لمدينة القدس منْزلة خاصة في تاريخ البشرية، فهي من الناحية التاريخية من أقدم مدن العالم، تعرضت لحكم معظم الفاتحين منذ أكثر من ستة آلاف سنة. أما من الناحية العقائدية فهي تعتبر مهوى أفئدة أكثر من نصف سكان العالم، من المسلمين والنصارى واليهود، ففيها الكثير من الأماكن المقدسة والآثار القديمة التي لها منزلة عظيمة في نفوسهم. وأما من الناحية الاسترايجية فإن موقع القدس في قلب فسلطين يكسبها أهيمة خاصة في كل من يرغب في بسط سلطانه على فلسطين كلها، فمنها ينتشر العديد من الطرق إلى رام الله ونابلس شرقاً، وبيت لحم والخليل غرباً، والبحر الأبيض المتوسط شمالاً، ومنطقة أريحا والأغوار جنوباً. وأما من الناحية السياسية فإن مشكلة القدس تعتبر من أعقد المشاكل السياسية في العصر الحديث، استعصى حلها على جميع الأطراف المعنية. والواقع أن مشكلة القدس ليست معقدة إذا بحثت بحثاً تاريخياً مجرداً عن الأهواء والانفعالات، فالعرب ثم المسلمون هم أصحابها الشرعيون منذ أكثر من ستة آلاف سنة. وإن فترات الاحتلال التي تعرضت لها المدينة المقدسة، هي فترات طارئة على الحكم العربي ثم الإسلامي لها، إذ ما تلبث القدس حتى تعود إلى أصحابها الشرعيين.
من ناحية أخرى فإن فترة الحكم الإسلامي للقدس أكثر فتراتها التاريخية استقراراً وعدالة، وخاصة بالنسبة لليهود والنصارى، إذ عامَلَهم المسلمون معاملة حسنة، بما يمليه عليهم دينهم وإيمانهم، يؤكد ذلك أن كنائسهم ومعابدهم وحرياتهم الدينية كانت مصونة في ظل الحكم الإسلامي، ولا تزال شاهدة حتى اليوم على ذلك.
ومن ناحية ثالثة فإن نظرة المسلمين إلى بيت المقدس جاءت من وحي دينهم، فهم يعترفون بجميع الأديان، ويعتبرون الإيمان بأنبيائهم جزءً لا يتجزأ من عقيدتهم ودينهم، أما النصارى واليهود فالمعلوم أنهم لا يعترفون إلا بأنبيائهم فقط، ولهذا فهم ليسوا مؤهلين عقائدياً للوصايا على المدينة المقدسة، ويؤكد لنا التاريخ هذه الحقيقة إذ يبيّن أن المسلمين قد عاملوا اليهود والنصارى معاملة حسنة خلال حكمهم للقدس، بينما نجدهم يعاملون المسلمين معاملة غير إنسانية خلال سنوات احتلالهم المحدودة للمدينة المقدسة. فحينما استولى الصليبيون على القدس عام 1099م أبادوا كل من فيها من المسلمين، وحولوا الأماكن الإسلامية المقدسة اصطبلات لخيولهم. فأين هذا من حكم القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي حينما طهّر القدس من براثنهم بعد حطّين؟ فقد منح الذين يرغبون في البقاء في القدس الذمة، ومنح من أحب الهجرة منها الأمانَ. أما اليهود فمنذ إستيلائهم على القدس عام 1967 وهم يحاولون تغيير هويتها الإسلامية تغييراً جذرياً بتدمير الأماكن الإسلامية المقدسة، وترحيل المسلمين عنها، وإسكان اليهود مكانهم.
وإذا كانت نظرة المسلمين إلى القدس نظرة إسلامية عالمية، على أساس أنها أرض الأنبياء، وموطن الرسالات، وأنه ليس فيها شبر أرض إلا وقد صلى فيه نبي كريم، وأن الله تعالى بارك حولها وذكرها في قرآنه الكريم، وأن كل بقعة فيها تشهد بمجد المسلمين، لأن كل بقعة تشهد بأن عليها دم شهيد مسلم، أو قبر ولي صالح، أو مقام صحابي جليل، فإن نظرة اليهود والنصارى لها في القديم والحديث، هي نظرة إستعمارية عنصرية، فالتاريخ يوكد لنا أن الحروب الصليبية قامت على دوافع دينية صنعها أحبارهم ورهبانهم لتحقيق أهداف إستعمارية، كما أن هدف الصهيونية في العصر الحديث إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين كموطئ قدم لتحقيق أهدافهم في إقامة دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل. وتستغل الصهيونية الدين اليهودي لتحقيق أهدافها الإستعمارية، إذ بغير العقيدة الدينية لن تستطيع تجميع يهود العالم في بقعة واحدة، لأن وضعهم المادي في دول العالم وضع ممتاز، فلن تشجعهم الإغراءات المادية في الهجرة من بلد غني مستقر إلى بلد مضطرب فقير.
قال تيودور هرتزل:"إذا حصلنا يوماً على القدس، وكنتُ لا أزال حيَّاً وقادراً على القيام بأي شيء، فسوف أزيل كل ما ليس مقدساً لدى اليهود، وسوف أحرق الآثار التي مرت عليها القرون".
الموقع الجغرافي
تقع القدس في قلب فلسطين، في الجهة الغربية للبحر المتوسط، حيث تبعد عن ساحل البحر حوالي خسمة وعشرين كيلومتراً على خط مستقيم، أو 59 كيلومتراً على الطريق الطبيعية. وتقع على خط العرض الشمالي 31 درجة و 46 دقيقة، وخط الطول 36 شرقاً، على ارتفاع 800 متراً عن سطح البحر، و1173 متراً عن سطح البحر الميت، وتتراوح نسبة الأمطار فيها بين 500-900 مم (ثلاثة أضعاف أمطار دمشق) تهطل في مدة بين 40-65 يوماً في السنة، ويبلغ معدل الحرارة فيها (18) درجة تهبط في كانون أول (يناير) إلى تسع درجات، بينما ترتفع في شهر آب (أوغسطس) إلى (25) درجة.
جبال القدس
وتقع القدس على عدد من الجبال أهمها (جبل المشارف)، ويدعى أيضاً (جبل المشهد) لأن معظم الفاتحين أقاموا فيه معسكراتهم حين غزوا القدس، كما يسمى (جبل الصوانة) ويسميه الأروبيون (جبل سكوبيس) ومعناه باليوناينة (المراقب) لأن من يقف عليه يستطيع مراقبة المدينة المقدسة كلها، ويسميه اليهود (هارها تسوفين) وهي ترجمة حرفية للتسمية العربية. وقد اقام عليه اليهود الجامعة العبرية منذ عهد الانتداب ووسّعوها في عهد الاحتلال. ويرتفع هذا الجبل حوالي 850م عن سطح البحر، ويبتدئ من شمالي شعفاط وينتهي بجبل الزيتون شمالي القدس القديمة من جهة الشرق ويمتد حوالي كيلومترين، ويقع طرفه الشمالي على الطريق العام المؤدي إلى رام الله ونابلس.
و(جبل الطور)، يدعى أيضاً (جبل الزيتون) ويقع إلى الشرق من القدس القديمة يفصله عنها وادي (قدور) ويقع جنوب جبل المشارف وارتفاعه حوالي 825م عن سطح البحر، ولهذا الجبل أهميته خاصة عند حيث تنتشر على سفوحه وقممه الكنائس والأديرة. ويعتقد النصارى بأن المسيح عليه السلام كان يدرّس تلاميذه في منطقة (الأليا) الواقعة في قمة الجبل، كما تناول عشاءه الأخير قبل القبض عليه [!] في كنيسة الجثمانية، وفي هذه الكنيسة حديقة فيها ثماني شجرات من الزيتون، يقال إن تاريخها يرجع إلى أيام المسيح عليه السلام، فقد كان يستظل بظلها هو وتلاميذه للراحة والنوم.
(جبل موريا) وهو الجبل الذي يقوم عليه الحرم الشريف، وتقع على قمته قبة الصخرة المشرفة، بينما يربض على سفحه من جهة الجنوب المسجد الأقصى، كما يقع على سفحه من الجهة الغربية (البراق) أو حائط المبكى –كما يسميه اليهود- كما يقع عليه سور القدس القديم الذين يحيط بالمدينة المقدسة من جهاتها الأربع.
(جبل المكبِّر) وسمي كذلك لأن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أطل منه على المدينة المقدسة وهو في طريقه لاستلامها، وقال: الله أكبر. ورددت جموع الجيوش الإسلامية النداء خلفه. ويقع في الجهة الجنوبية الغربية من القدس القديمة، ويدعى أيضاً (جبل صهيون) حيث يعتقد اليهودُ أن قلعة لليبوسيين العرب كان تربض فوق قمته احتلها داود عليه السلام حينما فتح القدس.
أقسام وأبواب القدس :
وتتألف القدس من قسمين: - القدس القديمة، والقدس الجديدة. أما القدس القديمة فهي التي تقع على جبل موريا ويحيط بها سور قديم من جهاتها الأربع وفيها كل المقدسات الإسلامية والمسيحية، كالمسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وكنيسة القيامة. وتتميز عمارتها بطراز شرقي قديم، فشوارعها ضيقة ومتعرجة، ومسقوفة في بعض جهاتها، وفيها أسواق التجارة القديمة كسوق خان الزيت، وسوق العطارين، وسوق القطانين، واللحّامين.
وفي الجهة الغربية من الحرم القدسي يقع حائط البراق، وطوله 30 متراً في حي المغاربة، ويسميه اليهود حائط المبكى، وتأتي التسمية الإسلامية له (البراق) لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ربط الدابة التي حملته في رحلته عنده، وتأتي التسمية اليهودية (المبكى) لأن اليهود يبكون عنده أمجادَهم إذ يعتقدون أنه حائط الهيكل الذي دمّره الامبراطور هارديان، وقد أجرى اليهودُ بعد عام 1967م الكثير من الحفريات حول هذا الحائط فلم يثبت أي شيء يؤيد مزاعمهم، ولكن ثبت أن هذا الحائط هو أحد أسوار الحرم الشريف وله امتداد يصله بسور القدس القديم، بل أثبتت الآثار أنه محاط بالآثار الإسلامية من كل جانب، والذي يزور المغارات المحيطة به ويشاهد الحفريات يجد الآيات القرآنية والآثار الإسلامية واضحة على الجدران، وكان أول ما فعله اليهود بعد حرب 1967م أن هدموا حي المغاربة ووسعوا الساحة التي أمام حائط المبكى حتى أصبحت معبداً لهم طوله حوالي مائة متر وعرضه ثلاثون متراً. وتوجد في المدينة المقدسة (كنيسة القيامة) ويزعم النصارى أن عيسى عليه السلام دفن فيها بعد أن صلبه اليهود وقتلوه، وسدنة هذه الكنيسة وحملة مفاتيحها من عائلة إسلامية تتوارثها منذ زمن عمر بن الخطاب، حينما اختلفت الطوائف المسيحية على حيازة مفاتيح القيامة، وتُدعى هذه العائلة عائلة (نسيبة) نسبة إلى الصحابية الجليلة (نسبية بنت كعب الأنصارية). ويقع في الجهة الغربية من كنيسة القيامة (الجامع العمري) وهو الجامع الذي أقيم في المكان الذي صلى فيه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك أن أمير المؤمنين حينما تسلم بيت المقدس، دعاه بطريكها لتفقد كنيسة القبر المقدس (القيامة)، فلبى عمرُ الدعوة، وبينما كان يزور الكنيسة أدركته الصلاة فالتفتَ إلى البطريرك وقال له: أين أصلي؟ فقال: مكانَك صلِّ. فقال عمر: ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة القيامة فيأتي المسلمون من بعده ويقولون هنا صلى عمرُ، ويبنون مسجداً. فابتعدَ عن القيامة رمية حجر وفرش عباءته وصلى. وجاء المسلمون من بعده فبنوا المسجد العمري.
ويحيط بالمدينة المقدسة سور قديم يبلغ محيطه حوالي خمسة أميال، ومتوسط ارتفاعه أربعون قدماً، وعليه 34 برجاً، وله ثمانية أبواب منها باب واحد مغلق ويذكر أن اليبوسيين هم الذين بنوا السور الأول للمدينة حوالي عام 2000 ق.م، وبنى سليمان عليه السلام السور الثاني، وبُنِيَ السور الثالث أثناء الزحف الآشوري، وقد هدمه نبوخذنصر، أما السور الرابع فقد بناه هيرودوس، وقد هدمه القائد الروماني (نيطس) عام 70 للميلاد. ولما استولى صلاح الدين على القدس رمّم أسوارها، وأقام عليها العديد من الأبراج وحفر حول السور خندقاً. أم السور الذي نراه اليوم فقد جدد معظمه زمن السلطان العثماني سليمان القانوني عام 1542م.
وللمدينة المقدسة ثمانية أبواب: من الشرق باب الأسباط والباب الذهبي، ومن الغرب باب النبي داود وباب الخليل وباب الجديد، ومن الشمال باب العمود وباب الساهرة، ومن الجنوب باب المغاربة، وكلها مفتوحة عدا الباب الذهبي.
وأما القدس الجديدة: فتشمل جميع الأبنية الحديثة التي بنيت خارج السور القديم، من الجهة الشرقية جبل الطور ووادي الجوز والعيسوية والشيخ جراح، ومن الجهة الغربية جبل المكبر، ومن الجهة الشمالية أحياء الطالبية، والبقعة التحتا والبقعة الفوقا. ومن الجهة الجنوبية سلوان وأبو ديس والعيزرية. وقد توسعت القدس الجديدة من كل اتجاه فاتصلت برام الله من جهة الشرق وبيت لحم من جهة الغرب، وبيافا والساحل من جهة الشمال، كما امتدت جهة أريحا حتى قرية العيزرية.
وتتميز القدس الجديدة بالعمران الحديث والأحياء والشوارع الجديدة ، وهي التي احتلها اليهود منذ عام 1948م، وأكملوا احتلالها بعد عام 1967م.
وفي القدس الجديدة الكثير من الآثار الإسلامية، ففي جبل الطور يقع مسجد الصحابي الجليل سلمان الفارسي، ومسجد رابعة العدوية، وفي الجهة الشمالية من القدس القديمة (مقبرة ماملا) ويُروى أن فيها قبور (7000) شهيد استشهدوا في الحروب الصليبية، وقد حوّلها اليهود إلى حديقة عامة بعد أن داسوا جميع القبور التي فيها. وفي الجهة الشرقية خارج السور تقع (مقبرة باب الرحمة) وفيها قبور جماعة من الصحابة الذي استشهدوا في القدس، مثل شداد بن أوس، وعبادة بن الصامت الأنصاري، أما ضريح الصحابي الجليل (عكاشة) فيقع في الجهة الغربية من القدس وقد هدمه اليهود بالمعاول.
تاريخ القدس السياسي
يؤكد التاريخ أن القدس مدينة عربية منذ حوالي ستة آلاف سنة، فقد سكنها اليبوسيون –وهم فرع من الكنعانين- في الألف الرابع قبل الميلاد، ويُعتَبر هؤلاء أول من أسس المدينة المقدسة حيث سمّوها (يبوس) في حوالي عام 2500 ق.م. وفي عهد أحد ملوكهم (ملكي صادق) ظهرت في المدينة أول جماعة اعتنقت التوحيد برعاية ملكي صادق، فوسّع يبوس وأطلق عليها (أورسالم) أي مدينة السلام، وبنى فيها معبداً كبيراً أسماه (بيت قدس) لعبادة الإله الأكبر (سالم) فسُمّيت من ذلك الوقت (بيت المقدس) وكان هذا الملك تقياً ورعاً محباً للسلام حتى أطلق عليه ملك السلام. ولمّا حكم (سالم اليبوسي) زاد في بُنيانها وشيّد على جبل صهيون قلعة للدفاع عن المدينة، وبقيت المدينة المقدسة عربية خالصة حتى فتحها داود عليه السلام وسمّاها (أورشليم) وهو تحريف عبري لاسمها العربي (أورسالم).
في عهد الملك العربي (ملكي صادق) وفد إبراهيم الخليل [عليه السلام] إلى فلسطين، فأحسن هذا الملك وفادته لأنه كان يدعو للتوحيد، وقدّم له الطعام والشراب –كما جاء في الإصحاح 14 من سفر التكوين، وحينما هاجر إبراهيم عليه السلام إلى فلسطين كانت تسمى (أرض كنعان) لأنه كان يسكنها الحثيون العرب وهم فرع من الكنعانيين، فنَزل إبراهيم في منطقة حبرون وهي الخليل الآن، وكان يشعر أنه كان غريباً بين أهلها، حتى إن الكاتب اليهودي (جان ليجول) يقول: "بأن أبا الأنبياء لم يجزْ لنفسه أن يملك قطعة من أرض يجعلها قبراً لزوجته سارة، فالتجأ إلى الحثيين أصحاب الأرض وقال لهم: أنا غريب ونزيل عندكم أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتتي من أمامي. فأعطوه مغارة كان يملكها (عفرون بن صوحر) وهي المغارة التي يقوم عليها الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل". وما حدث لإبراهيم حدث لداود عليه السلام، فقد أراد داود أن يقيم مذبحاً في بيدر يخص (أورون اليبوسي) وعرض عليه ثمناً له، ولكن اليبوسي أعطاه إياه بدون ثمن، فإذا كان إبراهيم وداود عليهما السلام كانا لا يملكان قطعة واحدة في أرض فلسطين ونحن أحق بإبراهيم وموسى وداود منهم، فكيف يطالب اليهود بملكية فلسطين كلها على أساس أنها أرض الأجداد؟ وإبراهيم جد العرب لأنهم نسل ابنه إسماعيل؟
وفي عام 1360 ق.م تولى قيادة بني إسرائيل يوشع بن نون، فعبر بهم الأرض واحتل مدينة أريحا وتركها دكاء وأباد كل سكانها، ولكن العبرانيين لم يستطيعوا الاستيلاء على القدس إلا في زمن داود عليه السلام، أي حوالي عام 1000 ق.م، فاتخذها داود عاصمة له، ثم حكم سليمان من بعد أبيه أربعين سنة (963-923) ق.م، فبنى الهيكل في القدس بأيدي البنائين الكنعانيين، وكلمة (هيكل) ذاتها كنعانية، وهكذا لم تدم دولة اليهود الموحدة إلا حوالي (97) عاماً (1020-923) ق.م وهي نفس المدة التي دامت فيها دولة الصليبيين فيما بعد تقريباً.
وخلف سليمانَ ابنُه (رحبعام) الذي انقسمت الدولة في زمانه إلى دولتين: مملكة يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم وقد عمرت من (923-586 ق.م)، ومملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها السامرة قرب نابلس، وقد عمرت من (927-722 ق.م)، وسيطرت الخلافات القبلية على هاتين المملكتين، ونشبت بينهما حروب دامية حتى إن الملك (يهواش) ملك إسرائيل أغار على أورشليم واستباح هيكلها. وهكذا دبّ الوهن في مملكتي اليهود مما فسح المجال أمام سرجون الآشوري فاستولى على مملكة إسرائيل عام (722 ق.م) وسبى أهلها إلى بابل، وأسكن محلهم قبائل عربية نزحت من سورية. أما مملكة يهوذا فقد قضى عليها نبوخذنصر عام (586 ق.م) فأحرق أورشليم وسبى أهلها ودمّر هيكلها وغنم كل ما فيه. وقد عمل اليهود جواسيس ضد الدولة الكلدية لمصلحة كورش الفارسي مما مكّنه من القضاء عليها حوالي عام (539 ق.م) فَعَلَتْ منْزلة اليهود عنده، وخاصة بعد أن تزوّج اليهودية (أستير) وسمح لهم بالعودة إلى أورشليم، وبنى لهم الهيكل عام (516 ق.م)، ولكن لم يكن لهم أي شأن سياسي فيها، فقد ظلت السيطرة الفعلية فيها للحثيين. وبقيت القدس تحت السيطرة الفارسية حتى فتحها الاسكندر المقدوني عام (332 ق.م) وبقيت القدس تحت حكم اليونان حتى استولى عليها القائد الروماني (بومبي) عام (63 ق.م) وفي عهد الامبراطور هارديان حوالي عام (130م) قام اليهود بثورة في القدس فسحقها بعنف وأبدل اسمها وسمّاها (إيليا) وحرّم على اليهود دخولها أو السكن فيها. وفي عام 624م اجتاح الفرس فلسطين واحتلوا إيلياء وذبحوا آلاف النصارى فيها وهدموا كنيسة القيامة، وقد ساعدهم اليهود على ذلك بل وشاركوهم جرائمهم فقتلوا الكثير من النصارى، ولكن هرقل استرد القدس . وبقي بيت المقدس تحت الحكم الروماني حتى فتحها المسلمون عام 15 للهجرة 636 ميلادية.
غداً نلتقي في القدس إن شاء الله/نبيه زكريا عبد ربه/ق2
القدس الإسلامية
الخليفة عمر يستلم القدس:
في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتصر المسلمون في معركة أجنادين على الروم، وانهزم قائدهم (الأربطون) ولجأ إلى القدس، فتركه أبو عبيدة رضي الله عنه مؤقتاً وفتح معظم فلسطين، ثم استشار الخليفة الراشد بفتح القدس فأشار عليه فسار إليها وحاصرها أربعة أشهر، ودافع النصارى عن القدس دفاعاً شديداً، ولكنهم يئسوا أمام إصرار المسلمين وصلابتهم في القتال، ووافقوا على تسليم المدينة على أن يكون ذلك لعمر بن الخطاب نفسه. وفعلاً توجّه عمر إلى القدس واستلمها بنفسه من بطريركها الأكبر (صفرونيوس)، وشاهد عمر البطريرك يبكي، فقال له مواسياً: "لا تحزن هوّن عليك فالدنيا دواليك يوم لك ويوم عليك«. فقال صفرونيوس: »أظننتني بكيتُ لضياع الملك؟ والله ما لهذا بكيت، إنما بكيت لما أيقنت أن دولتكم على الدهر باقية ترقّ ولا تنقطع، فدولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة، وكنتُ أحسبها دولة فاتحين تمر ثم تنقرض مع السنين".
وجمع عمر الجموع وخطب فيهم قائلاً: "يا أهل إيلياء لكم ما لنا وعليكم ما علينا"، وكتب لهم وثيقة الأمان والتي عرفت (بالعهدة العمرية)، ثم زار عمر كنيسة القيامة، كما طلب من البطريرك أن يدلّه عن مكان الصخرة، فوجده عبارة عن مكان للقمامة، فراح عمر ينظفها ويحمل الأوساخ بردائه، وفعل بقية المسلمين مثل ما فعل عمر حتى تم تنظيفها، وصلى عمر والمسلمون هناك وأقام المسلمون (مسجد عمر) وهو أساس المسجد الأقصى ويقع كامتداد للأقصى الحالي من الجهة الشرقية، وقد بُنِيَ من الخشب.
الصيلبيون وصلاح الدين
وبقيت القدس مدينة إسلامية حتى فتحها الصلبيون وبقوا فيها من عام (1096-1187م) فقد تعاقب على حكمها الأمويون والعباسيون والطولونيون والأخشيديون والفاطميون والأيوبيون ثم المماليك ثم الأتراك العثمانيون. وقد استولى الصليبيون على القدس في (15/7/1099م) بعد معركة ضارية استمات فيها المسلمون في الدفاع عن مدينتهم، فلجأ المسلمون إلى المسجد الأقصى حيث داهمتهم جيوش الصليبيين وذبحت منهم حوالي سبعين ألفاً، وبقيت دولة الصليبيين في القدس حوالي (88) عاماً حتى خلّصها من براثنهم القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي في الثاني من شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 1187م، وكان يوماً مشهوداً رفعت فيه الأعلام الإسلامية على أسوار المدينة المقدسة، وأمر صلاح الدين بتطهير المسجد الأقصى والصخرة من أوساخ الصليبيين، وصلى في قبة الصخرة، وأمر أن يعمل منبر في مسجد الصخرة، وأحضر المنبر المشهور الذي كان قد عمله نور الدين محمود في حلب ووضعه في الأقصى الذي أحرقه اليهود في 21/8/1969م.
لقد عامل صلاح الدين أسرى الصليبيين معاملة حسنة، بما يمليه عليه دينه وعقيدته، فما أن دخل جنوده المدينة، حتى سلم الطرق الرئيسية فيها لرجاله الأتقياء لحماية النصارى. ولما استتب له الأمر، أعفى الفقراء والمحتاجين منهم من دفع الفدية، واحترم الكنائس والأديرة المسيحية، وفدى بنفسه عشرة آلاف أسير من جيبه الخاص، وسمح لمن أراد أن يهاجر من الصليبيين أن يهارج بعد أن يدفع فدية رمزية تقدر بعشرة دنانير عن الرجل وخمسة عن المرأة، ولما طلب منه أحد أتباعه أن يهدم كنيسة القيامة قال له: لتحذو حذو أوائل الفاتحين المسلمين الذين احترموا الكنائس. فإذا قارنا هذه الصورة بالصورة التي فعلها الصليبيون حينما فتحوا القدس إذ لم يتركوا فيها شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً إلا قتلواه بحدّ السيف وخربوا مقدسات المسلمين واستباحوا حرماتهم ومساجدهم، نجد أن غير المسلمين ليسوا مؤهلين للوصاية على المدينة المقدسة.
الصليبية الحديثة
وبقيت القدس تحت حكم الخلافة العثمانية حتى استولى عليها الإنجليز بقيادة الجنرال (أللنبي) في 11/كانون الأول/1917، وقد ألقى (أللنبي) خطاباً بعد ذلك في المدينة حضره مفتي القدس الشيخ كامل الحسيني ورئيس بلديتها حسين سليم الحسيني، ووجهاء المدينة من المسلمين والنصارى، ولما انتهى الجنرال من كلمته قال: "الآن انتهت الحروب الصليبية". فانسحب مفتي القدس غاضباً دون أن يصافح أللنبي وساد الحفل الكثير من الهرج والمرج، وتبع المفتي بقية المسلمين الموجودين في الحفل. وهذا يذكر بقول الجنرال غورو الفرنسي حينما دخل دمشق فاتحاً عام 1920 ووقف على قبر صلاح الدين الأيوبي، وضرب الضريح بالسيف وقال: "أنا من أحفاد الصليبيين، فأين أحفادُك يا صلاح الدين؟"
استمرت فترة الانتداب البريطاني على فلسطين قرابة ثلاثين عاماً، كانت مهمة بريطانيا فيها تهيئة الأوضاع في فلسطين لإقامة وطن قومي لليهود فيها حسب وعد بلفور الذي قطعته حكومة صاحبة الجلالة البريطانية على نفسها للورد روتشيلد زعيم اليهود في تلك الأيام، فعينت بريطانيا أول مندوب سامي يهودي على فلسطين وهو (روبرت صموئيل) ولما شعر المسلمون في فلسطين بما تتعرض له بلدهم من مؤامرة استعمارية قاموا يقاتلون الإنجليز واليهود، فقاموا بالعديد من الثورات والصدامات تكررت في أعوام 1919، 1922، 1929، 1936 الذي استمر ستة أشهر إعلاناً عن استنكارهم للسياسة البريطانية الصهيونية، ولم يفكّوا هذا الإضراب إلا بعد أن خدعتهم بريطانيا، فأوعزت إلى ملوك ورؤساء الدول العربية آنذاك لتوجيه بيان يدعو الفلسطينيين إلى إنهاء الإضراب مقابل تعهد هؤلاء الرؤساء بالاهتمام بقضيتهم، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه. ووصلت المؤامرة الاستعمارية الصهيونية ذروتها على فلسطين بصدور قرار التقسيم بتاريخ 15/أيار/1948، ثم باحتلال القدس الجديدة وجزء كبير من فلسطين بعد ذلك، وضم ما بقي من فلسطين إلى الأردن وتأسست المملكة الأردنية الهاشمية، وبقيت القدس تحت الحكم الأردني حتى استولى اليهود على البقية الباقية من فلسطين في حزيران 1967.
هذا التسلسل التاريخي يؤكد لنا أن القدس بلد عربي إسلامي وإن فترات الاحتلال التي تعرضت لها كانت طارئة إذ ما تلبث المدينة أن تعود إلى أصحابها الحقيقيين العرب المسلمين. ففي مناظرة بين المؤرخ البريطاني (أرنولد تونبي) وموشي ديان في أوائل الستينات، قال تونبي لديان: ألا تعتقد أيها الجنرال أن مصير إسرائيل مشابهاً لمصير الدولة الصليبية التي قامت في فلسطين عشرات السنين ثم اندثرت، لأنها كانت تعتمد في حياتها على الدعم الخارجي؟ فردّ عليه دايان: إن وضع إسرائيل يختلف عن وضع الدولة الصليبية، إذ أن إسرائيل قامت من داخل المنطقة، ولم تأتِ من خارجها كالدولة الصليبية!
وفي 11/9/1979 علّقت صحيفة (دافار) الإسرائيلية على هذه المناظرة بقولها: "وبعد ربع قرن على هذه المناظرة بدأت أصداؤها تتردد في إسرائيل، إذ يجد حكام إسرائيل دولتهم الآن كما كانت الدولة الصليبية تعتمد في مقومات حياتها على الدعم الخارجي، من جديد هل يكون مصير إسرائيل مشابهاً لمصير الدولة الصليبية؟ والذين يحاولون تأجيل هذا المصير بمعاهدات واتفاقات للصلح هل يعرفون شيئاً عن الحتمية التاريخية التي تحدث عنها توينبي". وهذا يذكرنا بقول بن غوريون: "إن حفيدي سيشهد زوال دولة إسرائيل".
منْزلة القدس في العقيدة الإسلامية
للقدس منْزلة عظيمة في العقيدة الإسلامية: فهي مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه، وأولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين. وقد ذكرها القرآن الكريم في سورة الإسراء فقال تعالى: { سُبحانَ الذي أسرى بعبدِه ليلاً من المسجدِ الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حولَه } (الإسراء:1). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تُشَدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا " رواه البخاري. وروى ابن المرجي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الجنة لتحن شوقاً إلى بيت المقدس ". وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: " إن الصلاة فيه –في المسجد الأقصى- تعدل خمسمائة صلاة في غيره من المساجد باستثاء المسجد الحرام والمسجد النبوي ". وفي سنن أبي داود من حديث أم سلمة قالت: " من أهلّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ووجبت له الجنة ". وروى أحمد عن ميمونة بنت سعد قالت: يا نبي اللهن أفتنا في بيت المقدس. فقال صلى الله عليه وسلم: " أرض المحشر والمنشر ". وفي رواية البيهقي عن أبي ذر مرفوعاً: " ولنعم المصلى، هو أرض المحشر والمنشر، وليأتين على الناس زمان، قوس الرجل يرى منه بيت المقدس خير له وأحب من الدنيا جميعا ".
وقد غزا المسلمون زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤتة وتبوك. وقد بشر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بأن الله عز وجل سيفتح عليهم بيت المقدس. فعن عوف بن مالك رضي الله قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أُدم فقال: "اعددْ ستاً بين يدي الساعة: موتي ثم فتح بيت المقدس.." (أخرجه البخاري). وعن عبد الله بن حوالة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه العري والفقر وقلة الشيء، فقال: " أبشروا، فوالله لأنا بكثرة الشيء أخوف مني عليكم من قلته، واللهِ لا يزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح الله عليكم أرض الشام ". قال ابن حوالة: قلتُ: يا رسول الله، ومن يستطيع فتح الشام وفيها الروم؟ قال: " واللهِ ليفتحها الله عليكم، وليستخلفنكم فيها حتى تطل العصابة البيض منهم، قمصهم الملحمية أقياؤهم على الرويحل ". (ذكره ابن كثير في البداية والنهاية). وأخرج الإمام أحمد عن ذي الأصابع قال: قلنا: يا رسول الله، إن ابتُلينا بعدك بالبناء أين تأمرنا؟ قال: " عليك ببيت المقدس، فلعل أن ينشأ لك ذرية تغدو إلى المسجد وتروح ". وأخرج أحمد عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله عز وجل وهم كذلك ". قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: " ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ". (انفرد أحمد بروايته في المسند (رقم 21286) عن مهدي بن جعفر الرملي عن ضمرة عن الشيباني عن عمرو بن عبد الله الحضرمي عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعاً).
وصدقت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما هي إلا سنوات حتى فتح المسلمون القدس في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختفي اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا عبد الله يا مسلم هذا اليهودي خلفي تعالَ فاقتله ".
الأماكن الإسلامية المقدسة
* أهمها الحرم الشريف، ويضم مسجدي الأقصى والصخرة، ويقوم على جبل موريا على مساحة (141) دونماً، وتحيط به الأوقاف الإسلامية من كل جانب. ويقع المسجد الأقصى في الجهة الجنوبية من السور، وقد شرع ببنائه زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام (66 هـ- 685م) ويبلغ طوله 88 متراً، وعرضه 35 متراً، ويقوم على 53 عاموداً من الرخام، و49 سارية مربعة الشكل. وعلى يسار المسجد من الداخل جامع مستطيل يدعى (مسجد عمر) وإيوان كبير يسمى (مقام عزير) وإيوان صغير يدعى (محراب زكريا). ومن المعالم الأقصى الأثرية منبر (نور الدين الشهيد)، وقد أمر بصنعه (نور الدين محمود) سنة 563 هجرية ليضعه في المسجد الأقصى بعد أن يطهره من رجس الصليبيين، وقد صنعه مهرة النجارين في حلب فبدا غاية في الجمال والاتقان، ومضت عشرون سنة والمنبر ينتظر، حتى فتح الله القدس على يد صلاح الدين سنة 583 هـ فأمر بنقل المنبر ونصبه يوم الفتح في المسجد الأقصى، حيث خطب عليه قاضي دمشق محي الدين بن الزكي خطبة الجمعة بعد انقطاع دام حوالي تسعين عاماً، وقد أحرق اليهور هذا المنبر حينما حاولوا إحراق المسجد الأقصى كله عام 1969م.
* مسجد الصخرة: أما مسجد الصخرة فيقع على قمة جبل موريا وتقع تحت قبته الصخرة التي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إماماً بالأنبياء ليلة الإسراء والمعراج، ويبلغ طولها 18 متراً، وعرضها 14 متراً. وقد بنى هذا المسجد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 66هـ-685م. وقد تعاون الخلفاء والأمراء بعد ذلك على إعمار هذا المسجد، وقد تجلى فيه جمال الهندسة المعمارية والإسلامية التي خلدها التاريخ، وكل آخر الإصلاحات له في زمن المملكة الهاشمية، حين تشكلت لجنة إعمار المسجد الأقصى وعملت على عمل الترميمات والتجديدات اللازمة، ومن أبرزها رفع الألواح الرصاصية التي كانت تغطي قبة الصخرة واستبدالها بقبة جديدة من الألمنيوم المذهب.
أبواب ومآذن الحرم
وللحرم الشريف ثلاثة عشر باباً، موزّعة بحيث يستطيع جميع سكان القدس الحضور للصلاة في الحرم بكل سهولة ويسر، وهي: باب الرحمة، باب التوبة، باب البراق، باب حطة، باب العتم (الملك فيصل)، باب الغوانممة، باب الناظر، باب الحديد، باب القطانين، باب المتوضأ، باب السلسلة، باب السكينة، باب المغاربة، وهذا الأخير استولى على مفاتيحه اليهود لأنه يؤدي مباشرة إلى (المبكى).
وللحرم الشريف أربع مآذن، أمر ببنائها عبد الملك بن مروان، ثلاثة منها على صف واحد غربي المسجد، والرابعة فوق باب الأسباط، وقد جددت عدة مرات بعد. وفي الحرم أيضاً ثماني آبار في صحن الصخرة، وسبع عشرة في فناء الأقصى، وقد صممت بحيث تكفي أهل القدس لمدة ستة أشهر في حالة محاصرتها من قبل الأعداء. ويوجد فيه أيضاً متحف إسلامي ومكتبة ضخمة فيها الكثير من المخطوطات الإسلامية.
مساجد القدس
وقد اهتم المسلمون ببناء المساجد في القدس، ووقفوا عليها الأوقاف الإسلامية التي لا يمكن التصرف بها، حتى تبقى القدس إسلامية أبد الدهر. وقد زار الرحالة التركي (أوليا جلبي) القدس عام 1670م فقال: (وفيها 240 مسجداً للصلاة، و7 دور للحديث، و 10 دور لتعليم القرآن وتحفيظه، و40 مدرسة للبنين، و6 حمامات، و18 سبيلاً للماء، وتكابا لسبعين طريقة إسلامية). وأهم المساجد فيها: مسجد قبة موسى، مسجد باب حطة، مسجد كرسي سليمان، مسجد المغاربة، مسجد باب الغوانمة، مسجد دار الأمام، مسجد خان الزيت، مسجد سلمان الفارسي، مسجد رابعة العدوية، مسجد الطور، مسجد القلعة، مسجد الحنابلة، مسجد عكاشة، مسجد سويقة علون، مسجد الخانقاه، مسجد الخالدية، مسجد اليعقوبية، مسجد البراق، مسجد خان السلطان، مسجد القرمي، مسجد الكريمي، مسجد العلمي، مسجد بني حسن، مسجد حارة الأرمن، مسجد الشيخ لولو، مسجد حارة النصارى، ومسجد البازار، مسجد المسعودي، مسجد الشيخ جراح، مسجد حجازي، مسجد المطحنة، مسجد المولوية، مسجد الشيخ ريحان، المسجد الأفغاني. ومن أشهر المدارس فيها المدرسة الصلاحية، والمدرسة الكريمية، العمرية، البكرية، والمأمونية، والرشيدية، والسلطانية...
أعلام من بيت المقدس
أنجبت بيت المقدس الكثير من الأعلام في مختلف العلوم والفنون في مختلف العصور الإسلامية. ومن هؤلاء الأعلام:
* ابن أبي عذيبة المقدسي، ولد في القدس ينة 819 هـ (1416م) وتوفي فهيا عام 856 هـ (1452م) ودفن بمقبرة باب الرحمة، وكان مؤرخاً وعالماً وأديباً.
* أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي بن أحمد المقدسي الشيباني، المعروف بابن القيسراني، ولد في القدس سنة 448 هـ (1056م) وتوفي سنة 508 هـ (1115م) وكان رحالة ونسابة ومحدثاً ومؤرخاً وشاعراً.
* أبو القاسم مكي بن عبد السلام بن الحسين بن القاسم بن محمد الرميلي. ولد في القدس سنة (432 هـ) (1040م) وتوفي شهيداً فيها بينما كان يدافع عنها ضد الصليبيين سنة 492 هـ، وكان رحالة حافظاً للحديث مؤرخاً ومن أعيان فقهاء الشافعية.
* أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن علي بن أبي شريف المقدسي. ولد في القدس سنة (836 هـ) وتوفي في القاهرة سنة 923 هـ، وكان فقيهاً وأديباً ومحدثاً.
غداً نلتقي في القدس إن شاء الله/نبيه زكريا عبد ربه/ق3 والأخير
أطماع اليهود
منذ القرن السادس قبل الميلاد واليهود يطمعون في العودة إلى القدس، وقد حاولوا ذلك مراراً، ولكنهم فشلوا في تحقيقها إلى أن لجأوا أخيراً إلى التسلل الفردي إلى فلسطين. يقول السائح اليهودي (بتاحيا): إنه لما زار فلسطين عام 1200م لم يجد فيها يهودياً واحداً، ولما زارها اليهودي موسى بن نحمان عام 1300م لم يجد فيها سوى عائلتين يهوديتين. وفي زمن السلطان محمد الرابع (1670م) لم يزد عدد اليهود في القدس عن (150) يهودياً. وفي عام 1870م بدأت مشروعات تنظيم الهجرة اليهودية إلى فلسطين برعاية الاتحاد الإسرائيلي العالمي، حيث نشأت مدرسة زراعية قرب يافا، ثم قام البارون أدموند دي روتشيلد بإنشاء المستعمرات الخمس عام 1883، حتى ارتفع عدد اليهود عام 1918 إلى 56 ألف يهودي، وشجع الإنجليز الهجرة اليهودية حتى ارتفع عدد اليهود حتى عام 1948 إلى 650 ألفاً. ولكن مع ذلك لم يملكوا من أرض فلسطين سوى (6%) ولم يزد عددهم في القدس عن ألقي يهودي.
واليهود يعتبرون فلسطين موطئ قدم لهم لتحقيق حلمهم القديم لإيجاد مملكة إسرائيل من الفرات إلى النيل، والرجوع إلى مك ويثرب وخيبر، فهذا ابن غوريون يقول: (لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل). أما موشي دايان فقد قال يوم احتلال القدس عام 1967: "لقد استولينا على أورشليم، ونحن في طريقنا إلى يثرب وخيبر". أما جولدا مائير فقد قالت: "إن أورشليم مدينتنا ، وأنا لا أعرف وجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني". أما بيجن فقد قال: "إن القدس ستظل عاصمة لإسرائيل طالما بقي الشعب اليهودي، وسيبقى الشعب اليهودي إلى الأبد". أما جابوتسكي فقد قال: "بوركت اليد التي مسحت الحزن عن وجه سليمان"، ودعاهم إلى بناء الهيكل وقال لهم: "لقد حان الوقت لكي نعيد العالم إلى الطريق الصحيح". وقد ذكر وايزمان في كتابه (التجربة والخطأ) أن اليهود بعد عام 1967 حاولوا انتزاع الزاوية الفخرية (دار أبو السعود) وهي ملاصقة للجهة الغربية لسور الحرم المكي لكي يهدموها للبحث عن أساس هيكلهم، وطلبوا ذلك من أرملة الشيخ حسن أبو السعود، ولكنها رفضت، وأخيراً أخرجت السيدة بالقوة وهدمت الدار، وسافرت إلى السعودية عند أولادها، فقال لها (هرتسوك) حاكم القدس: "إذا رأيت الملك فيصل فقولي له إننا قادمون إليه، فإن لنا أملاكاً عنده، إن جدنا إبراهيم هو الذي بنى الكعبة، وإن الكعبة ملكنا وسنسترجعها بالتاكيد". ولا يعني استيلاء اليهود على مكة والمدينة وخيبر الاستيلاء على المقدسات الإسلامية فحسب، ولكنه يعني أيضاً الاستيلاء على الثروات التي تزخر بها بلاد العرب، فالذهب الأصفر والأسود هو إله بني إسرائيل الأوحد، لأن اليهود يعتبرون أن ضائقتهم المالية لا تحل باعتمادهم على الدول الغربية، ولكنها تحل بالإمكانات الذاتية لإسرائيل وذلك بأن يصبح اليهود شركاء –على الأقل- في النفط العربي، وذلك بالاستيلاء على بعضه أو كله، بالتواطؤ مع الدول الاستعمارية الكبرى.
تهويد القدس
بدأ التمهيد لعملية تهويد القدس بتواطؤ مع بريطانيا ضد الدولة العثمانية حتى تضمن الصهيونية وقوع فلسطين بأيدي دولة صديقة، وفعلا انتُدبت بريطانيا لحكم فلسطين لتهيئة الأوضاع فيها لإقامة وطن قومي لليهود تنفيذاً لوعد (بلفور) عام 1917. وقامت بريطانيا بمهمتها خير قيام، فكانت تساعد اليهود على النمو المستمر من الناحية البشرية والاقتصادية، كما كانت تساعد اليهود على الاستيلاء على الأراضي الأميرية، وشراء الأراضي الاستراتيجية من العرب. وبعد أن تأكد لبريطانيا وأميركا أن اليهود أصبح بإمكانهم إقامة دولة لهم انسحبت بريطانيا بعد أن سلمت لليهود الكثير من المدن الفلسطينية الرئيسية، ومازال اليهود يحاولون أن يبسطوا سلطانهم على فلسطين بكاملها بافتعال الحروب الصورية مع الدول المحيطة بفلسطين حتى استطاعوا الاستيلاء على فلسطين كلها عام 1967، كما استولوا على القدس الشريف، ومنذ ذلك الحين ويحاول اليهود تغيير الهوية الإسلامية للمدينة المقدسة وذلك بترحيل السكان العرب عن المدينة القديمة وإسكان اليهود بدلاً منهم والاستيلاء على مساحات كثيرة من المدينة القديمة والجديدة وإقامة المستعمرات عليها. كما استولوا على جميع المدارس الحكومية فيها، ولما كانت معظم الأحياء المحيطة بالحرم الشريف أوقافاً إسلامية فقد لجأوا إلى حيلة جديدة فهم يمنعون تعميرها مطلقاً على أمل أن تنهار لوحدها، وإذا شعروا بأن بيتاً فيها آيل للسقوط فإنهم يهدمونه ويقيمون حديقة مكانه، وهم يهدفون من كل هذا إزالة المعالم الإسلامية بالتدريج من المدينة المقدسة، هذا بالإضافة إلى ترحيلهم الكثير من السكان عن القدس القديمة بالقوة.
المؤامرة على المسجد الأقصى
صرح وزير الأديان الصهيوني بتاريخ 12/8/1967: (بأن لإسرائيل مقدسات أخرى في الضفة الشرقية لنهر الأردن، وفي الحرم المقدسي، وهذا الأخير هو أقدس الأقداس بالنسبة لليهود). ويحاول اليهود منذ اليوم الأول لاحتلالهم المدينة المقدسة بأن يهدموا المسجد الأقصى، ولكنهم يفضلون أن يكون ذلك بالتدريج، وقد روي بأن جندياً من اليهود المتدينين حاول اقتحام المسجد الأقصى من جهة باب المغاربة وهو بكامل سلاحه وأصر على الصلاة في الأقصى، ولكن الحراس العرب منعوه، إلا أنه أصر على الدخول مهدداً بإطلاق النار عليهم، فاستدعوا له أحد الضباط اليهود فكلمه بالعبرية وقال له: "إن الوقت الذي سنتقحم به الأقصىبسلاحنا لم يحن بعد". قال له الجندي: "وهل هذا الوقت قريب؟" فقال له الضابط: "نعم". فأدى الجندي التحية للضابط وخرج من ساحة الأقصى.
لقد اتخذ اليهود العديد من الخطوات التمهيدية لهدم الأقصى وإقامة هيكلهم عليه منها:
* نسف العقارات الوقفية الملاصقة للأقصى من الجهة الغربية كحي المغاربة، ودار أبو السعود والاستيلاء على دار المؤتمر الإسلامي في باب السلسلة.
* إجراء حفريات عميقة تحت الأقصى، وبالرغم من أن هذه الحفريات مستمرة منذ عام 1967 إلا أن اليهود لم يستطيعوا أن يثبتوا أن لهم أية آثار في هذه المنطقة، ولو وجدوا شيئاً من ذلك لملأوا الدنيا صياحاً ودعاية.
* محاولة إحراق المسجد الأقصى في 21/8/1969.
* إصدار قرار من إحدى المحاكم الإسرائيلية يتيح لليهود الصلاة في الحرم المقدسي ومطالبة الهيئات اليهودية بهدم الأقصى والصخرة وإقامة الهيكل مكانهما.
* هذا بالإضافة إلى مراقبة المصلين والصخرة، وخاصة الشباب منهم، واتهام من يداوم على الصلاة في الحرم بأنه من الفدائيين واعتقاله، وهي خطة إرهابية الهدف منها تفريغ المسجد من المصلين، حتى يسهل عليهم تنفيذ مخططاتهم.
* وما استيلاء اليهود على الحرم الإبراهيمي في الخليل وتحويله إلى كنيس يهودي إلا خطوة تمهيدية وجس نبض للمسلمين، ليقدّر اليهود ردود الفعل التي سيواجهونها في العالم الإسلامي في حالة إقدامهم على الاستيلاء على الأقصى أو هدمه.
القدس في خطر
وهناك أخطار أخرى تهدد المدينة المقدسة غير الخطر اليهودي، ومنها: خطر الارساليات التبشيرية للطوائف الغربية، وقد بدأت هذه الارساليات حرباً غير معلنة على المدينة المقدسة منذ الانتداب البريطاني، فأخذت تشتري العقارات داخل القدس القديمة وخارجها وتسجلها بأسماء مختلفة، تارة بأسماء الأديرة، وتارة بأسماء مؤسسات خيرية، وتارة بأسماء أشخاص من النصارى، وقطعت في ذلك شوطاً كبيراً بمساعدة الإنجليز. وقد استولت هذه الارساليات على معظم جبل الزيتون المطل على ساحة المسجد الأقصى، ولم تبق فيه سوى مساحة تقدر بـ (25) دونماً تخص وقف عائلة (آل المؤقت). وقد تشكلت لجنة من ممثلين عن مختلف الطوائف المسيحية برئاسة رئيس أساقفة الأنجليكان (جورج أبلتن) منذ عام 1966 لانتزاع هذه الأرض وإقامة (حديقة للتأمل الروحي عليها) بأي ثمن وبأية طريقة، وأخذوا يفاوضون مسؤول وقف آل المؤقت السيد سعيد المؤقت ولكنه رفض كل عرضهم حتى أنهم عرضوا عليه شيكاً مفتوحاً يسجل فيه الثمن الذي يراه مناسباً للأرض ولكنه رفضه أيضاً، وقال لي إنه على استعداد للتنال عن هذه الأرض لأية جهة إسلامية تقيم عليها مسجداً أو أي مشروع إسلامي كمدرسة أو جامعة. وقد أقامت هذه اللجنة مؤخراً (حديقة للتأمل الروحي) على قطعة صغيرة بجوار أرض آل المؤقت، على أمل في المستقبل أن يستطيعوا الاستيلاء على هذه الأرض وضمّها إلى حديقتهم. وقد حضرتُ حفل افتتاح هذه الحديقة في 26 سبتمبر 1980 ولاحظتُ أن أهمية أرض المؤقت تبدو في موقعها الذي يكشف كل صغيرة وكبيرة في ساحة المسجد الأقصى وقبة الصخرة.
الخطر الشيوعي
من المعروف أن الشيوعية وليدة اليهودية بثورتها ومبادئها وزعمائها وأحزابها ومخططاتها، وأن أول من أدخل الشيوعية على فلسطين هم المهاجرون اليهود الروس، وأن زعماء الحركة الشيوعية في فلسطين حتى الآن من اليهود، وما الزعامات الشيوعية العربية فيها إلا واجهات تديرها الأيدي اليهودية الخفية وتسخرها لتنفيذ المخططات اليهودية. فقد تركز الشيوعيون بعد حرب 1948 في المناطق التي تضم أكثرية عربية كالجليل والمثلث، وأخذوا ينشرون الشيوعية بين العرب، ومن جانب آخر لم تسمح إسرائيل لأي صوت للمعارضة العربية إلا إذا كان منضماً للحزب الشيوعي العربي، والهدف من هذا التآمر هو تذويب الشخصية العربية الإسلامية، ودفع العرب والمسلمين إلى أحضان الشيوعية، وبذا تكون إسرائيل قد ضمنت تنفيذ مخططاتها عن طريق الشيوعيين. ولكن المسلمين الفلسطينيين قد اكتشفوا الشيوعية الصهيونية، فبعد أن انساقوا في التيار الشيوعي انقلبوا عليه وخاصة بعد حرب 1967 حينما تأكد لهم أن الشيوعيين ليسوا إلا مطايا لليهودية. ولهذا فشل الشيوعيون في تحقيق أهداف الصهيونية بين المسلمين، فانتقلت كوادرهم بعد عام 1967 إلى منطقة القدس ورام الله لتنقذ نفس المخطط والرامي إلى إضعاف المقاومة في نفوس الشبان العرب والتصدي لحركة المد الإسلامي النشطة في الضفة الغربية. وقد قال لي أحد أقطاب الشيوعية: "إننا إذا أقمنا دولة شيوعية في فلسطين فإننا سنحول المسجد الأقصى إلى مصانع يعتاش منها الفقراء". وكأن هذه الكلام يصدر من مشكاة واحدة وقول ابن غوريون: "لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل"، إذ أن هدف الشيوعيين كهدف اليهود، ألا وهو هدم المسجد الأقصى.
المد الإسلامي
قامت مخططات اليهود بالتعاون مع إنجلترا ثم أمريكا على أساس محاربة الإسلام وإبعاد المسلمين عن دينهم وتشكيكهم بعقيدتهم، لأنهم يعتقدون أن استيلائهم على بلاد المسلمين وخيراتهم لا يتم ما دام المسلمون متمسكين بإسلامهم، فهذا (جلادستون) رئيس مجلس العموم البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر يقول: "إن العقبة الكؤود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد الإسلام شيئان، لا بد من القضاء عليهما مهما كلف الأمر، أولهما: هذا الكتاب –يعني القرآن الكريم-، ثم اتجه نحو الشرق مشيراً بيده قائلاً: وهذه الكعبة". وهذا (زويمر) رئيس المبشرين في الشرق الأوسط يقول: "إن جزيرة العرب هي جزيرة الإسلام، لم تزل نذير خطر للمسيحية، ومتى توارى القرآن ومدينة مكة من حياة العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه!" ولهذا لا يخشى اليهود على دولتهم أي شيء سوى الإسلام، فهذا ابن غوريون يقول: "نحن لا تخشى الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة، ولكننا نخشى الإسلام فقط، هذا المارد الذي نام طويلاً، وبدأ يتململ من جديد". وهذا شمعون بيريز يقول: "أنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة مادام الإسلام شاهراً سيفه، ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد".
وقد حاول اليهود منذ احتلالهم للضفة الغربية عام 1967 أن يزجوا الشباب في عالم الشهوات، ويشجعونهم على كل رذيلة ويحاربوا فيهم كل فضيلة، كما عملوا على دفعهم في أحضان المبادئ الالحادية والأفكار المناقضة للإسلام، وقد لعب الشيوعيون والقوميون دوراً هاماً في هذا المجال.
وقد انساق الشباب في بادئ الأمر مع هذه التيارات، ولكنهم بعد فترة شعروا أنهم يسيرون نحو الهاوية، فبعد أن استعمر اليهود يحاولون استعمار أفكارهم وعقائدهم وتصرفاتهم. وهكذا بدأ الشباب يدرك ما يُراد به، فأخذ يفتش عن اليد التي تنقذه، فلم يجدها إلا في الإسلام، فقد تأكد له أن جميع المبادئ المستوردة ما هي إلا قفازات تكمن خلفها الأيدي الاستعمارية الخبيثة –يهودية أو شيوعية أو رأسمالية- فكان الرجوع إلى الله الذي رعته عين الله فتحول من رغبة إلى حركة انتشرت في جميع المدن والقرى الفلسطينية.
ومن أهم مظاهر المد الإسلامي في القدس اقبال معظم المسلمين على الإسلام وخاصة الشباب والشابات، ويظهر ذلك بارتداء الزي الإسلامين والاقبال على المساجد، والسعي للحصول على الكتب الإسلامية، وانتشار المحاضرات الإسلامية في المساجد والدور، وتصدي الشباب المستمر لمحاولات اليهود الصلاة في المسجد الأقصى، وانتشار المدارس والجامعات الإسلامية. ففي القدس تجد "رياض الأقصى" و"مدارس الأقصى" و "مدرسة الأقصى الثانوية للبنين" و"مدرسة الأقصى الثانوية للبنات" و"دار الحديث الشريف" و"دار القرآن الكريم" و"مدرسة الأيتام الإسلامية" وغيرها كثير. وهناك أيضاً "كلية الدعوة" وهي نواة لجامعة إسلامية تدرس الآن الشريعة الإسلامية واللغة العربية. وقد زرتُ معظم هذه المدارس في الصيف الماضي، ولكن مدرسة واحدة استوقفتني ودفعتني لزيارتها وهي "مدرسة الأقصى الثانوية للبنات".
يشترط للقبول في هذه المدرسة إنهاء المرحلة الاعدادية، ورغبة الفتاة في دراسة الشريعة الإسلامية، واقتناعها بالآداب والعادات الإسلامية، وخاصة الزي الإسلامي، ومحافظتها على أركان الإسلام، ولأن المدرسة حديثة عهد فليس فيها سوى ثلاثة صفوف فقط الأول والثاني والثالث الثانوي. ومن الجدير بالذكر أن الإقبال على هذه المدرسة جيد، ليس فقط من مسلمي الضفة الغربية ولكن أيضاً من مسلمي فلسطين قبل عام 1948، فقد علمت أن في هذه المدرسة ثماني طالبات من قرية (أم الفحم) التي تسمى الآن وبعد أن دخلها الإسلام (أم النور).
زرت هذه المدرسة فلفت نظري الالتزام بتعاليم الإسلام، ودخلت صفوفها فشعرت بقيمة هذه التعاليم حينما تتجسد في المسلمين، فوجدت عند الفتيات فهماً جيداً للإسلام والتزاماً كاملاً بتعاليمه، وثقة بالنفس تصل إلىتحدي جميع الأوضاع الجاهلية المحيطة بهن. كما لفت نظري طابور الصلاة اليومي الذي تحرص عليه طالبات المدرسة، فإذا أذن المؤذن لصلاة الظهر تسارع الفتيات إلى الوضوء، ثم يبدأن بالسير بانتظام من المدرسة إلى مسجد الصخرة المشرفة –والمدرسة لا تبعد عنه سوى مئتي متر تقريباً- هذا المسيرة اليومية تستقطب أنظار كل من يزور القدس أو يصلى في المسجد الأقصى. وبعد انتهاء الصلاة تنتظم الطالبات خارج ساحة المسجد ويعدن باحتشام وهدوء مع مدرساتهن لاستكمال الدراسة.
ولقد آذى المد الإسلامي اليهود كثيرأ، فهذا أبا إيبان يقول: "إن التيار الإسلامي في المنطقة يقلب الموازين الإسرائيلية رأساً على عقب، فعلى الغرب أن يدرك مدى قوة الإسلام إذا تمسك به المسلمون، وأتيحت له القيادة الملهمة. إن خطر البعث الإسلامي هو الخطر الحقيقي الذي نحذر منه الغرب على الدوام". ولهذا أخذوا يخططون لمواجهته، وقد سلكوا في سبيل ذلك العديد من الطرق: فهم يشجعون الطرق الصوفية السلبية والجمعيات الخيرية الإسلامية لصرف الشباب عن الإسلام الإيجابي وسائر الأمور التي تبعد المسلمين عن مفهوم الجهاد وروحه، واستنفاد طاقاتهم فيما لا يؤثر على مخططات اليهود. ويلجأ اليهود في بعض الأحيان إلى النصفية الجسدية بالسجن أو الطرد أو القتل لكل من يلاحظون أن فيهم بعض العناصر القيادية التي تؤهلهم للمشاركة في قيادة المد الإسلامي، ولما كانوا حريصين على أن لا يواجهوا هذه المد مواجهة مباشرة، فقد استغلوا مطاياهم الشيوعيين لمواجهة المد الإسلامي، ويبدو ذلك في النواحي التالية:
* نشر المبادئ الشيوعية والعادادت الإباحية والنعرات العنصرية بين الشباب.
* مساعدة الشيوعيين على السيطرة على الإعلام المحلي في الضفة الغربية، فهناك خمس مجلات شيوعية ما بين شهرية وأسبوعية، وجريدة يومية واحدة هي جريدة (الفجر).
* مساعدة الشيوعيين على إغراق السوق بالكتب الشيوعية والكتب والمجلات الساقطة، ومنع الكتب الإسلامية من التداول بشكل واسع، ففي الوقت الذي يصل ثمن الكتاب الإسلامي عشر ليرات، نجد أن الكتاب الشيوعي المشابه له لا يساوي أكثر من ليرة واحدة.
* مساعدة الشيوعيين على افتتاح مراكز لهم في كل من القدس ورام الله بشكل مكتبة أو معرض للكتب والآثار، وهو في الحقيقة مراكز للتجمع الشيوعي وإيصال الكتب والمجلات الشيوعية لأهالي الضفة الغربية.
* مساعدة الشيوعيين لنشر الشائعات السوداء المغرضة ضد بعض الأعضاء البارزين في المد الإسلامي لتشويه سمعة العاملين للإسلام، كما فعلوا من قبل مع الحاج أمين الحسيني –رحمه الله- حينما اتهموه بالعمالة تارة وبالنازية تارة أخرى.
طريق الخلاص
هو طريق الإسلام، وطريق الإسلام وحدَه، لأنه طريق الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لقد أعزنا الله بالإسلام، ومهما طلبنا العزة بغيره أذلنا الله. ولا يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وذلك بأن نوقن بأن معركتنا التي نخوضها مع الأعداء هي جزء لا يتجزأ من المعركة الأزلية الكبرى بين الحق والباطل، ولهذا فمعركتنا معركة عقائدية ونتيجة هذه المعركة معروفة، إن الله سينصر أهل الحق وسينصرنا الله ولو بعد حين، ما أخذنا بأسباب النصر { وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين } .
لقد بقي اليهود أكثر من ألفي عام يقولون: "غداً نلتقي في أورشليم"، وقد التقوا فيها فعلاً، لأنهم سخّروا كل إمكاناتهم لتحقيق هذا الهدف، فإذا كان هؤلاء أصحاب باطل، فكيف بنا ونحن أصحاب الحق، ولكن الحق وحده يكون ضعيفاً، فلا بد للحق من قوة تحميه. قوة العقيدة، وقوة الوحدة، وقوة السلاح، فما أعدل الحق والقوة إذا سارا معاً، فلا احترام لحق لا تكون وراءه قوة تحميه، ولا احترام للقوة إذا لم تتقيد بمقاييس الحق، قال تعالى :
{ وأنزلنا الحديدَ فيه بأس شديد ومنافع للناسِ ولِيعلمَ اللهُ مَنْ ينصرُه ورسلَه بالغيب إن الله قوي عزيز } ( سورة الحديد ـ من الآية 25 )