من مقابلة مع اللواء محمود هاشم أحد أبطال حرب أكتوير 1973
هو ابن لعامل سابق بوزارة الزراعة.. ينتمي إلي محافظة سوهاج.. هذا الإقليم الجنوبي في صعيد مصر.. عايش فترات المحن التي مرت بها مصر.. وتألم كثيراً وهو يشاهد طائرات الأعداء تقصف بورسعيد في العدوان الثلاثي علي مصر في العام 1956، وتجرع مرارة نكسة الخامس من يونيو لعام 1967، كان حلمه منذ هذه اللحظات أن يكون جندياً يذود عن الوطن بكل ما يملك.. وحلم أن يصبح طياراً ليقصف بطائرته أركان العدو.. فراح يلتحق بكلية الطيران في بداية الأمر والتحق بالدفعة 52 غير أن الأقدار لم تشأ أن يواصل رسالته في كلية الطيران.. فراح يلتحق بالكلية الحربية.. الدفعة رقم 85 .. ولأنه كان من العاشقين للدراسة العسكرية فقد كان ترتيبه متقدماً بين أقرانه من دارسي الكلية الحربية، حيث احتل الرقم '100' بين خريجي الدفعة البالغ عددهم نحو 1000 طالب.. فور تخرجه التحق بالجيش الثالث الميداني، الفرقة الرابعة مدرعة، وحصل علي دورة تدريبية 'مشاة ميكانيكي'.
كان الحلم الذي يملأ عقله وقلبه - والكلام للواء محمود هاشم - أن يعمل هو وزملاؤه علي تحرير الوطن والأرض المغتصبة.. كان كغيره من ملايين المصريين ينتظر بفارغ الصبر إشارة البدء للانتقال من خلف 'خطوط الصبر' إلي مقدمة 'خطوط الهجوم.. كانت التدريبات تتواصل ليل نهار استعداداً ليوم 'النزال العظيم'.. طالت فترات التدريب حتي ظن هو وزملاؤه حين صدرت إليهم الأوامر بالتحرك لمواجهة الخصم القابع عند الضفة الشرقية من قناة السويس أنهم سيخوضون واحدة من مراحل التدريب المتعددة.. ولم يخرجوا من الحلم، أو يصدقوا أنهم بدءوا مرحلة حقيقية لاستعادة الأرض المغتصبة إلا حين شهدوا بأم أعينهم نسور الجو المصريين وهم يعبرون سماء قناة السويس لدك حصون العدو علي الضفة الأخري من القناة.
يستعيد اللواء محمود هاشم - الذي كان برتبة ملازم أول خلال فترة الحرب - فصول الذكريات وهو يتحدث عن لحظات الأمل التي سبقت العبور والاشتباك وجهاً لوجه مع العدو.. يقول: 'كنت برتبة ملازم أول.. وقائد فصيلة.. كان دوري هو تنفيذ ما يكلفني به القادة.. كانت العلاقة بين الضباط والجنود كالأشقاء تماماً، بل وأكثر من الأشقاء، فلقد صهرت بيننا الساعات الطوال التي نقضيها سوياً طيلة أربع وعشرين ساعة.. كنا نعرف بعضنا البعض بكل تفاصيل حياتنا، حتي أنني كنت أعرف عن الجنود العاملين معي أمور حياتهم الخاصة والعامة.. في بلدانهم وقراهم ونجوعهم، وكذلك في وحدتهم العسكرية.. كانت روح واحدة تتملكنا جميعاً وهي روح الحب والفداء للوطن وترابه'.
ويمضي اللواء محمود هاشم قائلاً!: 'خلال مراحل الحرب صدرت إلينا التعليمات بتطوير هجوم الفرقة الرابعة مدرعة، خاصة عند وقوع الثغرة حيث تم الدفع بقواتنا في مواجهتها للقضاء علي الجنود الإسرائيليين الذين عبروا إلي الجهة الأخري.. في هذه الفترة كان لديَّ زميلي في الخدمة الضابط الاحتياطي 'رفقي ذكري غبريال'.. وأذكر اسمه للتدليل علي أنه لم يكن هناك أي فرق بين مسلمٍ ومسيحي.. كان 'رفقي' يردد نداء الله أكبر معنا كما نردده نحن.. كنا نعيش مخاطر متواصلة، ونبدل مخابئنا التي كانت تتعرض للقصف بشكل مستمر ومتواصل. لدرجة أنه وحتي يوم العشرين من أكتوبر 1973 لم يكن هناك جندي واحد قد أصيب من كتيبتنا.. حيث بدأت الخسائر بعد هذا اليوم.. وأذكر في هذا المجال أنني قمت بتدمير ناقلة جنود إسرائيليين مدرعة وحصلنا علي كل متعلقاتهم التي تسلمتها الجهات العليا حسب التسلسل القانوني والعسكري'.
ينظر اللواء محمود هاشم إلي قدمه اليسري، متذكراً الإصابة التي لحقت به إبان الحرب.. فيقول: 'كنا قد اتخذنا مواقعنا في منطقة فنارة لمواجهة زحف القوات الإسرائيلية التي أحدثت الثغرة، أعددنا سلسلة من الكمائن في مواجهة الثغرة، في يوم الحادي والعشرين من أكتوبر أبلغني أحد الجنود أنه شاهد الأشجار وهي تتحرك من مكانها، نظرت فعرفت أن أطقم الدبابات الإسرائيلية قطعوا الأشجار المصرية ووضعوها فوق الدبابات لإخفائها.. في اليوم السابق كنا قد دمرنا المركبة البرمائية التي تتبعهم.. فجاءوا في اليوم التالي ليدفعوا بقواتهم الجوية والمدفعية الثقيلة للهجوم علينا.. واستخدموا مدافع كانت تسمي وقتها 'أبو جاموس'، وأثناء محاولتهم حصارنا يميناً ويساراً وبينما كنا نقف في الكمين، طلبت من الجنود الانتظار والترقب لهذا الكمين علي أن أذهب أنا إلي كمين آخر لمواجهة تدفق القوات الإسرائيلية.. قبل أن أتحرك كانت شظية من مدفع 'أبوجاموس' تصيبني في رجلي اليسري.. سقطت علي الأرض.. وهنا أسرع أحد الجنود من أبناء محافظة أسوان ويدعي 'سيد' وحاول أن يساعدني علي الوقوف لكن الشظية كانت عميقة فلم أستطع.. كان الدم يتدفق بغزارة من قدمي.. فأخذني الجندي وسحبني إلي الخلف حتي المستشفي الميداني، حيث أجريت لي عملية تم خلالها استخراج الشظية، ثم نُقلت إلي السويس.. ومن المستشفي هناك تم إخلاؤنا إلي مستشفي المعادي بالقاهرة.. حدث الإخلاء يوم 24 من أكتوبر'.
وعن طبيعة الإصابة التي لحقت به يقول اللواء محمود هاشم!!!: 'إنها عبارة عن شظية اعترضت السمانة فأحدثت كسراً في الشريان الرئيسي والعظام.. ولأن عملية النقل من ميدان المعركة استغرقت بعض الوقت فقد أصيب الجرح بالتلوث.. خاصة أن القوات الإسرائيلية كانت تحاصر السويس لبعض الوقت قبل أن تسمح للمدنيين والمصابين بالخروج من منطقة الحصار.. عندئذ تم إخلاؤنا في سيارة إسعاف.. بعد أن انتقلت من السويس إلي مستشفي المعادي خضعت للعلاج المكثف لمدة سبعة أيام.. وتبين إصابة قدمي اليسري بالغرغرينة.. حتي أن اللواء الطبيب المشرف علي علاجي كان يتألم وهو يشاهد قدمي علي هذا النحو بعد أن انتشرت فيها كل الألوان.. كان يصعب عليه اتخاذ قرار ببتر القدم.. ولكنني بعزيمة وإيمان قلت له: إذا كنت تري أنه لا مناص من بتر القدم فابترها.. اندهش اللواء الطبيب ولكنني أكدت له أن هذا قدر علينا أن نقبل به فداءً لمصر الوطن والتراب.. كانت هناك ممرضة رئيسة فريق التمريض تدعي سناء ومعها إحدي مساعداتها وتدعي سهير.. كانتا مكلفتين بتجهيزي للعمليات حيث دخلت غرفة العمليات من الساعة الخامسة حتي الحادية عشرة.. وهي الفترة التي استغرقتها عملية البتر'.
كان اللواء محمود هاشم يتحدث ليروي ما جري في تلك اللحظات دون انقطاع.. رحت أستوقفه، وأسأله عن مشاعره في تلك اللحظات التي فقد فيها قدمه اليسري.. قال بإيمان جازم: 'تلك إرادة الله، علينا أن نتقبلها.. كان هذا شعوري في هذا الوقت.. كنت فرحاً وسعيداً.. لأن تلك هي إرادة الله.. كانت سعادتي أنني استطعت مع زملائي أن أفعل شيئاً.. استطعنا أن نستعيد أرضنا،ونحرر ترابنا.. وأن تكون لنا كلمتنا.. وأتذكر أن السيدة جيهان السادات كانت تزورنا وكانت تعرفني بالاسم.. حيث كنت استخدم كرسياً متحركاً وفي هذا الوقت.. كانوا يطلقون عليَّ 'البطل هاشم'.. لم أشعر يوماً بالحزن علي أني فقدت قدمي اليسري.. بل كان شعوري الدائم هو الفخر لأنني استطعت أن أدمر إحدي المركبات للعدو.. وفيما بعد سمعت من السيد اللواء صلاح مصباح الذي كان قائدنا في هذا الوقت.. أننا استطعنا أن نوقف الثغرة لمدة أربع وعشرين ساعة.. بعد أن تم رصد ذلك عبر القمر الصناعي'.
وعن شعوره الآن لو عاد به العمر إلي الوراء.. قال: 'لو عاد بي العمر إلي الوراء فأنا أقول صادقاً إنني علي استعداد لأن أضحي بقدمي الأخري من أجل مصر.. أقول بأمانة الله إنني مستعد لذلك تماماً.. لأن هذا أقل واجب لصالح بلدي!'.
ويمضي اللواء محمود هاشم فيقول: 'رغم الإصابة إلا أنني كنت أتابع أحوال زملائي حيث كتيبتي في الكيلو 101، كان زملائي ينتهزون أقرب فرصة ليأتوا للاطمئنان عليَّ، وإبلاغي بأخبار سير العمليات.. وقد زارني أيضاً اللواء عادل حسين - رحمة الله عليه.
وعن ذكرياته عن أصدقاء السلاح خلال حرب السادس من أكتوبر وعلاقته بهم الآن خاصة من تبقي منهم علي قيد الحياة.. يقول اللواء محمود هاشم: إنه يلتقي وزملائه ممن قاتلوا سوياً مرة كل شهر، يجلسون، يتسامرون، ويتذكرون أيام العزة والكبرياء وذكريات الحرب التي لا تذهب من الذاكرة مهما مضت السنون.. ويقول: 'نتجمع في أحد الأماكن بالمقطم لنحكي ونروي كل ما مررنا به.
ويستعيد مجدداً شريط الذكريات ليقول: 'ما لفت انتباهنا في هذا الوقت أن الطائرات التي كانت تحاربنا كانت جديدة للغاية.. مما أكد لدينا ما ذكر من أن الولايات المتحدة الأمريكية قد مدت إسرائيل بجسر جوي لإنقاذها من الهزيمة المحققة التي ألحقها بها الجيش المصري العظيم.. بالإضافة إلي القاذفات الحديثة والصواريخ التي أطلقوها علي مواسير الدبابات فكانت تدمرها.. كان هذا تطوراً جديداً في سير المعارك في ذلك الوقت.. حيث كانت تلك الصواريخ لا تدمر ماسورة الدبابة بقدر ما كانت تصيبها إصابات طفيفة.. كانت الصواريخ الحديثة تلتصق بماسورة الدبابة ثم تبدأ عملها لتدمير الماسورة.. وكأنها مغناطيس أو مادة لاصقة.. ومما أكد لنا حقيقة الدور الأمريكي أن المركبة التي سيطرنا عليها لم تكن قد تعدت بضعة كيلومترات في استخدامها مما يؤكد أنها قادمة للتو من المخازن الأمريكية'.
وينتقل اللواء محمود هاشم لمرحلة ما بعد الإصابة فيقول إنه سافر إلي ألمانيا الشرقية لعمل قدم صناعية وبعد العودة لم يفقد الأمل والعزيمة علي مواصلة الحياة بطريقته التي اعتادها، فراح يدرس ليحصل علي بكالوريوس التجارة، ثم إدارة النظم والحاسبات حيث تعلم الكمبيوتر وحصل علي شهادات مختلفة.. وترك الجيش بإرادته بعد أن أكد أنه منحه ما يستطيع.. وانطلق لحياته المدنية..
عن الأسبوع المصرية
هو ابن لعامل سابق بوزارة الزراعة.. ينتمي إلي محافظة سوهاج.. هذا الإقليم الجنوبي في صعيد مصر.. عايش فترات المحن التي مرت بها مصر.. وتألم كثيراً وهو يشاهد طائرات الأعداء تقصف بورسعيد في العدوان الثلاثي علي مصر في العام 1956، وتجرع مرارة نكسة الخامس من يونيو لعام 1967، كان حلمه منذ هذه اللحظات أن يكون جندياً يذود عن الوطن بكل ما يملك.. وحلم أن يصبح طياراً ليقصف بطائرته أركان العدو.. فراح يلتحق بكلية الطيران في بداية الأمر والتحق بالدفعة 52 غير أن الأقدار لم تشأ أن يواصل رسالته في كلية الطيران.. فراح يلتحق بالكلية الحربية.. الدفعة رقم 85 .. ولأنه كان من العاشقين للدراسة العسكرية فقد كان ترتيبه متقدماً بين أقرانه من دارسي الكلية الحربية، حيث احتل الرقم '100' بين خريجي الدفعة البالغ عددهم نحو 1000 طالب.. فور تخرجه التحق بالجيش الثالث الميداني، الفرقة الرابعة مدرعة، وحصل علي دورة تدريبية 'مشاة ميكانيكي'.
كان الحلم الذي يملأ عقله وقلبه - والكلام للواء محمود هاشم - أن يعمل هو وزملاؤه علي تحرير الوطن والأرض المغتصبة.. كان كغيره من ملايين المصريين ينتظر بفارغ الصبر إشارة البدء للانتقال من خلف 'خطوط الصبر' إلي مقدمة 'خطوط الهجوم.. كانت التدريبات تتواصل ليل نهار استعداداً ليوم 'النزال العظيم'.. طالت فترات التدريب حتي ظن هو وزملاؤه حين صدرت إليهم الأوامر بالتحرك لمواجهة الخصم القابع عند الضفة الشرقية من قناة السويس أنهم سيخوضون واحدة من مراحل التدريب المتعددة.. ولم يخرجوا من الحلم، أو يصدقوا أنهم بدءوا مرحلة حقيقية لاستعادة الأرض المغتصبة إلا حين شهدوا بأم أعينهم نسور الجو المصريين وهم يعبرون سماء قناة السويس لدك حصون العدو علي الضفة الأخري من القناة.
يستعيد اللواء محمود هاشم - الذي كان برتبة ملازم أول خلال فترة الحرب - فصول الذكريات وهو يتحدث عن لحظات الأمل التي سبقت العبور والاشتباك وجهاً لوجه مع العدو.. يقول: 'كنت برتبة ملازم أول.. وقائد فصيلة.. كان دوري هو تنفيذ ما يكلفني به القادة.. كانت العلاقة بين الضباط والجنود كالأشقاء تماماً، بل وأكثر من الأشقاء، فلقد صهرت بيننا الساعات الطوال التي نقضيها سوياً طيلة أربع وعشرين ساعة.. كنا نعرف بعضنا البعض بكل تفاصيل حياتنا، حتي أنني كنت أعرف عن الجنود العاملين معي أمور حياتهم الخاصة والعامة.. في بلدانهم وقراهم ونجوعهم، وكذلك في وحدتهم العسكرية.. كانت روح واحدة تتملكنا جميعاً وهي روح الحب والفداء للوطن وترابه'.
ويمضي اللواء محمود هاشم قائلاً!: 'خلال مراحل الحرب صدرت إلينا التعليمات بتطوير هجوم الفرقة الرابعة مدرعة، خاصة عند وقوع الثغرة حيث تم الدفع بقواتنا في مواجهتها للقضاء علي الجنود الإسرائيليين الذين عبروا إلي الجهة الأخري.. في هذه الفترة كان لديَّ زميلي في الخدمة الضابط الاحتياطي 'رفقي ذكري غبريال'.. وأذكر اسمه للتدليل علي أنه لم يكن هناك أي فرق بين مسلمٍ ومسيحي.. كان 'رفقي' يردد نداء الله أكبر معنا كما نردده نحن.. كنا نعيش مخاطر متواصلة، ونبدل مخابئنا التي كانت تتعرض للقصف بشكل مستمر ومتواصل. لدرجة أنه وحتي يوم العشرين من أكتوبر 1973 لم يكن هناك جندي واحد قد أصيب من كتيبتنا.. حيث بدأت الخسائر بعد هذا اليوم.. وأذكر في هذا المجال أنني قمت بتدمير ناقلة جنود إسرائيليين مدرعة وحصلنا علي كل متعلقاتهم التي تسلمتها الجهات العليا حسب التسلسل القانوني والعسكري'.
ينظر اللواء محمود هاشم إلي قدمه اليسري، متذكراً الإصابة التي لحقت به إبان الحرب.. فيقول: 'كنا قد اتخذنا مواقعنا في منطقة فنارة لمواجهة زحف القوات الإسرائيلية التي أحدثت الثغرة، أعددنا سلسلة من الكمائن في مواجهة الثغرة، في يوم الحادي والعشرين من أكتوبر أبلغني أحد الجنود أنه شاهد الأشجار وهي تتحرك من مكانها، نظرت فعرفت أن أطقم الدبابات الإسرائيلية قطعوا الأشجار المصرية ووضعوها فوق الدبابات لإخفائها.. في اليوم السابق كنا قد دمرنا المركبة البرمائية التي تتبعهم.. فجاءوا في اليوم التالي ليدفعوا بقواتهم الجوية والمدفعية الثقيلة للهجوم علينا.. واستخدموا مدافع كانت تسمي وقتها 'أبو جاموس'، وأثناء محاولتهم حصارنا يميناً ويساراً وبينما كنا نقف في الكمين، طلبت من الجنود الانتظار والترقب لهذا الكمين علي أن أذهب أنا إلي كمين آخر لمواجهة تدفق القوات الإسرائيلية.. قبل أن أتحرك كانت شظية من مدفع 'أبوجاموس' تصيبني في رجلي اليسري.. سقطت علي الأرض.. وهنا أسرع أحد الجنود من أبناء محافظة أسوان ويدعي 'سيد' وحاول أن يساعدني علي الوقوف لكن الشظية كانت عميقة فلم أستطع.. كان الدم يتدفق بغزارة من قدمي.. فأخذني الجندي وسحبني إلي الخلف حتي المستشفي الميداني، حيث أجريت لي عملية تم خلالها استخراج الشظية، ثم نُقلت إلي السويس.. ومن المستشفي هناك تم إخلاؤنا إلي مستشفي المعادي بالقاهرة.. حدث الإخلاء يوم 24 من أكتوبر'.
وعن طبيعة الإصابة التي لحقت به يقول اللواء محمود هاشم!!!: 'إنها عبارة عن شظية اعترضت السمانة فأحدثت كسراً في الشريان الرئيسي والعظام.. ولأن عملية النقل من ميدان المعركة استغرقت بعض الوقت فقد أصيب الجرح بالتلوث.. خاصة أن القوات الإسرائيلية كانت تحاصر السويس لبعض الوقت قبل أن تسمح للمدنيين والمصابين بالخروج من منطقة الحصار.. عندئذ تم إخلاؤنا في سيارة إسعاف.. بعد أن انتقلت من السويس إلي مستشفي المعادي خضعت للعلاج المكثف لمدة سبعة أيام.. وتبين إصابة قدمي اليسري بالغرغرينة.. حتي أن اللواء الطبيب المشرف علي علاجي كان يتألم وهو يشاهد قدمي علي هذا النحو بعد أن انتشرت فيها كل الألوان.. كان يصعب عليه اتخاذ قرار ببتر القدم.. ولكنني بعزيمة وإيمان قلت له: إذا كنت تري أنه لا مناص من بتر القدم فابترها.. اندهش اللواء الطبيب ولكنني أكدت له أن هذا قدر علينا أن نقبل به فداءً لمصر الوطن والتراب.. كانت هناك ممرضة رئيسة فريق التمريض تدعي سناء ومعها إحدي مساعداتها وتدعي سهير.. كانتا مكلفتين بتجهيزي للعمليات حيث دخلت غرفة العمليات من الساعة الخامسة حتي الحادية عشرة.. وهي الفترة التي استغرقتها عملية البتر'.
كان اللواء محمود هاشم يتحدث ليروي ما جري في تلك اللحظات دون انقطاع.. رحت أستوقفه، وأسأله عن مشاعره في تلك اللحظات التي فقد فيها قدمه اليسري.. قال بإيمان جازم: 'تلك إرادة الله، علينا أن نتقبلها.. كان هذا شعوري في هذا الوقت.. كنت فرحاً وسعيداً.. لأن تلك هي إرادة الله.. كانت سعادتي أنني استطعت مع زملائي أن أفعل شيئاً.. استطعنا أن نستعيد أرضنا،ونحرر ترابنا.. وأن تكون لنا كلمتنا.. وأتذكر أن السيدة جيهان السادات كانت تزورنا وكانت تعرفني بالاسم.. حيث كنت استخدم كرسياً متحركاً وفي هذا الوقت.. كانوا يطلقون عليَّ 'البطل هاشم'.. لم أشعر يوماً بالحزن علي أني فقدت قدمي اليسري.. بل كان شعوري الدائم هو الفخر لأنني استطعت أن أدمر إحدي المركبات للعدو.. وفيما بعد سمعت من السيد اللواء صلاح مصباح الذي كان قائدنا في هذا الوقت.. أننا استطعنا أن نوقف الثغرة لمدة أربع وعشرين ساعة.. بعد أن تم رصد ذلك عبر القمر الصناعي'.
وعن شعوره الآن لو عاد به العمر إلي الوراء.. قال: 'لو عاد بي العمر إلي الوراء فأنا أقول صادقاً إنني علي استعداد لأن أضحي بقدمي الأخري من أجل مصر.. أقول بأمانة الله إنني مستعد لذلك تماماً.. لأن هذا أقل واجب لصالح بلدي!'.
ويمضي اللواء محمود هاشم فيقول: 'رغم الإصابة إلا أنني كنت أتابع أحوال زملائي حيث كتيبتي في الكيلو 101، كان زملائي ينتهزون أقرب فرصة ليأتوا للاطمئنان عليَّ، وإبلاغي بأخبار سير العمليات.. وقد زارني أيضاً اللواء عادل حسين - رحمة الله عليه.
وعن ذكرياته عن أصدقاء السلاح خلال حرب السادس من أكتوبر وعلاقته بهم الآن خاصة من تبقي منهم علي قيد الحياة.. يقول اللواء محمود هاشم: إنه يلتقي وزملائه ممن قاتلوا سوياً مرة كل شهر، يجلسون، يتسامرون، ويتذكرون أيام العزة والكبرياء وذكريات الحرب التي لا تذهب من الذاكرة مهما مضت السنون.. ويقول: 'نتجمع في أحد الأماكن بالمقطم لنحكي ونروي كل ما مررنا به.
ويستعيد مجدداً شريط الذكريات ليقول: 'ما لفت انتباهنا في هذا الوقت أن الطائرات التي كانت تحاربنا كانت جديدة للغاية.. مما أكد لدينا ما ذكر من أن الولايات المتحدة الأمريكية قد مدت إسرائيل بجسر جوي لإنقاذها من الهزيمة المحققة التي ألحقها بها الجيش المصري العظيم.. بالإضافة إلي القاذفات الحديثة والصواريخ التي أطلقوها علي مواسير الدبابات فكانت تدمرها.. كان هذا تطوراً جديداً في سير المعارك في ذلك الوقت.. حيث كانت تلك الصواريخ لا تدمر ماسورة الدبابة بقدر ما كانت تصيبها إصابات طفيفة.. كانت الصواريخ الحديثة تلتصق بماسورة الدبابة ثم تبدأ عملها لتدمير الماسورة.. وكأنها مغناطيس أو مادة لاصقة.. ومما أكد لنا حقيقة الدور الأمريكي أن المركبة التي سيطرنا عليها لم تكن قد تعدت بضعة كيلومترات في استخدامها مما يؤكد أنها قادمة للتو من المخازن الأمريكية'.
وينتقل اللواء محمود هاشم لمرحلة ما بعد الإصابة فيقول إنه سافر إلي ألمانيا الشرقية لعمل قدم صناعية وبعد العودة لم يفقد الأمل والعزيمة علي مواصلة الحياة بطريقته التي اعتادها، فراح يدرس ليحصل علي بكالوريوس التجارة، ثم إدارة النظم والحاسبات حيث تعلم الكمبيوتر وحصل علي شهادات مختلفة.. وترك الجيش بإرادته بعد أن أكد أنه منحه ما يستطيع.. وانطلق لحياته المدنية..
عن الأسبوع المصرية
التعديل الأخير: