه الرسالة؟ وقال لي أنها وصلت بالشفرة..
ولكن هذا الرد لم يقنعني.. ثم سرعان ما قفزت الطمأنينة إلى نفسي.. لقد وقع نظري على أول سطر.. فتأكدت ان العدو لا يمكن أن يعرف اسمي ولا رتبتي بالكامل.وناديت ضابط الإشارة مرة أخرى، وأمرته أمرا صريحا بألا يتسرب مضمون هذه الإشارة إلى أي فرد مهما كانت رتبته. فقد كنت ومازلت مؤمنا بأننا سنقاوم هجمات العدو”.ووسط الجو المحفوف بالتوتر والخطر بدأ الطرفان يستعدان للقاء الدموي الثاني..وعند منتصف الليل.. أو على وجه الدقة بعده مباشرة بدأ الهجوم الثاني “الإسرائيلي” مستهدفا هذه المرة سرية المشاة التي في اليسار وتقدمت مجموعة كتيبة معادية تحت ستر المدفعية والهاونات ولكن فجأة اصطدمت بحقل ألغام لم تكن تدري بوجوده كما انهالت عليها النيران المصرية بكثافة كبيرة من كل اتجاه.. وقد تكبدت هذه الكتيبة خسائر فادحة إذ قتل قائدها وعدد كبير من ضباطها واضطر قائد مجموعة اللواء المعادي “الإسرائيلي” إلى إصدار أوامره بالانسحاب.ولقد كانت “إسرائيل” بكل الجهد الذي بذلته حريصة على أن تأخذ شرم الشيخ بأي ثمن خاصة وأن حليفتيها : بريطانيا وفرنسا قد بدأتا صباح اليوم في تنفيذ خطة ضرب بورسعيد.. كما ان الطائرات الأنجلو فرنسية عادت بعد الظهر لتضرب المدينة وتدمرها..ولقد دفع هذا الهجوم الجوي إلى أن يصدر قائد القيادة الشرقية المصرية في الساعة السادسة مساء.. القرار التالي نصه:
تدفع كتيبة مشاة للتمسك بالمضايق جنوب بورسعيد.
يدفع تروب مضاد للطائرات وتروب مدفعية صاروخية إلى مدينة بورسعيد.
تدفع قوة فدائية إلى داخل بورسعيد.
تدعم منطقة السويس بالكتيبة 296 مشاة من لواء 99 مشاة احتياط.
وجرى على الفور تنفيذ قرار قائد القيادة الشرقية المصرية..
* اليوم الثامن 5 نوفمبر
انتهت ملحمة شرم الشيخ.. وبورسعيد تناضل.
قبيل الفجر في هذا اليوم كانت قوات شرم الشيخ الصامدة لا تزال وحدها تناضل وسط الجحيم.. وقد أرسلت إليها القيادة العامة تستفسر عن الموقف. فجاءها رد قائد شرم الشيخ:
“أوقفنا هجومهم الليلي .. نتوقع فورا هجوما مدعما بالدبابات”.
أما اللواء التاسع “الإسرائيلي” المهاجم فلقد انضمت إليه الكتيبة 890 مظلات.. أكثر من ذلك رغم التدعيم فقد سبقت هجومه : غارات جوية كثيفة..
ومع الفجر كما يقول دايان في كتابه في الساعة 30.5 استؤنف الهجوم، وهذه المرة بمساعدة نيران الهاونات الثقيلة 120 مم وباشتراك طائرات السلاح الجوي..
يقول قائد شرم الشيخ: “امتلأت السماء كما لم أر في حياتي بأسراب الطائرات الفرنسية و”الإسرائيلية”.
وراحت الطائرات تنقض على الأفراد في مواقعهم.. فقد كانت جميع الأهداف الحيوية قد دمرت.. ولم يعد باقيا سوى الأفراد.. البشر.. بأسلحتهم الخفيفة في أيديهم..
ثلاث ساعات كاملة..
وجنود شرم الشيخ أشجع الجنود في نظري تنهال عليهم الطائرات بالعشرات.. وتركز على موقع واحد ليس فيه سوى خمسة أو ستة أفراد.
ثلاث ساعات كاملة..
وماذا تكون هذه الساعات الثلاث بجانب ما تحمله جنود شرم الشيخ؟
ثم.. وبعد ذلك هجمت القوات البرية.. لم يكن هجوما بالمعنى المعروف .. لقد قامت الطائرات بالمهمة، إنما كان تطهيرا للمواقع ..”.ونجح العدو في الاستيلاء على الموقع.. لأن جنود وضباط شرم الشيخ رغم أنهم بشر ولكل بشر طاقته تحملوا ما فوق طاقة كل بشر..
غارات وحشية عنيفة.. لا نوم لا راحة لا نظام في تناول الطعام طوال أربعة أيام مليئة بالضرب والقتال والجحيم.ومع كل هذا.. لم تستطع قوات العدو وعلى رأسها قائدها “إبراهام يوف” أن تصل إلى رئاسة شرم الشيخ.. إلا بعد ساعتين من اختراق الموقع.. خلالهما حارب الإنسان المصري بكل شيء حتى .. بيديه.
هو .. وهم:
سقطت شرم الشيخ المناضلة وكان دايان في الطريق إليها.. ركب طائرة.. ثم ركب سيارة على الطريق بين الطور والشرم.. وفي رحلته شاهد عددا من الجنود المصريين.. ونسمع منه ملاحظاته كما يرويها في “يوميات معركة سيناء”:أمرت المرافقين لي ألا يردوا بالنيران على الطلقات التي تفتح علينا من المصريين فأخطر شيء أن نتوقف ونتورط في قتال مع جنود مصريين”.
“لم يكن هناك ما يمنع أن تحتل جماعة من الجنود مكانا وراء مجموعة شجيرات أو أي “تبة” في الأرض تجعلنا كالمنخل من نيران رشاشاتها”.
“.. لكن لم يفتح أحد النيران علينا.. ولعلهم لم يدركوا أننا جنود “إسرائيليون”.. وإنما مروا بجانبنا وقد جر الجرحى منهم أرجلهم بصعوبة.وعلى الرغم من ذلك فلم تضعف عندي ولو للحظة واحدة.. فكرة أنه إذا حدثت لنا “متاعب” وأمسك بنا المصريون فستكون هذه نهايتنا فإنهم ولو حتى بأصابع أيديهم يستطيعون أن يمزقونا إربا”.
“وفي النهاية مال الطريق إلى الجبال وتنفسنا الصعداء”.ثم يقول دايان : لقد احتفلنا بإنهاء اللواء التاسع لمهامه، وعندما عدت إلى تل أبيب “أبلغت بن جوريون أن شرم الشيخ قد احتلت وانتهت المعركة، فقال بتردد “تهكمي” وتردد جدي: “وأنت.. هل تستطيع أن تتحمل مسؤولية أن تقول هذا؟”.. ولم أجبه فهو يعرف جيدا أن ما يضايقني ليس وقف المعارك وإنما الخوف على مقدرتنا على مواجهة المعركة السياسية التي تبدأ الآن “في الأمم المتحدة”.
سقطت شرم الشيخ:
في ذات النهار 5 نوفمبر ومع الفجر جاءت الطائرات الأنجلو فرنسية تهاجم بورسعيد.. ثم أسقطت جنود المظلات وهم 600 بريطاني و 487 فرنسيا في الجميل والرسوة وبور فؤاد وسط معركة عنيفة مع القوات المصرية وقوى النضال الشعبي.ولقد كانت قوة الاقتحام الجوي في ذلك النهار بقيادة البريجادير بتلر وتضم القوات التي ذكرناها في الفصل السابق ليوميات القتال.وقد استمر الابرار الجوي في ذلك النهار، وأرسل بتلر الخبر إلى لندن قائلا أنه يحاصر مقر القائد العسكري للمدينة و”قد” يكون مستعدا للمناقشة لكن هذا ليس مؤكداً.
ماذا حدث في لندن؟
يقول أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة “ردنج”: هيوتوماس في دراسته عن حرب السويس التي أجراها بتكليف من صحيفة “الصنداي تايمز” والتي نشرتها سنة 66 كما نشرها “الأهرام”.“لقد استقبل مجلس العموم النبأ كما لو كان ناصر نفسه قد استسلم فراح المحافظون “كانوا يحكمون” يهتفون ويلوحون في مشهد غريب.. وبقي “ج.ج” وهو نائب محافظ جالسا.. فصاح فيه لينوكس بويد يأمره بالوقوف!ولكن بورسعيد كانت الكلام لا يزال لأستاذ التاريخ أبعد ما تكون عن الاستسلام فقد استثيرت حماستها إلى أبعد مدى وفي المساء بعث بولجانين بمذكرات شديدة العنف إلى ايدن وموليه وبن جوريون ذكر فيها أن الاتحاد السوفييتي مستعد لسحقهم وذلك باستخدام “كل الوسائل الممكنة من الأسلحة المدمرة”.طوال هذا اليوم.. ركزت القوات الجوية المعادية غاراتها فوق بورسعيد وشنت غارات متتالية كانت نتيجتها الطبيعية تدمير كافة الأسلحة الثقيلة لدى القوات المصرية المدافعة والتي لم يبق لديها منها سوى مدفعين مضادين للدبابات وهاونين فقط.



[/size]


د. يحي الشاعر
 


(7) والاخيرة

أحداث اليومين الأخيرين وحصاد العدوان وأهدافه

اليوم التاسع 6 نوفمبر:
مصيدة بورسعيد واعترافات بوفر
قادة الغزو أفلتوا من الأسر.. صدفة
في نحو الساعة الرابعة من فجر هذا اليوم وصل أسطول الغزو الانجليزي الفرنسي إلى مشارف بورسعيد.. وبعد نحو ساعة فتحت البوارج نيران مدافعها الثقيلة على امتداد الشاطئ المصري.. واستمر الاسطول الانجلو فرنسي يقذف حممه لمدة 45 دقيقة حتى غطت سحب الدخان الكثيفة كل شاطئ ومدينة بور سعيد.. ثم تتابعت موجات من الطائرات المعادية الانجليزية والفرنسية لتلقي بقنابلها وصواريخها على الشاطئ والمدينة. وفي الساعة السادسة صباحا بدأ الاقتحام البحري، أي دخول الأسطول إلى ميناء بورسعيد وشواطئها.. وتتابعت موجات الاقتحام حيث وصلت سفينة القيادة “تيني” إلى رصيف ديلسبس تحمل الجنرال هيوستكويل.. وفي هذه الأثناء زاد عنف القتال.. تلاحم الجيش المصري مع قوى النضال لتنهال النيران من كل اتجاه على قوات العدو التي كانت في كل مرة تفتح عليها النيران، توقف تقدمها البحري لتأتي الطائرات المقاتلة المعادية وتقذف بقنابلها وصواريخها مواقع الدفاع المصرية ورجالها.وقد قامت عناصر انتحارية من القوات الجوية المصرية بغارات خاطفة فوق منطقة رأس الشاطئ التي نزلت عليها قوات الغزو. وبسبب ضراوة الدفاع المصري لم تستطع قوات الغزو أن تؤمن منطقة رأس الشاطئ ببورسعيد طوال ذلك اليوم، وتأمين رأس شاطئ هو احتلال مساحة معينة عل الشاطئ تمهيدا لوصول باقي القوات الغازية إليه.. وكان هذا الفشل عكس توقعات الغزاة اذ أن الجنرال “بارجو” قال وهو في الطريق إلى بورسعيد لزميله الجنرال الفرنسي “بوفر”:
“هيا بنا إلى بورسعيد فحالما نصل مدخل قناة السويس سنصبح سادة الموقف”.
ذلك أن توقعات “بارجو” و”بوفر” وغيرهما كان عندما رسموا خطة الاقتحام البحري.. كما يلي:
- أن منطقة القناة ستسقط بسرعة.. ثم و.. فورا يثور الشعب المصري..
وبعد ذلك تسقط القاعدة.. وهنا.. على الفور تسقط مصر بين أيديهم..
وبذلك: تطلق يد فرنسا حرة في الشمال الأفريقي العربي عندما تصبح الجزائر وحيدة بغير مساعدة القاهرة..
يعود النفوذ البريطاني إلى الوطن العربي..
تعود قناة السويس كما كانت قبل تأميمها..
وبهذا ينهار كل ما هو ثوري على أرض العرب وترتفع أعلام التحالف مع الغرب..
لكن شيئا من ذلك لم يحدث، وفشلت الخطة التي قال عنها دايان في كتابه ساخرا: “بعد أن رقدت الدجاجة موسكتير المعدلة النهائية طويلا فوق البيض خرجت على العالم بكتكوتين هزيلين”.!!
ونذكر هنا حادثة كان يمكن ان تكون تاريخية مدوية تكلم عنها أستاذ التاريخ “هيو توماس” كما تكلم عنها الجنرال “بوفر” في كتابه عن حملة السويس سنة ،1956 وكان “بوفر” قد شغل منصب مدير معهد الدراسات الاستراتيجية الفرنسي وجاء إلى القاهرة في يناير سنة 1971 بدعوة من “الأهرام”...
تقول الحادثة التي تكلم عنها توماس وبوفر:
“في الساعة الحادية عشرة صباحا وقع حادث غريب، فقد توجه الجنرالات ستكويل وبوفر والأميرال دير نفورد سلاتر والمارشال الجوي بارنيت في قارب صغير إلى المبنى التابع لهيئة قناة السويس في بورسعيد حيث كانوا يعتقدون أن القائد المصري ينتظرهم هناك للتسليم، وبينما كانوا على وشك النزول فوجئوا بوابل من الرصاص ينهال عليهم وأدرك القادة الأربعة الكبار أنه إذا كان يوجد أحد في انتظاره فليس في نيته التسليم على أي حال.ويضيف الجنرال بوفر في كتابه معبرا عن مشاعره وقتها: “وتأملت بشيء من التفكير أنه لو لم يكن المصريون قد أطلقوا علينا النيران لكان باستطاعتهم أسرنا بمجرد نزولنا إلى الشاطئ”.
وأدبر القادة الأربعة هاربين عائدين بينما استمر إطلاق الرصاص...
واستمرت معركة الاقتحام..
وفي آخر النهار لذلك اليوم بدأ طابور مصفح يتقدمه البريجادير بتلر في الدبابة الأولى، متجها جنوبا صوب السويس لكنه هو وطابوره لم يصلا الا لقرية الكاب على مسافة 25 ميلا جنوبي بورسعيد اذ صدهم موقع مصري..وعندما غربت شمس 6 نوفمبر عكف الانجليز والفرنسيون على إحصاء قتلاهم سواء الذين كانوا في الاسطول أو في عشر طائرات تم إسقاطها...
* اليوم العاشر 7 نوفمبر
زوجة إيدن تقول: قناة السويس كانت تجري في غرفة نومي.
في الساعة الأخيرة من ليلة 6 نوفمبر بكى سير أنتوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا العظمى.. وقال لمساعديه: “إنني أفضل انهيار الإمبراطورية البريطانية دفعة واحدة على أن تعاني من سكرات موت بطيء..”.ثم أرسل يوافق على قرار وقف اطلاق النار الذي أصدرته الأمم المتحدة على أن يبدأ من الساعة الثانية صباح يوم 7 نوفمبر ومن قبل كان قد سبقه في الموافقة بن جوريون أما جي موليه رئيس وزراء فرنسا فقد بقي وحيدا حائرا وظن أنه سيحرز تقدما ونصرًا على الأرض.. لكنه فشل. بل أن أيدن أرسل تعليمات إلى قادته في بورسعيد لمنع الفرنسيين اذا حاولوا من التقدم في حماقة إلى الجنوب.
ثم اضطر موليه ووافق على القرار الذي صدر في الساعة الثانية من صباح هذا اليوم 7 نوفمبر سنة 1956.
رأس جمال عبدالناصر
وتحطمت أحلام ايدن وعاد ليلتها مهدودا إلى منزله يبكى بين يدي زوجته التي تصغره بثلاثين عاما، والتي كانت تريده أن يصبح بطلاً مثل خاله سير ونستون تشرشل. وكانت زوجة ايدن في يوم ما قبل الحرب قد قالت لصحيفة أمريكية (كتاب خفايا السويس محمد حسنين هيكل): “إن قناة السويس تجري الآن في غرفة نومي...”ثم أمسكت ليدي إيدن بصحيفة بريطانية نشرت صورة لجمال عبد الناصر وقالت لزائرها:
كيف يستطيع هذا المصري أن يتحدى أنتوني إيدن.. لقد طلبت رأسه من أنتوني وسوف أحصل عليه!!
كانت ليدي إيدن المرأة الشابة تسمع نقلا عن نوادي حزب المحافظين أن الكثيرين يقولون عن زوجها إنه رجل من القش!
وكانت لهذا تقول له:
تصور.. بعضهم يقول إنه ما زال عليك أن تثبت أن لك شاربا حقيقيا.
على أن سير إيدن طبقا لما جرى لم يستطع اثبات ذلك.
نهاية العدوان
* العدوان: الحصاد والأهداف والنتائج الحاسمة بصدور قرار الأمم المتحدة في الثانية من صباح 7 نوفمبر سنة 1956 انتهت رسميا حرب السويس “الشهيرة”.ان هذه الحرب برغم كل ما فيها تعتبر حربا محلية من سلسلة الحروب العديدة التي تتعرض لها الدول حديثة الاستقلال والتحرر من الدول الاستعمارية التي اضطرت تحت ضغط المقاومة الشعبية أن تجلو عن الدولة وترحل.. ثم عادت تحاول قنصها. وطبقا لإستراتيجية الدول الاستعمارية فان الحرب المحلية هي “الوسيلة المناسبة لتحقيق أهداف محددة، تقوم على صدام مسلح تحدد فيه مسبقا أهدافه السياسية”.
ويجري تنفيذ هذا الصدام بقوات تستطيع أن تحرز الأهداف بسرعة وحسم لتضع العالم أمام الأمر الواقع ولتمنع تطور الحرب من النطاق المحلي إلى حرب عالمية تشترك فيها دول أخرى.
ولذلك فإن الاختلاف الأساسي بين “الحرب المحلية” و”الحرب الشاملة” ينحصر في مدى الحرب وأهدافها ونتائجها.. إن الحرب المحلية تتطلب الحذر وخفة الحركة والمرونة والقدرات القتالية العالية للقوات ولذلك تعتمد على الطائرات والمظليين الفدائيين ومشاة الأسطول. وهذه هي التي استخدمتها قوى العدوان الثلاثي.
ولقد اشتركت في العدوان قوات كثيرة العدد هي:
- قوات برية حجمها:
38 من الوية الدول الثلاث و750 دبابة و2510 مدافع.
- قوات بحرية تضم:
بارجة و7 حاملات طائرات و8 طرادات و20 مدمرة و20 فرقاطة و9 غواصات و22 لنش طوربيد و134 سفينة أخرى.
- قوات جوية قوامها:
28 سرب مقاتلات و25 سرب قاذفة مقاتلة و23 سرب قاذفات و19 سرب طائرات نقل جوي و10 أسراب طائرات استطلاع وسربان هليكوبتر اقتحام و5 أسراب أمداد جوي واتصال. وضمانا لإحراز النصر فان الدول الاستعمارية تحتفظ دائما بقواعد عسكرية عديدة في مواقع إستراتيجية تعتبرها هذه الدول حقا تقليديا لها. وأيضا فانه طبقا لإستراتيجية الدول الاستعمارية واستقراء لتاريخها فانها دائما تسبق حربها المحلية بحرب نفسية لتفتيت قوى الشعب في الدولة المعتدى عليها عن طريق:
* تحطيم روح الشعب المعنوية وقد أنشئت لهذا الغرض اذاعة صوت بريطانيا في قبرص يديرها البريجادير فيرجون خبير الحرب النفسية.
ومن أمثلة ما أذاعه الراديو: “أيها المصريون، لقد اختبأتم في القرى.. إننا سنضربكم بالقنابل حيث سنجدكم.. تخيلوا نساءكم وأطفالكم وهم يذبحون..”.
* تفتيت وحدة الشعب الوطنية.
* العمل على احداث الشقاق والفتنة في صفوف القوات المسلحة.. وبين هذه القوات وبين الشعب.
* تمهيد الرأي العام العالمي، وقد لجأت قوى العدوان إلى تزوير نشرات على أنها صادرة من سفارات مصر تتضمن أن القاهرة ستمنع البترول عن أوروبا.
وإذا كانت حرب السويس طبقا للاستراتيجية الاستعمارية محدودة فلقد كانت أهدافها المحدودة تتركز في ثلاث مجموعات:
* المجموعة السياسية:
تمثلها بريطانيا وتهدف إلى استعادة هيبتها في الأمة العربية والشرق الأوسط عن طريق تحطيم القاهرة قاعدة النضال العربي ومركز الاشعاع في هذه المنطقة.
* المجموعة العسكرية:
وتمثلها فرنسا وتهدف إلى تحطيم ثورة الجزائر والانتقام لكرامتها التي أهدرت على أرض المليون شهيد.. وذلك بتحطيم القاهرة سند الجزائر في ثورتها.
* المجموعة الانتهازية:
وتمثلها “إسرائيل” وقد صور موسى ديان في كتابه “يوميات معركة سيناء” حقيقة الدور الانتهازي “الإسرائيلي” فقال: “انها قامت بدور راكب الدراجة الذي يصعد التل مستغلا السيارة الصاعدة أمامه ممسكا بها”. يعني أنها استغلت تأزم الموقف بين لندن وفرنسا وبين القاهرة فدخلت بالتواطؤ لتسلب أي مكسب ولذلك فقد كان من أغراض خطتها العسكرية “قادش” الحصول على مغانم من أسلحة ومعدات. وكانت تريد تحطيم القاهرة.. القضاء على مواقع سيناء والاستيلاء على أكبر قدر من المكاسب ومنها الأرض العربية وذلك كله وصولا لحل قضاياها مع العرب وتحقيق مطامعها..
* عرض لخطط العدوان:
لقد تم العدوان بثلاث خطط عسكرية هي: قادش المعدلة وتمثل بداية العدوان “الإسرائيلي” يوم 29 أكتوبر وكان بعد ضمان حماية الطيران والأسطول الفرنسي الانجليزي ثم خطة أومليت 2 أو ساملكس التي اعتمدت على اسقاط المظليين الانجليز والفرنسيين يوم 5 نوفمبر ثم خطة موسكتير المعدلة النهائية التي جاءت بالأسطول لغزو بحري كامل يوم 6 نوفمبر ثم كان الجمع بين الخطتين في خطة تليسكوب المزدوجة. ولذلك فان “تليسكوب” تتخذ صفة الأهمية عما سبقها من خطط وهي:
- الخطة700:
وهي انجليزية صرفة تهدف إلى شن عدوان انجليزي على الإسكندرية ثم القاهرة وقد وضعت يوم 27 يوليو ورفضت يوم 8 اغسطس.
- الخطة هامليكار:
التي تعدلت إلى “موسكتير” وهي خطة انجليزية فرنسية اتجاهها الاسكندرية القاهرة وقد وضعت في 15 أغسطس لتنفذ في 15 سبتمبر والغيت في 14 سبتمبر.
- الخطة موسكتير المعدلة:
هي التي دخلت فيها “إسرائيل” لأول مرة بعد اتفاق سيفر.. وتحول العدوان إلى بورسعيد ثم الزحف إلى السويس فالقاهرة، وقد وضعت في 14 سبتمبر للتنفيذ في 26 سبتمبر.
- الخطة موسكتير المعدلة النهائية:
وظهر فيها التعاون الوثيق بين قادش المعدلة “الإسرائيلية” وبين “موسكتير المعدلة” وأجابت كل مطالب “إسرائيل” من لندن وباريس.
- الخطة أومليت وأومليت 2 أو ساملكس:
وهي خطة عاجلة لاحتلال بورسعيد وتعتبر بديلة سريعة لموسكتير المعدلة النهائية.
- ثم تليسكوب التي جمعت بني الخطتين الأخريين.
- غير هذا. هناك خطة “قادش المعدلة” “الإسرائيلية” التي بنيت على أساس إدارة القتال في مراحل ثلاث:
* الأولى: لخلق ذريعة العدوان.
* الثانية: للانطلاق إلى مشارف القناة دون التورط في قتال عنيف.
* الثالثة: للتركيز على المواقع المصرية التي تظل صامدة لاقتحامها.
تلك كانت خطط العدوان على الإنسان المصري في أكتوبر نوفمبر سنة .1956. والتي توقفت عمليات القتال خلالها رسميا يوم 7 نوفمبر لكنه لم يتوقف بالنسبة للانسان المصري ذلك أن جزءا من أرضه احتل، لذلك استمر طوال 120 يوما يناضل شعبيا ضد المعتدين.. حتى خرجت انجلترا وفرنسا منسحبتين يوم 22 ديسمبر، ثم خرجت “إسرائيل” منسحبة من سيناء وغزة يوم 6 مارس 1957. وخلال هذه الأيام المائة والعشرين.. وبالذات في بورسعيد جرت ملاحم من النضال أرقت المعتدين وعجلت باندحارهم.
* قيمة الحرب:
إن هذه الجولة العربية “الإسرائيلية” الثانية.. أو حرب السويس كما اشتهرت بهذا الاسم عالميا كانت لها آثار بعيدة المدى.. بعدها سقط ايدن.. وذهب هاربا إلى جزيرة جامايكا في 22 نوفمبر وهو يقول “إن العالم لا يتسع لي ولعبد الناصر.. ويجب أن يذهب أحدنا”. وسقط جي موليه.. وتحررت الجزائر.. وهبت القومية العربية.. وثارت اليمن.. واستقل الجنوب اليمني.. بل وثار العراق.. وشهدت الأمة العربية لأول مرة وحدة كاملة بين قطرين: بين سوريا ومصر. لقد أحدثت حرب السويس بغير جدال تأثيراتها اللامحدودة في موازين القوى.. وكانت وبحق فاصلا بين عصرين.. وقيل عنها الكثير ومع ذلك فقد تكون بعض أسرارها خافية.. حتى الآن.. ومنها ما هو شخصي.. ومثلا فإن جمال عبد الناصر كان سيسافر إلى لندن من نفسه عقب أزمة تأميم قناة السويس، لكنه عدل عن هذه الفكرة عندما ظهر ايدن على شاشة التلفزيون الانجليزية وفي حركة مسرحية أخرج ورقة سوداء وقال إنها تمثل الرئيس المصري. ونعتقد أن ايدن لو لم يعرض هذه الورقة، لكان عبد الناصر قد سافر إلى لندن لمواجهة جمعية المنتفعين بقناة السويس في أغسطس .1956. ولو كان ذلك حدث لكانت المشكلة قد انتهت من خلال مواجهة عبد الناصر للذين اجتمعوا في لندن وقتها. ومواجهته للرأي العام الأوروبي وجها لوجه. والمعروف أن عبد الناصر لم يقم بزيارة أي عاصمة أوروبية لندن أو روما أو غيرهما من مجموعة المعسكر الغربي.
النجاح والفشل ان قياس حجم ودرجة النجاح والفشل في “حرب السويس” يعتمد على مرجعية أسبابها وهل تحققت أغراضها أم.. لا..؟
1- بالنسبة لبريطانيا.. فقد خسرت كل شيء فلم تعد إمبراطورية عظمى كما كانت! وفقدت للأبد قاعدتها في السويس وكذلك بعد فترة قصيرة قاعدتها المركزية في عدن. كما ان مصر اعتبرت هذا العدوان الغاء للبند الوارد في اتفاقية الجلاء والذي كان ينص على التعاون بينها وبين بريطانيا في حالة نشوب حرب يهددها.وأيضا بدأ الاحتلال البريطاني ينحسر وينسحب من مستعمرات عديدة.. فكانت حرب السويس ضربة قاضية كسرت أنياب الأسد البريطاني وقطعت ذيله وأنهكت قواه حتى مات.
2- بالنسبة لفرنسا.. تسببت حرب السويس في إضعافها وكسر عنجهيتها.. فالتهبت الثورة ضدها أكثر وأكثر حتى كان جلاؤها عن الجزائر التي كانوا يعتبرونها قطعة من فرنسا.. كما انسحبت من تونس.. ومن بلاد أخرى في افريقيا وغيرها.. وتقلصت من امبراطورية إلى دولة.
.. كما قضت هذه الحرب نهائيا على المستقبل السياسي لكل من إيدن وجي موليه.
3- وبالنسبة ل”إسرائيل”.. فانها أيضا لم تكسب في هذه الحرب، وان كانت قد أكدت انتهازيتها.. فقد ابتزت فرنسا لتساعدها في انشاء مفاعلها النووي.. ثم بعد ذلك ركزت على الولايات المتحدة الأمريكية لتكون حليفتها وربيبتها بوسائل وأساليب متعددة. كما بدأت أعني “إسرائيل” في زيادة ترسانتها العسكرية لتستعد لجولة أخرى!لكن وعلى الناحية المصرية العربية.. فقد ازداد التلاحم العربي العربي.. ولقد شهدت البلاد العربية انتفاضات شعبية مؤيدة لمصر.. وتبلورت نتائج هذا في أفعال وردود أفعال شهدتها السنوات التالية..أما في مصر تحديدا فلقد ازداد اليقين عمقا بضرورة بناء مجتمع جديد قوي..
ولكن هذا كله إضافة إلى بروز دول العالم الثالث وبزوغ كتلة عدم الانحياز جعل العصر التالي أشد ضراوة مما كان.
***
على أي حال لقد عرضنا للحرب بوثائق عملياتها ومسبباتها لأن حرب السويس كما قلنا.. لها آثارها المهمة على المستوى العالمي.. وليس فقط المحلي.. وعنها قال جمال عبد الناصر في 2 ديسمبر سنة 1956:
“إن تاريخ النضال الوطني المصري القومي العربي سوف يعتبر حرب السويس فاصلا حقيقيا بين ما قبلها وما بعدها.. إن ثورة الحرية الحقيقية في مصر كانت بالذات المائة والخمسين يوما بين 26 يوليو و23 ديسمبر سنة ،1956 بين تأميم شركة القناة وانسحاب الدول التي قامت بالعدوان”.


[/SIZE]

د. يحي الشاعر
 
عودة
أعلى