تاريخ الإسلام في القوقاز
الدكتور محمد السيد علي بلاسي
الدكتور محمد السيد علي بلاسي
التحديد الجغرافي للقوقاز
يكوّن المسلمون 20 % من مجموع سكان الاتحاد السوفييتي (سابقاً)، الذي يبلـغ عـدده 65 مليونـاً وفقـاً لإحصاء 1991 م. ويتركـز معظـم هؤلاء المسلمين (40 مليوناً) في إقليمي تركستان والقوقاز(محمد صبحي عبد الحكيم، »الجمهوريات الإسلامية عبر الحاضر للمستقبل«، مجلة شمس الإسلام، عدد تجريبي، ذو القعدة 1413 هـ/ مايو 1993 م، ص. 54.)
إقليم القوقاز:
ويشمل جمهورية آذربيجان الاتحادية، وجمهوريات وأقاليم ذات استقلال ذاتي في جمهوريتي أرمينيا وجورجيا، والجمهوريات المستقلة ذاتياً في روسيا الاتحادية، وتقع جميعاً في مرتفعات القوقاز. وتبلغ مساحة الأراضي التي يشغلها المسلمون 389,000 كلم2، وتضم 20,3 % من مجموع المسلمين في الاتحاد السوفياتي . (محمود طه أبو العلا، المسلمون في الاتحاد السوفييتي »سابقاً«. دراسة اجتماعية واقتصادية وسياسية، ط. 1، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص. 8)
التقسيم الجغرافي للقوقاز
ينقسم إقليم القوقاز جغرافياً إلى قسمين:
الأول: القوقاز القريب: وهو يضم الجمهوريات الإسلامية ذات الحكم الذاتي والتي تقع في نطاق جمهورية روسيا الاتحادية، وهي كاباردين البلكار وأوسيتيا الشمالية، والشاشان والأنجوش وداغستان،وهذا غير الأقاليم الأخرى ذات الحكم الذاتي (أوبلاستي [Oblasti]).
الثاني: القوقاز البعيد: ويضم جمهورية آذربيجان الاتحادية في الشرق، وإلى غربها جمهورية جورجيا التي تضم أبخازيا وجمهورية آجاد ذات الحكم الذاتي وإقليم أوسيتيا الجنوبية ذات الحكم الذاتي، وإقليم أوسيتيا ذات الحكم الذاتي ـ أيضاً ـ (أوبلاستي [Oblasti])(المرجع السابق).
التركيب العرقي للقوقاز:
ينتمي مسلمو القوقاز إلى مجموعتين عرقيتين هما:
1 ـ مجموعة الشعوب التركستانية: وتضم سكان أوزبكستان وكازاخستان وآذربيجان وتركمانستان وقيرغيزيا. وهؤلاء يتحدثون بلغات قريبة من اللغة التركية، وهم أقرب ثقافياً إلى تركيا.
2 ـ مجموعة الشعوب الإيبروقوقازية: وهؤلاء يعيشون في مجموعات متفرقة في القوقاز وروسيا.
ويسود في آذربيجان المذهب الشيعي، ويتحدثون لغة تركية محلية (عبد العزيز محمد عوض الله،» بين التركمان. دراسة أنثروبولوجية وتاريخية لتركمان آسيا الوسطى«، مؤتمر المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، جامع الأزهر، 28 ـ 30 سبتمبر 1993 م، مج. 2، ص. 176.)
الإسلام في القوقاز (عمر محمد الصادق أحمد، »اقتصاديات الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى. دراسة جغرافية«، مؤتمر المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، المرجع نفسه، مج 1، ص. 74.)
تبدأ قصة الإسلام في آسيا الوسطى منذ القرن الأول الإسلامي وتستمر حتى يومنا هذا، حيث اتحدت مجهودات العرب والإيرانيين والأتراك الشرقيين والعثمانيين والقوقازيين لزرع الإسلام بطرق شتى في الأراضي الشاسعة التي تمتد من القوقاز حتى حدود الصين، ومن قازان حتى الحدود الإيرانية والأفغانية. وانتشر الإسلام عن طريق الفتوحات والعمل الدبلوماسي لخلفاء الدولة العباسية والدولة العثمانية، وبفضل نشاط المسلمين أيضاً، وبفضل النشاط المكثف للطرق الصوفية التي تحولت إلى حركة شعبية حتى أصبحت آسيا الوسطى إحدى المناطق الأكثر فاعلية في انتشار التصوف ( Asia Centrala, Collection Autrement, Série Monde, No. 64, octobre 1992.. عرض وترجمة أ. د. سلوى سليمان، مؤتمر المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، المرجع نفسه، مج 4، ص. 36.)
الفتح الإسلامي للقوقاز:
في سنة 22 هـ/ 642 م، أرسل المغيرة بن شعبة، والي الكوفة، قوات من عرب الكوفة لغزو آذربيجان. وتوغلت هذه القوات في أقاليم طبرستان وجيلان وقومس، وعقدت قواتها اتفاقيات سلام مع حكامها أو أصحاب الأمر فيها. ولم ينتج عن هذه الحملات استقرار للفتح الإسلامي في هذه النواحي، فقد كانت كلها غارات خاطفة، ولم يلق المسلمون مقاومة كبيرة من أهلها. وقد أعيد فتح مدن هذه النواحي مرة بعد أخرى!
فبعد موقعة نهاوند، أرسل المغيرة بن شعبة، والي الكوفة، قوات كافية من هناك إلى آذربيجان بقيادة حذيفة بن اليمان، فسار إلى العاصمة أردبيل، وقاتلهم وانتصر عليهم، وصالحهم على جزية وشروط.
ثم غزا حذيفة بن اليمان ـ أيضاً ـ موقان وجيلان، وأوقع بهم، وصالحوه على إتاوة.
ولي آذربيجان بعد ذلك عتبة بن فرقد السلمي، فأتاها من شهرزور، وغزا نواحي كانت قد انتقضت على المسلمين. ثم قام الوليد بن عتبة بغزو آذربيجان سنة 25 هـ/ 646 م، وكان على مقدمة جيشه عبد الله بن شبل الأحمس ومعه الأشعث بن قيس، فأغار على أهل موقان والبهير والطيلسان.
وفي ولاية سعيد بن العاص على الكوفة غزا آذربيجان، وأوقع بأهل موقان وجيلان. وهزم أحد قواده، وهو جرير بن عبد الله البجلي، أهل آذربيجان عند أرم.
ثم ولى علي بن أبي طالب الأشعث بن قيس آذربيجان، فوجد أكثر أهلها قد أسلموا. فأنزل أردبيل جماعة من أهل العطاء من العرب، ووحدها وبنى مسجدها (حسين مؤنس، أطلس تاريخ الإسلام، الزهراء للإعلام العربي، د. ت.، ص. 130، 132.)
الدولة الأموية والقوقاز:
يبدو أن الفتنة الكبرى التي أَلَمَّت بالدولة الإسلاميَّة في أواخر عهد عثمان بن عفان والحرب الأهلية التي كانت بين الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ ومعاوية بن أبي سفيان، قد عطلت حركة الفتح الإسلامي لبلاد ما وراء النهر. ولكن مع بداية العصر الأموي، بدأ تواصل الغارات الثغرية على هذه المنطقة حتى عام 85 هـ الذي ستشهد فيه هذه البلاد فتحاً مستقراً (خليل عبد المجيد أبو زيادة، »جمهورية طاجيكستان الإسلامية ماضيها وحاضرها«، مؤتمر المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، المرجع نفسه، مج 2، ص. 276.)
وبدأ الإسلام يشق طريقه بثبات بين الناس. وخلال بقية العصر الأموي حتى سقوط الدولة سنة 132 هـ، كانت جهود الأمويين منصرفة إلى تثبيت السيادة العربية والتمكين للنفوذ الإسلامي من الانتشار بالطرق السلمية، ومن أهمها: توظيف المسجد في المهام الدعوية والتعليمية وتوطين القبائل العربية في المدن الكبرى (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، تحقيق أبي الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1960، ج 8، ص. 84.)
وأصبحت بلاد ما وراء النهر بدورها مدافعة بحماس عن الإسلام وعاملة على نشره بين الأتراك الشرقيين. ولم تكن تلك المهمة سهلة، بل كانت أصعب من مهمة الفتح ذاتها، وكانت بعيدة الأثر في تاريخ الإسلام بصفة عامة، وتاريخ أواسط آسيا بصفة خاصة. ولقد أخلصت بلاد ما وراء النهر للإسلام كل الإخلاص وغدت جزءاً من أهم أجزائه، غيرة عليه وتمسكاً به...
وظلت الدولة الأموية والأتراك الشرقيُّون في صراع، يتبادلون النصر والهزيمة، حتى تغلبت كفة الدولة الأموية على يد الوالي الشجاع أسد بن عبد الله القسري ونصر بن سيار (121 ـ 129 هـ) الذي حظي بمكانة في تاريخ الجهاد الإسلامي في تلك البلاد لا تقل عن مكانة قتيبة بن مسلم؛ فهو الذي حمى بلاد ما وراء النهر من خطر الأتراك (عبد الشافي محمد عبد اللطيف، »الفتح الإسلامي لبلاد ما وراء النهر وانتشار الإسلام هناك«، مؤتمر المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، المرجع نفسه، مج 2، ص. 25.)
القوقاز في الدولة العباسية:
ومع ظهور العصر العباسي، توطدت الأمور في هذه البلاد نتيجة ظهور النزعة العربية والانفتاح على الأعاجم والميل إلى الدعوة بالطرق السلمية، والتمكين للنظم الإدارية في البلاد، واستخدام العناصر التركية في الجيش، لدرجة أننا عندما وصلنا إلى عصر المعتصم كان الإسلام قد رسخت أقدامه، وبدأ الأتراك أنفسهم يتبنون حركة نشر الإسلام (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، المرجع السابق، ج 8، ص. 84 وما بعدها. ) .
وقامت في تركستان، تحت ظل الإسلام، دول وإمبراطوريات إسلامية كان لها فضل كبير في نشر الإسلام وحضارته، كدولة »آل سامان« التي أسست عام 874 م، وخانات تركستان المعروفة (إيلكا خانات)، والدولة الغزنوية، ودولة السلاجقة (نصر الله مبشر الطرازي، »الجمهوريات الإسلامية في رابطة الدول المستقلة. ماضيها وحاضرها«، مؤتمر المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، مج 4، ص. 12.
وهكذا مضى العباسيون قدماً في تنفيذ السياسة التي رسمها الأمويون لإسلام بلاد ما وراء النهر، وحققوا نجاحات هائلة، وسارت الثقافة الإسلامية في ركاب الإسلام، وتوطدت أركانها بين أهل البلاد، وبدأ أهل البلاد يتعلمون اللغة العربية. وإذا كانت المراكز الثقافية في ما وراء النهر ـ خاصـة في بخارى وسمرقند ـ لم تبرز وتحدد معالمها إلا في عهد الطاهرييين (205 ـ 259 هـ) (عبد الشافي محمد عبد اللطيف، »الفتح الإسلامي لبلاد ما وراء النهر وانتشار الإسلام هناك«، المرجع نفسه، مج 2، ص. 27. )، والتي كان ظهورها ـ في حد ذاته ـ جزءاً من السياسة العباسية ومكافأة للّذين أخلصوا للخلافة ولم يتمردوا عليها، وكان ظهور هذه الأسرة ـ بالفعل ـ دفعة قوية للإسلام في بلاد ما وراء النهر؛ فقد واصل الطاهريون السياسة التي وضع أسسها الأمويون، وعمقها العباسيون، وهي سياسة التمكين للإسلام في الداخل ودرء الأخطار الخارجية، بل يمكن القول إن الطاهريين كانوا أكثر إدراكاً للخطر الذي هدد البلاد من الأتراك الشرقيين (حسن أحمد محمود، ندوة الإسلام في آسيا الوسطى، المرجع السابق، ص. 167. ).
وإذا كان الطاهريون قد قاموا بدور كبير وهام في التمكين للإسلام والثقافة الإسلامية في ما وراء النهر، فإن السامانيين (261 ـ 389 هـ) كان دورهم أكبر وأعظم أثراً. فبالرغم من أن كِلْتَي الأسرتين من أصل فارسي، فإن السامانيين كان دورهم في ما وراء النهر أعظم؛ لأن الطاهريين حكموا ما وراء النهر من خراسان: فقد كانت عاصمة دولتهم نيسابور؛ أما السامانيون، فقد حكموا خراسان من وراء النهر: فقد كانت عاصمتهم مدينة بخارى. لذلك كان من الطبيعي أن يكون اهتمامهم بما وراء النهر أعظم، لأنه مقر حكمهم ومركز دولتهم. ففي عهد السامانيين، وضحت ثمار الجهود التي بذلها العرب في رفع مكانة الإسلام هناك طيلة قرنين من الزمان تقريباً، وأحرزت الحركة الإسلامية نجاحها المرجو؛ فثبت الإسلام في قلوب الأتراك الغربيين، بل أخذ ينتشر بين الأتراك الشرقيين (عبد الشافي محمد عبد اللطيف، المرجع السابق، ص. 39.)
ومهما يكن من أمر، فلولا أن جعل الله تعالى السلاجقة، ثم الخورازمشاه، سبباً في تمكين الحكم الإسلامي في بلاد ما وراء النهر والقوقاز، لاستطاع المغول ـ بتحريض القوى الصليبية التي كانت تدفعهم ـ القضاء على الإسلام في تلك المناطق بعد أن قضوا على كل أثر للحضارة الإسلامية هناك. ولكن لما دخل سكان هذه المناطق من الترك تحت راية الإسلام طواعية من قبل، راح خانات المغول يدخلون في دين الله تتبعهم شعوبهم. فقد أسلم خان »التون أوردا« (القبيلة الذهبية)، وهو من أحفاد جوجي بن جنكيز خان ـ ويدعى »بركه خان« ـ وعقد علاقات ودية مع الظاهر بيبرس ـ سلطان المماليك في مصر ـ الذي تزوج ابنته لتوثيق أواصر الصداقة بينهم. وفي حوال 680 هـ، أسلم شقيق أبا قاخان ابن هولاكو من الأسرة الإلخانية وسمى نفسه باسم محمود، وأسلم بإسلامه معظم تتار الغرب (698 هـ). ولم ينقض القرن السابع الهجري حتى كان معظم المغول قد أسلموا. وفي 726 هـ، أعلن خان ما وراء النهر طرماسيرين خان إسلامه، ثم تبعه السلطان توغلق تيمور خان (847 هـ) في اعتناق الإسلام (سيد محمد السيد، »لمحات من تاريخ العلاقات بين الدولة العثمانية وممالك آسيا الوسطى والقوقاز«، مؤتمر المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، المرجع السابق، مج 2، ص. 77. )
القوقاز في ظل العثمانيين:
جاء العثمانيون عام 1299 م ليحكموا الأناضول وليفتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية سنة 1453 م...، ثم جاء تيمورلنك وأقام إمبراطورية بعد كارثة المغول، ثم تمزقت إمبراطورية تيمورلنك بين أولاده وأحفاده الذين كانوا مخلصين للإسلام وحضارته وثقافته إلى أن أقام مظفر الدين بابر، حفيد تيمورلنك، الإمبراطورية التركية المغولية في أفغانستان والهند وأكمل نشر الإسلام في الهند بعد أن كان السلطان محمود الغزنوي قد نشره في عهده.
وهكذا حكم الأتراك المسلمون على جميع البلاد من شبه جزيرة البلقان في شرق أوربا والشاطئ الشمالي للبحر الأسود والقرم والقوقاز إلى تخوم الصين في النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي (نصر الله مبشر الطرازي، »الجمهوريات الإسلامية في رابطة الدول المستقلة. ماضيها وحاضرها«، المرجع نفسه، مج 4، ص. 13.)
ولقد مر العالم الإسلامي والمنطقة الإسلامية بأحداث هامة خلال مطلع القرن 16 م، كان لها آثارها بعيدَةُ المدى، ونتائجها واضحةُ الأثر على علاقات الدولة العثمانية بممالك آسيا الوسطى والقوقاز. فقد أدى نشاط حركة الجهاد الإسلامي في شرق أوربا حتى سقوط بيزنطة وضم الدولة العثمانية للأملاك البيزنطية في البحر الأسود ـ أدى إلى دخول إسلامبول منطقة القرم وقفقاسيا، وخوض صراع طويل بواسطة حليفها خان القرم على أملاك دولة »التون أوردا« في قازان واسترخان مع إمارة موسكو، انتهت بإلحاق الدولة العثمانية القرم تحت حمايتها، وضم موسكو لقازان واسترخان. ومنذ ذلك الحين، أصبح للدولة العثمانية نفوذ في القرم، وعلاقات وطيدة مع خانات القرم. وعلى الرغم من عدم وصول هذه العلاقة إلى درجة التبعية التامة بصفتها ولاية عثمانية، فإن تعيينَ خان القرم كان يأتي من الآستانة رأساً، وكانت شؤون القرم الداخلية تترك لخان القرم يديرها بنفسه دون الرجوع للدولة العثمانية.
ومن ناحية أخرى، فقد كان لظهور إمارة موسكو بصفتها قوّة في منطقة أوكرانيا شمال البحر الأسود، وسعي أمير هذه الإمارة للحصول على لقب القيصرية من بابا روما، ووراثة الإمبراطورية البيزنطية، وحرص بابا روما على دفع روسيا القيصرية لحمل الراية الصليبية ضد العالم الإسلامي، كان لهذا كله أثره العظيم في توجيه القيصر الروسي بَصَرَهُ صوب الممالك الإسلامية في الجنوب، وبخاصة تلك التي كانت توشك على الانهيار (ممكلة التون أوردا). ومنذ سقوط أملاك التون أوردا في قازان واسترخان في يد الروس، لم تتوقف السياسة الروسية عن التخطيط لبسط نفوذها على قفقاسيا، فسواحل الخزر، حتى وصلت إلى ممالك آسيا الوسطى والقوقاز في بخارى وخوقند وخوارزم وتركستان. وفي هذا السبيل، قامت روسيا القيصرية بتوظيف كل إمكانات العالم الصليبـي بالتنسيق مع الدولة الأوربية أو دون التنسيق المباشر معها، حتى تمكنت من قطع اتصالات ممالك آسيا الوسطى ببقية العالم الإسلامي، وبخاصة الدولة العثمانية.
كل هذا ساعد على عدم إيجابية التنسيق بين الدولة العثمانية وممالك آسيا الوسطى والقوقاز لمواجهة الخطر الروسي في المنطقة.
ومهما يكن من أمـر، فـقـد كان التنسيـق الصليبـي ـ الاستعماري ـ لا يستهدف أملاك الرجل المريض فحسب، بل استهدف احتلال كل بلاد المسلمين، وتمزيق كل علاقة تربط بعضها ببعض. وقد قامت حركة التغريب ونشر الأفكار القومية والعنصرية في أنحاء العالم الإسلامي بهذا الدور خير قيام (عبد العزيز محمد عوض الله، »دراسة أنثربولوجية وتاريخة لتركمان آسيا الوسطى الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع«، مؤتمر المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، المرجع نفسه، مج 2، ص. 200.)
واعتباراً من القرن التاسع عشر الميلادي، تعرض العالم الإسلامي عموماً، والدولة العثمانية على وجه الخصوص، وروسيا وأوربا وإيران، لمتغيرات هائلة، كان لها أثرها المباشر على علاقات الدولة العثمانية مع مناطق آسيا الوسطى بعد سقوط القرم وقفقاسيا حتى بحر قزوين في يد الروس. ويأتي على رأس هذه المتغيرات ضعـف الدولة العثمانيـة، وتقسيم أملاكها إلى مناطق حماية بين الدول الاستعمارية ـ سقوط الممالك الإسلامية في القرم والقوقاز، وانفتاح الطريق أمام الروس لاحتلال ممالك آسيا الوسطى الإسلامية (مصطفى دسوقي كسبه، المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، هدية مجلة الأزهر، جمادى الآخرة 1414 هــ، ص. 128 ـ 129.)
ومنذ ذلك الحين، بدأ الروس يعدون العدة لتثبيت دولتهم وبسط سلطتهم، فتوجهت جيوشهم بوحشية بربرية زاحفة نحو الشرق لإخضاع تلك البلاد الإسلامية الشاسعة والقضاء على سكانها الآمنين المطمئنين. وفعلاً، وصلت الجيوش حتى أقصى حدود تركستان الكبيرة بعد أن استولوا على كل مدن هذه المملكة، التي كان قد تفشى فيها التفكك والانشقاق وقيام دويلات تشبه ملوك الطوائف. وكانت تركستان إذَّاك مقسمة إلى ست دول: دولة بني أوزبك في ما وراء النهر، ودولة بني بادكار في خوارزم، ودولة بني قوندي في الشمال الغربي لسيبيريا، ودولة أمراء مانفيت ـ نوغاي في غربي ولاية قازقستان، ودولة سلاطين قازان في الشمال الشرقي لقازاقستان، ودولة بني جغتاي (روغلات) في تركستان الشرقية. ثم تجزأت تركستان فيما بعد إلى ثلاث إمارات: إمارة فرغانة وإمارة خيوة وإمارة بخارى، استولى عليها الروس القيصريون عام 1875 م، ثم عام 1885 م، ثم عام 1886 م، وجعلوها تحت الانتداب. ولم تفد مقاومة التركستانيين لهذا الغزو الذي دام قرابة أربعين عاماً (نصر الله مبشر الطرازي، »الجمهوريـات الإسلاميـة في رابطة الـدول المستقلة«، المرجع السابق، مج 4، ص. 14.)
وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر، ركز القيصر نيقولا الأول (1825 ـ 1855 م) جهوده للسيطرة على منطقة القوقاز؛ ولتحقيق هذا الغرض، تم بناء خط من الحصون لمحاصرة هذه القبائل والقضاء على مقاومتها. وبانتهاء حرب القرم عام 1856 م، تم تكثيف الحملات العسكرية ضد الشيخ شامل حتى اضطر إلى الاستسلام في 25 أغسطس 1859 م .
(Raymand Beazley, Russia from the Varangians to Balsheviks, Great Britain, 1918, p ) ،
ونجح الأمير الروسي بارياننسكي في الاستيلاء على حوانيت العاصمة. وكان القضاء على ثورة الشيخ شامل في القوقاز معناه تأمين الوضع العسكري في المنطقة، فبدأ التقدم الروسي في خانات آسيا الوسطى والتي كانت مناطق مجهولة تماماً للدول الأوربية والعالم الغربي حتى أطلق عليها »الأرض المجهولة
(W. Morfill, The Story of Russia, London, 1904, p. 322 )
( وانظر: إلهام محمد علي ذهني، »التوسع الروسي في خانات آسيا الوسطى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر«، مؤتمر المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، مج 2، ص. 148 وما بعدها ).
هذا، في الوقت الذي أدرك فيه قياصرة روسيا خطر الإسلام عليهم؛ حيث اعتبروا أنفسهم الورثة الحقيقيين للإمبراطورية البيزنطية وأنهم حماة المذهب الأرثوذكسي، وأن عليهم العمل على نشره بزعزعة العقيدة الإسلامية من نفوس المسلمين. وهذا ما حدث فعلاً بعد إتمام التوسع في منطقة آسيا الوسطى
(Frederic Bondensted, Les peuples du Caucase et leur lutte d’indépendance contre la Russie, Paris, 1859, pp. 1-5).
ومهما يكن من أمر، فقد كانت هذه المتغيرات سبباً في وقوع كل من الدولة العثمانية وممالك آسيا الوسطى تحت النفوذ الاستعماري المباشر، بحيث بدأت تتعالى في الآفاق صيحات من هنا وهناك للعودة لرابطة الجامعة الإسلامية من جديد (المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، المرجع السابق، ص. 129) .
القوقاز تحت نير الشيوعية:
دخلت روسيا وما كانت تسيطر عليه من أراض عهداً جديداً في أعقاب نجاح البلاشفة بزعامة لينين في الاستيلاء على الحكم في نوفمبر 1917 م، ثم أطلقوا على أنفسهم: »الحزب الشيوعي الروسي«.
وقد خاضت روسيا غمار حرب أهلية (1918 ـ 1920 م) أسفرت عن منح روسيا الحكم الذاتي لجمهوريات، وأقاليم بداخلها، كان أولها بشكيريا في مارس 1919 م، وبعد ذلك تتاريا وغيرها... ثم جمهوريات وأقاليم إسلامية، وغير إسلامية، حصلت كلها على الحكم الذاتي.
وكانت جمهوريات القوقاز قد ظهرت أمراً واقعاً بالفعل منذ عام 1920 م. ومنذ ذلك التاريخ، تم ضم أربعة أقاليم إلى أرمينيا هي: أروزوم، وترابزون، وفان، وتبليس.
وفي آخر عام 1922 م، أقطع إقليم نخشيفان من أرمينيا، وتم ضمُّه إلى آذربيجان ليصبح سبباً مستديماً للتوتر بينهما.
وبموت لينين عام 1924 م، شهد الاتحاد السوفييتي صراعاً حول السلطة، حسبه ستالين لصالحه، ومن ثم أعلن عام 1929 م ضرورة الإسراع بالتحول إلى الشيوعيـة التي كان قد اعتبرهـا بمثابـة عقديـة (Creed)، وأطلق عليها »الماركسية ـ اللينينية«.
ومنذ عام 1936 م، تم تقسيم القوقاز إلى جمهوريات مستقلة هي: أرمينيا، وأذربيجان، وجورجيا؛ وأصبحت أبخازيا، والإظهار، وأوسيت أقاليم ذات حكم ذاتي.
وقد شهدت فترة حكم ستالين، التي دامت حتى عام 1953 م، ألواناً من القهر والسخرة في العمل؛ فقتل عشرات الملايين، أو طردوا، أو سجنوا، أو شردوا، وتم القضاء على الملكية الفردية، كما شنق مئات الآلاف ممن أطلق عليهم: (أعداء الشعب)
(Almond Gabriel and R. Bingham, Comparative Politics Today, 3rd ed., 1984, p. 302)
وقد تعرض المسلمون خلال تلك الفترة إلى صنوف القهر والتعذيب والتشريد والتهجير الإجبار، وإلى تقسيم أراضيهم والاقتطاع منها، وتهجير الروس والأوكرانيين إليها، بهدف تغيير التكوين »الديموغرافي«، والعرقي، والديني لهذه الأقاليم (المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، المرجع السابق، نقلاً عن د. فوزي طايل، ص. 153. ) .
ومن ناحية أخرى، فرضت على المسلمين اللغة الروسية لغةً رسميةً، ولغةً للتعامل في كل نواحي الحياة؛ فانفصل معظم المسلمين عن كتاب الله وسنة رسوله r، وعن كتب الفقه، التي لم تكن مكتوبة باللغة الروسية... وصار من بقي من علماء المسلمين المسنين يعلمون الإسلام لمن يتيسر له ذلك سراً(دائرة المعارف البريطانية، ص. 1089.) ! !
وزاد الطين بلة، عندما مارس الروس نشر الأيديولوجية الإلحادية بين صفوف المسلمين، مع تجذير الثقافة الشيوعية، بالإضافة إلى تحطيم نظام الأسرة القوي المتماثل لدى المسلمين، وإطالة وقت عمل المرأة بين الرفاق، ومنع الدراسة الدينية وتدريس اللغة العربية منعاً باتاً، ومنع الكتابة بالحرف العربي؛ وقد حول الحرف أولاً إلى اللاتيني، ثم حول بعد ذلك إلى الحرف الروسي.
وقد أوجد الروس الثغرة القوية بين مسلمي روسيا، مع أن الفكر الشيوعي يصطدم أساساً مع القوميات. ولهذا قسم الروس المناطق الإسلامية إلى ست جمهوريات، وجميعها محكومة بالمستعمر الروسي المتمثل في سكرتير الحزب الشيوعي في كل منطقة من هذه المناطق.
واسم »جمهورية« ليس إلا مجرد اسم. والواقع المر أنها مستعمرات روسية يدير شؤونها موظفون من موسكو. ولهذا، فإن سياسة روسيا تعتمد على أن يكون السكرتير الأول والثاني في كل جمهورية من هذه الجمهوريات الإسلامية روسيّاً وليس محلياً مهما تظاهر بالشيوعية.
وكان تولي المسلمين للمناصب العامة أدنى كثيراً من نسبتهم الحقيقية إلى كل الشعوب السوفييتية (محمد عبده يماني، »مسلمو آسيا الوسطى بين محنة الحاضر وتحديات المستقبل«، مؤتمر المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، مج 2، ص. 9. ) .
وقد ساعد على تمكن السلطات السوفييتية من السيطرة على بلاد المسلمين في وسط آسيا والقوقاز انضمامُ بعض المسلمين ممن تأثروا بالثقافة الروسية، وتعلموا في مدارسهم وجامعاتهم، لأكثر من ثلاثين عاماً، انضمامهم إلى الحزب الشيوعي. ومن ثم تولوا مناصب هامة في بلادهم، وأصبح ولاؤهم للسلطات السوفييتية (دائرة المعارف البريطانية، ص. 1089) .
هذا، وبعد أن حاصر الألمان الروس في أوربا أيام الحرب العالمية الثانية ووصلوا إلى 150 كلم قرب موسكو وحاصروا لننكَراد (بطرسبورغ الحالية) وقطعوا طريق الوصول إلى جمهوريات القوقاز، نقل الروس مصانعهم الضخمة التي تنتج الصناعات الثقيلة والحربية إلى أراضي جمهوريات آسيا الوسطى السوفييتية. وبما أنهم كانوا بحاجة إلى مزيد من الجنود للدفاع عن الاتحاد السوفييتي المهدد بالألمان، فقد منحوا نوعاً من الحرية الدينية لمسلمي آسيا الوسطى وسمحوا بفتح مسجد في كل مدينة كبيرة كثيفة السكان. وفي عام 1944 م، أسست في مدينة باكو الإدارة الدينية لمسلمي ما وراء القوقاز، وهي تدير شؤون المسلمين من الشيعة والسنة في آذربيجان وجورجيا.
وكان رؤساء مثل هذه الإدارات الدينية من دعاة الإسلام المستضعفين المضطرين إلى طاعة أوامر موسكو (نصر الله مبشر الطرازي، »الجمهوريات الإسلامية في رابطة الدول المستقلَّة. ماضيها وحاضرها«، المرجع السابق، مج 4، ص. 19) .
وحدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ أخذت قوة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية تتجه إلى الهبوط حتى وصل الأمر إلى انهيار الاتحاد السوفييتي.
وفي الثامن من ديسمبر 1991 م، أعلن رؤساء ثلاث جمهوريات سوفييتية، في خطوة غير مسبوقة، إنشاء كومنولث جديد ونهاية الاتحاد السوفييتي.
{ يريدون ان يطفؤوا نور الله بافواههم ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون(32) }(التوبة).
عن مجلة التاريخ