الرسالة القبرصية
شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم
من أحمد بن تيمية إلى سرجواس عظيم أهل ملّته، ومن تحوط به عنايته من رؤساء الدين، وعظماء القسيسين والرهبان والأمراء والكتاب وأتباعهم: سلام على من اتبع الهدى..
أما بعد:
فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، إله إبراهيم وآل عمران، ونسأله أن يصلي على عباده المصطفيْن وأبنيائه المرسَلين، ويخصّ بصلاته وسلامه أولي العزم الذين هم سادة الخلق وقادة الأمم، الذين خُصُّوا بأخْذِ الميثاق، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، كما سمّاهم الله تعالى في كتابه، فقال عز وجل:
( شرعَ لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليكَ وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) [الشورى: 13]، وقال تعالى:
( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً * ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليما ً) [الأحزاب: 7].
ونسأله أن يخصّ بشرائف صلاته وسلامه خاتَم المرسلين، وخطيبهم إذا وفدوا على ربّهم، وإمامهم إذا اجتمعوا، شفيعَ الخلائق يوم القيامة، نبي الرحمة ونبي الملحمة، الجامع محاسن الأنبياء، الذي بشّر به عبد الله وروحه، وكلمتُه التي ألقاها إلى الصّدّيقة الطاهرة البتول، التي لم يمسّها بشرٌ قطّ، مريم ابنة عمران. ذلك مسيح الهدى عيسى ابن مريم، الوجيه في الدنيا والآخرة، المقرّب عند الله، المنعوت بنعت الجمال والرحمة، لمّا اتّجرَ بنو إسرائيل فيما بُعِثَ موسى من نعت الجلالة والشّدّة، وبُعِثّ الخاتَم الجامع بنعت الكمال، المشتمل على الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين، والمحتوي على محاسن الشرائع والمناهج التي كانت قبله، صلى الله عليهم وسلم أجمعين، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الله خلق الخلائق بقدرته، وأظهر فيهم آثار مشيئته وحكمته ورحمته، وجعل المقصور الذي خُلِقوا له فيما أمرهم به، هو عبادته، وأصل ذلك هو معرفته ومحبته، فمن هداه الله صراطه المستقيم، آتاه رحمة وعلماً ومعرفة بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ورزقه الإنابة إليه والوجل لذكره، والخشوع له والتأله له، فحنّ إليه حنين النسور إلى أوكارها، وكلف بحبه كلَف الصبي بأمه، لا يعبد إلا إياه، رغبة ورهبة ومحبة، وأخلص دينه لمن الدنيا والآخرة له، رب الأولين والآخرين، مالك يوم الدين، خالق ما تبصرون وما لا تبصرون، عالم الغيب والشهادة، الذي أمرُه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. لم يتخذ من دونه أنداداً كالذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحبّ الله، والذين آمنوا أشد حباً لله، ولم يشرك بربه أحداً، ولم يتخذ من دونه ولياً ولا شفيعاً، لا ملَكاً ولا نبيّاً ولا صدّيقاً، فإن كل من في السموات والأرض إلا آتي الحرمن عبداً، لقد أحصاهم وعدّهم عدّاً، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً. فهنالك اجتباه مولاه واصطفاه وآتاه رشده، وهذاه لمنا اختُلِف فيه من الحق بإذنه، فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وذلك أن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام، وقبل نوح عليه السلام، على التوحيد والإخلاص، كما كان عليه أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام. حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان، بدعة من تلقاء نفوسهم، لم ينزل الله بها كتاباً، ولا أرسل بها رسولاً، بشبهات زيّنها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة، والفلسفة الحائدة: قوم منهم زعموا أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية، والدرجات الفلكية، والأرواح العلوية، وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين، وقوم جعلوها لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين، وقوم على مذاهب أخر.
وأكثرهم لرؤساهم مقلدون، وعن سبيل الهدى ناكبون، فابتعث الله نبيه نوحاً عليه السلام، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وإن زعموا أنهم يعبدونهم ليتقرّبوا إلى الله زلفى ويتخذوهم شفعاء. فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فلما أعلمه الله أن لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، دعا عليهم، فأغرق الله تعالى أهل الأرض بدعوته، وجاءت الرسل بعده تترى إلى أن عمّ دين الصابئة والمشركين، لما كان النماردة والفراعنة ملوك الأرض شرقاً وغرباً، فبعث الله تعالى إمام الحنفاء وأساس الملة الخالصة والكلمة الباقية، إبراهيم خليل الرحمن، فدعا الخلق من الشرك إلى الإخلاص ونهاهم عن عبادة الكواكب والأصنام، قال تعالى :
( إني وجهتُ وجهيَ للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ) (الأنعام ـ 79 ) وقال سبحانه : ( أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأولون* فإنهم عدو لي إلا ربّ العالمين * الذي خلقني فهو يهدين * والذي يطعمني ويسقين * وإذا مرضتُ فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين * ) [الشعراء: 75-82]. وقال إبراهيم عليه السلام ومن معه من قومه في قوله تعالى :
( إنا برآءُ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ) [الممتحنة: 4] فجعل الله الأنبياء والمرسلين من أهل بيته، وجعل لكل منهم خصائص، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وآتى كلاً منهم من الآيات ما آمن على مثله البشر.
فجعل لموسى العصا حية حتى ابتلعت ما صنعت السحرة الفلاسفة من الحبال والعصي، وكانت شيئاً كثيراً، وفلق له البحر حتى صار يابساً، والماء واقفاً حاجزاً بين اثني عشر طريقاً على عدد الأسباط، وأرسل معه القُمَّل والضفادع والدم، وظلل عليه وعلى قومه الغمام الأبيض يسير معهم، وأنزل عليهم صبيحة كل يوم المنّ والسلوى، وإذا عطشوا ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم. وبعث بعده أنبياء من بني إسرائيل، منهم من أحيا الله على يديه الموتى، ومنهم من شفى الله على يده المرضى، ومنهم من أطلعه على ما شاء من غيبه، ومنه من سخّر له المخلوقات، ومنهم من بعثه بأنواع المعجزات.
وهذا مما اتفق عليه جميع أهل الملل، وفي الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى، والنبوات التي عندهم، وأخبار الأنبياء عليهم السلام، مثل أشعياء وأرمياء ودانيال وحبقوق وداود وسليمان وغيرهم، وكتاب سِفر الملوك وغيره من الكتب ما فيه معتَبر.
وكانت بنو إسرائيل أمة قاسية عاصية، تارة يعبدون الأصنام والأوثان، وتارة يعبدون الله، وتارة يقتلون النبيين بغير الحق، وتارة يستحلون محارم الله بأدنى الحيل، فلُعِنوا أولاً على لسان داود، وكان من خراب بيت المقدس ما هو معروف عند أهل الملل كلهم.
ثم بعث الله المسيح ابن مريم، رسولاً قد خلت من قبله الرسل، وجعله وأمه آية للناس، حيث خلقه من غير أب إظهاراً لكمال قدرته، وشمول كلمته، حيث قسم النوع الإنساني الأقسام الأربعة: فجعل آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجه حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق المسيح ابن مريم من أنثى بلا ذكر، وخلق سائرهم من الزوجين الذكر والأنثى، وآتى عبده المسيح من الآيات البينات ما جرت به سننه فأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأنبأ الناس بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم، ودعا إلى الله وإلى عبادته متّبعاً سنّة إخوانه المرسَلين، مصدّقاً لمن قبله ومبشراً بمن يأتي بعده.
وكان بنو إسرائيل قد عتوا وتمرّدوا، وكان غالب أمره اللين والرحمة والعفو والصفح، وجُعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، وجُعل منهم قسيسين ورهباناً، فتفرق الناس في المسيح عليه السلام ومن اتّبعه من الحواريين ثلاثة أحزاب: قوم كذبوه وكفروا به وزعموا أنه ابن بغيّ، ورموا أمّه بالفرية ونسبوه إلى يوسف النجّار، وزعموا أن شريعة التوراة لم يُنسَخ منها شيء، وأن الله لم ينسخ ما شرَعه بعدما فعلوه بالأنبياء، وما كان عليهم من الآصار في النجاسات والمطاعم. وقوم غلوْا فيه، وزعموا أنه الله وابن الله، وأن اللاهوت تدّرع الناسوت، وأن رب العالمين نزل وأنزل ابنه ليُصلَب ويُقتَل فداة لخطيئة آدم عليه السلام، وجعلوا الإله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، قد وُلِد، وأنه إله حي عليم قدير جوهر واحد، ثلاثة أقانيم، وأن الواحد منها أقنوم الكلمة وهي العلم، وهي تدرعت الناسوت البشري، مع العلم بأن أحدهما لا يمكن انفصاله عن الآخرين إلا إذا جعلوه ثلاثة إلهات متباينة، وذلك مالا يقولونه.
وتفرقوا في التثليث والاتحاد تفرقاً، وتشتتوا تشتتاً لا يُقرّ به عاقل، ولم يجيء به نقلٌ، إلا كلمات متشابهة في الإنجيل وما قبله من الكتب، قد بيّنتها كلماتٌ محكمات في الإنجيل وما قبله، كلها تنطق بعبودية المسيح وعبادته لله وحده ودعائه وتضرّعه.
ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسله، كما قال خاتم النبيين والمرسلين:
( أمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله ) [البخاري ومسلم] وقال:
( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله )،
كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله. ولهذا كان الصابئون والمشركون، كالبراهمة ونحوهم من منكري النبوات، مشركين بالله في إقرارهم وعبادتهم وفاسدي الاعتقاد في رسله.
فأرباب التثليث في الوحدانية، والاتحاد في الرسالة، قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بيّن بفطرة الله التي فطر الناس عليها، وبكتب الله التي أنزلها.
ولهذا كان عامة رؤساهم، من القسيسين والرهبان، وما يدخل فيهم من البطارقة والمطارنة، والأساقفة، إذا صار الرجل منهم فاضلاً مميّزاً، فإنه يَنْحَلُ عن دينه، ويصير منافقاً لملوك أهل دينه وعامّتهم، رضىً بالرياسة عليهم، وبما يناله من الحظوظ. كالذي كان لبيت المقدس، الذي يقال له ابن البوري والذي كان بدمشق، الذي كان يقال له ابن القف، والذي بقسطنطينية وهو البابا عندهم، وخلق كثير من كبار البابوات والمطارنة والأساقفة، لما خاطبهم قوم من الفضلاء، أقرّوا لهم بأهم ليسوا على عقيدة النصارى، وإنما بقاؤهم على ما هم عليه لأجل العادة والرياسة، كبقاء الملوك والأغنياء على ملكهم وغناهم، ولهذا تجد غالب فضلائهم، إنما همة أحدهم نوع من العلم الرياضي، كالمنطق والهئية والحساب والنجوم، أو الطبيعي كالطب ومعرفة الأركان، أو التكلم في الإلهي على طريقة الصابئة الفلاسفة الذي بُعِثَ إليهم إبراهيم الخيل عليه السلام، قد نبذوا دين المسيح والرسل الذي قبله وبعده وراء ظهورهم، وحفظوا رسوم الدين لأجل الملوك والعامة.
وأما الرهبان، فأحدثوا من أنواع المكر والحيل بالعامة ما يظهر لكل عاقل، حتى صنّف الفضلاء في حيل الرهبان كتباً، مثل النار التي كان تصنع بقمامة، يدهنون خيطاً دقيقاً بسندروس، ويلقون النار عليه بشرعة، فتنزل فيعتقد الجهال أنها نزلت من السماء، ويأخذونها إلى البحر وهي صنعة ذلك الراهب، يراه الناس عُياناً وقد اعترف هو وغيره أنهم يصنعونها. [1]
وقد اتفق أهل الحق من جميع الطوائف، على أنه لا تجوز عبادة الله تعالى بشيء ليس له حقيقة. وقد يظن المنافقون، أن ما ينقل عن المسيح وغيره من المعجزات، من جنس النار المصنوعة، وكذلك حيلهم في تعليق الصليب، وفي بكاء التماثيل، التي يصوّرونها على صورة المسيح وأمّه وغيرهما، ونحو ذلك. كل ذلك، يعلم كل عاقل أنه إفك مفترى، وأن جميع أنبياء الله وصالحي عباده برآء من كل زور باطل وإفك كبرائهم من سحر سحرة فرعون.
ثم إن هؤلاء عمدوا إلى الشريعة التي يعبدونها الله بها، فناقضوا الأولين من اليهود فيها، مع أنهم يأمرون بالتمسك بالتوراة إلا ما نسخه المسيح. قصّر هؤلاء في الأنبياء حتى قتلوهم؛ وغلا هؤلاء فيهم حتى عبدوهم وعبدوا تماثيلهم، وقال أولئك: إن الله لا يصلح له أن يغير ما أمر به فينسخه، لا في وقت آخر، ولا على لسان نبي آخر، وقال هؤلاء: بل الأحبار والقسيسون يغيّرون ما شاؤوا ويحرّمون ما رأوا، ومن أذنب ذنباً، وظّفوا عليه ما رأوا من العبادات، وغفروا له. ومنهم من يزعم أن ينفخ في المرأة من روح القدس، فيجعل البخور قرباناً. وقال أولئك: حُرِّم علينا أشياء كثير. وقال هؤلاء ما بين البقّة والفيل حلال، كُلْ ما شئتَ ودعْ ما شئت. وقال أولئك: النجاسات مغلظة، حتى أن الحائض لا يُقعد معها، ولا يؤكل معها. وهؤلاء يقولون ما عليك شيء نجس، ولا يأمرون بختان، ولا غسل من جنابة، ولا إزالة نجاسة، مع أن المسيح والحواريين كانوا على شريعة التوراة.
ثم إن الصلاة إلى المشرق لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون، وإنما ابتدعها قسطنطين أو غيره. وكذلك الصليب، إنما ابتدعه قسطنطين برأيه وبمنام زعم أنه رآه. وأما المسيح والحواريون فلم يأمروا بشيء من ذلك.
والدين الذي يتقرب العباد به إلى الله، لا بدّ أن يكون الله أمر به، وشرَعه على ألسنة رسله وأنبيائه، وإلا فالبدع كلها ضلالة، وما عُبدت الأوثان إلا بالبدع. وكذلك إدخال الألحان في الصلوات، لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون. وبالجملة:
فعامة أنواع العبادات والأعياد التي هم عليها، لم ينزل بها الله كتاباً، ولا بعث لها رسولاً، لكن فيهم رأفة ورحمة، وهذا من دين الله. بخلاف الأولين، فإن فيهم قسوة ومقتاً، وهذا مما حرّمه الله تعالى. لكن الأولون لهم تمييز وعقل مع العناد والكبر، والآخرون فيهم ضلال عن الحق وجهل بطريق الله.
ثم إن هاتين الأمتين تفرّقتا أحزاباً كثيراً في أصل دينهم واعتقادهم، في معبودهم ورسولهم: هذايقول إن جوهر اللاهوت والناسوت صاراً جوهراً واحداً، وطبيعة واحدة، وأقنوماً واحداً، وهم اليعقوبية؛ وهذا يقول بل هما جوهران وطبيعتان وأقنومان، وهم النسطورية؛ وهذا يقول بالاتحاد من وجه دون وجه، وهم الملكانية.
وقد آمن جماعات من علماء أهل الكتاب قديماً وحديثاً، وهاجروا إلى الله ورسوله وصنفوا في كتب الله من دلالات نبوة النبي خاتم المرسلين، وما في التوراة والزبور والإنجيل من مواضع لم يدبِّروها، وكذلك الحواريون. فلما اختلف الأحزاب من بينهم، هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فبعث النبيَّ الذي بشّر به المسيحُ ومن قبله من الأنبياء، داعياً إلى ملة إبراهيم، ودين المرسلين قبله وبعده، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص الدين كله لله، وطهَّر الأرض من عبادة الأوثان، ونزَّه الدين عن الشرك دقِّه وجلِّه، بعدما كانت الأصنام تُعبَد في أرض الشام وغيرها، في دولة بني إسرائيل، ودولة الذين قالوا ( إنَّا نصارى )، وأمَرَ بالإيمان بجميع كتب الله المنزلة، كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وبجميع أنبياء الله من آدم إلى محمد.
قال الله تعالى:
( وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين * قولوا آمنَّا بالله وما أنزِل إلينا وما أنزِل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتيَ موسى وعيسى وما أوتِيَ النبيونَ من ربِّهم لا نفرِّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولَّوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم * صبغةَ الله ومن أحسنُ من الله صبغة ونحن له عابدون) [البقرة:135-138].
وأمر الله ذلك الرسولَ بدعوة الخلق إلى توحيده بالعدل، فقال تعالى:
( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبدَ إلا الله ولا نشركَ به شيئاً ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله فإنْ تولّوا فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون ) [آل عمران: 64]. وقال تعالى:
( وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلاَّ وحياً أو من وارء حجابٍ ) [الشورى: 51]. وقال تعالى:
( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتابَ والحكمَ والنبوّة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون اللهِ ولكن كونوا ربّانيين بما كنتم تعلِّمون الكتابَ وبما كنتم تدرسون* ولا يأمرَكم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعدَ إذ أنتم مسلمون ) [آل عمران: 79-80].
وأمرَه أن تكون صلاتُه وحجُّه إلى بيت الله الحرام الذي بناه خليله إبراهيم أبو الأنبياء، وإمام الحنفاء، وجعل أمته وسطاً، فلم يغلوا في الأنبياء كغلوّ من عدلَهم بالله، وجعل فيهم شيئاً من الإلهية، وعبدهم، وجعلهم شفعاء. ولم يجْفوا جفاء من آذاهم، واستخفّ بحرماتهم، وأعرض عن طاعتهم. بل عزّروا الأنبياء، أي عظّموهم ونصروهم، وآمنوا بما جاءوا به، وأطاعوهم واتَّبعوهم،وائتموا بهم وأحبوهم وأجَلُّوهم، ولم يعبدوا إلا الله، فلم يتّكلوا إلا عليه، ولم يستعينوا إلا به، مخلصين له الدين حنفاء.
وكذلك في الشرائع، قالوا: ما أمرَنا الله به أطعناه، وما نهانا عنه انتهينا، وإذا نهانا عما كان أحلّه، كما نهى بني إسرائيل عما كان أباحه ليعقوب، أو أباح لنا ما كان حراماً كما أباح المسيح بعضَ الذي حُرِّم على بني إسرائيل، سمعنا وأطعنا.
وأما غير رسل الله وأنبيائه، فليس له أن يبدلوا دين الله، ولا يبتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله. والرسل إنما قالوا تبليغاً عن الله، فإنه سبحانه له الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيرُه لا يأمر غيرُه قال تعالى:
( إنِ الحكمُ إلاَّ للهِ أمرَ ألاَّ تعبدوا إلاَّ إيَّاه ذلك الدينُ القيّمُ ولكنّ أكثر الناسِ لا يعلمونَ ) [يوسف: 40].
وتوسطت هذه الأمة في الطهارة والنجاسة، وفي الحلال والحرام، وفي الأخلاق، ولم يجرِّدوا الشدة كما فعله الأولون، ولم يجردوا الرأفة كما فعله الآخِرون. بل عاملوا أعداء الله بالشدة، وعاملوا أولياء الله بالرأفة والرحمة؛ وقالوا في المسيح ما قاله سبحانه وتعالى، وما قاله المسيح والحواريون، لا ما ابتدعه الغافلون والجافون.
وقد أخبر الحواريون عن خاتَم المرسلين أن يُبعَث من أرض اليمن، وأنه يُبعَث بقضيب الأدب وهو السيف. وأخبر المسيح أنه يجيء بالبينات والتأويل، وأن المسيح جاء بالأمثال. وهذا باب يطول شرحُه. وإنما نَبَهَ الداعي لعظيم ملَّته وأهله [يقصد هنا ملك قبرص]، لما بلغني ما عنده من الديانة والفضل، ومحبة العلم وطلب المذاكرة، ورأيت الشيخ أبا العباس المقدسي شاكراً من الملك من رفقِه ولطفه وإقباله عليه، وشاكراً من القسيسين ونحوهم.
ونحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة، فإن أعظم ما عُبِدَ الله به نصيحة خلقه، وبذلك بعث اللهُ الأنبياء والمرسلين، ولا نصيحة أعظم من النصيحة فيما بين العبد وبين ربه، فإنه لا بد للعبد من لقاء الله، ولا بد أن الله يحاسب عبده كما قال تعالى:
( فلنسألنّ الذين أُرسِلَ إليهم ولنسألنّ المرسَلين ) [الأعراف: 6].
وأما الدنيا فأمرها حقير، وكبيرها صغير، وغاية أمرها يعود إلى الرياسة والمال، وغاية ذي رياسة أن يكون كفرعون الذي أغرقه الله في اليم انتقاماً منه، وغاية ذي المال أن يكون كقارون الذي خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، لما آذى نبي الله موسى.
وهذه وصايا المسيح ومن قبله ومن بعده من المرسلين، كلها تأمر بعبادة الله والتجرّد للدار الآخرة، والإعراض عن زهرة الحياة الدنيا. ولما كان أمر الدينا خسيساً، رأيت أنّ أعظم ما يُهدى لعظيم قومه، المفاتحةُ في العلم والدين، بالمذاكرة فيما يقرِّب إلى الله، والكلام في الفروع مبنيٌّ على الأصول، وأنتم تعلمون أن دين الله لا يكون بهوى النفس، ولا بعادات الآباء وأهل المدنيّة،وإنما ينظر العاقل فيما جاءت به الرسلُ، وفيما اتفق الناس عليه وما اختلفوا فيه، ويعامل الله تعالى بينه وبين الله تعالى بالاعتقاد الصحيح والعمل الصالح، وإن كان لا يمكن الإنسان أن يظهر كل ما في نفسه لكل أحد، فينتفع هو بذلك القدر.
وإنْ رأيتُ من الملك رغبة من العلم والخير، كاتبتُه وجاوبتُه عن مسائل يسألها، وقد كان خطر لي أن أجيء إلى قبرص لمصالح في الدين والدنيا، لكن، إذا رأيتُ من الملك ما فيه رضى الله ورسوله، عاملتُه بما يقتضيه عملُه، فإن الملك وقومه يعلمون أن الله قد أظهر من معجزات رسله عامة، ومحمد خاصة، ما أيّد به دينه، وأذلّ الكفار والمنافقين.
ولمّا قدم مقدم مقدّم المغول غازان وأتباعه إلى دمشق، وكان قد انتسب إلى الإسلام، لكن لم يرض الله ورسوله والمؤمنين بما فعلوه، حيث لم يلتزموا دين الله، وقد اجتمعتُ به وبأمرائه، وجرى له معهم فصول يطول شرحها، لا بدّ أن تكون قد بلغت الملك، فأذلّه اللهُ وجنودَه لنا، حتى بقينا نضربهم بأيدينا ونصرخ فيهم بأصواتنا، وكان معهم صاحب سيس [2] مثل أصغر غلام يكون، حتى كان بعض المؤذنين الذين معنا يصرخ عليه ويشتمه، وهو لا يجترئ أن يجاوبه، حتى أن وزراء غازان ذكروا ما ينمّ عليه من فساد النية له، وكنتُ حاضراً لما جاءت رسلكم إلى ناحية الساحل، وأخبرني التتار بالأمر الذي أراد صاحب سيس أن يدخل بينكم وبينه فيه، حيث منّاكم بالغرور، وكان التتار في أعظم الناس شتيمةً لصاحب سيس، وإهانةً له، ومع هذا فإنا كنا نعامل أهل ملّتكم بالإحسان إليهم والذبّ عنهم.
وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبتُ التتار في إطلاق الأسرى، وأطلقهم غازان وقطلوشاه، وخاطبتُ مولاي فيهم، فسمح بإطلاق المسلمين، قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس، فهؤلاء لا يطلقون، فقلتُ له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذي هم أهل ذمّتنا، فإنا نفكّهم، ولا ندع أسيراً لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة. وأطلقنا من النصارى ما شاء الله، فهذا عملنا وإحساننا والجزاء على الله.
وكذلك السبي الذي بأيدينا من النصارى، يعلم كل أحد إحساننا ورحمتنا ورأفتنا بهم، كما أوصانا خاتم المرسلين حيث قال في آخر حياته:
» الصلاة.. وما ملكتُ أيمانُكم «. قال الله تعالى:
( ويطعمون الطعامَ على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) [الإنسان ـ 8].
ومع خضوع التتار لهذه الأمة، وانتسابهم إلى هذه الملة، فلم نخادعهم ولم ننافقهم، بل بيّنّا لهم ما هم عليه من الفساد ، والخروج عن الإسلام الموجب لجهادهم، وأن جنود الله المؤيدة، وعساكره المنصورة، المستقرة بالديار الشامية والمصرية، ما زالت منصورة على من ناوأها، مظفّرة على من عاداها. وفي هذه المدّة، لما شاع عند العام أن التتار مسلمون، أمسك العسكر عن قتالهم، فقُتِل منهم بضعة عشر ألفاً، ولم يقتَل من المسلمين مائتان، فلما انصرف العسكر إلى مصر، وبلغه ما عليه هذه الطائفة الملعونة من الفساد وعدم الدين، خرجتْ جنودُ الله وللأرض منها وئيد، قد ملأت السهل والجبل، في كثرة وقوة وعدة وإيمان وصدق، قد بهرت العقول والألباب، محفوفةً بملائكة الله التي ما زال يمدّ بها الأمة الحنيفية المخلصة لبارئها، فانهزم العدو بين أيديها، ولم يقف لمقابلتها، ثم أقبل العدو ثانياً، فأرسِل عليه من العذاب ما أهلك النفوس والخيل، وانصرف خاسئاً وهو حسير، وصدق الله وعده ونصر عبده. وهو الآن في البلاء الشديد والتعكيس العظيم، والبلاء الذي أحاط به. والإسلام في عزّ متزايد، وخير مترافد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال:
» إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدّد لها أمر دينها «.
وهذا الدين في إقبال وتجديد، وأنا ناصح للملك وأصحابه، والله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة والإنجيل والفرقان. ويعلم الملك أن وفد نجران كانوا نصارى كلهم، فيهم الأسقف وغيره، لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الله ورسوله وإلى الإسلام، خاطبوه في أمر المسيح وناظروه، فلما قامت عليهم الحجة، جعلوا يراوغون، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى المباهلة، كما قال:
( فمن حاجّك فيه من بعدِ ما جاءك من العلم فقلْ تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) [آل عمران: 61].
فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك استشوروا بينهم، فقالوا: تعلمون أنه نبيّ وأنه ما باهلَ أحد نبياً فأفلح، فأدّوا إليه الجزية ودخلوا في الذمّة، واستعفوا من المباهلة.
كذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى قيصر، الذي كان ملك النصارى بالشام والبحر إلى القسطنطينية وغيرها، وكان ملكاً فاضلاً، فلما قرأ كتابه وسأل عن علامته، عرف أنه النبي الذي بشّر به المسيح، وهو الذي كان وعَد اللهُ به إبراهيم في ابنه إسماعيل، وجعل يدعو قومه النصارى إلى متابعته، وأكرمَ كتابَه وقبّله ووضعه على عينيه، وقال: »وددتُ أني أخلُص إليه حتى أغسل عن قدميه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبتُ إليه«.
وأما النجاشي ملك الحبشة النصراني، فإنه لما بلغه خبرُ النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه الذي هاجروا إليه، آمن به وصدّقه وبعث إليه ابنه وأصحابه مهاجرين، وصلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه لمّا مات. ولمّا سمع سورة (كهيعص) بكى، ولما أخبروه عما يقولون في المسيح قال: »والله ما يزيد عيسى على هذا مثل هذا العود«، وقال: »إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة«.
وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنّ من آمن بالله وكتبه ورسله من النصارى صار من أمته، له ما لهم وعليه ما عليهم، وكان له أجران: أجر على إيمانه بالمسيح، وأجر على إيمانه بمحمد. ومن لم يؤمن له من الأمم، فإن الله أمر بقتاله كما قال في كتابه:
( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللهُ ورسولُه ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتابَ حتى يعطوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون ) [التوبة:29].
فمن كان لا يؤمن بالله، بل يسبّ اللهَ ويقول إنه ثالث ثلاثة وأنه صُلِبَ، ولا يؤمن برسله، بل يزعم أن الله حُمِلَ ووُلِد، وكان يأكل ويشرب ويتغوّط وينام، هو الله وابن الله، وأن الله أو ابنه حلّ فيه وتدرّعه، ويجحد ما جاء به محمد خاتم المرسلين، ويحرّف نصوص التوراة والإنجيل، فإن في الأناجيل الأربعة من التناقض والاختلاف، بينما أمر بما أمر اللهُ به وأوجبه من عبادته وطاعته، ولا يحرّم ما حرّم الله ورسوله من الدم والميتة ولحم الخنزير، الذي ما زال حراماً من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ما أباحه نبيٌّ قط، بل علماء النصارى يعلمون أنه محرّم، وما يمنع بعضهم من إظهار ذلك إلا الرغبة والرهبة، وبعضهم يمنعه العناد والعادة عن ذلك، ولا يؤمنون باليوم الآخر لأن عامتهم، وإنْ كانوا يقرّون بقيامة الأبدان، لكنهم لا يقرّون بما أخبره الله به من الأكل والشرب واللباس والنكاح والنعيم والعذاب في الجنة والنار، بل غاية ما يقرّون به من النعيم: السماع والشمّ. ومنهم متفلسفة ينكرون معاد الأجساد، وأكثر علمائهم زنادقة، وهم يضمرون ذلك ويسخرون بعوامّهم لا سيما بالنساء والمترهّبين منهم لضعف عقولهم. فمن هذا حاله، فقد أمر اللهُ رسولَه بجهاده حتى يدخل في دين الله، أو يؤدّي الجزية، وهذا دين محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم المسيح صلوات الله عليه لم يأمر بالجهاد، ولا سيما بجهاد الأمة الحنيفية ولا الحواريون بعده. فيا أيها الملك: كيف تستحلّ سفك الدماء وسبي الحريم وأخذ الأموال بغير حجة من الله ورسله؟
ثم، أمَا يعلم الملك أن بديارنا من النصارى، أهل الذمة والأمان، ما لا يحصي عددهم إلا الله، ومعاملتُنا فيهم معروفة؟ فكيف يعامِلون أسرى المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى بها ذو مروءة ولا ذو دين؟ لست أقول عن الملك وأهل بيته ولا إخوانه، فإن أبا العباس شاكر لملك ولأهل بيته كثيراً، معترف بما فعلوه معه من الخير، وإنما أقول عن عموم الرعية، أليس الأسرى في رعية الملك؟ أليست عهود المسيح وسائر الأنبياء توصي بالبرّ والإحسان.. فأين ذلك؟
ثم إن كثيراً منهم إنما أُخِذوا غدراً، والغدر حرام في جميع الملل والشرائع والسياسات، فكيف تستحلون أن تستولوا على من أخِذ غدراً؟ أفتأمنون مع هذا أن يقابلكم المسلمون ببعض هذا وتكونوا مغدورين، والله ناصرهم ومعينهم، لاسيما في هذه الأوقات، والأمة قد امتدت للجهاد، واستعدت للجِلادِ، ورغب الصالحون وأولياء الرحمن في طاعته. وقد تولى الثغور الساحلية أمراءٌ ذو بأس شديد، وقد ظهر بعضُ أثرهم، وهم في ازدياد.
ثم عند المسلمين من الرجال الفداوية، الذين يغتالون الملوك في فرشها وعلى أفراسها من قد بلغ الملك خبرُهم قديماً وحديثاً، وفيهم الصالحون الذين لا يردّ اللهُ دعواتهم، ولا يخيّب طلباتهم، الذين يغضب الربّ لغضبهم ويرضى لرضاهم. وهؤلاء التتار، مع كثرتهم وانتسابهم إلى المسلمين، لمّا غضب المسلمون عليهم أحاط بهم من البلاء ما يعظم عن الوصف، فكيف يحسن أيها الملك بقوم يجاورون المسلمين من أكثر الجهات أن يعاملوهم هذه المعاملة التي لا يرضاها عاقل لا مسلم ولا معاهد؟
هذا، وأنت تعلم أن المسلمين لا ذنب لهم أصلاً، بل هم المحمودون على ما فعلوه، فإن الذي أطبقت العقلاء على الإقرار بفضله هو دينهم، حتى الفلاسفة أجمعوا على أنه لم يطرق العالم دين أفضل من هذا الدين، فقد قامت البراهين على وجوب متابعته.
ثم هذه البلاد ما زالت بأيديهم: الساحل، بل وقبرص أيضاً، ما أخِذت منهم إلا من أقل من ثلائمائة سنة [3]، وقد وعدهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنهم لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة، فما يؤمن الملك أن هؤلاء الأسرى المظلومين ببلدته، ينتقم لهم ربُّ العباد والبلاد كما ينتقم لغيرهم؟ وما يؤمنه أن تأخذ المسلمين حميةُ إسلامهم فينالوا فيها ما نالوا من غيرها؟ [4] ونحن إذا رأينا من الملك وأصحابه ما يُصلحُ، عاملناهم بالحسنى، وإلا فمن بُغِيَ عليه لينصرنّه اللهُ.
وأنت تعلم أن ذلك من أيسر الأمور على المسلمين، وأنا ما غرضي الساعةَ إلا مخاطبتكم بالتي هي أحسن، والمعاونة على النظر في العلم واتباع الحق وفعل ما يجب، فإن كان عند الملك من يثق بعقله ودينه فلْيبحث معه عن أصول العلم وحقائق الأديان، ولا يرضى أن يكون من هؤلاء النصارى المقلّدين الذين لا يسمعون ولا يعقلون، إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً.
وأصل ذلك أن تستعين بالله وتسأله الهداية وتقول: اللهم أرني الحق حقاً وأعنّي على اتباعه، وأرني الباطلَ باطلاً وأعنّي على اجتنابه، ولا يجعله مستبهَماً علي فأتّبع الهوى. وقل: اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنتَ تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لَما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
والكتاب لا يحتمل البسط أكثر من هذا، لكن أنا ما أريد للملك إلا ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وهما شيئان: أحدهما له خاصة، وهو معرفته بالعلم والدين، وانكشاف الحق وزوال الشبهة وعبادة الله كما أمر، فهذا خير له من مُلك الدنيا بحذافيرها، وهو الذي بعث به المسيح، وعلّمه الحواريين. الثاني له وللمسلمين، وهو مساعدته للأسرى الذين في بلاده، وإحسانه إليهم،وأمر رعيته بالإحسان إليهم والمعاونة لنا على خلاصهم، فإن في الإساءة إليهم دركاً على الملك في دينه ودين الله تعالى وعند المسلمين، وكان المسيح أعظم الناس توصيةً بذلك.
ومن العجب كل العجب أن يأسر النصارى قوماً غدراً أو غير غدر ولم يقاتلوهم، والمسيح يقول: »من لطمك على خدّك الأيمن فأدرْ له خدّك الأيسر، ومن أخذ رداءك أعطِهِ قميصك«. وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله وغضب عباده المسلمين. فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين في قبرص، سيّما وعامة هؤلاء الأسرى قوم فقراء وضعفاء ليس لهم من يسعى فيهم. وهذا أبو العباس، مع أنه من عبّاد المسلمين، وله عبادة وفقر، وفيه مشيخة، ومع هذا فما كاد يحصل فداؤه إلا بالشدة. ودين الإسلام يأمرنا أن نعين الفقير والضعيف. فالملك أحق أن يساعد على ذلك من وجوه كثيرة، لا سيّما والمسيحُ يوصي بذلك في الإنجيل، ويأمر بالرحمة العامة والخير الشامل كالشمس والمطر. والملك وأصحابه إذا عاونوننا على تخليص الأسرى والإحسان إليهم، كان الحظ الأوفر لهم في ذلك في الدنيا والآخرة. أما في الآخرة، فإن الله يثيب على ذلك ويأجر عليه، وهذا مما لا ريب فيه عند العلماء المسيحيين الذي لا يتبعون الهوى. بل كل من اتقى الله وأنصف عليم أنهم أُسِروا بغير حق، ولا سيما من أخِذ غدراً. والله تعالى لم يأمر ولا المسيحُ أمرَ ولا أحد من الحواريين ولا من اتبع المسيح على دينه، لا بأسر أهل ملة إبراهيم ولا بقتلهم، كيف وعامة النصارى يقرّون بأن محمداً رسول الأميين، فكيف يجوز أن يقاتَل أهل دين اتبعوا رسولهم؟
فإن قال قائل: هم[5] قاتلونا أول مرة! قيل: هذا باطل فيمن غدرتم به ومَن بدأتموه بالقتال. وأما من بدأكم منهم فهو معذور، لأن الله تعالى أمره بذلك ورسولَه، بل المسيح والحواريون أخذ عليهم المواثيق بذلك. ولا يستوي من عمل بطاعة الله ورسله ودعا إلى عبادته ودينه وأقرّ بجميع الكتب والرسل، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله، ومَن قاتئل في هوى نفسه وطاعة شيطانه، على خلاف الله ورسله.
وما زال في النصارى من الملوك والقسيسين والرهبان والعامة من له مزية على غيره في المعرفة والدين، فيعرف بعض الحق، وينقاد لكثير منه، ويعرف مِن قدر الإسلام وأهله ما يجهله غيره، فيعاملهم معاملة تكون نافعة في الدنيا والآخرة. ثم في فكاك الأسير وثواب العتق من كلام الأنبياء والصدّيقين ما هو معروف لمن طلبه، فمهما عمل الملك معهم وجد ثمرته.
وأما في الدنيا، فإن المسلمين أقدر على المكافأة في الخير والشر من كل أحد، ومن حاربوه فالويل كل الويل له. والملك لا بد أن يكون سمع السِّيَر، وبلغه أن ما زال في المسلين النفر القليل منهم من يغلب أضعافاً مضاعفة من النصارى وغيرهم، فكيف إذا كانوا أضعافهم، وقد بلغه الملاحم المشهورة في قديم الدهر وحديثه، مثل أربعين ألفاً يغلبون من النصارى أكثر من أربعمائة ألف أكثرهم فارس [6]. وما زال المرابطون بالثغور ، مع قلتهم واشتغال ملوك الإسلام عنهم، يدخلون بلاد النصارى، فكيف وقد منّ الله تعالى على المسلمين باجتماع كلمتهم وكثرة جيوشهم، وبأس مقدّميهم وعلوّ هممهم، ورغبتهم فيما يقرّب إلى الله تعالى، واعتقادهم أن الجهاد أفضل الأعمال المطوعة، وتصديقهم بما وعدهم نبيُّهم حيث قال:
» يُُعطى الشهيد ست خصال: يُغفر له بأول قطرة من دمه، ويُرى معقده في الجنة، ويُكسى حلة الإيمان، ويزوّج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويُوقى فتنة القبر، ويؤمَن من الفزع الأكبر يوم القيامة «.
ثم إن في بلادهم من النصارى أضعاف ما عندكم من المسلمين، فإن فيهم من رؤوس النصارى من ليس في البحر مثلهم إلا قليل. وأما أسراء المسلمين، فليس فيهم من يحتاج إليه المسلمون ولا من ينتفعون به، وإنما نسعى في تخليصهم لأجل الله تعالى، رحمة ً لهم وتقرباً إليه يوم يجزي الله المصّدّقين ولا يضيع أجر المحسنين.
وأبو العباس، حامل هذا الكتاب، قد بثّ محاسن الملك وإخوته عندنا، واستعطف قلوبنا إليه، فلذلك كاتبتُ الملك، لما بلغتني رغبته في الخير وميله إلى العلم والدين، وأنا من نوّاب المسيح وسائر الأنبياء من مناصحة الملك وأصحابه، وطلب الخير لهم، فإنّ أمة محمد خير أمة أخرِجت للناس، يريدون للخلق خير الدنيا والآخرة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعونهم إلى الله، ويعينونهم على مصالح دينهم ودنياهم. وإن كان الملك قد بلغه بعض الأخبار التي فيها طعن على بعضهم أو طعن على دينهم، فإما أن يكون الخبر كاذباً، أو ما فَهِمَ التأويل وكيّف صورة الحال. وإن كان صادقاً عن بعضهم بنوع من المعاصي والفواحش والظلم، فهذا لا بدّ منه في كل أمّة، بل الذي يوجد في المسلمين من الشرّ أقل مما في غيرهم بكثير، والذي فيهم من الخير لا يوجد مثله في غيرهم.
والملك، وكل عاقل، يعرف أنّ أكثر النصارى خارجون عن وصايا المسيح والحواريين ورسائل بولص وغيره من القديسين، وإنْ كان أكثر ما معهم من النصرانية، شرْب الخمر وأكل الخنزير وتعظيم الصليب، ونواميس مبتدعة ما أنزل اللهُ بها من سلطان، وأنّ بعضهم يستحل بعض ما حرّمتْه الشريعة النصرانية. هذا فيما يقرّون به،وأما مخالفتهم لما لا يقرّون به فكلهم داخل في ذلك، بل قد ثبت عندنا من الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ المسيح عيسى بن مريم ينزل عندنا بالمنارة البيضاء في دمشق، واضعاً يده على منكبي ملكيْن، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل من أحدٍ إلا الإسلام، ويقتل مسيحَ الضلالة، الأعور الدجال، الذي يتبعه اليهود، ويسلَط المسلمون على اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله، وينتقم الله للمسيح بن مريم مسيحِ الهدى من اليهود ما آذوه وكذّبوه لما بُعِثَ إليهم. [7] أما ما عندنا في أمر النصارى، وما يفعل الله بهم من إدالة المسلمين عليهم، وتسليطه عليهم، فهذا مما لا أخبر به الملك لئلا يضيق صدره، ولكن الذي أنصحه به، أن كل من أسلف إلى المسلمين خيراً ومال إليهم كانت عاقبته معهم حسنة بحسب ما فعله من الخير، فإن الله تعالى يقول:
( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) (سورة الزلزلة 7ـ 8 ).
والذي أختم به الكتاب الوصية بالشيخ أبي العباس وبغيره من الأسرى والمساعدة لهم والرفق بمن عندهم من أهل القرآن، والامتناع من تغيير دين واحد منهم، وسوف يرى الملك عاقبة ذلك كله، ونحن نجزي الملك على ذلك بأضعاف ما في نفسه.
والله يعلم أني قاصد للملك الخير، لأن الله تعالى أمرنا بذلك، وشرع لنا أن نريد الخير لكل أحد، ونعطف على خلْق الله، وندعوهم إلى الله وإلى دينه، وندفع عنهم شياطين الإنس والجن. والله المسؤول أن يعين الملك على مصلحته التي هي عند الله المصلحة، وأن يخيّر له من الأقوال ما هو خير له عند الله، ويختم له بخاتمة خير.
والحمد لله رب العالمين، وصلواته على أنبيائه المرسلين، ولا سيما محمد خاتم النبيين والمرسَلين، والسلام عليهم أجمعين.
(انظر أيضاً: الخطاب الدعوي السياسي عند الإمام ابن تيمية في نصحه لملك قبرص، للدكتور حسن بن محمد سفر) في موقع الفسطاط.
الهوامش :
[1] انظر حيل الرهبان في مؤلف الشيخ الإسلام الموسوعة: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/337-338
[2] حاكم أرمينيا.
[3] بقيت قبرص تحت حكم المسلمين من وقت فتحها في عهد عثمان رضي الله عنه سنة 28 هجرية إلى سنة 355 هـ.
[4] اعتدى القبارصة الصليبيون –تحت حكم اللاتين- على مصر سنة 767 هـ واستولوا على الإسكندرية. وكانت بينهم وبين المماليك وقائع عدة، فقد جهز المسلمون جيشاً وغزوا الجزيرة سنة 827 هـ وسنة 828 هـ و 829 هـ وافتتحوها وأسروا ملكها (جانوس) وأنهوا وجود الصليبيين فيها، حيث انتقل الآخرون إلى جزيرة رودس لتصبح قاعدة الاسبتارية بعد ذلك. [راجع التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر: ج7].
[5] أي المسلمين.
[6] إن كان ابن تيمية –رحمه الله- يقصد بذلك معركة اليرموك فإن تعداد المسلمين كان أربعين ألفاً وتعداد النصارى –على اختلاف أجناسهم وشعوبهم- كانوا حوالي 240 ألفاً. انظر "ميدان معركة اليرموك" لمحمود شاكر.
[7] انظر كتاب: »فقد جاء أشراطها« فصل: »عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم« في موقع الفسطاط.
عن موقع الفسطاط