مبارك يجهض مؤامرة " مياه النيل " عبر أفورقي
محيط - جهان مصطفى
مبارك وزيناوي وأفورقي
كما كان متوقعا ، بدأ الرئيس المصري حسني مبارك تحركات واعية وذكية وهادئة لاستعادة الود في علاقات دول حوض النيل من ناحية وإحباط المؤامرة التي تحاك سرا ضد أرض الكنانة من ناحية أخرى .
ففي 4 مايو / أيار ، استقبل الرئيس مبارك نظيره الاريترى أسياسى أفورقى في شرم الشيخ حيث بحث معه آخر التطورات على الساحة الإفريقية بشكل عام وفى منطقة القرن الإفريقى بشكل خاص ، بالإضافة إلى استعراض سبل تعميق وتوسيع نطاق العلاقات الاقتصادية والتجارية بين مصر واريتريا بما يحقق مصالح البلدين.
ورغم أن البعض قد لا ينظر لزيارة الرئيس الاريترى لمصر في الظروف العادية باهتمام بالغ ويعتبرها أمرا معتادا في علاقات الدول ، إلا أن توقيتها يحمل دلالات هامة جدا ليس فقط لأن اريتريا تعتبر إحدى دول حوض النيل العشر وإنما لأن لها دور مؤثر وخاصة فيما يتعلق باثيوبيا التي تتزعم دعوات إعادة توزيع الحصص في مياه النيل وتهدد بتوقيع اتفاقية جديدة في هذا الصدد سواء وافقت مصر أم لا .
توتر إثيوبي إريتري
فمعروف أن هناك توترا في علاقات اريتريا واثيوبيا يعود إلى عام 1993 عندما أعلنت الأولى استقلالها عن أديس أبابا بعدما أسمتها أربعة عقود من الاحتلال الاثيوبي ، وسرعان ما قامت اريتريا في عام 1998 بالاستيلاء على مناطق حدودية متنازع عليها هي زالامبيسا وبادمي وأيروب واليتينا وهو الأمر الذي فجر حربا مع اثيوبيا استمرت عامين وانتهت بعد توقيع سلام بين الدولتين في عام 2000 برعاية الجزائر التي كانت ترأس منظمة الوحدة الإفريقية آنذاك .
الاتفاق نص حينها على أن تقوم كل دولة بسحب قواتها إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب في السادس من مايو 1998 ويتم نشر قوات دولية في المنطقة الفاصلة تكون مهمتها الأساسية وقف إطلاق النار على أن يعهد للجنة دولية محايدة مهمة الفصل القانوني في النزاع ، وبالفعل أصدرت محكمة العدل الدولية في 13 إبريل 2002 قرارا بأحقية إثيوبيا في المنطقة المتنازع عليها بين الجانبين التي تضم زالامبيسا وبادمي وأيروب واليتينا.
ورغم أنه كان من المتوقع أن ينهي القرار السابق النزاع بين البلدين إلا أن التوتر تواصل بل وقد تقع في أية لحظة مواجهة عسكرية مجددا بين البلدين .فاريتريا مازالت تريد عودة الحدود إلى ما كانت عليه إبان الاستعمار الإيطالي في الفترة من نهاية القرن التاسع عشر حتى استيلاء بريطانيا عليها عام 1941 ، حيث تم تعديل حدودها عام 1952 وهو ما أدى في الظاهر إلى اندلاع حرب 1998 .
أما إثيوبيا ، فإن وضعها الجغرافي الحالي وحرمانها من المنافذ البحرية على الرغم من مساحتها الشاسعة يعد سببا قويا لاحتمال تجدد الحرب نظراً لأنها تستخدم حاليا ميناء جيبوتي كمنفذ بحري وحيد لوارداتها ومنها النفط ومن ثم فهي تسعى لاستعادة السيطرة مجددا على ميناء عصب الإريتري .
بل وهناك من يرى أن إثيوبيا لم تنس يوما أن إريتريا كانت في يوم من الأيام خاضعة لها كما أنها كانت تشكل أهمية بالغة لها نظرا لوجود موانيء إريترية على ساحل البحر الأحمر كمينائي مصوع وعصب ، في حين أن إثيوبيا أصبحت دولة حبيسة بعد استقلال إريتريا ومن ثم فإن استقلال إريتريا جعلها خاضعة لها فيما يتعلق بمبادلاتها التجارية مع العالم الخارجي.
ويبدو أن النقطة الأخيرة هي التي تؤكد أن النزاع بين الجانبين لم يكن صراعا حدوديا فقط وإنما ارتبط أيضا في جزء منه بالأوضاع الاقتصادية وفي جانب آخر بالقيادة السياسية في الدولتين ويدعم ما سبق أن المناطق المتنازع عليها التي استولت عليها اريتريا كانت صحراء جرداء لا توجد بها موارد طبيعية أو تجمع بشري يذكر ، كما حرصت القوات الاثيوبية خلال الحرب على الوصول إلى ميناء عصب وعدم الاقتصار على استعادة المناطق الحدودية .
وبجانب رغبة اثيوبيا في إيجاد منفذ لها على البحر الأحمر ، فإن النظام الحاكم هناك كان يفضل أن تظل إريتريا مرتبطة باثيوبيا عبر شكل من أشكال الكونفيدرالية بالنظر إلى أن رئيس وزراء إثيوبيا ميليس زيناوي ينتمي لقبيلة أمهرا التي يوجد لها امتداد في اريتريا وصارت أقلية في اثيوبيا بعد استقلال الأخيرة .
وبالنظر إلى أن الأمهرا هي التي تحكم اثيوبيا رغم أنها أقلية فقد حرص النظام الحاكم هناك على كسب ود أمريكا وإسرائيل لضمان الاستمرار في الحكم ، فيما سعت إريتريا منذ الاستقلال للتخلص من عقدة النقص التي لديها ومفادها أنها كانت محتلة من قبل إثيوبيا طيلة ما يزيد عن أربعة عقود ولذا سعت للتحالف مع دول اقليمية مناوئة لاثيوبيا كما قامت بصك عملة جديدة لها عقب الاستقلال هي "النقفة" بعدما كان التعامل يتم من خلال "البر" الإثيوبي .
وبصفة عامة ، فإن مصادر التوتر في علاقات الدولتين مازالت على حالها رغم توقيع اتفاق سلام بينهما ، بل إن العامل الخارجي يساهم في تأجيج الصراع ، حيث أن الولايات المتحدة تراهن على إثيوبيا من أجل بقائها شوكة في مواجهة القوى الإسلامية في السودان من ناحية وإمكانية تهديد الأمن القومي المصري من ناحية ثانية والأمر نفسه بالنسبة لإسرائيل التي تحولت من دعم إريتريا في البداية لدعم إثيوبيا مقابل استخدام ورقة المياه للضغط على مصر والسودان.
وبالنظر إلى أن مصر تدرك جيدا أبعاد الصراع الاثيوبي الاريتري السابقة ، فإن اجتماع الرئيس مبارك مع أفورقي في شرم الشيخ في 4 مايو بعث برسالة تحذير مستترة لإثيوبيا من عواقب الاستمرار في تهديد حصة مصر في مياه النيل ، فرئيس الوزراء الاثيوبي ميليس زيناوي يواجه معارضة داخلية متصاعدة بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية وعدم إدخال الإصلاحات الديمقراطية المطلوبة ، ولذا فإن عودة التوتر مع اريتريا لن يفيده في شيء خاصة وأن أمريكا غارقة في العراق وأفغانستان .
ويبدو أن رفض اريتريا الانضمام لدعوات دول المنبع السبع وهي إثيوبيا والكونغو وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي وأوغندا حول إعادة توزيع الحصص في مياه النيل يدعم موقف مصر ويثير قلق إثيوبيا أكثر وأكثر.
العصا والجزرة
مياه النيل شريان الحياة في مصر
وما يضاعف من قلق النظام الحاكم في اثيوبيا ويضعف حججه أمام شعبه والعالم هو أن التعامل المصري مع الجدل المتصاعد حول توقيع اتفاقية جديدة بشأن تقاسم الحصص في مياه النيل جمع بين العصا والجزرة .
فبالتزامن مع اجتماع شرم الشيخ ، أصدر الرئيس حسنى مبارك في 4 مايو القرار رقم 54 لسنة 2010 بشأن الموافقة علي اتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات المتبادلة بين مصر وإثيوبيا تعزيزا للعلاقات الاستثمارية المصرية الإثيوبية وذلك بعد موافقة كل من مجلسي الشعب والشورى عليها .وأعلن الدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار المصري أن هذه الاتفاقية الهامة ستمثل إطارا مؤسسيا فاعلا للمستثمرين في البلدين بما يساعد علي تنمية علاقات التعاون الاقتصادي والاستثماري وخاصة في المجالات التي تشهد فرصا حقيقية للاستثمارات المتبادلة المصرية الإثيوبية كالزراعة وتنمية الثروة الحيوانية والأسمدة والصناعات الكيماوية والمقاولات والإنشاءات والخدمات المالية والصناعات الدوائية والأمصال واللقاحات البيطرية والنقل والخدمات اللوجيستية.
وأضاف أن هذه الاتفاقية تأتي في إطار برنامج الوزارة للتعاون الاستثماري مع الدول الإفريقية والذي يستهدف عدة محاور منها تفعيل الإطار المؤسسي للعلاقات الاستثمارية مع دول القارة الإفريقية علي المستوي الثنائي والإقليمي ومنها تطوير وتفعيل اتفاقيات تشجيع وحماية الاستثمار وتشجيع الزيارات المتبادلة على صعيد المسئولين عن هيئات ترويج الاستثمار وكذلك مؤسسات الأعمال والاستثمار ودفع مشروعات البنية الأساسية المشتركة ومواصلة تعزيز سبل الدعم الفني من خلال البرامج التدريبية على إجراءات تحسين مناخ الاستثمار ونظام الشباك الواحد وتبادل الخبرات والمعلومات في هذا الخصوص.
وأوضح الوزير المصري أن الهيئة العامة للاستثمار تقوم بموافاة المستثمرين المصريين الراغبين في الاستثمار في إثيوبيا بمميزات وحوافز الاستثمار والفرص الاستثمارية من خلال التنسيق مع هيئة الاستثمار الإثيوبية ، واختتم قائلا إن الاتفاقية تهدف إلي تشجيع الاستثمارات من خلال قيام البلدين بتهيئة الظروف المواتية للمستثمرين ومنح المعاملة العادلة والمتساوية للطرفين على النحو الذي عكسته الزيارات والبعثات الاقتصادية والاستثمارية المتبادلة بين البلدين .
وبجانب ما سبق ، أحرجت مصر دول حوض النيل أيضا عبر تأكيد حرصها على المفاوضات لحل الأزمة التي فجرتها دول المنبع السبع مؤخرا حول تقاسم المياه ورفضها التوقيع على اتفاقية تحمي الأمن المائي لدولتي المصب "مصر والسودان" ، حيث أكدت السفيرة منى عمر مساعد وزير الخارجية المصري للشئون الإفريقية أن التواجد المصري في إفريقيا أكبر وأقدم من التواجد الإسرائيلي واستبعدت الدخول في حرب مع أي دولة إفريقية بسبب المياه .
وكانت الأزمة تفجرت عندما انتهت اجتماعات وزراء مجلس المياه بدول حوض النيل العشر التي عقدت في شرم الشيخ في 14 إبريل / نيسان الماضي بالفشل بعد أن رفضت دول المنبع السبع مقترحات تقدمت بها دولتا المصب مصر والسودان خلال اجتماعات شرم الشيخ وقبلها في كينشاسا بالكونغو في مايو/أيار 2009 وفي الإسكندرية في يوليو/تموز 2009 حول ضرورة قيام دول منابع النيل بإخطار الدولتين مسبقاً قبل تنفيذ مشروعات على أعالي النهر قد تؤثر في حصصهما في المياه واستمرار العمل بالاتفاقيات السابقة التي توزع حصص المياه باعتبارها حقوقاً تاريخية في حال إبرام اتفاقية جديدة وأن تصدر جميع القرارت المتعلقة بتعديل أي بنود لاتفاقية تقاسم مياه النهر بالإجماع أو بالأغلبية التي يشترط فيها موافقة دولتي المصب .
شراء المياه
خريطة دول حوض النيل
بل وتحدت الدول السبع مصر والسودان علانية عبر التهديد بإبرام الاتفاقية الجديدة في منتصف مايو / أيار 2010 سواء قبلت مصر والسودان أو لم تقبلا ، وسرعان ما كشفت صحيفة "جيما تايمز" الإثيوبية في 24 إبريل / نيسان أبعاد المؤامرة الإسرائيلية الأمريكية الإثيوبية الجديدة ضد مصر والسودان ، حيث أوضحت أن هناك رأيا عاما تزداد قوته فى دول منابع النيل يطالب بضرورة دفع مصر ثمن استخدام مياه النيل.
ونقلت الصحيفة عن مصادر مطلعة في كينيا القول إن أغلب الكينيين يرون أن من حق بلادهم وباقى بلاد منابع النيل الحصول على مقابل لمياه النيل التى تصل إلى مصر والسودان.
وأشارت إلى اعتزام دول المنابع السبع التوقيع على معاهدة جديدة بشأن تقاسم مياه النيل رغم رفض دولتى المصب وهما مصر والسودان لهذه الاتفاقية الجديدة ، قائلة :" من المنتظر أن توقع كينيا وإثيوبيا وأوغندا ورواندا وبوروندى والكونغو الديمقراطية وتنزانيا على الاتفاقية الجديدة التي ستحل محل اتفاقيتى عام 1929 و1959 المنظمتين للعلاقة بين دول حوض النيل في 14 مايو ".
وأضافت الصحيفة أن الكينيين يطالبون بالتعامل مع مياه النيل كما تتعامل الدول العربية مع البترول الذى يتم استخراجه من أراضيها وبالتالى يجب أن تشترى مصر ما تحتاج إليه من المياه من دول المنابع على اعتبار أن كلا من البترول والمياه مصادر طبيعية للدول.
واختتمت قائلة إن إقامة منطقة للتجارة الحرة تضم مصر وباقى دول حوض النيل يمكن أن تحد كثيرا من احتمالات قيام نزاع بين مصر وتلك الدول على مياه النيل حيث يمكن لمصر التى تعانى من قلة مصادر المياه شراء احتياجاتها من الغذاء والكهرباء من كينيا وإثيوبيا وغيرهما من دول الحوض بدون أي أعباء إضافية.
ما سبق رجح أن هناك اتجاها من دول المنبع لعدم الالتزام بحصص المياه المنصوص عليها فى الاتفاقيات التاريخية ووقوفهم جميعا ضد مصر و السودان ما يعني أن حصة مصر التاريخية من مياه النيل المستقرة منذ عام 1929 (5و55 مليار متر مكعب) تتعرض الآن إلى تهديد بالغ ، فرغم حاجة مصر إلى زيادة حصتها الحالية بحوالي 11 مليار متر مكعب بسبب الزيادة الكبيرة في عدد السكان ومعدلات الاستهلاك تفاجأت بأن عليها أن تخوض معركة طويلة لكي تحافظ على حصتها الأصلية خاصة وأن 86% من موارد مصر النيلية تأتي من إثيوبيا التي تتزعم دعوات إعادة توزيع الحصص في مياه النيل بصورة "أكثر عدالة " بل وتردد أيضا أن تل أبيب تخطط حاليا لإنشاء خط أنابيب لنقل مياه النيل من الهضبة الإثيوبية إلى إسرائيل .
ورغم أن البعض عزا السبب الرئيس في الأزمة السابقة إلى تراجع الاهتمام المصري بإفريقيا ، إلا أن تحركات وقرارات الرئيس مبارك الأخيرة من شأنها أن تجهض مؤامرة إسرائيل وأمريكا وإثيوبيا ضد مصر ، كما أنه في حال واصلت دول المنبع تعنتها وتوصلت لاتفاقية جديدة دون موافقة مصر والسودان ، فهناك عدة خيارات منها اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي ومحكمة العدل الدولية في ضوء حقيقة أن الاتفاقيات المائية كاتفاقيات الحدود لا يجوز تعديلها أو المساس بها .
كما أن اتفاقات المرحلة الاستعمارية التي يراد إعادة النظر فيها بما فيها اتفاق توزيع حصص المياه هي ذاتها التي أنشأت تلك الدول وإعادة النظر فيها من شأنها أن تطلق عنان الفوضى ليس في دول حوض النيل فحسب وإنما في إفريقيا كلها ، بالإضافة إلى أن هناك قواعد عامة لإدارة مياه الأنهار العابرة للدول تنص على إقرار مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة في الموارد المائية وتعتبر أن مياه الأنهار مورد طبيعي مشترك لا يخضع لسيادة دولة بذاتها وهذه القواعد أقرها معهد القانون الدولي في عام 1961 .