إبادة النصوص وبدعة تأليه يسوع
د. زينب عبد العزيز
23 - 3 - 2008
يقول توني باشبي في كتابه «تحريف الكتاب المقدس»: إن دراسته لنسخة الكتاب المقدس المعروفة باسم «كودكس سيناى» (codex Sinai)، وهي أقدم نسخة معروفة للكتاب المقدس، والتي تم اكتشافها في سيناء، ويقال: إنها ترجع للقرن الرابع، أثبتت له أن هناك 14800 اختلاف بينها وبين النسخة الحالية للكتاب المقدس. وهو ما يثبت كمّ التغيير والتبديل الذي يعاني منه هذا الكتاب.
ويؤكد الباحث أنه لا يمكن لأحد أن يعرف حقيقة ما كانت عليه نصوص ذلك الكتاب الأصلية من كثرة ما ألمّ بها من تغيير وتحريف. وتكفي الإشارة إلى أنه في عام 1415 قامت كنيسة روما بحرق كل ما تضمنه كتابين من القرن الثاني من الكتب العبرية، يقال: إنها كانت تضم الاسم الحقيقي ليسوع المسيح. وقام البابا بنديكت الثالث عشر بإعدام بحث لاتيني بعنوان «مار يسوع»، ثم أمر بإعدام كل نسخ إصحاح إلكساي Elxai))، وكان يتضمن تفاصيل عن حياة ربي يسوع (Rabbi Jesu) .
وبعد ذلك قام البابا إسكندر السادس بإعدام كل نسخ التلمود بواسطة رئيس محكمة التفتيش الأسبانية توما توركمادا (1420-1498)، المسئول عن إعدام 6000 مخطوطة في مدينة سلمنكا وحدها. كما قام سلمون رومانو عام 1554 بحرق آلاف المخطوطات العبرية، وفي عام 1559 تمت مصادرة كافة المخطوطات العبرية في مدينة براغ. وتضمنت عملية إعدام هذه الكتب العبرية مئات النسخ من العهد القديم -مما تسبب في ضياع العديد من الأصول والوثائق التي تخالف أو تفضح أفعال المؤسسة الكنسية آنذاك!
ويقول توني باشبي: إن أقدم نسخة أُنْقِذَت للعهد القديم - قبل اكتشاف مخطوطات قمران- هي النسخة المعروفة باسم «البودليان» (Bodleian) التي ترجع إلى علم 1100م . وفي محاولة لمحو أية معلومات عبرية عن يسوع من الوجود، أحرقت محاكم التفتيش 12000 نسخة من التلمود!
ويوضح المؤلف أنه في عام 1607 عكف سبعة وأربعون شخصًا، ويقول البعض 54، لمدة عامين وتسعة أشهر لترجمة الكتاب المقدس بالإنجليزية، وتجهيزه للطباعة بأمر من الملك جيمس، بناء على مراعاة قواعد معينة في الترجمة. وعند تقديمها عام 1609 للملك جيمس قدَّمها بدوره إلى سير فرانسيس بيكون، الذي راح يراجع صياغتها لمدة عام تقريبًا قبل طباعتها.
ويقول توني باشبي: إن العديد من الناس يتصورون أن طبعة الملك جيمس هي «أصل» الكتاب المقدس، وأن كل ما أتى بعدها يتضمن تعديلات اختلقها النقاد. إلا أن واقع الأمر هو: «أن النص اليوناني الذي استُخدم في الترجمة الإنجليزية، والذي يعتبره الكثيرون نصًّا أصليًّا، لم يُكتب إلا في حوالي منتصف القرن الرابع الميلادي، وكانت نسخة منقولة ومنقَّحة عن نُسَخ متراكمة سابقة مكتوبة بالعبرية والآرامية. وقد تم حرق كل هذه النُّسَخ، والنسخة الحالية للملك جيمس منقولة أصلاً عن نَسْخ من خمس نَسْخَات لغوية عن الأصل الأصلي الذي لا نعرف عنه أي شيء» !!
ففي بداية القرن الثالث تدخلت السياسة بصورة ملحوظة في مسار المسيحية التي كانت تشق طريقها بين الفِرق المتناحرة. فوفقًا للقس ألبيوس تيودوريه، حوالي عام 225م، كانت هناك أكثر من مائتين نسخة مختلفة من الأناجيل تُستخدَم في نفس الوقت بين تلك الفرق..
وعندما استولى قسطنطين على الشرق الإمبراطوري عام 324، أرسل مستشاره الديني، القس أوسبيوس القرطبي، إلى الإسكندرية، ومعه عدة خطابات للأساقفة، يرجوهم التصالح فيما بينهم حول العقيدة. وهو ما يكشف عن الخلافات العقائدية التي كانت سائدة آنذاك. إلا أن مهمة أوسبيوس قد باءت بالفشل. مما دفع بقسطنطين إلى دعوة جميع الأساقفة للحضور، وأن يُحضروا معهم نسخهم من الأناجيل التي يتعاملون بها. وبذلك انعقد أول مجمع كنسي عام سنة 325م في مدينة نيقية لحسم الخلافات السائدة حول تأليه أو عدم تأليه يسوع!
وفى 21 يونيو عام 325م اجتمع 2048 كنسيًّا في مدينة نيقية لتحديد معالم المسيحية الرسمية، وما هي النصوص التي يجب الاحتفاظ بها، ومن هو الإله الذي يتعيّن عليهم اتباعه. ويقول توني باشبي: «إن أولى محاولات اختيار الإله ترجع إلى حوالي عام 210م، حينما كان يتعيّن على الإمبراطور الاختيار ما بين يهوذا المسيح أو شقيقه التوأم ربي يسوع، أي الكاهن يسوع أو الشخص الآخر، مؤكدًا أنه حتى عام 325 لم يكن للمسيحية إله رسمي»!!
ويوضح توني باشبي أنه بعد مداولات عدة ومريرة استقر الرأي بالإجماع، إذ أيده 161 واعترض عليه 157، أن يصبح الاثنان إلهًا واحدًا. وبذلك قام الإمبراطور بدمج معطيات التوأم يهوذا وربي يسوع ليصبحا إلهًا واحدًا. وبذلك أقيم الإحتفال بتأليههما. ثم بدأت عملية الدمج بينهما ليصلوا إلى تركيبة «ربنا يسوع المسيح» . وطلب قسطنطين من الأسقف أوسبيوس أن يجمع ما يتوافق من مختلف الأناجيل ليجعل منها كتابًا واحدًا، ويعمل منه خمسين نسخة» ..
ولمن يتساءل عن مرجعيات توني باشبي لهذا البحث نقول: إنه وارد بالفهرس كشفًا يتضمن 869 مرجعًا!..
ويعد الباحث والأديب البريطانى جيرالد ماسي (1828ـ1907) من أهم من استطاعوا توضيح خلفية ذلك الخلط الشديد في الأصول، وشرح كيف أن القائمين على المسيحية الأولى جمعوا عقائد دينية من أهم البلدان التي وُجِدُوا بها؛ لتسهيل عملية دمج شعوبها تحت لواء ما ينسجون ..
ويتناول جيرالد ماسيّ في كتابه عن يسوع التاريخي والمسيح الأسطوري كيف «أن الأصل المسيحي في العهد الجديد عبارة عن تحريف قائم على أسطورة خرافية في العهد القديم» . وأن هذا الأصل المسيحي منقول بكامله من العقائد المصرية القديمة، وتم تركيبه على شخص يسوع. ونفس هذا الشخص عبارة عن توليفة من عدة شخصيات، والمساحة الأكبر مأخوذة عن شخصين. وهو ما أثبته العديد من العلماء منذ عصر التنوير، وقد تزايد هذا الخط في القرن العشرين بصورة شبه جماعية، بحيث إنه بات من الأمور المسلّم بها بين كافة العلماء.
وإن كانت الوثائق التي تشير أو تضم معطيات يسوع التاريخي متعددة المشرب وتؤدي إلى أكثر من خط، فإن المعطيات التي تتعلق بالمسيح مأخوذة بكلها تقريبًا من الديانة المصرية القديمة، وكلها منقوشة على جدران المعابد الفرعونية، وخاصة معبد الأقصر الذي شيده أمنحتب الثالث، من الأسرة السابعة عشر. ويقول ماسيّ : «إن هذه المناظر التي كانت تعد أسطورية في مصر القديمة، قد تم نقلها على أنها تاريخية في الأناجيل المعتمدة؛ حيث تحتل مكانة كحجر الأساس للبنية التاريخية، وتثبت أن الأسس التي أقيمت عليها المسيحية هي أسس أسطورية».
ويشير جيرالد ماسيّ إلى أن المسيحية مبنية على الديانات والعقائد التي كانت قائمة في مصر وفلسطين وبين النهرين، والتي انتقل الكثير منها إلى اليونان، ومنها إلى إيطاليا. أي «أنها أسطورة إلهية لإله تم تجميعه من عدة آلهة وثنية، هي الآلهة الأساسية التي كانت سائدة آنذاك في تلك المناطق قبل يسوع بآلاف السنين.. وأن التاريخ في الأناجيل من البداية حتى النهاية هو قصة الإله الشمس، وقصة المسيح الغنوصي الذي لا يمكن أن يكون بشرًا . فالمسيح الأسطوري هو حورس في أسطورة أوزيريس، وحور أختي في أسطورة ست، وخونسو في أسطورة آمون رع، وإيو في عبادة أتوم رع . والمسيح في الأناجيل المعتمدة هو خليط من هذه الآلهة المختلفة».
وقد أشار ديودورس الصقلي إلى أن كل أسطورة العالم السفلي قد تم صياغتها دراميًّا في اليونان، بعد أن تم نقلها من الطقوس الجنائزية المصرية القديمة. أي أنها انتقلت من مصر إلى اليونان ومنها إلى روما.
ويؤكد جيرالد ماسيّ «أن الأناجيل المعتمدة عبارة عن رجيع (أو طبخ بائت مسخّن) للنصوص المصرية القديمة» .. ثم يوجز أهم الملامح بين الأساطير المصرية القديمة والأناجيل المعتمدة بإسهاب يصعب تفنيده. ومما أوجده من روابط، بين المسيحية والعقائد المصرية القديمة: «أن يسوع حَمَل الله، ويسوع السمكة (إيختيس) كان مصريًّا، وكذلك يسوع المنتظر أو الذي سوف يعود، ويسوع المولود من أم عذراء، التي ظللها الروح القدس، ويسوع المولود في مِزْود، ويسوع الذي قام بتحيته ثلاثة ملوك مجوس، ويسوع الذي تبدَّل على الجبل، ويسوع الذي كان رمزه في المقابر القديمة في روما نجمة مثمنة الأضلاع، ويسوع الطفل الدائم، ويسوع الآب، المولود كابن نفسه، ويسوع الطفل ذو الاثني عشر عامًا، ويسوع الممسوح ذو الثلاثين عامًا، وتعميد يسوع، ويسوع الذي يسير على الماء أو يصنع المعجزات، ويسوع طارد الشياطين، ويسوع الذي كان مع الاثنين مرافقي الطريق، والأربعة صيادين، والسبع صيادين، والاثني عشر رسولاً، والسبعون أو اثنان وسبعون في بعض النصوص، الذين كانت أسماؤهم مكتوبة في السماء، ويسوع بعَرَقِهِ الدامي، ويسوع الذي خانه يهوذا، ويسوع قاهر القبر، ويسوع البعث والحياة، ويسوع أمام هيرود، وفى الجحيم، وظهوره للنسوة، وللصيادين الأربع، ويسوع المصلوب يوم 14 نيسان وفقًا للأناجيل المتواترة، ويوم 15 نيسان وفقًا لإنجيل يوحنا، ويسوع الذي صُلب أيضًا في مصر (كما هو مكتوب في النصوص)، ويسوع حاكم الموتى، وممسك بالحمل في يده اليمنى وبالعنزة في اليسرى.. كل ذلك وارد بالنصوص المصرية القديمة من الألف للياء في جميع هذه المراحل»!
ثم يوضح قائلاً: «لذلك قام المسيحيون الأوائل بطمس معالم الرسوم والنقوش وتغطيتها بالملاط، أو الرسم عليها لتغطية هذه المعاني، ومنع القيام بهذه المقارنات وتكميم أفواه الحجارة، التي احتفظت بالكتابات المصرية القديمة بكل نضارتها عندما سقط عنها ذلك الطلاء (...) لقد تم تكميم المعابد والآثار القديمة وإعادة طلائها بالتواطوء مع السلطة الرومانية، وتم إعادة افتتاحها بعد تنصيرها. لقد أخرصوا الأحجار ودفنوا الحقائق لمدة قرون إلى أن بدأت الحقائق تخرق ظلمات التحريف والتزوير، وكأنها تُبعد كابوسًا ظل قرابة ثمانية عشر قرنًا، لتُنْهِي الأكاذيب وتسدل الستار عليها أخيرًا.. تسدله على أكثر المآسي بؤسًا من تلك التي عرفها مسرح الإنسانية»..
ومما يستند إليه جيرالد ماسيّ أيضًا، على أن المسيحية الحالية تم نسجها عبر العصور، أن سراديب الأموات في روما والتي كان المسيحيون يختبئون فيها لممارسة طقوسهم هربًا من الاضطهاد، ظلت لمدة سبعة قرون لا تمثل يسوع مصلوبًا! وقد ظلت الرمزية والاستعارات المرسومة والأشكال والأنماط التي أتى بها الغنوصيون، ظلت بوضعها كما كانت عليه بالنسبة للرومان واليونان والفرس والمصريين القدماء.
ثم يضيف قائلاً: «إن فرية وجود المسيح المنقذ منذ البداية هي فرية تاريخية. ولا يمكن القول بأن الأناجيل تقدم معلومة أو يمكن الخروج منها بيسوع كشخصية تاريخية حقيقية. أنه تحريف قائم على أسطورة» ..
وكل ما يخرج به ماسيّ بعد ذلك العرض الموثّق والمحبط في مقارنة المسيحية الحالية بالأساطير المصرية القديمة وغيرها، يقول: «إن اللاهوت المسيحي قام بفرض الإيمان بدلاً من المعرفة، وأن العقلية الأوروبية بدأت لتوها بداية الخروج من الشلل العقلي الذي فُرض عليها بتلك العقيدة التي وصلت إلى ذروتها في عصر الظلمات.. وأن الكنيسة المسيحية قد كافحت بتعصب رهيب من أجل تثبيت نظرياتها الزائفة، وقادت صراعات بلا هوادة ضد الطبيعة وضد التطور، وضد أسمى المبادئ الطبيعية لمدة ثمانية عشر قرنًا.. لقد أسالت بحورًا من الدماء لكي تحافظ على طفو مركب بطرس، وغطّت الأرض بمقابر شهداء الفكر الحر، وملأت السماء بالرعب من ذلك الإرهاب الذي فرضته باسم الله» !!
ولا يسعنا بعد هذا العرض الشديد الإيجاز إلا أن نتساءل: كيف لا تزال المؤسسة الفاتيكانية تُصِرّ بدأب لحوح على تنصير العالم، وفرض مثل هذه النصوص التي تباعد عنها أتباعها في الغرب، من كثرة ما اكتشفوا فيها من غرائب و لا معقول، وتعمل جاهدة على اقتلاع الإسلام والمسلمين؟! .. أذلك هو ما تطلق عليه حب الجار وحب القريب؟! .
23 - 3 - 2008
يقول توني باشبي في كتابه «تحريف الكتاب المقدس»: إن دراسته لنسخة الكتاب المقدس المعروفة باسم «كودكس سيناى» (codex Sinai)، وهي أقدم نسخة معروفة للكتاب المقدس، والتي تم اكتشافها في سيناء، ويقال: إنها ترجع للقرن الرابع، أثبتت له أن هناك 14800 اختلاف بينها وبين النسخة الحالية للكتاب المقدس. وهو ما يثبت كمّ التغيير والتبديل الذي يعاني منه هذا الكتاب.
ويؤكد الباحث أنه لا يمكن لأحد أن يعرف حقيقة ما كانت عليه نصوص ذلك الكتاب الأصلية من كثرة ما ألمّ بها من تغيير وتحريف. وتكفي الإشارة إلى أنه في عام 1415 قامت كنيسة روما بحرق كل ما تضمنه كتابين من القرن الثاني من الكتب العبرية، يقال: إنها كانت تضم الاسم الحقيقي ليسوع المسيح. وقام البابا بنديكت الثالث عشر بإعدام بحث لاتيني بعنوان «مار يسوع»، ثم أمر بإعدام كل نسخ إصحاح إلكساي Elxai))، وكان يتضمن تفاصيل عن حياة ربي يسوع (Rabbi Jesu) .
وبعد ذلك قام البابا إسكندر السادس بإعدام كل نسخ التلمود بواسطة رئيس محكمة التفتيش الأسبانية توما توركمادا (1420-1498)، المسئول عن إعدام 6000 مخطوطة في مدينة سلمنكا وحدها. كما قام سلمون رومانو عام 1554 بحرق آلاف المخطوطات العبرية، وفي عام 1559 تمت مصادرة كافة المخطوطات العبرية في مدينة براغ. وتضمنت عملية إعدام هذه الكتب العبرية مئات النسخ من العهد القديم -مما تسبب في ضياع العديد من الأصول والوثائق التي تخالف أو تفضح أفعال المؤسسة الكنسية آنذاك!
ويقول توني باشبي: إن أقدم نسخة أُنْقِذَت للعهد القديم - قبل اكتشاف مخطوطات قمران- هي النسخة المعروفة باسم «البودليان» (Bodleian) التي ترجع إلى علم 1100م . وفي محاولة لمحو أية معلومات عبرية عن يسوع من الوجود، أحرقت محاكم التفتيش 12000 نسخة من التلمود!
ويوضح المؤلف أنه في عام 1607 عكف سبعة وأربعون شخصًا، ويقول البعض 54، لمدة عامين وتسعة أشهر لترجمة الكتاب المقدس بالإنجليزية، وتجهيزه للطباعة بأمر من الملك جيمس، بناء على مراعاة قواعد معينة في الترجمة. وعند تقديمها عام 1609 للملك جيمس قدَّمها بدوره إلى سير فرانسيس بيكون، الذي راح يراجع صياغتها لمدة عام تقريبًا قبل طباعتها.
ويقول توني باشبي: إن العديد من الناس يتصورون أن طبعة الملك جيمس هي «أصل» الكتاب المقدس، وأن كل ما أتى بعدها يتضمن تعديلات اختلقها النقاد. إلا أن واقع الأمر هو: «أن النص اليوناني الذي استُخدم في الترجمة الإنجليزية، والذي يعتبره الكثيرون نصًّا أصليًّا، لم يُكتب إلا في حوالي منتصف القرن الرابع الميلادي، وكانت نسخة منقولة ومنقَّحة عن نُسَخ متراكمة سابقة مكتوبة بالعبرية والآرامية. وقد تم حرق كل هذه النُّسَخ، والنسخة الحالية للملك جيمس منقولة أصلاً عن نَسْخ من خمس نَسْخَات لغوية عن الأصل الأصلي الذي لا نعرف عنه أي شيء» !!
ففي بداية القرن الثالث تدخلت السياسة بصورة ملحوظة في مسار المسيحية التي كانت تشق طريقها بين الفِرق المتناحرة. فوفقًا للقس ألبيوس تيودوريه، حوالي عام 225م، كانت هناك أكثر من مائتين نسخة مختلفة من الأناجيل تُستخدَم في نفس الوقت بين تلك الفرق..
وعندما استولى قسطنطين على الشرق الإمبراطوري عام 324، أرسل مستشاره الديني، القس أوسبيوس القرطبي، إلى الإسكندرية، ومعه عدة خطابات للأساقفة، يرجوهم التصالح فيما بينهم حول العقيدة. وهو ما يكشف عن الخلافات العقائدية التي كانت سائدة آنذاك. إلا أن مهمة أوسبيوس قد باءت بالفشل. مما دفع بقسطنطين إلى دعوة جميع الأساقفة للحضور، وأن يُحضروا معهم نسخهم من الأناجيل التي يتعاملون بها. وبذلك انعقد أول مجمع كنسي عام سنة 325م في مدينة نيقية لحسم الخلافات السائدة حول تأليه أو عدم تأليه يسوع!
وفى 21 يونيو عام 325م اجتمع 2048 كنسيًّا في مدينة نيقية لتحديد معالم المسيحية الرسمية، وما هي النصوص التي يجب الاحتفاظ بها، ومن هو الإله الذي يتعيّن عليهم اتباعه. ويقول توني باشبي: «إن أولى محاولات اختيار الإله ترجع إلى حوالي عام 210م، حينما كان يتعيّن على الإمبراطور الاختيار ما بين يهوذا المسيح أو شقيقه التوأم ربي يسوع، أي الكاهن يسوع أو الشخص الآخر، مؤكدًا أنه حتى عام 325 لم يكن للمسيحية إله رسمي»!!
ويوضح توني باشبي أنه بعد مداولات عدة ومريرة استقر الرأي بالإجماع، إذ أيده 161 واعترض عليه 157، أن يصبح الاثنان إلهًا واحدًا. وبذلك قام الإمبراطور بدمج معطيات التوأم يهوذا وربي يسوع ليصبحا إلهًا واحدًا. وبذلك أقيم الإحتفال بتأليههما. ثم بدأت عملية الدمج بينهما ليصلوا إلى تركيبة «ربنا يسوع المسيح» . وطلب قسطنطين من الأسقف أوسبيوس أن يجمع ما يتوافق من مختلف الأناجيل ليجعل منها كتابًا واحدًا، ويعمل منه خمسين نسخة» ..
ولمن يتساءل عن مرجعيات توني باشبي لهذا البحث نقول: إنه وارد بالفهرس كشفًا يتضمن 869 مرجعًا!..
ويعد الباحث والأديب البريطانى جيرالد ماسي (1828ـ1907) من أهم من استطاعوا توضيح خلفية ذلك الخلط الشديد في الأصول، وشرح كيف أن القائمين على المسيحية الأولى جمعوا عقائد دينية من أهم البلدان التي وُجِدُوا بها؛ لتسهيل عملية دمج شعوبها تحت لواء ما ينسجون ..
ويتناول جيرالد ماسيّ في كتابه عن يسوع التاريخي والمسيح الأسطوري كيف «أن الأصل المسيحي في العهد الجديد عبارة عن تحريف قائم على أسطورة خرافية في العهد القديم» . وأن هذا الأصل المسيحي منقول بكامله من العقائد المصرية القديمة، وتم تركيبه على شخص يسوع. ونفس هذا الشخص عبارة عن توليفة من عدة شخصيات، والمساحة الأكبر مأخوذة عن شخصين. وهو ما أثبته العديد من العلماء منذ عصر التنوير، وقد تزايد هذا الخط في القرن العشرين بصورة شبه جماعية، بحيث إنه بات من الأمور المسلّم بها بين كافة العلماء.
وإن كانت الوثائق التي تشير أو تضم معطيات يسوع التاريخي متعددة المشرب وتؤدي إلى أكثر من خط، فإن المعطيات التي تتعلق بالمسيح مأخوذة بكلها تقريبًا من الديانة المصرية القديمة، وكلها منقوشة على جدران المعابد الفرعونية، وخاصة معبد الأقصر الذي شيده أمنحتب الثالث، من الأسرة السابعة عشر. ويقول ماسيّ : «إن هذه المناظر التي كانت تعد أسطورية في مصر القديمة، قد تم نقلها على أنها تاريخية في الأناجيل المعتمدة؛ حيث تحتل مكانة كحجر الأساس للبنية التاريخية، وتثبت أن الأسس التي أقيمت عليها المسيحية هي أسس أسطورية».
ويشير جيرالد ماسيّ إلى أن المسيحية مبنية على الديانات والعقائد التي كانت قائمة في مصر وفلسطين وبين النهرين، والتي انتقل الكثير منها إلى اليونان، ومنها إلى إيطاليا. أي «أنها أسطورة إلهية لإله تم تجميعه من عدة آلهة وثنية، هي الآلهة الأساسية التي كانت سائدة آنذاك في تلك المناطق قبل يسوع بآلاف السنين.. وأن التاريخ في الأناجيل من البداية حتى النهاية هو قصة الإله الشمس، وقصة المسيح الغنوصي الذي لا يمكن أن يكون بشرًا . فالمسيح الأسطوري هو حورس في أسطورة أوزيريس، وحور أختي في أسطورة ست، وخونسو في أسطورة آمون رع، وإيو في عبادة أتوم رع . والمسيح في الأناجيل المعتمدة هو خليط من هذه الآلهة المختلفة».
وقد أشار ديودورس الصقلي إلى أن كل أسطورة العالم السفلي قد تم صياغتها دراميًّا في اليونان، بعد أن تم نقلها من الطقوس الجنائزية المصرية القديمة. أي أنها انتقلت من مصر إلى اليونان ومنها إلى روما.
ويؤكد جيرالد ماسيّ «أن الأناجيل المعتمدة عبارة عن رجيع (أو طبخ بائت مسخّن) للنصوص المصرية القديمة» .. ثم يوجز أهم الملامح بين الأساطير المصرية القديمة والأناجيل المعتمدة بإسهاب يصعب تفنيده. ومما أوجده من روابط، بين المسيحية والعقائد المصرية القديمة: «أن يسوع حَمَل الله، ويسوع السمكة (إيختيس) كان مصريًّا، وكذلك يسوع المنتظر أو الذي سوف يعود، ويسوع المولود من أم عذراء، التي ظللها الروح القدس، ويسوع المولود في مِزْود، ويسوع الذي قام بتحيته ثلاثة ملوك مجوس، ويسوع الذي تبدَّل على الجبل، ويسوع الذي كان رمزه في المقابر القديمة في روما نجمة مثمنة الأضلاع، ويسوع الطفل الدائم، ويسوع الآب، المولود كابن نفسه، ويسوع الطفل ذو الاثني عشر عامًا، ويسوع الممسوح ذو الثلاثين عامًا، وتعميد يسوع، ويسوع الذي يسير على الماء أو يصنع المعجزات، ويسوع طارد الشياطين، ويسوع الذي كان مع الاثنين مرافقي الطريق، والأربعة صيادين، والسبع صيادين، والاثني عشر رسولاً، والسبعون أو اثنان وسبعون في بعض النصوص، الذين كانت أسماؤهم مكتوبة في السماء، ويسوع بعَرَقِهِ الدامي، ويسوع الذي خانه يهوذا، ويسوع قاهر القبر، ويسوع البعث والحياة، ويسوع أمام هيرود، وفى الجحيم، وظهوره للنسوة، وللصيادين الأربع، ويسوع المصلوب يوم 14 نيسان وفقًا للأناجيل المتواترة، ويوم 15 نيسان وفقًا لإنجيل يوحنا، ويسوع الذي صُلب أيضًا في مصر (كما هو مكتوب في النصوص)، ويسوع حاكم الموتى، وممسك بالحمل في يده اليمنى وبالعنزة في اليسرى.. كل ذلك وارد بالنصوص المصرية القديمة من الألف للياء في جميع هذه المراحل»!
ثم يوضح قائلاً: «لذلك قام المسيحيون الأوائل بطمس معالم الرسوم والنقوش وتغطيتها بالملاط، أو الرسم عليها لتغطية هذه المعاني، ومنع القيام بهذه المقارنات وتكميم أفواه الحجارة، التي احتفظت بالكتابات المصرية القديمة بكل نضارتها عندما سقط عنها ذلك الطلاء (...) لقد تم تكميم المعابد والآثار القديمة وإعادة طلائها بالتواطوء مع السلطة الرومانية، وتم إعادة افتتاحها بعد تنصيرها. لقد أخرصوا الأحجار ودفنوا الحقائق لمدة قرون إلى أن بدأت الحقائق تخرق ظلمات التحريف والتزوير، وكأنها تُبعد كابوسًا ظل قرابة ثمانية عشر قرنًا، لتُنْهِي الأكاذيب وتسدل الستار عليها أخيرًا.. تسدله على أكثر المآسي بؤسًا من تلك التي عرفها مسرح الإنسانية»..
ومما يستند إليه جيرالد ماسيّ أيضًا، على أن المسيحية الحالية تم نسجها عبر العصور، أن سراديب الأموات في روما والتي كان المسيحيون يختبئون فيها لممارسة طقوسهم هربًا من الاضطهاد، ظلت لمدة سبعة قرون لا تمثل يسوع مصلوبًا! وقد ظلت الرمزية والاستعارات المرسومة والأشكال والأنماط التي أتى بها الغنوصيون، ظلت بوضعها كما كانت عليه بالنسبة للرومان واليونان والفرس والمصريين القدماء.
ثم يضيف قائلاً: «إن فرية وجود المسيح المنقذ منذ البداية هي فرية تاريخية. ولا يمكن القول بأن الأناجيل تقدم معلومة أو يمكن الخروج منها بيسوع كشخصية تاريخية حقيقية. أنه تحريف قائم على أسطورة» ..
وكل ما يخرج به ماسيّ بعد ذلك العرض الموثّق والمحبط في مقارنة المسيحية الحالية بالأساطير المصرية القديمة وغيرها، يقول: «إن اللاهوت المسيحي قام بفرض الإيمان بدلاً من المعرفة، وأن العقلية الأوروبية بدأت لتوها بداية الخروج من الشلل العقلي الذي فُرض عليها بتلك العقيدة التي وصلت إلى ذروتها في عصر الظلمات.. وأن الكنيسة المسيحية قد كافحت بتعصب رهيب من أجل تثبيت نظرياتها الزائفة، وقادت صراعات بلا هوادة ضد الطبيعة وضد التطور، وضد أسمى المبادئ الطبيعية لمدة ثمانية عشر قرنًا.. لقد أسالت بحورًا من الدماء لكي تحافظ على طفو مركب بطرس، وغطّت الأرض بمقابر شهداء الفكر الحر، وملأت السماء بالرعب من ذلك الإرهاب الذي فرضته باسم الله» !!
ولا يسعنا بعد هذا العرض الشديد الإيجاز إلا أن نتساءل: كيف لا تزال المؤسسة الفاتيكانية تُصِرّ بدأب لحوح على تنصير العالم، وفرض مثل هذه النصوص التي تباعد عنها أتباعها في الغرب، من كثرة ما اكتشفوا فيها من غرائب و لا معقول، وتعمل جاهدة على اقتلاع الإسلام والمسلمين؟! .. أذلك هو ما تطلق عليه حب الجار وحب القريب؟! .