سبتمبر 1973 .......
إقتربت ساعة الصفر , وبدأ العد التنازلي لحرب أكتوبر و بلغت حرارة الرجال حداً مخيفاً , على الرغم من إمنخفاض درجات الحرارة و وصولها إلى معدلات معتدلة بالنسبة لهذه الفترة من العام......
فكل شيء ينبغي دراسته بمنتهى الدقة و العناية حتى أدق التفاصيل , بحيث تمضي الخطة في مسارها , دون أن ينتبة العدو أو تلتقط عيونه لمحة واحدة يمكن أن تفصح عما يديره جيشنا و تعده له قياداتنا السياسية و العسكرية.....
و كلما برزت مشكلة , كان عليهم أن يفحصوا و يمحصوا , و يجاهدوا للبحث عن أفضل الحلول لها , و بأكثر الوسائل أمناً....
و في الوقت ذاته كانت هناك مشكلات معتادة و تقليدية في كل الحروب يدركها و يعلمها العدو , ومن الضروري أن يجد الخبراء لها حلولاً مبتكرة و جديدة بحيث لا ينتبه العدو إلى هذه الحلول التي تقوده بالطبع إلى وجود المشكلة , و إرتباطها الحتمي بقرب إندلاع الحرب......
و من أكبر المشكلات ه مشكلة توفير أماكن العلاج للمصابين الذين قدر الخبراء أنهم سيبلغون 50% في موجة العبور الأولى , ثم يتناقص العدد بعدها تدريجياً......
و طبقاً لتقدير الخبراء كان من الضروري أن يتم إخلاء عدد من المستشفيات المدنية حتى يمكنها إستقبال كل هذا العدد الذي لن تستوعبه مستشفيات القوات المسلحة وحدها......
و من أجل هذه المشكلة إجتمع الرجال كثيراً و راحوا يدرسون و يفكرون و يتناقشون و يتجادلون.....
و في إهتمام شديد قال أحدهم في الرابعة و النصف صباحاً :-
-(المشكلة أن إخلاء المستشفيات المدنية ليس بالعمل البسيط الذي يمكن إخفاؤه , فكل مريض يسعى للعلاج سيشعر بالغضب و الثورة , و سيشكو إلى جيرانه و أقاربه و أصدقائه و زملاء عمله و سيجد بينهم من ينقل الخبر إلى تل أبيب...)
فبدا على الرجال شيء من الضيق و الإحباط , ثم لم يلبث أحدهم أن إعتدل في حركة و قال في حماسة:-
-(إلا لو تم هذا لسبب منطقي)
التفتت إليه العيون كلها في تساؤل وجد طريقه إلى لسان أحدهم , و هو يقول:-
-(و ما الذي يمكن أن يكون هذا السبب المنطقي ؟)
أجابه الأول في حماسة:-
-(سبب طبي بحت)
ثم راح يشرح الخطة التي برزت في ذهنه , و بكل التفاصيل..
و إستمع إليه الرجال بمنتهى الإهتمام حتى إنتهى من الشرح دون أن يقاطعه أحدهم لحظة واحدة , ثم بدءوا مناقشاتهم و محاوراتهم التي إمتدت إلى السابعة صباحاً , قبل أن يربت رئيسهم على منضددة الإجتماعات براحته قائلاً:-
-(على بركة الله ... فلنضع الخطة موضع التنفيذ)
و بعد سبع ساعات و إثنتي عشرة دقيقة وصل إلى إحدى الوحدات العسكرية في السويس قرار من إدارة شئون الضباط للقوات المسلحة , بتسريح ضابط طبيب من الخدمة , و عودته إلى الحياة المدنية....
و لما كان هذا الإجراء نادر الحدوث في تلك الفترة فقد أظهر الضابط الطبيب فرحته و سعادته , و همس للمقربين إليه بأن جهود خاله الذي يحتل مكانة رفيعة في القيادة هي التي منحته هذا الإمتياز و أعادته إلى الحياة المدنية , حتى يستطيع إكمال دراساته العليا , التي توقفت مؤقتاً بسبب إلتحاقه بكلية ضباط الإحتياط منذ عدة سنوات...
و كإجراء طبيعي لم يكد الطبيب (ع) يعود إلى حياته المدنية , حتى تسلم وظيفته السابقة في وزارة الصحة , التي تركته على قوتها ليومين أو ثلاثة قبل أن تمنحه خطاب التعيين في مستشفى (الدمرداش) الذي وقع عليه الإختيار ليكون على رأس قائمة المستشفيات المطلوب إخلاؤها قبل أن تنشب الحرب.....
و التحق (ع) بالمستشفى و أبدى نشاطاً ملحوظاً و مهارة و كفاءة في عمله في قسم الجراحة.
و قبل أن يمضي أسبوع واحد على تسلمه العمل حتى كان يتقدم بمذكرة إلى مدير المستشفى في إنفعال:-
-(خطأ ...... إستمرار العمل بهذا المستشفى خطأ)
نطلع إليه المدير في دهشة و سأله:-
-(لماذا؟! كل شيء يدور على ما يرام)
فقال (ع) في حزم:-
-(هذا ما يبدو ظاهرياً و لكن هناك مشكلة بالغة الخطورة , لست أدري كيف لم ينتبه إليها أحد)
ثم مال نحو المدير و أضاف في لهجة تشف عن خطورة الأمر:-
-(معظم عنابر المستشفى ملوثة بميكروب التيتانوس)
قفز المدير من مقعده كالمصعوق و هو يهتف:-
-(التيتانوس ؟! هذا مستحيل !)
إحتدمت المناقشة بينهما لفترة طويلة , و أصر الطبيب (ع) على رأيه و على أن مواصلة إستقبال المرضى في المستشفى لها عواقب وخيمة , و حذر المدير من أنه سيحمله المسئولية الكاملة لو إنتشرت الإصابة بالميكروب .
و لم يخضع المدير للأمر بسهولة , و إنما قرر القيام بفحص شامل , و إجراء عدد من التحليلات , قبل إتخاذ أي قرار في هذا الشأن .. و تم تجميع العينات المطلوبة , و إجراء كل الفحوص الممكنة...
ثم أتت النتائج.......
و المدهش أنه و على الرغم من خلو المستشفى فعلياً من الميكروب , إلا أن كل النتائج إيجابية و كأنما نحول مستشفى (الدمرداش) إلى مزرعة نشطة لميكروب التيتانوس بالذات.
و صدر قرار بإخلاء المستشفى تماماً من المرضى لتطهيره من الميكروب , و تم إتخاذ كل الإجراءات اللازمة لهذا .....
و في نفس الليلة إجتمع الرجال مرة أخرى .....
كان من الواضح أن خطتهم تسير على ما يرام بالنسبة لمستشفى (الدمرداش) و لكن أحدهم طرح سؤال غاية في الأهمية:-
-(ماذا عن المستشفيات الأخرى ؟! هل سنتبع معها الخطة ذاتها؟!)
أجابه أحد زملائه في حسم:-
-(من المستحيل أن نفعل , فلو تكرر الأمر على النحو نفسه سينتبه العدو إلى أن الأمر ليس طبيعياً , مما سيثير شكوكه , و يدفعه إلى دراسة الأمر و تحليله , مما سيوصله حتماً إلى إستنتاج الحقيقة)
عاد الأول يسأل :-
-(ماذا يمكننا أن نفعل إذن ؟)
ران عليهم صمت ثقيل و كل منهم يفكر في الأمر , ثم كسر أحدهم ذلك الصمت و هو يقول في إهتمام:-
-(دعونا نطرح سؤالاً على أنفسنا .. ما الذي ينبغي فعله في الظروف العادية لو أن مستشفى (الدمرداش) تلوث بميكروب التيتانوس فعلياً ؟)
أجابه أحدهم بسرعة:-
-(ستكون فضيحة و سيصبح الأمر حديث الصحف)
قال الرجل في إرتياح:-
-(عظيم هذا بالضبط ما نحتاج إليه)
تساءل أخر في دهشة :-
-(الفضيحة؟!)
أجابه في حماس:-
-(بل حديث الصحف)
قالها و راح يشرح فكرنه التي إعتمدت على تعاون الصحافة و تأثير الكلمة المطبوعة على مشاعر الجماهير , و خاصةً لو كانت كلمة من كاتب يحترمه الجميع و يثقون بما يقول تمام الثقة ..
و كل رجل مخابرات يدرك أنه من أهم المصادر التي يستقي منها العدو معلوماته -الصحف- حتى إنه لكل جهاز تقريباً قسم خاص , مهمته الحصول على الصحف و المطبوعات , للإطلاع على ما بها من معلومات , و دراستها و تحليلها.
و من هذا المنطلق إتخذ الرجال قرارهم بالوسيلة التي ينبغي التعامل معها في هذا الشأن مع رجال الصحافة و الإعلام.
و في السادسة صباحاً , إرتفع رنين الهاتف في منزل الكاتب الصحفي (م ص) الذي إستيقظ على الفور و إلتقط سماعة الهاتف في سرعة متصوراً إنهم يستدعونه في الصحيفة التي يعمل بها , لحدوث ظرف طارئ يحتاج لتغطية صحفية , و عندما ألقى السؤال على محدثه , أن يسمع على الطرف الأخر صوتاً مهذباً يقول:-
-(معذرة يا أستاذ <م ص> .. أنا <......> من المخابرات العامة المصرية)
إنتفض جسد الرجل في دهشة , و تساءل في عصبية عن السبب الذي يطلبه من أجله رجل المخابرات في السادسة صباحاً , فإعتذر له الرجل في لهجة شديدة التهذيب و قال له:-
-(الواقع أنه أمر عاجل و سري للغاية .. هل تمانع من تناول قهوة الصباح معنا؟)
ردد الكاتب في قلق شديد:-
-(قهوة الصباح فقط؟!)
أجابه رجل المخابرات:-
-(بالتأكيد)
صمت الكاتب بضع لحظات , و كأنما يدر الأمر في رأسه و يقول:-
-(موافق , سأرتدي ملابسي و أتصل بالجراج لإحضار السيارة و....)
قاطعه الرجل بلهجة مهذبة:-
-(لا داعي .. ستجد سيارتنا في إنتظارك أمام الباب)
ضاعف هذا الرد من توتر الكاتب الصحفي (م ص) و قلقه , إلا إنه إرتدى ثيابه بسرعة , ثم هبط من منزله ليجد من يستقبله أمام السيارة بتحية حارة , وفتح له الباب الخلفي في إحترام , ثم إنطلق في شوارع (القاهرة) نحو أحد المباني التابعة لجهاز المخابرات العامة , فإستقبل رجل المخابرات الكاتب الصحفي بإبتسامة ودود و قال له رجل المخابرات:-
-(تقبل إعتذارنا مرة أخرى يا أستاذ <م> و لكنك عندما تعرف لماذا طلبنا مقابلتك ستقدر موقفنا جيداً)
لم تكن الكلمات كافية لإزالة توتر الكاتب الصحفي , و لكن أسلوب رجل المخابرات البسيط , و طريقته المباشرة في شرح الأمور , و توضيحه لأهمية تعاون الأستاذ (م) مع الجهاز , كلها أزاحت حواجز التوتر و القلق و جعلت الكاتب يستمع في إهتمام و إنتباه و يتفاعل مع الموقف بكيانه كله.
و الطريف أن رجل المخابرات لم يشرح للكاتب حقيقة الموقف قط ..
كل ما قاله هو أنهم يحاولون إجراء تجربة علمية , لما يمكن أن يحدث لو لجأ العدو إلى أسلوب (الحرب البكتروبيولوجية) , و نشر نوعاً من الميكروبات في البلد و خاصةً في المستشفيات , و أن أفضل وسيلة إجراء مثل هذه التجربة دون إثارة الذعر , هي إدعاء وجود ميكروب معروف , يلوث عدداً من المستشفيات ,مما يحتم إخلاءها بأقصى سرعة..
و إقتنع الأستاذ (م) تماماً بحديث رجل المخابرات , بل تحمس له بشدة...
و في الصباح التالي مباشرة , نشرت جريدة الأهرام خبر إخلاء مستشفى (الدمرداش) من المرضى بسبب تلوث معظم عنابره بميكروب التيتانوس ...
ثم جاء دور الأستاذ (م) .. ز في مقال ملتهب إستنكر (م) ما حدث في مستشفى (الدمرداش) و عزاه إلى الإهمال و الإستهتار , ثم تساءل في النهاية عما إذا كان الأمر يقتصر على هذا المستشفى وحده أم أن مسلسل الإهمال قد بلغ بعض المستشفيات الأخرى.
و في اليوم التالي خرج بمقال أخر حول الموضوع نفسه....ثم مقال ثالث , و مع رد إنفعال الجماهيري , و بناءً على هذه الحملة الصغيرة الساخنة , أصدرت وزارة الصحة قراراً بإجراء تفتيش على باقي المستشفيات الأخرى.
و الطريف أنها أسندت إلى الطبيب (ع) نفسه من فبيل المصادفة.
و إنطلق (ع) يواصل مهمته و يجري التفتيش على عدد كبير من المستشفيات , و من ضمنها تلك التي تحتل القائمة التي وضعها رجال المخابرات و وزارة الدفاع.
و لم يكد أكتوبر يأتي حتى كان العدد المطلوب من المستشفيات قد تم إخلاؤه نهائياً , و نشرت جريدة الأهرام تحقيقاً علنياً حول هذا الأمر , مع صور الأسرة الخالية و عمليات النطهير المستمرة...
و إلتقط رجال المخابرات أنفاسهم في إرتياح لنجاح الخطة , ثم عادوا يكتمونها في قلق شديد , خشية أن يكشفالعدو الأمر قبل إندلاع الحرب , و لكن هذا لم يحدث و الحمد لله.....
و بعد ستة أيام بالتحديد قامن حرب أكتوبر و إندفعت موجة العبور الأولى تشق قناة السويس , و تعبر حاجز الهزيمة و تحتل أقوى خط دفاعي في التاريخ , و تحطم أسطورة الجيش الإسرائيلي , الذي أشاع أنه لا يقهر أبداً...
و خفقت قلوب الرجال في حماس و زهو لا يخلوان من الدهشة و التقدير .. لقد تحقق عامل المفاجأة إلى أقصى تقدير , و بوغت العدو تماماً لعملية العبور , حتى إن معدلات الخسائر التي قدرها الخبراء بخمسين في المائة في موجة العبور الأولى , إنخفضت حتى لم تتجاوز العشرة في المائة , و هو أقل معدل للخسائر عرفته الحروب الحديثة , في عملية عبور مائي حصين كهذا.
و عندما تحركت كتائب الإسعاف لنقل المصابين إلى الخطوط الخلفية , و توفير أفضل عناية و رعاية لهم , كانت كل المستشفيات المطلوبة شخالية , و معدة لإستقبالهم , و توفير كل الخدمات الطبية لكل واحد منهم....
هذا لأن الخدعة قد نجحت نجاحاً منقطع النظير.
إقتربت ساعة الصفر , وبدأ العد التنازلي لحرب أكتوبر و بلغت حرارة الرجال حداً مخيفاً , على الرغم من إمنخفاض درجات الحرارة و وصولها إلى معدلات معتدلة بالنسبة لهذه الفترة من العام......
فكل شيء ينبغي دراسته بمنتهى الدقة و العناية حتى أدق التفاصيل , بحيث تمضي الخطة في مسارها , دون أن ينتبة العدو أو تلتقط عيونه لمحة واحدة يمكن أن تفصح عما يديره جيشنا و تعده له قياداتنا السياسية و العسكرية.....
و كلما برزت مشكلة , كان عليهم أن يفحصوا و يمحصوا , و يجاهدوا للبحث عن أفضل الحلول لها , و بأكثر الوسائل أمناً....
و في الوقت ذاته كانت هناك مشكلات معتادة و تقليدية في كل الحروب يدركها و يعلمها العدو , ومن الضروري أن يجد الخبراء لها حلولاً مبتكرة و جديدة بحيث لا ينتبه العدو إلى هذه الحلول التي تقوده بالطبع إلى وجود المشكلة , و إرتباطها الحتمي بقرب إندلاع الحرب......
و من أكبر المشكلات ه مشكلة توفير أماكن العلاج للمصابين الذين قدر الخبراء أنهم سيبلغون 50% في موجة العبور الأولى , ثم يتناقص العدد بعدها تدريجياً......
و طبقاً لتقدير الخبراء كان من الضروري أن يتم إخلاء عدد من المستشفيات المدنية حتى يمكنها إستقبال كل هذا العدد الذي لن تستوعبه مستشفيات القوات المسلحة وحدها......
و من أجل هذه المشكلة إجتمع الرجال كثيراً و راحوا يدرسون و يفكرون و يتناقشون و يتجادلون.....
و في إهتمام شديد قال أحدهم في الرابعة و النصف صباحاً :-
-(المشكلة أن إخلاء المستشفيات المدنية ليس بالعمل البسيط الذي يمكن إخفاؤه , فكل مريض يسعى للعلاج سيشعر بالغضب و الثورة , و سيشكو إلى جيرانه و أقاربه و أصدقائه و زملاء عمله و سيجد بينهم من ينقل الخبر إلى تل أبيب...)
فبدا على الرجال شيء من الضيق و الإحباط , ثم لم يلبث أحدهم أن إعتدل في حركة و قال في حماسة:-
-(إلا لو تم هذا لسبب منطقي)
التفتت إليه العيون كلها في تساؤل وجد طريقه إلى لسان أحدهم , و هو يقول:-
-(و ما الذي يمكن أن يكون هذا السبب المنطقي ؟)
أجابه الأول في حماسة:-
-(سبب طبي بحت)
ثم راح يشرح الخطة التي برزت في ذهنه , و بكل التفاصيل..
و إستمع إليه الرجال بمنتهى الإهتمام حتى إنتهى من الشرح دون أن يقاطعه أحدهم لحظة واحدة , ثم بدءوا مناقشاتهم و محاوراتهم التي إمتدت إلى السابعة صباحاً , قبل أن يربت رئيسهم على منضددة الإجتماعات براحته قائلاً:-
-(على بركة الله ... فلنضع الخطة موضع التنفيذ)
و بعد سبع ساعات و إثنتي عشرة دقيقة وصل إلى إحدى الوحدات العسكرية في السويس قرار من إدارة شئون الضباط للقوات المسلحة , بتسريح ضابط طبيب من الخدمة , و عودته إلى الحياة المدنية....
و لما كان هذا الإجراء نادر الحدوث في تلك الفترة فقد أظهر الضابط الطبيب فرحته و سعادته , و همس للمقربين إليه بأن جهود خاله الذي يحتل مكانة رفيعة في القيادة هي التي منحته هذا الإمتياز و أعادته إلى الحياة المدنية , حتى يستطيع إكمال دراساته العليا , التي توقفت مؤقتاً بسبب إلتحاقه بكلية ضباط الإحتياط منذ عدة سنوات...
و كإجراء طبيعي لم يكد الطبيب (ع) يعود إلى حياته المدنية , حتى تسلم وظيفته السابقة في وزارة الصحة , التي تركته على قوتها ليومين أو ثلاثة قبل أن تمنحه خطاب التعيين في مستشفى (الدمرداش) الذي وقع عليه الإختيار ليكون على رأس قائمة المستشفيات المطلوب إخلاؤها قبل أن تنشب الحرب.....
و التحق (ع) بالمستشفى و أبدى نشاطاً ملحوظاً و مهارة و كفاءة في عمله في قسم الجراحة.
و قبل أن يمضي أسبوع واحد على تسلمه العمل حتى كان يتقدم بمذكرة إلى مدير المستشفى في إنفعال:-
-(خطأ ...... إستمرار العمل بهذا المستشفى خطأ)
نطلع إليه المدير في دهشة و سأله:-
-(لماذا؟! كل شيء يدور على ما يرام)
فقال (ع) في حزم:-
-(هذا ما يبدو ظاهرياً و لكن هناك مشكلة بالغة الخطورة , لست أدري كيف لم ينتبه إليها أحد)
ثم مال نحو المدير و أضاف في لهجة تشف عن خطورة الأمر:-
-(معظم عنابر المستشفى ملوثة بميكروب التيتانوس)
قفز المدير من مقعده كالمصعوق و هو يهتف:-
-(التيتانوس ؟! هذا مستحيل !)
إحتدمت المناقشة بينهما لفترة طويلة , و أصر الطبيب (ع) على رأيه و على أن مواصلة إستقبال المرضى في المستشفى لها عواقب وخيمة , و حذر المدير من أنه سيحمله المسئولية الكاملة لو إنتشرت الإصابة بالميكروب .
و لم يخضع المدير للأمر بسهولة , و إنما قرر القيام بفحص شامل , و إجراء عدد من التحليلات , قبل إتخاذ أي قرار في هذا الشأن .. و تم تجميع العينات المطلوبة , و إجراء كل الفحوص الممكنة...
ثم أتت النتائج.......
و المدهش أنه و على الرغم من خلو المستشفى فعلياً من الميكروب , إلا أن كل النتائج إيجابية و كأنما نحول مستشفى (الدمرداش) إلى مزرعة نشطة لميكروب التيتانوس بالذات.
و صدر قرار بإخلاء المستشفى تماماً من المرضى لتطهيره من الميكروب , و تم إتخاذ كل الإجراءات اللازمة لهذا .....
و في نفس الليلة إجتمع الرجال مرة أخرى .....
كان من الواضح أن خطتهم تسير على ما يرام بالنسبة لمستشفى (الدمرداش) و لكن أحدهم طرح سؤال غاية في الأهمية:-
-(ماذا عن المستشفيات الأخرى ؟! هل سنتبع معها الخطة ذاتها؟!)
أجابه أحد زملائه في حسم:-
-(من المستحيل أن نفعل , فلو تكرر الأمر على النحو نفسه سينتبه العدو إلى أن الأمر ليس طبيعياً , مما سيثير شكوكه , و يدفعه إلى دراسة الأمر و تحليله , مما سيوصله حتماً إلى إستنتاج الحقيقة)
عاد الأول يسأل :-
-(ماذا يمكننا أن نفعل إذن ؟)
ران عليهم صمت ثقيل و كل منهم يفكر في الأمر , ثم كسر أحدهم ذلك الصمت و هو يقول في إهتمام:-
-(دعونا نطرح سؤالاً على أنفسنا .. ما الذي ينبغي فعله في الظروف العادية لو أن مستشفى (الدمرداش) تلوث بميكروب التيتانوس فعلياً ؟)
أجابه أحدهم بسرعة:-
-(ستكون فضيحة و سيصبح الأمر حديث الصحف)
قال الرجل في إرتياح:-
-(عظيم هذا بالضبط ما نحتاج إليه)
تساءل أخر في دهشة :-
-(الفضيحة؟!)
أجابه في حماس:-
-(بل حديث الصحف)
قالها و راح يشرح فكرنه التي إعتمدت على تعاون الصحافة و تأثير الكلمة المطبوعة على مشاعر الجماهير , و خاصةً لو كانت كلمة من كاتب يحترمه الجميع و يثقون بما يقول تمام الثقة ..
و كل رجل مخابرات يدرك أنه من أهم المصادر التي يستقي منها العدو معلوماته -الصحف- حتى إنه لكل جهاز تقريباً قسم خاص , مهمته الحصول على الصحف و المطبوعات , للإطلاع على ما بها من معلومات , و دراستها و تحليلها.
و من هذا المنطلق إتخذ الرجال قرارهم بالوسيلة التي ينبغي التعامل معها في هذا الشأن مع رجال الصحافة و الإعلام.
و في السادسة صباحاً , إرتفع رنين الهاتف في منزل الكاتب الصحفي (م ص) الذي إستيقظ على الفور و إلتقط سماعة الهاتف في سرعة متصوراً إنهم يستدعونه في الصحيفة التي يعمل بها , لحدوث ظرف طارئ يحتاج لتغطية صحفية , و عندما ألقى السؤال على محدثه , أن يسمع على الطرف الأخر صوتاً مهذباً يقول:-
-(معذرة يا أستاذ <م ص> .. أنا <......> من المخابرات العامة المصرية)
إنتفض جسد الرجل في دهشة , و تساءل في عصبية عن السبب الذي يطلبه من أجله رجل المخابرات في السادسة صباحاً , فإعتذر له الرجل في لهجة شديدة التهذيب و قال له:-
-(الواقع أنه أمر عاجل و سري للغاية .. هل تمانع من تناول قهوة الصباح معنا؟)
ردد الكاتب في قلق شديد:-
-(قهوة الصباح فقط؟!)
أجابه رجل المخابرات:-
-(بالتأكيد)
صمت الكاتب بضع لحظات , و كأنما يدر الأمر في رأسه و يقول:-
-(موافق , سأرتدي ملابسي و أتصل بالجراج لإحضار السيارة و....)
قاطعه الرجل بلهجة مهذبة:-
-(لا داعي .. ستجد سيارتنا في إنتظارك أمام الباب)
ضاعف هذا الرد من توتر الكاتب الصحفي (م ص) و قلقه , إلا إنه إرتدى ثيابه بسرعة , ثم هبط من منزله ليجد من يستقبله أمام السيارة بتحية حارة , وفتح له الباب الخلفي في إحترام , ثم إنطلق في شوارع (القاهرة) نحو أحد المباني التابعة لجهاز المخابرات العامة , فإستقبل رجل المخابرات الكاتب الصحفي بإبتسامة ودود و قال له رجل المخابرات:-
-(تقبل إعتذارنا مرة أخرى يا أستاذ <م> و لكنك عندما تعرف لماذا طلبنا مقابلتك ستقدر موقفنا جيداً)
لم تكن الكلمات كافية لإزالة توتر الكاتب الصحفي , و لكن أسلوب رجل المخابرات البسيط , و طريقته المباشرة في شرح الأمور , و توضيحه لأهمية تعاون الأستاذ (م) مع الجهاز , كلها أزاحت حواجز التوتر و القلق و جعلت الكاتب يستمع في إهتمام و إنتباه و يتفاعل مع الموقف بكيانه كله.
و الطريف أن رجل المخابرات لم يشرح للكاتب حقيقة الموقف قط ..
كل ما قاله هو أنهم يحاولون إجراء تجربة علمية , لما يمكن أن يحدث لو لجأ العدو إلى أسلوب (الحرب البكتروبيولوجية) , و نشر نوعاً من الميكروبات في البلد و خاصةً في المستشفيات , و أن أفضل وسيلة إجراء مثل هذه التجربة دون إثارة الذعر , هي إدعاء وجود ميكروب معروف , يلوث عدداً من المستشفيات ,مما يحتم إخلاءها بأقصى سرعة..
و إقتنع الأستاذ (م) تماماً بحديث رجل المخابرات , بل تحمس له بشدة...
و في الصباح التالي مباشرة , نشرت جريدة الأهرام خبر إخلاء مستشفى (الدمرداش) من المرضى بسبب تلوث معظم عنابره بميكروب التيتانوس ...
ثم جاء دور الأستاذ (م) .. ز في مقال ملتهب إستنكر (م) ما حدث في مستشفى (الدمرداش) و عزاه إلى الإهمال و الإستهتار , ثم تساءل في النهاية عما إذا كان الأمر يقتصر على هذا المستشفى وحده أم أن مسلسل الإهمال قد بلغ بعض المستشفيات الأخرى.
و في اليوم التالي خرج بمقال أخر حول الموضوع نفسه....ثم مقال ثالث , و مع رد إنفعال الجماهيري , و بناءً على هذه الحملة الصغيرة الساخنة , أصدرت وزارة الصحة قراراً بإجراء تفتيش على باقي المستشفيات الأخرى.
و الطريف أنها أسندت إلى الطبيب (ع) نفسه من فبيل المصادفة.
و إنطلق (ع) يواصل مهمته و يجري التفتيش على عدد كبير من المستشفيات , و من ضمنها تلك التي تحتل القائمة التي وضعها رجال المخابرات و وزارة الدفاع.
و لم يكد أكتوبر يأتي حتى كان العدد المطلوب من المستشفيات قد تم إخلاؤه نهائياً , و نشرت جريدة الأهرام تحقيقاً علنياً حول هذا الأمر , مع صور الأسرة الخالية و عمليات النطهير المستمرة...
و إلتقط رجال المخابرات أنفاسهم في إرتياح لنجاح الخطة , ثم عادوا يكتمونها في قلق شديد , خشية أن يكشفالعدو الأمر قبل إندلاع الحرب , و لكن هذا لم يحدث و الحمد لله.....
و بعد ستة أيام بالتحديد قامن حرب أكتوبر و إندفعت موجة العبور الأولى تشق قناة السويس , و تعبر حاجز الهزيمة و تحتل أقوى خط دفاعي في التاريخ , و تحطم أسطورة الجيش الإسرائيلي , الذي أشاع أنه لا يقهر أبداً...
و خفقت قلوب الرجال في حماس و زهو لا يخلوان من الدهشة و التقدير .. لقد تحقق عامل المفاجأة إلى أقصى تقدير , و بوغت العدو تماماً لعملية العبور , حتى إن معدلات الخسائر التي قدرها الخبراء بخمسين في المائة في موجة العبور الأولى , إنخفضت حتى لم تتجاوز العشرة في المائة , و هو أقل معدل للخسائر عرفته الحروب الحديثة , في عملية عبور مائي حصين كهذا.
و عندما تحركت كتائب الإسعاف لنقل المصابين إلى الخطوط الخلفية , و توفير أفضل عناية و رعاية لهم , كانت كل المستشفيات المطلوبة شخالية , و معدة لإستقبالهم , و توفير كل الخدمات الطبية لكل واحد منهم....
هذا لأن الخدعة قد نجحت نجاحاً منقطع النظير.