المحور الأول: العلاقات المغربية العثمانية.
1 - العلاقات المغربية العثمانية: مرحلة الصراع والتوتر.
تطرح العلاقات المغربية العثمانية إشكالية مزدوجة فمن جهة:
هناك قلة المصادر والتي يوجد غالبها في الإرشيف العثماني، ومن جهة ثانية نوع المقاربة التي يمكن تبنيها من أجل فهم هذه العلاقات.1
إن علاقات المغرب مع الدولة العثمانية تكتسي أهمية خاصة، باعتبار أن المغرب ظل البلد الوحيد من بلدان العالم العربي الذي أفلت من الخضوع للإمبراطورية التركية2، كما أن المغرب كان يمثل مسرحا للصراع بين المسيحية ممثلة في الدول الأوربية، والإسلام ممثلا في دولة الخلافة العثمانية 3 .
وتزداد أهمية العلاقة المغربية العثمانية بالنظر إلى التقارب المذهبي والديني الذي ميز الطرفين (الانتماء إلى المذهب السني ).
كيف يمكن إدراك هذه العلاقات الغنية والمعقدة إلى درجة التناقض؟ والتي تشوبها أحيانا صراعات لكن تفضي أحيانا أخرى إلى نوع من الثقة المتبادلة5 ؟وما هي الميكانيزمات التي تحكمت في هذه التناقضات؟وكيف تطورت العلاقات بين الطرفين ؟ .
لا يمكن فهم طبيعة العلاقات المغربية العثمانية إلا في ظل نوعية العلاقات التي ربطت دار الإسلام / دار الإسلام6، فالمغرب والدولة العثمانية ينتميان إلى نفس المنظومة الدينية والمذهبية (إسلامية سنية) وهو الأمر الذي يعطي لموضوع العلاقات المغربية العثمانية تميزا عن نوعية العلاقات التي جمعته مع الدول الأوربية.7
وإذا كان كل من الشرفاء المغاربة والعثمانيين اكتسبوا حظوة ونفوذا على أساس قيامهما بالجهاد ضد الكافر، فقد حاول كل طرف فرض هيمنته على الطرف الآخر تحت هذا الشعار، لكن الفرق هو أن العثمانيين بفضل ما توفر لهم من موارد وإمكانات دخلوا عالم الإمبراطوريات بخلاف المغرب، فالدولة العثمانية استطاعت أن ترقى إلى المستوى الآخر الأوربي، وظل المغرب حبيس مشاكله الداخلية، ويبقى السؤال المطروح هو لماذا لم تعمل الإمبراطورية العثمانية على إخضاع المغرب بدعوى وحدة الأمة؟.
هل الأمر يتعلق بما يفرضه الامتثال للشريعة الإسلامية، والمتمثل في أن الفتح لا يمكن أن يشمل دار الإسلام ، وان الحرب لا يمكن أن تكون موجهة سوى ضد الكفار كما ذهب إلى ذلك الأستاذ بنحادة ، والحال أن المغرب بلد إسلامي8 أم أن الأمر تحكمت فيه عوامل أخرى ؟
للجواب على هذه الإشكالية لابد من العودة إلى أواخر القرن الخامس عشر، حيث عرف عالم البحر الأبيض المتوسط مرحلة مهمة جدا تجلت في بدء التفوق الأوربي في مجال التقنيات الحربية والبحرية، وهو الأمر الذي ساهم في تغيير ميزان القوى بين الضفتين دار الإسلام ودار الحرب.9
وكان من نتائج هذا التفوق احتلال الإسبان والبرتغاليين للسواحل الأطلسية والمتوسطية في الشمال الإفريقي ، وإذا كان المغرب قد استطاع التصدي للحملة الإيبرية على شواطئه بفضل الدولة السعدية الناشئة، فان بلدان شمال إفريقيا الأخرى اختارت حلا مغايرا تجلى في استقدام قوة خارجية عن البلاد وهي القوة التركية، فأمام الصعوبات التي وجدها عروج بعد فشله في استخلاص قلعة الجزائر بعث بوفد إلى استانبول سنة 1519 محملا بالهدايا والبيعة للسلطان سليم الأول هذه البيعة التي لم يتردد السلطان العثماني في قبولها ؛ لأنها فتحت الطريق لهم بسهولة للوصول إلى الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط .10
ومقابل البيعة المذكورة تم تعيين خير الدين بعد مقتل أخيه عروج حاكما على جزائر الغرب، ومن ثم أصبحت شرعية الحاكم في الجزائر مرتبطة بالباب العالي11.
ومن هنا يمكننا القول : إن البدايات الأولى للعثمانيين بالشمال الإفريقي كانت نتيجة عملية الاستنجاد المقرونة بالبيعة الطوعية، وليست ناتجة عن الحرب والغزو، فالإدارة العثمانية لم يكن في نيتها ضم شمال إفريقيا بالقوة لأسباب مالية وعسكرية وطبيعية .
وبعد ضم خير الدين بمساعدة الأتراك تونس، بقي المغرب البلد الوحيد في الغرب الإسلامي الذي أفلت من التبعية العثمانية، ومن ثم يمكن تفسير طابع التوتر والحذر الذي ميز علاقات الدولتين .12
لقد أملت الوضعية السابقة الذكر على السلاطين المغاربة نهج سياية لم تراع كثيرا وضعية الانتماء لنفس الدار، لكن السياسة التي تمكن المغرب من الحفاظ على استقلاله عن الأتراك، ومن ثم تراوحت هذه العلاقة بين الحدة والتوتر من جهة، وبين التقارب والتعاون من جهة أخرى 13.
ونشير هنا إلى أن العثمانيين حاولوا منذ البداية اتباع سياسة الاحتواء اتجاه السلاطين السعديين الأوائل، وهذا ما تؤكده مضامين الرسائل العثمانية التي كانت تجس نبض هؤلاء من خلال طبيعة المخاطبة التي لم تكن تحمل أكثر من صفة لحاكم ولاية فاس، وهو ما كان يعتبر من منظور العثمانيين أن المغرب ولاية تابعة لهم14، ويتجلى ذلك أيضا في السفارة العثمانية إلى محمد الشيخ حين اقترحت عليه المساعدة لمحاربة المسيحيين مقابل الخطبة باسم السلطان العثماني15، والتي إن تحققت تعني ضمنيا تبعية المغرب للباب العالي.
ولعل هذه المحاولات العثمانية تنم عن وسيلة ذكية كانت تتوخى من ورائها تكرار النموذج الجزائري بالمغرب ، وهو ما رفضه السلطان المغربي، مما أغضب الباب العالي الذي دبر مؤامرة اغتياله.
وقد تريث العثمانيون خلال فترة حكم السلطان عبد الله الغالب ، إذ رفضوا دعم أخيه عبد الملك السعدي(1576/1578) الذي التجأ إلى الأراضي الجزائرية " إني لا أعينك على فتنة المسلمين ..." .
وقد تحكمت في مواقف عبد الله الغالب( 1557/1574) معطيات الصراع العثماني الأوربي، لكن وفاته جاءت قبل أن تكتمل سفارته إلى استانبول بقيادة التمكروتي16، لكن وعي العثمانيين أدى بهم إلى المراهنة على التدخل في الصراع الداخلي لصالح عبد الملك ضد المتوكل(1574/1576)، فدعموه بحملة انتهت بدخوله فاس وفرار المتوكل الذي لجأ إلى البرتغال .
وقد أغدق عبد الملك على الأتراك أموالا كثيرة ، وحملهم بأنواع من الهدايا مكافأة لهم، كما استمر في بعث الهدايا إلى القسطنطينية، وكان يلقي الخطبة باسم السلطان العثماني، ويسك النقود باسمه، وهذه كلها مظاهر تؤكد التبعية للباب العالي، كما أن الرسائل العثمانية للسلطان عبد الملك كانت تحضه على الجهاد والتعاون مع أمير الجزائر17، وقد ظل الباب العالي مساندا لعبد الملك السعدي، وهو ما يتجلى في مشاركة الأتراك في معركة واد المخازن بغض النظر عن طبيعة وحجم المشاركة.
لكن سرعان ما ستتغير الوضعية بعد انتصار السعديين في معركة واد المخازن ، فرغم أن المنصور (1578/1603) استمر في بعث الهدايا إلى الباب العالي، فقد دشن من جهة ملامح سياسة تختلف عن سابقه، فقد تلقب بالخليفة وأصبحت الخطبة تلقى باسمه، وكان هذا تأكيدا من أحمد المنصور على استقلالية المغرب عن الباب العالي .18
وقد استغل أحمد المنصور الأوضاع الدولية لصالحه، ولعب الورقة الإسبانية الرابحة، وهو الشيء الذي فطن له سيلفا الذي بعث رسالة إلى الملك فيليب الثاني سنة 1583 يقول فيها : " إن إمبراطور المغرب يسخر منا فهو متأرجح بين مصانعتنا ومصانعة الأتراك، فعندما يطالبه صاحب الجلالة بالعرائش يقول هيا بنا إلى الجزائر، وعندما يهدده الأتراك يقول هيا بنا إلى أسبانيا "19.
ولا شك أن التخوف العثماني من إمكانية قيام تحالف سعدي إسباني يعتبر في نظرنا من الأسباب التي جعلت العثمانيين لم يسعوا بتاتا إلى القيام بغزو شامل للمغرب، والدخول في مغامرة غير محتومة النتائج، خصوصا مع الوعي العثماني بان القوى الأوربية لن تقف صامتة إزاء مثل هذا المشروع الذي يهدد طموحاتها في السيطرة على الموارد الإفريقية انطلاقا من السواحل الأطلسية، كما نعتقد أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسمح الأوربيون لقوة بحرية واحدة بالسيطرة على الطرق التجارية المتوسطية والأطلسية في آن واحد.
كما أن بعد المسافة عن استانبول ووعورة تضاريس المنطقة وحتمية التحالف المغربي الأوروبي في مثل هذه الحالة قد يجعل المهمة صعبة إن لم نقل مستحيلة.
كما أن هذه الفترة تزامنت مع بداية التراجع العثماني عن مخططاتها التوسعية في غرب البحر الأبيض المتوسط ، خصوصا بعد فشل حملة مالطا، وتولي سليم الثاني(1566/1574) السلطة حيث بدأ العثمانيون عزوفا عن المجابهات مع الأوربيين وتوجهوا شرق الإمبراطورية20، ولعل ما يبرز هذا التراجع عدم تلقي المورسكيين أثناء محنتهم بالأندلس أي مساندة عثمانية خلال سنة 1568، فقد كانوا منشغلين بحملة قبرص21.
وقد ازداد هذا التراجع بعد حملة ليبانتو الفاشلة سنة1571على البندقية، فقد شكلت هذه المعركة بداية نهاية التفوق العثماني في حوض البحر الأبيض المتوسـط، وإن استطاعت الدولة العثمانية إعادة هيبتها عبـر انتصارها في حلق الوادي فإنها اعتمدت في ذلك على الدعم المحلي الكبير للجزائر وتونس21.
ولا شك أن المواجهات الثلاث السابقة قد استنزفت إلى حد كبير الدولة العثمانية ماديا وعسكريا، فكانت مضطرة إلى الدخول في مفاوضات مع إسبانيا لتحقيق الهدنة (وهذا ما حصل) والتفرغ لمواجهة الصفويين والثورات الداخلية.
هذه الهدنة مع الإسبان أدت إلى تخفيف الحدة بين الطرفين، وهو ما يعني استحالة التصعيد العثماني بالتفكير في غزو المغرب.
وساهمت هذه الهدنة من جانب آخر في توتير العلاقات بين ولايات الشمال الإفريقى عموما والسلطة المركزية العثمانية، إذ يبدو أن الولاة الجزائريين لم يكونوا راضين على هذه الهدنة، ويتجلى ذلك في استمرار تحرشاتهم ضد السفن الإسبانية في البحر الأبيض المتوسط ، وامتناعهم عن أداء مستحقاتهم المالية لاستانبول22. وهو الأمر الذي دعا إلى إقرار تجريء ولايات الشمال الإفريقي، ومع ذلك ظلت التوترات مستمرة بينهما.
يمكن القول : إن السلام العثماني الإسباني خدم بشكل كبير النزعة الاستقلالية في بلدان شمال إفريقيا التابعة للباب العالي .
لا شك أن الظروف السابقة والتي تزامنت مع مشاكل العثمانيين على الواجهة الصفوية وعلى واجهة أوروبا الشرقية، توضح أن غزو المغرب لم يكن ليحقق أي نفع للدولة العثمانية سوى إلحاق مزيد من الاستنزاف بها.
في ظل المعطيات المذكورة يمكننا التأكيد أن الرهان العثماني حول ضم المغرب كان يتوخى النموذج الجزائري ، أي أن الباب العالي كان يسعى إلى أخدها برغبة ومباركة من السلاطين المغاربة ، وهو ما لم يحصل .
وبالمقابل ألا يمكننا الحديث عن أطماع للشرفاء السعديين ومن بعدهم العلويين في التوسع على حساب الأراضي التركية بالمغرب الأوسط ، خاصة وأن الشريف السعدي كان قد نظم حملات وصلت إلى تلمسان، الأمر الذي أدى بالأتراك العثمانيين إلى نهج خطاب المهادنة (عزل أمير الجزائر )، ألا يفسر هذا الخطاب التخوف العثماني من خطر التوسع السعدي؟.
أليست فكرة رسم الحدود بين البلدين والتي طرحها العثمانيون تدخل في إطار هذا التخوف؟ وكيف لا تتناقض فكرة الحدود مع الأعراف التي يؤطرها مبدأ وحدة دار الإسلام ؟
والى أي حد تجيب مسالة الحدود التي طرحها العثمانيون على إشكالية عدم ضم الأتراك للمغرب ؟ بمعنى آخر أن من يطرح مسالة الحدود لا يمكن أن يفكر في الغزو؟ .
تؤكد مجموعة من الكتابات التاريخية أن فكرة الحدود السياسية دخيلة على المنطقة المغاربية، وأن الفهم الذي كان سائدا خلال هذه الفترة هو أن دار الإسلام مجال جغرافي وفضاء حضاري يحق للمسلم أن يستوطن في مختلف جهاته، وأن الحدود لا يمكن أن تكون إلا بين دار الإسلام ودار الحرب23. فإلى أي حد يمكن اعتبار فكرة ترسيم الحدود سلوكا جديدا في تاريخ العلاقات المغربية العثمانية ؟
لقد كان الباب العالي يتخوف كثيرا من مسالة التوسع المغربي على الواجهة الغربية الجزائرية ، خصوصا وأنهم يتمتعون بالشرعية الجهادية التي منحتهم تعاطفا من القبائل الجزائرية، بالإضافة إلى شرعية النسب الشريف الذي أعطاهم الأولوية لدى العامة.
لذا حرص العثمانيون على عنصر الحدود، فكيف تم إقرار هذا العنصر في العلاقات المغربية بالأتراك في المغرب الأقصى ؟ .
لقد كان المغرب دائما يسعى إلى توسيع نفوذه شرقا، وهذا ما تجلى في كثرة الحملات العسكرية خصوصا في بدايات الحكم العلوي، وهو ما كانت السلطة التركية على وعي كبير به، لذلك كان الأتراك هم السباقين لطرح مسالة الحدود بين الطرفين، متجاوزين بذلك الفكرة السائدة عن رفض الإسلام تقسيم تراب البلدان الإسلامية، وقد استطاعت البعثة التركية إقناع الشريف محمد العلوي (1636/1664) بفكرة رسم الحدود بين المغرب والولاية التركية، وانتزعوا منه أول تعهد مكتوب بذلك، لكن الملوك العلويين ظلوا مقتنعين بإمكانية ضم مناطق على الواجهة الشرقية وهو ما تجلى في كثرة الحملات خصوصا في عهد المولى الرشيد (1666/1672) والمولى إسماعيل (1672/1727)، في حين لوح الأتراك الجزائريون بورقة الحدود واعتمدوها كسبيل لإيقاف هذه التهديدات23.
ويوحي التمسك التركي بواد تافنا كحد فاصل بين الطرفين اعتبار هؤلاء الاتفاق مع المولى محمد حجة قانونية أشهروها في وجه المولى إسماعيل 24.
خلاصة الأمر يمكننا القول : إن الأتراك حاولوا منذ العهد السعدي تطويق موقف الشرفاء بخطة الحدود المرسومة ؛ حتى يمكن حصر نفوذهم بالمغرب الأقصى، وإن فشلوا في بداية الأمر مع السعديين فإنهم نجحوا مع العلويين.
والواقع أن طموحات الشرفاء كانت تهدف إلى إحياء مشروع الإمبراطورية الموحدية الكبرى ، وقد يكون إحساسهم بالانتماء لآل البيت الدافع الأساسي لهذا المشروع ، وهو الأحقية في الخلافة الإسلامية...ولعل هذا ماجعل البعض يعتبر الصراع بين السعديين والعثمانيين صراعا حول الخلافة ، فهي تتجاوز بذلك مسالة الحدود .25
فالعماري يرى أن الخلاف بين الشرفاء والأتراك لم يكن في عمقه يدور حول مشكلة الحدود، وإنما كان يدور حول مسالتين أساسيتين
أولا: أحقية الخلافة التي كان السعديون والعلويين يعتبرون أنفسهم أحق بها من الأتراك ، وينظرون إلى هؤلاء كمغتصبين للخلافة.
ثانيا: وحدة المغرب العربي التي كانت تبدو ضرورة تاريخية وقومية.26
لقد كانت السلطة العثمانية على وعي بهذين المبدأين....لذلك حاول الأتراك تطويق موقف الشرفاء بخطة سياسة الحدود.
وهذا يعني أن العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين تحكم فيها بقوة الصراع حول أحقية الخلافة .
فالعثمانيون امتلكوا مفاتيح الكعبة بتأييد شريف مكة أبو البركات27، فأصبح السلطان حامي الحرمين الشريفين وراعيا للحجاج المسلمين، بالإضافة إلى ذلك أصبحت الدولة العثمانية الحامل لراية الجهاد ، خصوصا بعد عجز المماليك عن مواجهة الإفرنج ، فتقوضت بذلك زعامتهم نهائيا كحماة للإسلام28، ومن هنا اكتسب العثمانيون أحقية الزعامة والقيادة، ومنحهم ذلك تأييد الزعامات المحلية في غالبية البلاد العربية، ومنها المغرب وهكذا نجد الفقيه ابن أبي محلي يصف السلطان أحمد العثماني بملك البحرين وإمام الحرمين الشريفين، ويرى في العثمانيين عصابة الجهاد في الحروب ، ولذلك استنفرهم للجهاد ضد من كان يسميهم عبدة الصليب،29 كما أن الحجري خصص للأتراك مكانة متميزة في رحلته "ناصر الدين على القوم الكافرين " إذ تحدث بإعجاب كبير عن دولتهم ودورهم في صيانة دار الإسلام، واعتبرهم القوة الوحيدة القادرة على مواجهة المد الأوربي " وكل واحد من السلاطين النصارى يرتعد ويخاف من سلاطين الإسلام والدين المجاهدين في سبيل رب العالمين ....وهم السلاطين الفضلا العظما ..العثمانيون التركيون ..".30
وإذ كان السلاطين المغاربة يشتركون مع العثمانيين في القيام بواجب الجهاد فإنهم ارتكزوا على النسب الشريف الذي له دلالة خاصة في مسالة شرعية الخلافة، لكن التساؤل الذي يطرح نفسه بقوة هو لماذا كان السلاطين الأشراف يلجئون في بعض الأحيان إلى الدعاء للعثمانيين على المنابر؟ ومن ثم نتساءل هل كان هذا الاعتراف وسيلة لقطع الطريق على أي تدخل عثماني محتمل، أم أنه ناجم عن قناعة بوجوب وحدة دار الإسلام . ؟
إن الصراع حول الخلافة تحكم في كثير من الأحيان في نوعية العلاقات بين الطرفين إلى حد كبير ، ونذكر على سبيل المثال:
* اتخاذ المنصور لقب الخليفة وأمير المؤمنين بعد توليه السلطة، مما أثار حفيظة العثمانيين ، خاصة عندما استقبل سفارة من ملك بورنو إدريس ألوما الذي بحث عن دعم عسكري لمواجهة أعدائه الصونغاي. يقول القشتالي :
" … ورد الرسول ...إلى الأبواب العلية المشرفة فوافق أمير المؤمنين بحضرته العلية مراكش دار الخلافة ، فأزاح اللبس وبين الغرض فصدع لهم أمير المؤمنين … وطالبهم بالمبايعة له والدخول في دعوته المباركة التي أوجب الله عليهم … وقرر لهم … أن الجهاد الذي ينقلونه ويظهرون الميل إليه ،لا يتم لهم فرصة ولا يكتب إليهم عمله، ما لم يستندوا في أمرهم إلى إمام الجماعة الذي اختصه الله إلى يوم الدين بوصفه الشريف … وعلق لهم أيده الله الإمداد على الوفاء بهذا الشرط فالتزمه الرسول " وموازاة مع ذلك قام الأتراك بتقديم الدعم العسكري لإمبراطورية الصونغاي ، وهذا لاشك يدخل في إطار الصراع الخفي حول الخلافة وزعامة العالم الإسلامي .31
ونجد هذا الصراع الخفي حتى في رحلة التمكروتي التي دونها بعد سفارته إلى استانبول، إذ يقول : "والترك جاروا على أهل تلك البلاد وأفسدوها ، وضيقوا على أهلها في أرضهم وديارهم وأموالهم ..إلى غير ذلك من الذل والإهانة ..هذا وأهل أفريقية....في كثرة اشتياقهم وحنينهم إلى حكم موالينا الشرفاء. تالله لقد كنا من تحدثنا معه من خيار أهل تونس وأعيان مصر الذين لقيناهم بالقسطنطينية يبكون على ذلك ...ويودون لو وجدوا سبيلا إلى الانتقال إلى المغرب والتخلص إليه لاشتروه بالدنيا ومافيها .."32
إن هذا الموقف يوضح ما كان بين الكيانين من تنافس وصراع حول ولايات الشمال الإفريقي، وكان خطاب التمكروتي أكثر وضوحا في مسالة الأحقية في الخلافة، يقول : " والعثمانيون من جملة ..الموالي الذين دافع الله بهم على المسلمين، وجعلهم حصنا وسورا للإسلام ، وإن كان أكثرهم وأكثر أتباعهم ممن يصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ، وإنما كانوا حملوا الإمارة وقلدوا الأمر في الحقيقة نيابة وأمانة يؤدونها إلى من هو أحق بها .. وهم موالينا الشرفاء ملوك بلاد المغرب الذين شرفت بهم الإمامة والخلافة ، وكل مسلم لا يقول عكس هذا ولا خلافه .. وقد اجتمع المسلمون على أن الإمامة لا تنعقد إلا لمن هو من صحيح قريش، لقوله صلى الله عليه وسلم : "الخلافة في قريش " وكون ملوك المغرب أولى بهم من غيرهم "33
من هذه النصوص نستنتج أن التمكروتي لم ينكر دور العثمانيين في نشر الإسلام، لكنه ينتقل إلى مستوى ثان في التحليل وهو أن العثمانيين جائرون لم يلتزموا العدل بين الرعية ، ثم ينتقل إلى المقصود وهو من الأحق بالخلافة؟، فالتمكروتى كفقيه كان واعيا يضرورة التبعية لسلطة سياسية واحدة وهي الخلافة الإسلامية التي كان يراها من حق الشرفاء السعديين.34
ولعل مسالة تشوف سكان شمال إفريقيا إلى حكم شرفاء المغرب تثير أكثر من سؤال ، فإذا كان الأمر كذلك يقول الدكتور الغاشى لماذا لم يتوجه سكان هذه المناطق إلى طلب التدخل المغربي بدل التدخل العثماني لمواجهة الغزو الإيبري ؟ ثم هل يتطابق تصريح التمكروتي مع أهداف مهمته الدبلوماسية ؟ 35
ولعل هذا ما دفع الدكتور حسن ابراهيم شحادة إلى الاعتقاد بان الرحلة كانت تعكس العلاقات المغربية العثمانية خلال فترة حكم المولى إسماعيل ، والتي تزامنت مع فترة كتابة النسخة المتداولة حاليا، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بان الرحلة قد خضعت لبعض التغييرات.36
ومهما يكن فان هذا يعكس بوضوح الصراع الخفي حول موضوع شرعية الخلافة بين العثمانيين والمغاربة.
2- العلاقات المغربة العثمانية : من المواجهة والصراع إلى التعاون .
بوفاة المولى إسماعيل سنة1727 انتهت حقبة من العداء والحذر في علاقات المغرب الخارجية، خصوصا مع العثمانيين الأتراك، و بدا التغير تدريجيا في سياسة البلدين من التوتر والمواجهة إلى المهادنة والتعاون.
ويتجلى ذلك بداية في التبعية التامة التي أعلنها السلطان المولى عبد الله (1728/1757) للباب العالي، وذلك في رسالة تقول " وأنا أخطب بك في مساجد الجمعة والأعياد كما فعل والدنا مع أسلافكم الجياد ، ولولا أن الغرب صعب المرام ، لاستعملت أقدام الأقدام إلى حضرة ذلك الهمام فهو جدير أن يجعلني من أحبائه، وأن يحمل علي من هذا الخطب عظيم أعبائه، ولبذلت المجهود والمقصود ".37
وإن كان هذا المقتطف يثير قضايا كبرى ومستعصية على الجواب...بين ما له علاقة بالجانب الواقعي في الرسالة وماله علاقة بالجانب الدبلوماسي.38
وباستثناء هذه الرسالة فإن فترة الأزمة السياسية تميزت عموما بانشغال العثمانيين بحروبهم مع روسيا وحلفائها، والمغاربة بخلافاتهم حول السلطة.39
إلا أن العلاقات بين الدولتين المغربية والعثمانية شهدت انقلابا في مسارها خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وذلك بعد تولي السلطان المولى محمد بن عبد الله (1757-1790)الحكم، حيث دشن قطيعة حقيقية مع الماضي، إذ نهج سياسة انفتاحية شاملة40، خصوصا مع الإمبراطورية العثمانية، فأصبح التضامن الإسلامي هو المؤطر الجديد للعلاقات المغربية العثمانية خلال هذه الفترة.41
ترى ما هي الأسباب التي ساهمت في تغير نوعية العلاقات بين السلطتين ؟
وماهي الملامح الكبرى لهذه التحولات؟ وإلى أي مدى عكست هذه العلاقات الجديدة ضرورات المرحلة ؟ وماهي المشاكل التي وقفت في طريقها ؟ وكيف تعامل معها الطرفان المغربي والعثماني؟
إن التحولات الكبرى التي عرفتها أوربا خلال أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر جعلت البلدين يحسان بالضعف والخطر نتيجة انقلاب ميزان القوى لصالح دار الحرب، وقد تجلى هذا التقارب في مستويات عديدة منها:
أولا: ازدهار الدبلوماسية المغربية والسفارات في اتجاه الدول الأوربية 42، والتي اتخذت من موضوع تحرير أسرى المسلمين محركا أساسيا لها،43 وهذا ما يفسر المبالغ المالية الكبيرة التي أنفقت عليها44.وكانت عملية افتداء الأسرى عامة شملت المغاربة وأسرى رعايا الدولة العثمانية، وقد أظهرت هذه الخطوة السلطان محمد بن عبد الله بمظهر المتضامن مع إخوانه في الدين والساعي إلى خدمة الإسلام والمسلمين.45
ثانيا: بداية التعاون العسكري بين الدولتين هو نتاج للظروف الصعبة التي كان يجتازها الطرفان في صراعهما مع دار الحرب، ففي المغرب كان سيدي محمد بن عبد الله قد أعلن الجهاد من أجل تحرير بعض الثغور المحتلة... أما الدولة العثمانية فقد دخلت منذ 1768 في حرب مع روسيا,46 وقد تمثل هذا التعاون في إرسال المغرب للعتاد الحربي للعثمانيين والعكس47، وكان ذلك يدخل في إطار باب الجهاد وتحرير الثغور.48
ثالثا: تقديم المساعدات المالية التي كانت تدخل ضمن نصرة القضية الكبرى وهي التصدي للخطر المسيحي ضد الدولة الإسلامية49، وافتداء الأسرى من رعايا الدولة العثمانية50 ،فقد أرسل المولى محمد بن عبد الله أموالا كثيرة للباب العالي اظهر بها مشاركته في الجهاد وأنه يمكن أن يعول عليه أكثر من داي الجزائر الذي لم يستطع تقديم أي شيء.51
رابعا: الدعم الديبلوماسي : والذي يتجلى في توزيع السلطان محمد بن عبد الله منشورات على القنصليات الأجنبية بالمغرب سنة 1788 ، توضح موقف المغرب من الروس والنمساويين أعداء العثمانيين .52
خامسا: الدعم المعنوي والروحي والذي تجلى في إقرار السلطان المغربي تعميم الدعاء للسلطان العثماني يوم الجمعة بالنصر على أعدائه الروس53. ..
وهكذا تشير المصادر المغربية إلى أن صلوات الجمعة في المغرب خلال هذه المرحلة كانت تعقبها دعوة" اللهم انصر السلطان عبد الحميد(1774/1789) وجنوده....وكن معه حيث يكون واستعمله بطاعتك في كل حركة وسكون ...وأنزل السكينة على المسلمين واجمع كلمتهم، حتى يكونوا على عدوهم"54.
وكان أيضا من بين الحسابات التي تحكمت في سياسة السلطان محمد بن عبد الله محاولته كسب الباب العالي ليمارس ضغطه على أتباعه في ديوان الجزائر، نظرا للمشاكل التي ظل هؤلاء يثيرونها ملحقين بذلك أضرارا جسيمة بمصالح السلطان ومخططاتها السياسية والاقتصادية.
ولذلك فقد احتل موضوع أتراك الجزائر خلال هذه الفترة جزءا كبيرا في العلاقات المغربية العثمانية، ويؤكد ذلك كثرة المراسلات المغربية بشان هذا الموضوع إلى الباب العالي، ومنها سفارة ابن عثمان المكناسي التي كانت تدخل في إطار الحرب الدبلوماسية ضد أتراك الجزائر ؛ بغية استمالة الباب العالي وتشويه صورة الداي وديوانه ...بإظهار إهمالهم لأسراهم وتقاعسهم عن الجهاد ..ومن هنا نفهم افتكاك محمد بن عبد الله لأعداد كبيرة من أسرى الجزائر وإرسالهم إلى القسطنطينية 55.
وقد نجحت مساعي السلطان المغربي نسبيا في تحقيق هذا الهدف، وهو ما يمكن أن نفسر به عتاب الباب العالي لوالي الجزائر على عدم قبول شفاعة السلطان المغربي في فك الأسيرتين الإسبانيتين ( زوجة وابنة الحاكم الإسباني للمرسى الكبير) وهو الذي افتك مئات من أسرى الجزائر، وقد كان الملك الإسباني كارلوس الثالث طلب من السلطان المغربي التدخل عند الداي الجزائري لفك سراح بعض الأسرى ومنهم الأسيرتين المذكورتين56.
وإذا كانت العلاقات المغربية العثمانية قد شهدت تحسنا كبيرا خلال هذه الفترة، وهو الشيء الذي يمكن أن نفسر به كثرة السفارات بين البلدين، فإنه على العكس من ذلك بالنسبة للأيالة الجزائرية، فالصراع استمر ولم ينقطع، مما يجعلنا نتساءل عن مدى خضوع هذه الأيالة للباب العالي خلال هذه الفترة تحديدا ؟ والى أي حد كان هذا الصراع المحلي يؤثر في الفكرة الجديدة للتعاون المغربي العثماني ؟
لقد تسبب الأتراك في مشاكل كثيرة للسلطان المغربي سواء في علاقاته مع الباب العالي أو في علاقاته مع الدول الأوربية خصوصا أسبانيا التي عقد معها معاهدة الصلح والتجارة، فقد كانت القرصنة البحرية الجزائرية ضد السفن الأجنبية في السواحل المغربية، تحرج المغرب مع إسبانيا وتهدد العلاقة السلمية بينهما .
كما أن داي الجزائر تراجع عن اتفاقه مع السلطان بشان العملية المشتركة ضد الثغور المحتلة بكل من المغرب والجزائر، مما أظهر الداي بمظهر الخائن والمتقاعس عن الجهاد57.
وبعد استرجاع المغرب للجديدة ودعوة السلطان للجهاد، والتأثير الإيجابي لعملية تحرير الأسرى الجزائريين من طرف السلطان، جعلته يحضى بشعبية واسعة و بتعاطف وولاء ساكنتها الذين ابدوا حماسا كبيرا للمشاركة إلى جانب المغرب في الجهاد ضد الوجود الإسباني بالسواحل المتوسطية، وقد راسلوه كثيرا للتدخل في الأيالة الجزائرية، ولولا احترام السلطان وتقديره للعثمانيين لأخذ أيالة الجزائر58.
وقد بقي السلطان محمد بن عبد الله رغم مشاكل الأيالة الجزائرية وفيا لعلاقات الود التي ربطها مع الباب العالي إلى آخر أيامه .
أما في عهد المولى سليمان(1792/1822) فقد شهدت هذه العلاقات نوعا من التراجع في مجال التعاون، ربما بسبب سياسة الاحتراز والانغلاق التي سلكها هذا الأخير في علاقاته الخارجية.
فقد طلب الباب العالي من المولى سليمان الانضمام إليه لمحاربة فرنسا59 ، حيث بعث له رسالة تؤكد على أواصر الدين والرابطة الإسلامية التي تجمعه بالسلطان المولى سليمان "..أخانا في الله وصنونا في دين محمد بن عبد الله " 60
ولم يكن هناك تجاوبا إيجابيا للسلطان المغربي مع مطلب الحكومة العثمانية، وذلك حرصا منه على موقف الحياد الذي نهجه اتجاه الخلافات الدولية .
وخلال فترة القرن التاسع عشر، ارتكزت العلاقات المغربية العثمانية على فكرة الإصلاح والتعاون خصوصا في مجال الخبرة العسكرية، ففكرة تحديث الجيش التي شرع فيها السلطان عبد الرحمن ابن هشام (1859/1822) وابنه محمد (1859/1873).. قد تمت بمساعدة تركية، كما أن مسالة التعاون تحكمت فيها ظرفية الصراع الدولي.61
وقد تطورت فكرة التعاون بعد ذلك بين الإمبراطورية العثمانية والدولة المغربية ، حيث أصبح الحديث منذ نهاية القرن التاسع عشر وخصوصا بعد انهزام العثمانيين أمام الروس يتجه إلى تقوية التعاون ضمن خطاب التضامن الإسلامي، أو ما اصطلح عليه مفهوم الجامعة الإسلامية المبكرة ، وذلك في عهد عبد الحميد الثاني (1876/1908).62
ويبدو أن النية والرغبة في التعاون وتطوير العلاقات بما ينفع مصلحة دار الإسلام كانت صادقة بين الطرفين إلا أن الظروف الدولية حالت دون تحقيق ذلك.63
وكخلاصة لهذا الموضوع فإن العلاقات بين المغرب والدولة العثمانية تحكمت فيها إلى درجة كبيرة الثقافة الدبلوماسية، التي من خلالها يمكن استيعاب مظاهر الصراع والخلاف وأيضا التعاون في هذه العلاقات.
فالفرضية القائمة على تأكيد البعد الإسلامي في علاقة البلدين دار إسلام دار إسلام والفرضية الأخرى التي تعتبر أن هذه العلاقات لا تختلف مبدئيا عن العلاقات بين الدول الأخرى فيما بينها لم تستطيعا استيعاب الخلافات القوية والصراعات الطويلة وكذا مظاهر التعاون التي عرفها الطرفان، فإذا كانت الدولتان المغربية والعثمانية تقتسمان مفاهيم مركزية مشتركة في ثقافتهما ، فان دخول عناصر أخرى على الخط مثل صورة الآخر وضرورات المرحلة وطموحات الوطن تساعدنا على إعطاء معنى لفترات التعاون ، وكذلك لبعض أنواع الصراع التي ظلت غير مفهومة.64
1 - العلاقات المغربية العثمانية: مرحلة الصراع والتوتر.
تطرح العلاقات المغربية العثمانية إشكالية مزدوجة فمن جهة:
هناك قلة المصادر والتي يوجد غالبها في الإرشيف العثماني، ومن جهة ثانية نوع المقاربة التي يمكن تبنيها من أجل فهم هذه العلاقات.1
إن علاقات المغرب مع الدولة العثمانية تكتسي أهمية خاصة، باعتبار أن المغرب ظل البلد الوحيد من بلدان العالم العربي الذي أفلت من الخضوع للإمبراطورية التركية2، كما أن المغرب كان يمثل مسرحا للصراع بين المسيحية ممثلة في الدول الأوربية، والإسلام ممثلا في دولة الخلافة العثمانية 3 .
وتزداد أهمية العلاقة المغربية العثمانية بالنظر إلى التقارب المذهبي والديني الذي ميز الطرفين (الانتماء إلى المذهب السني ).
كيف يمكن إدراك هذه العلاقات الغنية والمعقدة إلى درجة التناقض؟ والتي تشوبها أحيانا صراعات لكن تفضي أحيانا أخرى إلى نوع من الثقة المتبادلة5 ؟وما هي الميكانيزمات التي تحكمت في هذه التناقضات؟وكيف تطورت العلاقات بين الطرفين ؟ .
لا يمكن فهم طبيعة العلاقات المغربية العثمانية إلا في ظل نوعية العلاقات التي ربطت دار الإسلام / دار الإسلام6، فالمغرب والدولة العثمانية ينتميان إلى نفس المنظومة الدينية والمذهبية (إسلامية سنية) وهو الأمر الذي يعطي لموضوع العلاقات المغربية العثمانية تميزا عن نوعية العلاقات التي جمعته مع الدول الأوربية.7
وإذا كان كل من الشرفاء المغاربة والعثمانيين اكتسبوا حظوة ونفوذا على أساس قيامهما بالجهاد ضد الكافر، فقد حاول كل طرف فرض هيمنته على الطرف الآخر تحت هذا الشعار، لكن الفرق هو أن العثمانيين بفضل ما توفر لهم من موارد وإمكانات دخلوا عالم الإمبراطوريات بخلاف المغرب، فالدولة العثمانية استطاعت أن ترقى إلى المستوى الآخر الأوربي، وظل المغرب حبيس مشاكله الداخلية، ويبقى السؤال المطروح هو لماذا لم تعمل الإمبراطورية العثمانية على إخضاع المغرب بدعوى وحدة الأمة؟.
هل الأمر يتعلق بما يفرضه الامتثال للشريعة الإسلامية، والمتمثل في أن الفتح لا يمكن أن يشمل دار الإسلام ، وان الحرب لا يمكن أن تكون موجهة سوى ضد الكفار كما ذهب إلى ذلك الأستاذ بنحادة ، والحال أن المغرب بلد إسلامي8 أم أن الأمر تحكمت فيه عوامل أخرى ؟
للجواب على هذه الإشكالية لابد من العودة إلى أواخر القرن الخامس عشر، حيث عرف عالم البحر الأبيض المتوسط مرحلة مهمة جدا تجلت في بدء التفوق الأوربي في مجال التقنيات الحربية والبحرية، وهو الأمر الذي ساهم في تغيير ميزان القوى بين الضفتين دار الإسلام ودار الحرب.9
وكان من نتائج هذا التفوق احتلال الإسبان والبرتغاليين للسواحل الأطلسية والمتوسطية في الشمال الإفريقي ، وإذا كان المغرب قد استطاع التصدي للحملة الإيبرية على شواطئه بفضل الدولة السعدية الناشئة، فان بلدان شمال إفريقيا الأخرى اختارت حلا مغايرا تجلى في استقدام قوة خارجية عن البلاد وهي القوة التركية، فأمام الصعوبات التي وجدها عروج بعد فشله في استخلاص قلعة الجزائر بعث بوفد إلى استانبول سنة 1519 محملا بالهدايا والبيعة للسلطان سليم الأول هذه البيعة التي لم يتردد السلطان العثماني في قبولها ؛ لأنها فتحت الطريق لهم بسهولة للوصول إلى الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط .10
ومقابل البيعة المذكورة تم تعيين خير الدين بعد مقتل أخيه عروج حاكما على جزائر الغرب، ومن ثم أصبحت شرعية الحاكم في الجزائر مرتبطة بالباب العالي11.
ومن هنا يمكننا القول : إن البدايات الأولى للعثمانيين بالشمال الإفريقي كانت نتيجة عملية الاستنجاد المقرونة بالبيعة الطوعية، وليست ناتجة عن الحرب والغزو، فالإدارة العثمانية لم يكن في نيتها ضم شمال إفريقيا بالقوة لأسباب مالية وعسكرية وطبيعية .
وبعد ضم خير الدين بمساعدة الأتراك تونس، بقي المغرب البلد الوحيد في الغرب الإسلامي الذي أفلت من التبعية العثمانية، ومن ثم يمكن تفسير طابع التوتر والحذر الذي ميز علاقات الدولتين .12
لقد أملت الوضعية السابقة الذكر على السلاطين المغاربة نهج سياية لم تراع كثيرا وضعية الانتماء لنفس الدار، لكن السياسة التي تمكن المغرب من الحفاظ على استقلاله عن الأتراك، ومن ثم تراوحت هذه العلاقة بين الحدة والتوتر من جهة، وبين التقارب والتعاون من جهة أخرى 13.
ونشير هنا إلى أن العثمانيين حاولوا منذ البداية اتباع سياسة الاحتواء اتجاه السلاطين السعديين الأوائل، وهذا ما تؤكده مضامين الرسائل العثمانية التي كانت تجس نبض هؤلاء من خلال طبيعة المخاطبة التي لم تكن تحمل أكثر من صفة لحاكم ولاية فاس، وهو ما كان يعتبر من منظور العثمانيين أن المغرب ولاية تابعة لهم14، ويتجلى ذلك أيضا في السفارة العثمانية إلى محمد الشيخ حين اقترحت عليه المساعدة لمحاربة المسيحيين مقابل الخطبة باسم السلطان العثماني15، والتي إن تحققت تعني ضمنيا تبعية المغرب للباب العالي.
ولعل هذه المحاولات العثمانية تنم عن وسيلة ذكية كانت تتوخى من ورائها تكرار النموذج الجزائري بالمغرب ، وهو ما رفضه السلطان المغربي، مما أغضب الباب العالي الذي دبر مؤامرة اغتياله.
وقد تريث العثمانيون خلال فترة حكم السلطان عبد الله الغالب ، إذ رفضوا دعم أخيه عبد الملك السعدي(1576/1578) الذي التجأ إلى الأراضي الجزائرية " إني لا أعينك على فتنة المسلمين ..." .
وقد تحكمت في مواقف عبد الله الغالب( 1557/1574) معطيات الصراع العثماني الأوربي، لكن وفاته جاءت قبل أن تكتمل سفارته إلى استانبول بقيادة التمكروتي16، لكن وعي العثمانيين أدى بهم إلى المراهنة على التدخل في الصراع الداخلي لصالح عبد الملك ضد المتوكل(1574/1576)، فدعموه بحملة انتهت بدخوله فاس وفرار المتوكل الذي لجأ إلى البرتغال .
وقد أغدق عبد الملك على الأتراك أموالا كثيرة ، وحملهم بأنواع من الهدايا مكافأة لهم، كما استمر في بعث الهدايا إلى القسطنطينية، وكان يلقي الخطبة باسم السلطان العثماني، ويسك النقود باسمه، وهذه كلها مظاهر تؤكد التبعية للباب العالي، كما أن الرسائل العثمانية للسلطان عبد الملك كانت تحضه على الجهاد والتعاون مع أمير الجزائر17، وقد ظل الباب العالي مساندا لعبد الملك السعدي، وهو ما يتجلى في مشاركة الأتراك في معركة واد المخازن بغض النظر عن طبيعة وحجم المشاركة.
لكن سرعان ما ستتغير الوضعية بعد انتصار السعديين في معركة واد المخازن ، فرغم أن المنصور (1578/1603) استمر في بعث الهدايا إلى الباب العالي، فقد دشن من جهة ملامح سياسة تختلف عن سابقه، فقد تلقب بالخليفة وأصبحت الخطبة تلقى باسمه، وكان هذا تأكيدا من أحمد المنصور على استقلالية المغرب عن الباب العالي .18
وقد استغل أحمد المنصور الأوضاع الدولية لصالحه، ولعب الورقة الإسبانية الرابحة، وهو الشيء الذي فطن له سيلفا الذي بعث رسالة إلى الملك فيليب الثاني سنة 1583 يقول فيها : " إن إمبراطور المغرب يسخر منا فهو متأرجح بين مصانعتنا ومصانعة الأتراك، فعندما يطالبه صاحب الجلالة بالعرائش يقول هيا بنا إلى الجزائر، وعندما يهدده الأتراك يقول هيا بنا إلى أسبانيا "19.
ولا شك أن التخوف العثماني من إمكانية قيام تحالف سعدي إسباني يعتبر في نظرنا من الأسباب التي جعلت العثمانيين لم يسعوا بتاتا إلى القيام بغزو شامل للمغرب، والدخول في مغامرة غير محتومة النتائج، خصوصا مع الوعي العثماني بان القوى الأوربية لن تقف صامتة إزاء مثل هذا المشروع الذي يهدد طموحاتها في السيطرة على الموارد الإفريقية انطلاقا من السواحل الأطلسية، كما نعتقد أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسمح الأوربيون لقوة بحرية واحدة بالسيطرة على الطرق التجارية المتوسطية والأطلسية في آن واحد.
كما أن بعد المسافة عن استانبول ووعورة تضاريس المنطقة وحتمية التحالف المغربي الأوروبي في مثل هذه الحالة قد يجعل المهمة صعبة إن لم نقل مستحيلة.
كما أن هذه الفترة تزامنت مع بداية التراجع العثماني عن مخططاتها التوسعية في غرب البحر الأبيض المتوسط ، خصوصا بعد فشل حملة مالطا، وتولي سليم الثاني(1566/1574) السلطة حيث بدأ العثمانيون عزوفا عن المجابهات مع الأوربيين وتوجهوا شرق الإمبراطورية20، ولعل ما يبرز هذا التراجع عدم تلقي المورسكيين أثناء محنتهم بالأندلس أي مساندة عثمانية خلال سنة 1568، فقد كانوا منشغلين بحملة قبرص21.
وقد ازداد هذا التراجع بعد حملة ليبانتو الفاشلة سنة1571على البندقية، فقد شكلت هذه المعركة بداية نهاية التفوق العثماني في حوض البحر الأبيض المتوسـط، وإن استطاعت الدولة العثمانية إعادة هيبتها عبـر انتصارها في حلق الوادي فإنها اعتمدت في ذلك على الدعم المحلي الكبير للجزائر وتونس21.
ولا شك أن المواجهات الثلاث السابقة قد استنزفت إلى حد كبير الدولة العثمانية ماديا وعسكريا، فكانت مضطرة إلى الدخول في مفاوضات مع إسبانيا لتحقيق الهدنة (وهذا ما حصل) والتفرغ لمواجهة الصفويين والثورات الداخلية.
هذه الهدنة مع الإسبان أدت إلى تخفيف الحدة بين الطرفين، وهو ما يعني استحالة التصعيد العثماني بالتفكير في غزو المغرب.
وساهمت هذه الهدنة من جانب آخر في توتير العلاقات بين ولايات الشمال الإفريقى عموما والسلطة المركزية العثمانية، إذ يبدو أن الولاة الجزائريين لم يكونوا راضين على هذه الهدنة، ويتجلى ذلك في استمرار تحرشاتهم ضد السفن الإسبانية في البحر الأبيض المتوسط ، وامتناعهم عن أداء مستحقاتهم المالية لاستانبول22. وهو الأمر الذي دعا إلى إقرار تجريء ولايات الشمال الإفريقي، ومع ذلك ظلت التوترات مستمرة بينهما.
يمكن القول : إن السلام العثماني الإسباني خدم بشكل كبير النزعة الاستقلالية في بلدان شمال إفريقيا التابعة للباب العالي .
لا شك أن الظروف السابقة والتي تزامنت مع مشاكل العثمانيين على الواجهة الصفوية وعلى واجهة أوروبا الشرقية، توضح أن غزو المغرب لم يكن ليحقق أي نفع للدولة العثمانية سوى إلحاق مزيد من الاستنزاف بها.
في ظل المعطيات المذكورة يمكننا التأكيد أن الرهان العثماني حول ضم المغرب كان يتوخى النموذج الجزائري ، أي أن الباب العالي كان يسعى إلى أخدها برغبة ومباركة من السلاطين المغاربة ، وهو ما لم يحصل .
وبالمقابل ألا يمكننا الحديث عن أطماع للشرفاء السعديين ومن بعدهم العلويين في التوسع على حساب الأراضي التركية بالمغرب الأوسط ، خاصة وأن الشريف السعدي كان قد نظم حملات وصلت إلى تلمسان، الأمر الذي أدى بالأتراك العثمانيين إلى نهج خطاب المهادنة (عزل أمير الجزائر )، ألا يفسر هذا الخطاب التخوف العثماني من خطر التوسع السعدي؟.
أليست فكرة رسم الحدود بين البلدين والتي طرحها العثمانيون تدخل في إطار هذا التخوف؟ وكيف لا تتناقض فكرة الحدود مع الأعراف التي يؤطرها مبدأ وحدة دار الإسلام ؟
والى أي حد تجيب مسالة الحدود التي طرحها العثمانيون على إشكالية عدم ضم الأتراك للمغرب ؟ بمعنى آخر أن من يطرح مسالة الحدود لا يمكن أن يفكر في الغزو؟ .
تؤكد مجموعة من الكتابات التاريخية أن فكرة الحدود السياسية دخيلة على المنطقة المغاربية، وأن الفهم الذي كان سائدا خلال هذه الفترة هو أن دار الإسلام مجال جغرافي وفضاء حضاري يحق للمسلم أن يستوطن في مختلف جهاته، وأن الحدود لا يمكن أن تكون إلا بين دار الإسلام ودار الحرب23. فإلى أي حد يمكن اعتبار فكرة ترسيم الحدود سلوكا جديدا في تاريخ العلاقات المغربية العثمانية ؟
لقد كان الباب العالي يتخوف كثيرا من مسالة التوسع المغربي على الواجهة الغربية الجزائرية ، خصوصا وأنهم يتمتعون بالشرعية الجهادية التي منحتهم تعاطفا من القبائل الجزائرية، بالإضافة إلى شرعية النسب الشريف الذي أعطاهم الأولوية لدى العامة.
لذا حرص العثمانيون على عنصر الحدود، فكيف تم إقرار هذا العنصر في العلاقات المغربية بالأتراك في المغرب الأقصى ؟ .
لقد كان المغرب دائما يسعى إلى توسيع نفوذه شرقا، وهذا ما تجلى في كثرة الحملات العسكرية خصوصا في بدايات الحكم العلوي، وهو ما كانت السلطة التركية على وعي كبير به، لذلك كان الأتراك هم السباقين لطرح مسالة الحدود بين الطرفين، متجاوزين بذلك الفكرة السائدة عن رفض الإسلام تقسيم تراب البلدان الإسلامية، وقد استطاعت البعثة التركية إقناع الشريف محمد العلوي (1636/1664) بفكرة رسم الحدود بين المغرب والولاية التركية، وانتزعوا منه أول تعهد مكتوب بذلك، لكن الملوك العلويين ظلوا مقتنعين بإمكانية ضم مناطق على الواجهة الشرقية وهو ما تجلى في كثرة الحملات خصوصا في عهد المولى الرشيد (1666/1672) والمولى إسماعيل (1672/1727)، في حين لوح الأتراك الجزائريون بورقة الحدود واعتمدوها كسبيل لإيقاف هذه التهديدات23.
ويوحي التمسك التركي بواد تافنا كحد فاصل بين الطرفين اعتبار هؤلاء الاتفاق مع المولى محمد حجة قانونية أشهروها في وجه المولى إسماعيل 24.
خلاصة الأمر يمكننا القول : إن الأتراك حاولوا منذ العهد السعدي تطويق موقف الشرفاء بخطة الحدود المرسومة ؛ حتى يمكن حصر نفوذهم بالمغرب الأقصى، وإن فشلوا في بداية الأمر مع السعديين فإنهم نجحوا مع العلويين.
والواقع أن طموحات الشرفاء كانت تهدف إلى إحياء مشروع الإمبراطورية الموحدية الكبرى ، وقد يكون إحساسهم بالانتماء لآل البيت الدافع الأساسي لهذا المشروع ، وهو الأحقية في الخلافة الإسلامية...ولعل هذا ماجعل البعض يعتبر الصراع بين السعديين والعثمانيين صراعا حول الخلافة ، فهي تتجاوز بذلك مسالة الحدود .25
فالعماري يرى أن الخلاف بين الشرفاء والأتراك لم يكن في عمقه يدور حول مشكلة الحدود، وإنما كان يدور حول مسالتين أساسيتين
أولا: أحقية الخلافة التي كان السعديون والعلويين يعتبرون أنفسهم أحق بها من الأتراك ، وينظرون إلى هؤلاء كمغتصبين للخلافة.
ثانيا: وحدة المغرب العربي التي كانت تبدو ضرورة تاريخية وقومية.26
لقد كانت السلطة العثمانية على وعي بهذين المبدأين....لذلك حاول الأتراك تطويق موقف الشرفاء بخطة سياسة الحدود.
وهذا يعني أن العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين تحكم فيها بقوة الصراع حول أحقية الخلافة .
فالعثمانيون امتلكوا مفاتيح الكعبة بتأييد شريف مكة أبو البركات27، فأصبح السلطان حامي الحرمين الشريفين وراعيا للحجاج المسلمين، بالإضافة إلى ذلك أصبحت الدولة العثمانية الحامل لراية الجهاد ، خصوصا بعد عجز المماليك عن مواجهة الإفرنج ، فتقوضت بذلك زعامتهم نهائيا كحماة للإسلام28، ومن هنا اكتسب العثمانيون أحقية الزعامة والقيادة، ومنحهم ذلك تأييد الزعامات المحلية في غالبية البلاد العربية، ومنها المغرب وهكذا نجد الفقيه ابن أبي محلي يصف السلطان أحمد العثماني بملك البحرين وإمام الحرمين الشريفين، ويرى في العثمانيين عصابة الجهاد في الحروب ، ولذلك استنفرهم للجهاد ضد من كان يسميهم عبدة الصليب،29 كما أن الحجري خصص للأتراك مكانة متميزة في رحلته "ناصر الدين على القوم الكافرين " إذ تحدث بإعجاب كبير عن دولتهم ودورهم في صيانة دار الإسلام، واعتبرهم القوة الوحيدة القادرة على مواجهة المد الأوربي " وكل واحد من السلاطين النصارى يرتعد ويخاف من سلاطين الإسلام والدين المجاهدين في سبيل رب العالمين ....وهم السلاطين الفضلا العظما ..العثمانيون التركيون ..".30
وإذ كان السلاطين المغاربة يشتركون مع العثمانيين في القيام بواجب الجهاد فإنهم ارتكزوا على النسب الشريف الذي له دلالة خاصة في مسالة شرعية الخلافة، لكن التساؤل الذي يطرح نفسه بقوة هو لماذا كان السلاطين الأشراف يلجئون في بعض الأحيان إلى الدعاء للعثمانيين على المنابر؟ ومن ثم نتساءل هل كان هذا الاعتراف وسيلة لقطع الطريق على أي تدخل عثماني محتمل، أم أنه ناجم عن قناعة بوجوب وحدة دار الإسلام . ؟
إن الصراع حول الخلافة تحكم في كثير من الأحيان في نوعية العلاقات بين الطرفين إلى حد كبير ، ونذكر على سبيل المثال:
* اتخاذ المنصور لقب الخليفة وأمير المؤمنين بعد توليه السلطة، مما أثار حفيظة العثمانيين ، خاصة عندما استقبل سفارة من ملك بورنو إدريس ألوما الذي بحث عن دعم عسكري لمواجهة أعدائه الصونغاي. يقول القشتالي :
" … ورد الرسول ...إلى الأبواب العلية المشرفة فوافق أمير المؤمنين بحضرته العلية مراكش دار الخلافة ، فأزاح اللبس وبين الغرض فصدع لهم أمير المؤمنين … وطالبهم بالمبايعة له والدخول في دعوته المباركة التي أوجب الله عليهم … وقرر لهم … أن الجهاد الذي ينقلونه ويظهرون الميل إليه ،لا يتم لهم فرصة ولا يكتب إليهم عمله، ما لم يستندوا في أمرهم إلى إمام الجماعة الذي اختصه الله إلى يوم الدين بوصفه الشريف … وعلق لهم أيده الله الإمداد على الوفاء بهذا الشرط فالتزمه الرسول " وموازاة مع ذلك قام الأتراك بتقديم الدعم العسكري لإمبراطورية الصونغاي ، وهذا لاشك يدخل في إطار الصراع الخفي حول الخلافة وزعامة العالم الإسلامي .31
ونجد هذا الصراع الخفي حتى في رحلة التمكروتي التي دونها بعد سفارته إلى استانبول، إذ يقول : "والترك جاروا على أهل تلك البلاد وأفسدوها ، وضيقوا على أهلها في أرضهم وديارهم وأموالهم ..إلى غير ذلك من الذل والإهانة ..هذا وأهل أفريقية....في كثرة اشتياقهم وحنينهم إلى حكم موالينا الشرفاء. تالله لقد كنا من تحدثنا معه من خيار أهل تونس وأعيان مصر الذين لقيناهم بالقسطنطينية يبكون على ذلك ...ويودون لو وجدوا سبيلا إلى الانتقال إلى المغرب والتخلص إليه لاشتروه بالدنيا ومافيها .."32
إن هذا الموقف يوضح ما كان بين الكيانين من تنافس وصراع حول ولايات الشمال الإفريقي، وكان خطاب التمكروتي أكثر وضوحا في مسالة الأحقية في الخلافة، يقول : " والعثمانيون من جملة ..الموالي الذين دافع الله بهم على المسلمين، وجعلهم حصنا وسورا للإسلام ، وإن كان أكثرهم وأكثر أتباعهم ممن يصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ، وإنما كانوا حملوا الإمارة وقلدوا الأمر في الحقيقة نيابة وأمانة يؤدونها إلى من هو أحق بها .. وهم موالينا الشرفاء ملوك بلاد المغرب الذين شرفت بهم الإمامة والخلافة ، وكل مسلم لا يقول عكس هذا ولا خلافه .. وقد اجتمع المسلمون على أن الإمامة لا تنعقد إلا لمن هو من صحيح قريش، لقوله صلى الله عليه وسلم : "الخلافة في قريش " وكون ملوك المغرب أولى بهم من غيرهم "33
من هذه النصوص نستنتج أن التمكروتي لم ينكر دور العثمانيين في نشر الإسلام، لكنه ينتقل إلى مستوى ثان في التحليل وهو أن العثمانيين جائرون لم يلتزموا العدل بين الرعية ، ثم ينتقل إلى المقصود وهو من الأحق بالخلافة؟، فالتمكروتى كفقيه كان واعيا يضرورة التبعية لسلطة سياسية واحدة وهي الخلافة الإسلامية التي كان يراها من حق الشرفاء السعديين.34
ولعل مسالة تشوف سكان شمال إفريقيا إلى حكم شرفاء المغرب تثير أكثر من سؤال ، فإذا كان الأمر كذلك يقول الدكتور الغاشى لماذا لم يتوجه سكان هذه المناطق إلى طلب التدخل المغربي بدل التدخل العثماني لمواجهة الغزو الإيبري ؟ ثم هل يتطابق تصريح التمكروتي مع أهداف مهمته الدبلوماسية ؟ 35
ولعل هذا ما دفع الدكتور حسن ابراهيم شحادة إلى الاعتقاد بان الرحلة كانت تعكس العلاقات المغربية العثمانية خلال فترة حكم المولى إسماعيل ، والتي تزامنت مع فترة كتابة النسخة المتداولة حاليا، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بان الرحلة قد خضعت لبعض التغييرات.36
ومهما يكن فان هذا يعكس بوضوح الصراع الخفي حول موضوع شرعية الخلافة بين العثمانيين والمغاربة.
2- العلاقات المغربة العثمانية : من المواجهة والصراع إلى التعاون .
بوفاة المولى إسماعيل سنة1727 انتهت حقبة من العداء والحذر في علاقات المغرب الخارجية، خصوصا مع العثمانيين الأتراك، و بدا التغير تدريجيا في سياسة البلدين من التوتر والمواجهة إلى المهادنة والتعاون.
ويتجلى ذلك بداية في التبعية التامة التي أعلنها السلطان المولى عبد الله (1728/1757) للباب العالي، وذلك في رسالة تقول " وأنا أخطب بك في مساجد الجمعة والأعياد كما فعل والدنا مع أسلافكم الجياد ، ولولا أن الغرب صعب المرام ، لاستعملت أقدام الأقدام إلى حضرة ذلك الهمام فهو جدير أن يجعلني من أحبائه، وأن يحمل علي من هذا الخطب عظيم أعبائه، ولبذلت المجهود والمقصود ".37
وإن كان هذا المقتطف يثير قضايا كبرى ومستعصية على الجواب...بين ما له علاقة بالجانب الواقعي في الرسالة وماله علاقة بالجانب الدبلوماسي.38
وباستثناء هذه الرسالة فإن فترة الأزمة السياسية تميزت عموما بانشغال العثمانيين بحروبهم مع روسيا وحلفائها، والمغاربة بخلافاتهم حول السلطة.39
إلا أن العلاقات بين الدولتين المغربية والعثمانية شهدت انقلابا في مسارها خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وذلك بعد تولي السلطان المولى محمد بن عبد الله (1757-1790)الحكم، حيث دشن قطيعة حقيقية مع الماضي، إذ نهج سياسة انفتاحية شاملة40، خصوصا مع الإمبراطورية العثمانية، فأصبح التضامن الإسلامي هو المؤطر الجديد للعلاقات المغربية العثمانية خلال هذه الفترة.41
ترى ما هي الأسباب التي ساهمت في تغير نوعية العلاقات بين السلطتين ؟
وماهي الملامح الكبرى لهذه التحولات؟ وإلى أي مدى عكست هذه العلاقات الجديدة ضرورات المرحلة ؟ وماهي المشاكل التي وقفت في طريقها ؟ وكيف تعامل معها الطرفان المغربي والعثماني؟
إن التحولات الكبرى التي عرفتها أوربا خلال أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر جعلت البلدين يحسان بالضعف والخطر نتيجة انقلاب ميزان القوى لصالح دار الحرب، وقد تجلى هذا التقارب في مستويات عديدة منها:
أولا: ازدهار الدبلوماسية المغربية والسفارات في اتجاه الدول الأوربية 42، والتي اتخذت من موضوع تحرير أسرى المسلمين محركا أساسيا لها،43 وهذا ما يفسر المبالغ المالية الكبيرة التي أنفقت عليها44.وكانت عملية افتداء الأسرى عامة شملت المغاربة وأسرى رعايا الدولة العثمانية، وقد أظهرت هذه الخطوة السلطان محمد بن عبد الله بمظهر المتضامن مع إخوانه في الدين والساعي إلى خدمة الإسلام والمسلمين.45
ثانيا: بداية التعاون العسكري بين الدولتين هو نتاج للظروف الصعبة التي كان يجتازها الطرفان في صراعهما مع دار الحرب، ففي المغرب كان سيدي محمد بن عبد الله قد أعلن الجهاد من أجل تحرير بعض الثغور المحتلة... أما الدولة العثمانية فقد دخلت منذ 1768 في حرب مع روسيا,46 وقد تمثل هذا التعاون في إرسال المغرب للعتاد الحربي للعثمانيين والعكس47، وكان ذلك يدخل في إطار باب الجهاد وتحرير الثغور.48
ثالثا: تقديم المساعدات المالية التي كانت تدخل ضمن نصرة القضية الكبرى وهي التصدي للخطر المسيحي ضد الدولة الإسلامية49، وافتداء الأسرى من رعايا الدولة العثمانية50 ،فقد أرسل المولى محمد بن عبد الله أموالا كثيرة للباب العالي اظهر بها مشاركته في الجهاد وأنه يمكن أن يعول عليه أكثر من داي الجزائر الذي لم يستطع تقديم أي شيء.51
رابعا: الدعم الديبلوماسي : والذي يتجلى في توزيع السلطان محمد بن عبد الله منشورات على القنصليات الأجنبية بالمغرب سنة 1788 ، توضح موقف المغرب من الروس والنمساويين أعداء العثمانيين .52
خامسا: الدعم المعنوي والروحي والذي تجلى في إقرار السلطان المغربي تعميم الدعاء للسلطان العثماني يوم الجمعة بالنصر على أعدائه الروس53. ..
وهكذا تشير المصادر المغربية إلى أن صلوات الجمعة في المغرب خلال هذه المرحلة كانت تعقبها دعوة" اللهم انصر السلطان عبد الحميد(1774/1789) وجنوده....وكن معه حيث يكون واستعمله بطاعتك في كل حركة وسكون ...وأنزل السكينة على المسلمين واجمع كلمتهم، حتى يكونوا على عدوهم"54.
وكان أيضا من بين الحسابات التي تحكمت في سياسة السلطان محمد بن عبد الله محاولته كسب الباب العالي ليمارس ضغطه على أتباعه في ديوان الجزائر، نظرا للمشاكل التي ظل هؤلاء يثيرونها ملحقين بذلك أضرارا جسيمة بمصالح السلطان ومخططاتها السياسية والاقتصادية.
ولذلك فقد احتل موضوع أتراك الجزائر خلال هذه الفترة جزءا كبيرا في العلاقات المغربية العثمانية، ويؤكد ذلك كثرة المراسلات المغربية بشان هذا الموضوع إلى الباب العالي، ومنها سفارة ابن عثمان المكناسي التي كانت تدخل في إطار الحرب الدبلوماسية ضد أتراك الجزائر ؛ بغية استمالة الباب العالي وتشويه صورة الداي وديوانه ...بإظهار إهمالهم لأسراهم وتقاعسهم عن الجهاد ..ومن هنا نفهم افتكاك محمد بن عبد الله لأعداد كبيرة من أسرى الجزائر وإرسالهم إلى القسطنطينية 55.
وقد نجحت مساعي السلطان المغربي نسبيا في تحقيق هذا الهدف، وهو ما يمكن أن نفسر به عتاب الباب العالي لوالي الجزائر على عدم قبول شفاعة السلطان المغربي في فك الأسيرتين الإسبانيتين ( زوجة وابنة الحاكم الإسباني للمرسى الكبير) وهو الذي افتك مئات من أسرى الجزائر، وقد كان الملك الإسباني كارلوس الثالث طلب من السلطان المغربي التدخل عند الداي الجزائري لفك سراح بعض الأسرى ومنهم الأسيرتين المذكورتين56.
وإذا كانت العلاقات المغربية العثمانية قد شهدت تحسنا كبيرا خلال هذه الفترة، وهو الشيء الذي يمكن أن نفسر به كثرة السفارات بين البلدين، فإنه على العكس من ذلك بالنسبة للأيالة الجزائرية، فالصراع استمر ولم ينقطع، مما يجعلنا نتساءل عن مدى خضوع هذه الأيالة للباب العالي خلال هذه الفترة تحديدا ؟ والى أي حد كان هذا الصراع المحلي يؤثر في الفكرة الجديدة للتعاون المغربي العثماني ؟
لقد تسبب الأتراك في مشاكل كثيرة للسلطان المغربي سواء في علاقاته مع الباب العالي أو في علاقاته مع الدول الأوربية خصوصا أسبانيا التي عقد معها معاهدة الصلح والتجارة، فقد كانت القرصنة البحرية الجزائرية ضد السفن الأجنبية في السواحل المغربية، تحرج المغرب مع إسبانيا وتهدد العلاقة السلمية بينهما .
كما أن داي الجزائر تراجع عن اتفاقه مع السلطان بشان العملية المشتركة ضد الثغور المحتلة بكل من المغرب والجزائر، مما أظهر الداي بمظهر الخائن والمتقاعس عن الجهاد57.
وبعد استرجاع المغرب للجديدة ودعوة السلطان للجهاد، والتأثير الإيجابي لعملية تحرير الأسرى الجزائريين من طرف السلطان، جعلته يحضى بشعبية واسعة و بتعاطف وولاء ساكنتها الذين ابدوا حماسا كبيرا للمشاركة إلى جانب المغرب في الجهاد ضد الوجود الإسباني بالسواحل المتوسطية، وقد راسلوه كثيرا للتدخل في الأيالة الجزائرية، ولولا احترام السلطان وتقديره للعثمانيين لأخذ أيالة الجزائر58.
وقد بقي السلطان محمد بن عبد الله رغم مشاكل الأيالة الجزائرية وفيا لعلاقات الود التي ربطها مع الباب العالي إلى آخر أيامه .
أما في عهد المولى سليمان(1792/1822) فقد شهدت هذه العلاقات نوعا من التراجع في مجال التعاون، ربما بسبب سياسة الاحتراز والانغلاق التي سلكها هذا الأخير في علاقاته الخارجية.
فقد طلب الباب العالي من المولى سليمان الانضمام إليه لمحاربة فرنسا59 ، حيث بعث له رسالة تؤكد على أواصر الدين والرابطة الإسلامية التي تجمعه بالسلطان المولى سليمان "..أخانا في الله وصنونا في دين محمد بن عبد الله " 60
ولم يكن هناك تجاوبا إيجابيا للسلطان المغربي مع مطلب الحكومة العثمانية، وذلك حرصا منه على موقف الحياد الذي نهجه اتجاه الخلافات الدولية .
وخلال فترة القرن التاسع عشر، ارتكزت العلاقات المغربية العثمانية على فكرة الإصلاح والتعاون خصوصا في مجال الخبرة العسكرية، ففكرة تحديث الجيش التي شرع فيها السلطان عبد الرحمن ابن هشام (1859/1822) وابنه محمد (1859/1873).. قد تمت بمساعدة تركية، كما أن مسالة التعاون تحكمت فيها ظرفية الصراع الدولي.61
وقد تطورت فكرة التعاون بعد ذلك بين الإمبراطورية العثمانية والدولة المغربية ، حيث أصبح الحديث منذ نهاية القرن التاسع عشر وخصوصا بعد انهزام العثمانيين أمام الروس يتجه إلى تقوية التعاون ضمن خطاب التضامن الإسلامي، أو ما اصطلح عليه مفهوم الجامعة الإسلامية المبكرة ، وذلك في عهد عبد الحميد الثاني (1876/1908).62
ويبدو أن النية والرغبة في التعاون وتطوير العلاقات بما ينفع مصلحة دار الإسلام كانت صادقة بين الطرفين إلا أن الظروف الدولية حالت دون تحقيق ذلك.63
وكخلاصة لهذا الموضوع فإن العلاقات بين المغرب والدولة العثمانية تحكمت فيها إلى درجة كبيرة الثقافة الدبلوماسية، التي من خلالها يمكن استيعاب مظاهر الصراع والخلاف وأيضا التعاون في هذه العلاقات.
فالفرضية القائمة على تأكيد البعد الإسلامي في علاقة البلدين دار إسلام دار إسلام والفرضية الأخرى التي تعتبر أن هذه العلاقات لا تختلف مبدئيا عن العلاقات بين الدول الأخرى فيما بينها لم تستطيعا استيعاب الخلافات القوية والصراعات الطويلة وكذا مظاهر التعاون التي عرفها الطرفان، فإذا كانت الدولتان المغربية والعثمانية تقتسمان مفاهيم مركزية مشتركة في ثقافتهما ، فان دخول عناصر أخرى على الخط مثل صورة الآخر وضرورات المرحلة وطموحات الوطن تساعدنا على إعطاء معنى لفترات التعاون ، وكذلك لبعض أنواع الصراع التي ظلت غير مفهومة.64