المنطلق الأساسي في التاريخ الإسلامي/محمود شاكر

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,781
التفاعل
17,900 114 0
المنطلق الأساسي في التاريخ الإسلامي

للأستاذ محمود شاكر


الخلفاء

إن الخلفية التي لدينا عن كثير من الخلفاء غير صحيحة، وهي مهزوزة جداً وذلك لأننا أخذناها مما درسنا من كتب ليست بذات ثقة، وكُتبت بأيدٍ مغرضة كانت معادية للمسلمين الذين تسلموا الخلافة سواء أكانوا راشدين أم أمويين أم عباسيين. وكثيراً ما وصلت إلينا حياة الخلفاء من جانب واحد وغالباً ما يتعارض مع المنصب الذي يتسلّمه. فالخليفة ليس رجل حكمٍ فقط يجلس في مركز الخلافة يُعطي الأوامر، ويجيب على الرسائل، يتلقّى التهاني، ويستمع إلى الشعراء يكيلون له الثناء، وهذا الجانب الذي دُوِّنَ لنا وشُوِّه أيضاً، وإنما كان الخليفة إمامَ المسلمين في الصلاة، وخطيبهم في الجمع والأعياد، وقائدهم في الجهاد، والمفتي للخاصة، والمسؤول من العامة، يستنبط من الأحكام، ويُناقش الفقهاء، ويتداول الرأي مع العلماء وهذا الجانب لم يرد إلينا من هلال ما كُتِب لنا، ونحن -مع الأسف- لم نفكّر فيه أبداً، واكتفينا بما قرأنا، وقرأنا ذلك مكرّراً في عدد من الكتب وعلى مستوياتٍ مختلفة حتى رسخت هذه الصورة في عقولنا، بل ونُقِشَتْ في أفكارنا وأصبح من الصعب التخلّص منها.

الدولة الأموية

لننظُرْ إلى الجانب الثاني جانب مقتضيات منصب الخلافة من الإمامة، والخطابة، والقيادة، ولْننظُرْ إلى أحد هؤلاء الخلفاء وليكُن يزيد بن معاوية الذي لا تزيد الخَلفية عنه أنه كان من عامة الناس غير مُبالٍ بشؤون الحكم، فلما آل إليه السلطان تسلّمه ولم يحسن التصرّفَ به، فوقعت أحداث أساءت إليه، وإلى أسرته، وكانت سبباً في شنّ الهجوم عليه وعلى آله حتّى مات غير مَأسوف عليه. هذه النظرة العامة إليه دون الحديث عما بالغ في ذلك مبغضوه. ولكن لننظر إلى مركزه الذي تسلّمه في ذلك العصر الذي يضمّ كثيراً من الصحابة، ومعظمه من التابعين، ولنأخذ المرحلة التي سبقت خلافته. لقد أرسله أبوه سنة خمسين للهجرة على رأس حملة كبيرة لدعم المجاهدين الذين يحاصرون القسطنطينية، لقد سار على رأس الحملة وفيها عدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمثال أبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، وأوس بن شدّاد، وعبد الله بن عمر ابن الخطاب، وعبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، رضي الله عنهم جميعاً. فكان يزيد قائدهم، وخطيبهم، وإمامهم فما طعن أحد منهم في قيادته، ولا تكلّم أحد عن إمامته، ولا انتقده أحدهم في خطبته، واستمرت الحملة على ما يزيد على ثمانية شهور، ولو طعن أحد في ناحية من نواحي حياة يزيد أو إمامته أو قيادته أو خطبه لعجّت الكتب بذلك، ولضجّ الرافضةُ في هذا الموضوع،ولكن لم يحدث شيء.
وجاء عهده بالخلافة واستمرّ ما يزيد على أربع سنوات، وكان يمارس خلالها كل ما يمارسه الخليفة ولم يحدث أي طعن فيه أو انتقاد له، ومع هذا فلا نقول: إنّه كان الخليفة المثالي، لا، وإنما كان أحد ملوك المسلمين، فلا يُحَبّ ولا يُسَبّ -كما قال عنه ابن تيمية رحمه الله- فلم تكن أيامه فجوراً فيُسَبّ، ولا أيام عدل ورخاء فيُحبّ، ولم تنطلق في عهده الفتوحات فيُثْنى عليه. وإنما كان ملكاً عادياً. وقد وقعت في عهده حادثتان كان لهما أكبر الأثر في توجبه اللوم عليه وانتقاده وهما: حداثة كربلاء التي استشهد فيها الحسين بن علي رضي الله عنهما، ووقعة الحرّة ودخول المدينة المنوّرة من قبل جنده. وإذا كان بعضهم يحمّل المسؤولية للقادة لصعوبة الاتصال معهم في تلك الأيام، إلاّ أنّه كخليفة يتحمّل القسط الأكبر من المسؤولية، ولكن لا نُغالي في الكلام عنه كما تفعل الرافضة.
وكما طُعِنَ في يزيد بن معاوية طُعِنَ في بقية خلفاء بني أمية لم يُستَثْنَ منهم خليفة واحد، اللهم إلا إذا كان عمر بن عبد العزيز، وهذا لم يُطعَن، به لصلاحه كما يتصوّر بعضهم، وإنما لِقِصَرِ مدّة خلافته التي لم تزد علي السنتين (99-101 هـ)، ولأنّ الذين يوجّهون الطُّعون أرادوا أن يظهروا بالعدل والإنصاف إذا استثنوا بعض الخلفاء، ومع ذلك كنا نسمع من المدرسين العلمانيين على هذا الخليفة الصالح أنه أراد تطبيق الإسلام وقد نسي أنه قد مضى عليه قرن من الزمن، الأمر الذي يدلّ على غبائه.
وعدمُ تَرْكِ خليفةٍ دون هجوم عليه لأنّ الطعن لم يكن موجّهاً بالحقيقة إلى أشخاصٍ بأعينهم، وإنما كان القصد الهجوم على الإسلام من خلال الطعن بالخلفاء والمسؤولين عن الدولة لذا جاء الهجوم عاماً، وإن كان يختلف من خليفة إلى آخر حسبما يجدون من ثغرات أو بالأصح حيث يجدون منفذاً يَلِجونَ منه وينفثون في داخله من سمومهم. فالخليفة الذي تقع في عهده أحداث يمكن الدسّ من خلالها يأخذون بالافتراء والكذب، فمثلاً: موت الحسن بن علي بن أبي طالب، وموت الأشتر النخعي، ومقتل حجر بن عدي، وبيعة خليفة قبل موت الخليفة القائم خوفاً من الأحداث، كل هذه الوقائع يتّهمون فيها معاوية بن أبي سفيان، ويهاجمونه أعنف الهجوم، وينسون صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفتوحات في عهده، وحسنَ إدارته، وحكمته.
ويزيد بن معاوية طعنوا فيه من خلال حادثتي كربلاء، ووقعة الحرّة.
وهشام بن عبد الملك من خلال ثورة زيد ين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وابنه يحيى ابن زيد.
ومن لم تقع في عهده أحداثٌ يهاجمونه من خلال وُلاتِهِ، كما هي حال عبد الملك بن مروان الذين يسلّطون الأضواء في عهده على شدّة الحجّاج بن يوسف الثقفي.
وإذا مات خليفةٌ صغيراً اتّهموا به من بعدَه بقتله، حيث اتّهموا يزيد بن عبد الملك بدَسّ السّمّ لعمر ابن عبد العزيز، وإذا كان الخليفة ضعيفاً لم يهاجموه على ضعفه بل اتّهموه بالخَنا والمجون، وتأثير النساء عليه، والجري وراء شهواته، كالوليد بن يزيد.
وإذا مات قائد ولو بلغ من السنّ عِتيَّاً اتّهموا الخليفة به، فسليمان بن عبد الملك رثى لحال موسى بن نصير قائد الفتح في الأندلس الذي يُلقي بنفسه في المعارك، وقد زادت سنّه على الثمانين، فأراد إكرامه والإفادة من خبراته، فاستقدمه إلى دمشق واصطحبه معه لأداء فريضة الحجّ فوافاه أجله في المدينة فاتّهموا الخليفة بالخلاص منه.
حتّى لم ينجُ منهم معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية الذي تنازل عن الخلافة وجعلها شورى للمسلمين كما يجب أن يفعله كل مسلم، فوجّهوا إليه سهام الضعف وعدم القدرة. ووجدوا أن مروان ابن محمد قد جاء إلى دمشق وأنهى موضوع الصراع على السلطة، وتسلّم الخلافة، وأخذ الأمر بالحزم، ولكن حطّت به الأيام للضعف الذي كانت قد وصلت إليه دولته وقوة خصمها الجديد اليانع العنيد فهاجموه، ولِقُوَّتِهِ أطلقوا عليه ‘الحمار’. فالضعيفُ جبانٌ، والقويُّ حِمارٌ، ومن مات في عهدهم كانوا هم ملك الموت، والذين يوزّعون بطاقات الموت، و...
وعبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي عَدُّوهُ ثائِراً، ولم يَجِدوا ثَغْرَةً في سُلوكهِ فاتَّهَموه بالبُخلِ.
بنى عبد الملك فكان عند الأعداء بِناءً سياسيّاً لتحويل المسلمين من الحجّ إلى مكة إلى الحجّ إلى بيت المقدس، وعدّوا ما جاء من أحاديث صحيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في شدِّ الرِّحال إلى المسجد الأقصى موضوعةً ونسبوها للزُّهري الذي وضعها تزلُّفاً لبني مروان.
وبنى الوليد بن عبد الملك فعدُّوا ذلك تبذيراً وإسرافاً.
وبهذا لم يسلم أحد من أقلام الحاقدين وألسنة المغرضين، وهذا أمر طبيعي ما داموا أعداءً للإسلام. ولكن الغريب كل الغرابة أن يكون ما تُدَوِّنُه أقلامهم ثقافةً لأجيالنا الذين يريدون أن يُواجهونهم فكريَّاً، وأن تكون مواطن فخر أحفادنا في التاريخ من تدوين أعدائهم، وأن يكون الجيلُ الثاني لتطبيق الإسلام أوّلَ من تخلّى عنه، بل إنّ كثيراً من الجيل الأوّل قد شهد هذا الابتعاد عنه ووافق عليه.
علينا أن ننظر في هذه الوقائع والأحداث، ونرى رُواتَها ومدى الثقة بهم، ونفسّرها بعد ذلك تفسيراً إيمانياً حسب منطلقات الأمة ونرى ما يتّفق مع هذه المنطلقات وما يتباين معها، فالأحداث ليست سوى ترجمة للمنطلقات وتطبيقاً لها.

الدولة العبّاسيّة

إنّ الذي شَنُّوا هجماتهم على الدولة الأموية هم أنفسهم الذين طعنوا في خلفاء بني العبَّاس، ولا شكّ أنّ الهجوم لا يكون على الضعفاء الذين لا يَأْبَهُ بهم أحدٌ، وإنّما على الأقوياء الذين يؤثِّرون في المجتمعات، ويكونوا أنموذجاً لتطبيق منطلقات الأمة، ومن هنا كان الهجوم على خلفاء الدور الأول من العهد العباسي.
لقد خرقوا سِترَ هارون الرشيد ووصلوا إلى المكان الذي لا تصل إليه إلاّ زوجاته، ونظروا في موضع سرّه الذي لا يعلمه إلاّ اللهُ وزوجاتُه، واختلقوا قصصاً واضحةَ الكذب، وربّما كانت هي السبب في اكتشاف أكاذيب الذين عملوا في تدوين التاريخ من أعداء الإسلام لما فيها من وضع مكشوفٍ وخاصة فيما يتعلّق بأبي نوّاس الذي لم يره الرشيد طوال حياته مع أن قصصه معه هي الشائعة وتكاد تكون من المسَلَّمات بها!
وإذا كان هؤلاء قد توصّلوا إلى داخل بيت الرشيد فرأوا ما لم يعلمه إلاّ الله وأذاعوه على الناس لكنهم في الوقت نفسه قد عموا عما يراه الناس جميعاً وأخفوه، لقد أعماهم اللهُ عن جهاده، وعن حجِّه، وعن بكائه من خشية الله عندما يذكِّرُهُ أهلُ التقوى بالله... وسكتوا عن هذا... ليفضحَ اللهُ أمرَهم.
ولم يكن هارون الرشيد ضحيَّتَهم الوحيدة، بل لم تترك ألسنتُهم أحداً من العباسيين كما لم تبتعد عن أحد من أبناء عمومتهم الأمويين السابقين لهم في السلطة، حتى لِيَتَّضِحَ أنّ الهدفَ لم يكن الخلفاء وإنما كان الإسلام الذي يمثّله الخلفاءُ.

الشعراء

كان الشاعر سِجِلَ ذاته، وسجل معاصريه، وسجل عصره، ولو كان كل شاعر قد برع في فن، وبه عُرف واشتهر، وبذلك تباين الشعراء واختلفوا، كما اختلفوا في قول الصدق، وحسن السريرة، فمنهم المسلم الذي نذر حياته للدفاع عن الإسلام والردّ على المشركين، وذلك في أيام الإسلام الأولى كحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، و... ومنهم من أخذ ينافح في تلك المرحلة عن الجاهلية،وأوثانها، وسدنتها، وسادتها الكفار. وفي عصر بني أمية أخذ بعض الشعراء اتجاهات معينة، وأكثرهم يمدحون من يحبون منهم محبة وصدقاً، ومنهم نوالاً واستجداءً، ويبدو أن هذا الصنف هو الذي يظهر في كل عصر وسيبقى ما دام التزلّف قائماً، وما دام حب المال والمنصب موجوداً. كما أن هناك الحكيم والهجَّاء، ومن انصرف إلى الغزل يرضي بذلك نفسه وهواه لا يبغي وراءهما شيئاً، ومنهم من يسير مع المجاهدين تفيض نفسه حباً بقتال الطغاة ويطلب نيل الشهادة فيدوّن مبتغاه.
غير أن هناك صنفاً آخر من الشعراء، وهو الذي لا يستطيع أن يجاهر بما يؤمن به إن كان يخالف عقيدة المجتمع، فما ينظمه من شعر يبقى سرَّاً حتى ينكشف أمره بعد حين سواء أكان عاجلاً في حياته فينال عقابه، أم آجلاً بعد وفاته فيُعرف ما كان عليه. وقد لا يستطيع الشاعر أيضاً أن يُظهر ما ينظمه من شعر عندما يسبح في خياله بعيداً يتتبع عورات الناس أو يشبّب في نساء المجتمع الفاضلات، فهو يسير وراء شيطان شعره، ويتكلم وينظم من الشعر ما شاء له هواه، ولكن يبقى هذا سرَّاً حتى ينكشف أمره بعد حين، وهذا الصنف من هؤلاء الشعراء هو الذي أعنيه وأقصده لا سواه.
إن وجود شاعر واحد أو أكثر في بيئة معينة من هذا النوع لا يعني فساد هذه البيئة بل ربما الشاعر نفسه لم يكن سيئاً ما دام الكلام لم يخرج إلى حيّز التنفيذ، وإنما يبقى مكتوباً على الورق ومكتوماً في النفس، فما هو إلا ارتسام في الخيال، بل لو كان الشاعر فاسداً، إلا أن الأمر سريّ فلا فاحشة تشيع ولا حرمات تنتهك، وهو في وسط مجتمع واسع لا يعادل شيئاً ولا يدل على طبيعة المجتمع وصلاحه أو فساده فالبيئة لا يُحكم عليها من خلال فرد واحد.
ومن ناحية ثانية لو أن شاعراً لمح ابنة الخليفة أو رآها فهامَ بها، وأخذ ينظم الشعر بها، ويسبح في خياله بلقاءات معها، وهي لا تدري، فهل نحكم من خلال شعره بعد زمن على أخلاقها ونتّهمها بالسوء وأنه كانت لقاءات بينهما وأنها كانت تبادله العواطف نفسها، وتسعى على الاجتماع به، وتحبك الحيل في ذلك؟ وأن الاجتماعات كانت تتمّ ليلاً في غرفة دار الخلافة، أو في الحرم حيث يستحيل ذلك. أقول يستحيل لأن الحرم مكان مقدّس لا يُسمح بأن يحدث فيه مثل هذا في أكثر الأوقات تحرُّراً من القيم الدينية، وربما قُتل من حاول العبث فيه بأيدي من فيه من الحجاج والمعتمرين، وهو لا يخلو في وقت من الأوقات من أعداد كثيرة من المسلمين يؤدُّون فيه بعض المناسك سواء أكان ذلك في الموسم أم في غيره، وإن كان في الموسم أكثر بكثير، فما بالك في عصر الإسلام حيث كانت الحماسة للعقيدة أكثر، والتقيُّد بقيم الإسلام واحترام الآداب أكبر.
وهذا شأن عمر بن أبي ربيعة المخزومي الذي حُكِمَ على المجتمع الإسلامي من خلال شعره الذي لم يتعدَّ أن يكون شعراً خيالياً نسَجَهُ في خياله ونظَمَه شِعراً، ووُجِد بعد وفاته، وربّما اطلع عليه في حياته بعض خلاّنه فشاع الشعر وانتشر، وحكموا على صحّة ما جاء فيه على الرغم من أن أبسط العقول تتنبّه إلى أنه خيال لم يتعدّ ذلك، ولكن المغرضين يريدون غير ذلك، يريدون التهديم والطعن في الحكم القائم يومذاك وتصويره أنه بعيد عن الإسلام كل البعد، وبعدها يريدون الطعن في الإسلام على أنه غير صالح للحكم إذ لم تلبث أن انهارت دعائمه، وابتعد أهله عن المثاليات التي جاء بها، واتجه الناس أول ما اتجهوا إلى اللهو والعبث في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مكة المكرمة، بل وفي الحرم أكثر الأماكن قدسيَّةً.
ومما يظهر أن الأمر خيالي تماماً:
1- ما جاء في ديوان عمر بن أبي ربيعة نفسه أثناء الكلام عن مناسبة نظم بعض القصائد، فقد ورد أن ابن أبي عتيق قد وصف لعمر بن أبي ربيعة عقلَ ابنة عمه زينب بنت موسى الجمحية وأدبها وجمالها فشُغِفَ بها وفُتِنَ دون أن يراها، ونظم فيها القصائد الطوال.
2- إن اللواتي ذكرهن في شعره هن كل السيّدات المعروفات في مجتمعه، ومن أشهرهن: سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله التي أمها أمّ كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وسعدى بنت عبد الرحمن بن عوف، ولُبابة بنت عبد الله بن العباس، وفاطمة بنت عبد الملك بن مروان زوجة عمر بن عبد العزيز، ورملة بنت مروان بن الحكم، وأم محمد بنت مروان بن الحكم، وفاطمة بنت محمد بن الأشعث، سكينة بنت خالد بن مصعب، كلثُم بنت سعد المخزومية، الثريا بنت عبد الله بن الحارث ابن أمية الأصغر، وهي زوج سهيل بن عبد العزيز بن مروان، ونُعَم الجمحية، ورملة بنت عبد الله بن خلف الخزاعية، وزينب بنت موسى الجمحية. فهل كان على صلة بهن كلهن؟ ويعني إن كان ذلك أن المجتمع كله عابث فاسد، وقد زال كل أثر للإيمان منه، وهذا ما يريد أن يتوصل إليه أعداء الإسلام لذلك يروّجون هذا الشعر ويؤكّدون عليه. وما هو في الواقع إلا شيطان شاعرٍ يسبح في الخيال.
3- كان بعض من ذكرهن بعيدات عنه كلّ البعد، وربما بعضهن من لم يرهنّ في حياته، فقد كانت سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة تعيشان في العراق مع زوجهما مصعب بن الزبير، وكانت فاطمة بنت مروان تعيش في مصر والشام، وكانت أم محمد بنت مروان تعيش في مصر، وربما سمع عن إحداهن فنظم الشعر بها- كما قلنا-.
4- مجيء أخت الخليفة عبد الملك بن مروان إلى الموسم وحدها، وهي رملة، لتلتقي بعمر بن أبي ربيعة. متى كانت الأعراف تسمح أن تسير أخت الخليفة وحدها؟ ومتى كان يحدث هذا؟
متى وجِدت امرأة في تاريخ البشرية تنطلق من دمشق إلى مكة وحدها، تنطلق مسافة ألفي كيلومتر في الفيافي والقفار؟
ومن المعلوم أن المرأة المسلمة لا يصحّ أن تحجّ دون محرِم، ووجود المُحرِم شرط أساسي للحجّ أو العمرة، ويُعدّ عدم وجوده عدم استطاعة الحج، وتعتَبر المرأة غير مكلَّفة بأداء الفريضة حينذاك.
5- البيت الحرام أكثر بقاع الأرض قدسية فهل يمكن للمسلمين أن يتخذوه مكاناً للهو والعبث؟ وهل يمكن للمسلمين أن يروا رجلاً أو امرأة يعبث هناك ويسكتون عنه، وخاصة إن كان ذلك العبث من هذا النوع الرخيص؟ وإنه ليلفت الانتباه كثيراً لأنه مع سيدات معروفات تتجه نحوهن الأنظار.
6- إن آباء هذه السيدات التي يُعبَث بهن ويعبثن هم من ذؤابة القوم، فهل يقبلوا أن تُداس كرامتهم، وهم يسمعون، وتنتهك حرماتهم وهم ينظرون، وبيدهم الأمر، فمنهم الخليفة، ومنهم الوالي، ومنهم السيد المطاع، ومنهم جليل القدر المحترم بين الناس جميعاً.
وهذا كله يدل على أن عمر بن أبي ربيعة كان يتغزّل بهذه النساء بالخيال، وينظم الشعر فيهن من السماع، ولم يُعرف هذا الشعر إلا بعد مدّة ولا ندري لعله أُضيف إليه الكثير من الشعر المنحول؟ ولو كان عُرف هذا الشعر في أيام عمر بن أبي ربيعة لنال جزاءه مباشرة من الخليفة الذي هتك عرضه أو من السادة الذين هتك سترهم و....
وجاء المغرضون من الرافضة ووجدوا فيه ضالّتهم إذ وجَّهوا سهامهم على حكم بني أمية، واتهموهم بالإساءة والإفساد حتى قالوا إن الغزل والغناء قد دخل في أيامهم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تجاوز ذلك فوصل العبث داخل بيت الله الحرام من عمر بن أبي ربيعة وبعض نساء قريش، وادَّعوا أن بني أمية قد سكتوا على ذلك، وغضُّوا الطرف عنه في ذلك، وقبل المجتمع هذا الانفتاح لتشجيع الحكام له، والحكم بالدرجة الأولى، ثم من وراء ذلك كله الإسلام.
والغريب أن المسلمين لم يردّوا على ذلك بل يبدو أنهم قبلوه، وغدوا يتناقلونه، ثم أصبحوا يدرسونه، ويعدّون أن المجتمع الإسلامي قد أخذ يبتعد عن القيم التي يُمْليها عليه دينه، ويطعنون في بني أمية ولم يدروا أنهم يهاجمون الإسلام، ولا تزال المدارس والجامعات في العالم الإسلامي تدرس هذا، ولم يحاول النقّاد التعرّض لهذا لأنهم لم ينتبهوا إلى المنطلقات الإسلامية بل هذا لا يهمّهم، وإن الذين يهمُّهم الأمر إنما هم الدعاة من أساتذة الأدب ولكنهم لم يصلوا إلى هذا الجانب حيث لا يزالون يردِّدون ما تعلَّموه.
وقد آن الأوان لتُجلَى فيه الحقيقة ويجب على كل مسلم أن يسدّ الثغرة التي يقف عليها، لتأخذ الصحوة الفعلية مكانها وتتخطّى الصحوة الكلامية.
القادة
ولعل طارق بن زياد من القادة الذين تحدث عنهم المؤرخون من جانب الأدب فقط أو من جانب القيادة فقط فوقعوا في أخطاء كبيرة لأنهم لم يبحثوا عن المنطلقات العقيدية.

خطبة طارق

قالوا لا يمكن أن يقولها رجل بربري، لم يمضِ على إسلامه إلا قليلاً، ولم يخالط العرب إلا يسيراً، إذ كان مولىً لموسى بن نصير. ولنذكر الخطبة من أكثر المصادر إطناباً فيها، وأكثرها إظهاراً لبيانها، وأوسعها تبياناً لقوة معانيها، وهي مما رواه أحمد المقري التلمساني في كتابه (نفح الطيب).
(أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدوّ أمامكم، وليس لكم -والله- إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوّكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم -ولم تُنجزوا لكم أمراً- ذهبت ريحكم، وتعوَّضت قلوبكم من رُعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم بأمر أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم دوني على خطة أرخص متاعٍ فيها النفوس. أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفه الألذّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفر من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة. وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً، ورضيكم لملوك هذه الأرض أصهاراً وأختاناً، ثقةً منه بارتياحكم للطعان، وسماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ودون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي إنجازكم على ما يكون لكم ذكر في الدارين.
واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وإني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم (لذريق) فقاتِلُه -إن شاء الله تعالى- فاحملوا معي،فإن هلكت بعده فقد كُفيتُم أمره، ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه، و إن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمّ من فتح هذه الجزيرة بقتله).
قالوا إن طارقاً بربري حديث الاستعراب لا يمكنه أن يقول مثل هذه الخطبة ارتجالاً، تذكروا هذا ونسوا أن أباه هو الذي استعرب، وهو مسلم أصلاً، ونشأ طارق في وسط عربي عند موسى بن نصير. قالوا هذا، ونسوا أهم نقطة، وهي كلمة الفصل، وهي أن طارقاً قائد الجيش، وإمامهم في الصلاة، وخطيبهم في الجمعة والأعياد، وفي كل ميدانٍ يقتضي فيه الحديث والكلام، وهذا واجب على قائد الجيش، ولا تصح إمرة مَن لا تتوفر فيه هذه الصفات إذ فيها مخالفة للمنطلقات الإسلامية. ولا يمكن لموسى بن نصير أن يختاره للقيادة إذا كانت لا تتوفر فيه هذه المؤهلات، وهو أدرى الناس به.
وأغرب من هذا أن يقول أحدهم: كيف تكون هذه خطبة لقائد أكثر جيشه من البربر، وأن يرتجلها ارتجالاً. وهل خطيب الجمعة يتكلم بالعامية إن كان أكثر الحضور من العامة؟ وهل يصعب عليه أن يرتجل خطبة كهذه وهو خطيب الجمعة والأعياد وقد تمرّس على الكلام والارتجال؟
تكلم الأدباء عن بيان الخطبة وأسلوبها، والعصر الذي وُضِعت فيه، وعدم إمكانية طارق بن زياد البربري الحديث بالعربية أن يقول مثلها، وكتب المؤرخون عن شبهها بأساطير كثيرة عندما يكون النصر كبيراً، إذ لم يكن جيش المسلمين ليزيد على اثنتي عشر ألفاً، على حين كان جيش (القوط) يزيد على المائة ألف، وقالوا: إن الفرس عندما دخلوا اليمن بقيادة (وهرز) مع سيف بن ذي يزن قد نسبوا لقائدهم مثل هذه الخطبة، كما نسبوا له إحراق السفن، وأن الإسبان عندما دخلوا المكسيك مستعمرين نسبوا لقائدهم قولاً مثل كلام طارق، كما قالوا: إنه أحرق السفن. كما تكلموا عن تأخّر المؤرخين الذين نقلوها، وعدم ذكرها عند المؤرخين الأقدم زمناً، قالوا كل هذا، وناقشوا كل ذلك ولكن لم يتحدَّثوا عن أهم نقطة وهي أن طارقاً كان إمام الجند وخطيبهم، فليس غريباً أن تكون هذه الخطبة من كلام طارق بن زياد الذي مارس الإمامة والخطابة.

إحراق السفن

انطلق المسلمون إلى البلدان فاتحين. انطلقوا بروح إسلامية مجاهدين، وعلى هذا فإن ما يُنسب إلى قادتهم إنما يُنظَر إليه ويُحلل من وجهة نظر إسلامية، فإن انسجمت تصرفاتهم مع منطلقاتهم فهذا الأمر السليم، وإن اختلفت دُرِسَت حسب المنطلقات لتعرف أكان صحيحاً ما نُسب إليهم أم كذباً وافتراءً. لا شكّ قد تقع أخطاء فما من إنسان بعد الرسل بمعصوم، ولكن تُعرف مثل هذه الأخطاء وتشتهر لأن القادة يسألونهم عنها، والخلفاء يحاسبونهم عليها حتى ولو كانت تهمة أو شائعة فيبرّرون هم بأنفسهم تصرفاتهم، أو يلقون العقاب. فقد سئل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان تصرّفه في كلا الحالتين اجتهاداً، وهو اجتهاد في محله، وكان تصرُّف من تكلم عنه اجتهاداً، وهو في محله أيضاً، وقد سُكت عنه كذلك، وهذا شأن المسلمين.
ولنرجع إلى قضية سفن طارق، فإنه لم يقم بإحراقها أبداً، لا يمكن ذلك، ولو فعل لسُئل وحوسب وعوقب، فإن عملها يكلف الكثير من المال، ويستغرق الكثير من الوقت، ولم يُعرف عن المسلمين الأوائل إهدار المال وإضاعة ما قد أنشؤوه. وهذا الأساس بالموضوع والعلمية، ومع ذلك فلنناقش الموضوعَ منطقياً.
أ) لم يقل طارق أني أحرقت السفن أو أمرت بذلك، وإنما فهم بعض المتأخرين ذلك من خطبته (أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو من أمامكم...) فهموا من هذا الكلام أن البحر وراءهم وليس فيه وسيلة نقل تنقلهم إلى العدوة المغربية، وهو فهم فيه شيء من السقم.
ب) لم يقل أحد من جنده أو معاصريه عن هذا شيئاً، وإنما قيلت بعده بعدة قرون.
ج) السفن ليست ملكاً له ليتصرف بها كيف يشاء، فهي إما لـ (يولْيان) الذي قدم للمسلمين عدداً منها لنقلهم إلى العدوة الأندلسية لفتحها انتقاماً لنفسه من ملك القوط، وإما للمسلمين يحاسبه على تصرف قادتهم. فقد سئل خالد بن الوليد رضي الله عنه، عن إعطائه المال للأشعب الكندي لما أبداه من مهارة وتضحية في حرب الروم، وكان العطاء من ماله الخاص، ويقصد السائل -وهو أمير المؤمنين- أن في ذلك العطاء تبذيراً.
د) لم يحاسب طارقاً أحدٌ من قادته سواء أكان القائد العام موسى بن نصير أم الخليفة الوليد بن عبد الملك، مع العلم أن طارقاً كان مولىً لموسى بن نصير فليس له حق التصرّف الذي قد يفعله أبناء السادة المغرورين عند غير المسلمين.
هـ) ألا يمكنه أن يأمر بالسفن فتعود إلى العدوة المغربية فيصل إلى النتيجة نفسها؟ وهذا ما تم، وذلك أفضل من أن يقوم بإحراقها ويخسرها المسلمون.
و) لا يمكن لقائد واسع النظر أمثال طارق أن لا ينظر إلى المستقبل فيترك جيشه الصغير في بلاد الأندلس الواسعة، والتي من ورائها أوربا تدعمها، وبين مخالب دولة القوط الحاقدة المتربصة بالمسلمين التي تنتظر الفرصة لتعمل مخالبها فيهم.
ز) ألا يتوقَّع طارق مدداً؟ وهذا ما حدث، فعلى أي شيء يُنقل المدد، لقد انتقل المدد على السفن نفسها.
ح) من أين جاء موسى بن نصير بالسفن التي انتقل عليها إلى الأندلس مع بقية الجيش عندما خاف على المسلمين الذين توغّلوا بعيداً داخل الأندلس؟ لقد انتقل على السفن نفسها.
ط) لم تكن عملية إحراق السفن بالطريقة التي تُلقي الحماسة في نفوس المسلمين، لقد عُرف الموضوع عندهم بالتذكير بإحدى الحسينين، فلا شيء يدفعهم مثل ذلك، فهم من أجل هذا خرجوا، ولعلنا نذكر الآن ما قاله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في مؤتة عندما رأى المسلمون كثرة الروم حيث كان يزيد جمعهم على مائتي ألف ولم يكن عدد المسلمين ليصل إلى أكثر من ثلاثة آلاف، فتخوَّف الناس على الجيش، وأخذوا يدرسون الموقف، وكأن شيئاً قد وقع في نفوسهم، فقال لهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: "إنّ الذي تخافون للذي خرجتم تطلبون، والله ما انتصرنا بكثرة ولا بقوة سلاح وإنما بما نحمل بين أظهرنا.." فتشجع الناس وأقبلوا.
ك) إحراق السفن لا يفيد عندما يقع الهلع في النفوس. وقد كانت العرب في الجاهلية وربما بعض الأمم الأخرى إذا خرجوا للقتال أخذوا معهم نساءهم وأبناءهم كي لا يفرّوا خوفاً على النساء والذراري من أن تقع في السبي، ولكن إذا حمي الوطيس، واحمرت الحدق، ووقع الرعب في القلوب، فرّوا لا يلوون على شيء، وما غزوة حنين بخافية على أحد، إذ وقعت نساء وذراري هوازن في السبي حتى أخلى سبيلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن جاء أهلوهم أذلاء راجين العفو. فإذا كانت الذراري لا يلتفت إليها أهلها فهل يهم الخائف وجود سفن أو لا؟ إذ لا يفكر الخائف إلا بالنجاة من المأزق الذي هو فيه، وبعدها يبحث في طريق الوصول إلى المأمن.
إذن، لم يحرق طارق السفن، وبقيت لدى المسلمين، وانتقل المدد إلى الأندلس عليها، وانتقل قائدهم مع بقية الجيش إلى الأندلس عليها، وقضية إحراق السفن فرية وضعها بعضهم لإبراز فكرة التضحية والإقدام عند طارق، وروّجها أو أسهم في وضعها الذين لهم أهداف بعيدة في تشجيع المسلمين على مخالفة الإسلام، والقيام بمثل هذه الأعمال الانتحارية، وحرمان المسلمين من بعض وسائل الحرب لديهم بالتفريط فيها وإضاعتها.

طبخ لحوم القتلى

روى بعض المؤرخين قصة غريبة، ومنهم ابنُ القوطية في كتابه (افتتاح الأندلس)، وابنُ الكردبوس في كتابه (تاريخ الأندلس) مع أن الأول متَّهَم بالشعوبية وإعطاء صفات للقوط تفوق صفات غيرهم من الشعوب، فإن الثاني مولع بإيراد الغرائب والقصص المنسوجة من الخيال. ولْننقل ما قاله ابن الكردبوس: “ورحل لذريق قاصداً قرطبة يريد طارقاً، فلما تدانَيا، تخَيَّر لذريقُ رجلاً شجاعاً عارفاً بالحروب ومكائدها، وأمرَه أن يدخل في عسكر طارق فيرى صفاتهم وهيئاتهم، فمضى حتى دخل في محلة المسلمين، فأحس به طارق فأمر ببعض القتلى أن تقطع لحومهم وتُطبخ، فأخذ الناس القتلى فقطعوا لحومهم وطبخوها، ولم يشك رسولُ لذريق في أنهم يأكلونها. فلما جَنَّ الليلُ أمر طارق بهرق تلك اللحوم ودفنها، وذبْحِ بقرٍ وغنمٍ وجعل لحومها في تلك القدور. وأصبح الناس فنُودي فيهم بالاجتماع إلى الطعام فأكلوا عنده، ورسول لذريق يأكل معهم. فلما فرغوا انصرف الرسول إلى لذريق، وقال له: أتتك أمة تأكل لحوم الموتى من بني آدم، صفاتهم الصفات التي وجدناها في البيت المقفل، قد أحرقوا مراكبهم ووطَّنوا أنفسهم على الموت والفتح. فداخَلَ لذريق وجيشه من الجزع ما لم يظنّوا".
ومن الأمور الغريبة أن يخترع الإنسان قصة لغرض ما ولا يحبكها بشكل جيد حيث يتركها مخالفة للمنطلقات الأساسية التي قام عليها القائد إيماناً بها وإيمان أمته بها، وربما كان ذلك حكمة كي يفضح الله أمره. ومن الغريب أيضاً أن ينقل بعض الذين يدوّنون الأحداث التاريخية أمثال هذه القصص دون النظر فيها ومن غير البحث في صحتها، وإنما يكتفون بسرد الأحداث والقصة على أنها أمور مسلّم بصحتها، وأغرب من هذا وذاك أن ترد أمثال هذه القصص مباشرة دون مناقشة، ومن غير تعليق عليها، وأعتقد أنه من الأفضل ألا نورد أمثال هذه القصة ولا نناقشها إلا إذا كانت الكتب لمستويات معينة.
إن هذه القصة قد وردت إلينا عن طريق غير ثقة إذ ذكرها ابن القوطية وعنه نقلها بعض المؤرخين، وإن هذه القصة وأمثالها سواء اتُّخِذَت وسيلة للحيلة وإلقاء الرعب في نفوس الأعداء أم لغيره فإنها لا تصح، لأن تقطيع لحوم الموتى والعبث فيها إنما هو نوع من المُثْلة وهو لا يصح في ديننا إذ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.
إن أول عمل يقوم به المسلمون بعد انتهاء المعركة وقبل غسل السيوف ومسحها إنما هو دفن الموتى، سواء أكانوا شهداءهم أم قتلى أعدائهم، ولكن القصة تروي أن الجاسوس قد جاء والجثث لا تزال ملقاة على الأرض، فهل جاء أثناء المعركة؟ هل جاء والمسلمون جالسون بين القتلى تنطلق منهم الروائح؟ أم..
ولم تحدّد القصة هوية الجاسوس زيادة في الغموض، ولكن يستبعد أن يكون من القوط لأنه لا يمكن أن يدخل إنسان عسكراً لا يعرف لغتهم، ولا يطَّلع على أوضاعهم، ويجلس ليأكل معهم في الصباح، ولم ينتبه أحد إليه، إذ لم ينتبه إلا القائد، فهل جاء يعرض نفسه على القائد، ويعرّف بنفسه؟ غير أن سرْد الرواية يدل على أنه من القوط إذ تقول: "تخير لذريق رجلاً شجاعاً عارفاً بالحروب ومكائدها" حيث يعني هذا أنه يعرفه حق المعرفة وهو من جنده وهذا يستحيل، وهذا ما يوضح كذب القصة من أساسها. والمفروض في حالة كهذه إن كانت صحيحة أن يكون رجلاً من البربر مقرّباً إلى لذريق، وهذا مالا تورده القصة لأنها غير صحيحة. فلو ذكرت ذلك لكانت أقرب إلى التصديق، ومع ذلك فهناك اعتراض قوي إذ لا يمكن لبربري غريب أن يدخل في مجموعة من البربر انتقلوا مجاهدين وكل منهم يعرف الآخر لقلة عددهم، وكل مجموعة يعرف أفرادها بعضهم بعضاً، ويمكن أن يُكشف أمره مباشرة.
كانت أخبار المسلمين تسبق جيوشهم الفاتحة، وكانت أخبار أخلاقهم وسلوكياتهم تملأ المنطقة قبل أن تطرقها أقدام الفاتحين، ويبقى المسلمون في المغرب أكثر من أربعين سنة وهم في صراع مع الروم، ومع المتعصبين من البربر، وحاكم الأندلس على مقربة منهم ولا يعرف عنهم شيئاً، ولو كانوا يأكلون لحوم الموتى ويقتاتون بجثث قتلى حروبهم لذاع هذا الخبر وانتشر ولعمّ العالم يومذاك، ولساعد هذا على الوقوف في وجههم، ولو أن القتلى لا يؤلمها تقطيع لحومها، ولكن يقفون أمامهم لهذه لوحشية. فالقصة عارية عن الصحة تماماً.
لو كانت القصة صحيحةً لكانت مخالفة واضحة من القائد طارق، ولضجّ بها الجند، ووصلت إلى القيادة بل وإلى أمير المؤمنين، ولسُئِل طارق وحوسب، ونال ما يستحق من عقوبة عل هذه المخالفة لتعاليم الإسلام -إذ ليس غريباً أن تقع مخالفة أو يرتكب قائد خطأ فهو ليس بمعصوم-، غير أنه لم تكلم أحد في هذا القصة ممن كان في جنده، أو من الثقة في ذلك العصر،ولم يُسأل طارق، ولم يحدث ما يُشير من قريب أو من بعيد عن وقوع القصة. وقد دوَّنها فقط ووصلت إلينا عن طريق غير الثقاة. فالحادثة مختَلَقَة لا صحة لها أبداً.
لقد وُضِعت هذه القصة من أناس يمتُّون إلى القوط بصلة، وقد هالهم ذلك النصر العظيم، نصر اثني عشر ألفاً على مائة ألف، فأرادوا أن يخفِّفوا من أثر ذلك النصر، ويجدوا المبررات للقوط في تلك الهزيمة المخزية بأنه قد وقع من الرعب في نفوسهم الشيء الكثير بالحيلة والخديعة التي لجأ إليها طارق، وما كانوا ليُهزَموا لولا تلك الحيلة. فنصر المسلمين كان نصر خديعة، لا نصر قوة وشجاعة وتضحية وفداء، وهزيمة القوط لم تكن هزيمة ضعف وخوار وإنما كانت هزيمة حيلة ومكر، ولم تكن تعوزهم الشجاعة ولا الدفاع المستميت عن أوطانهم.
وقد ساير بعض المسلمين رواة هذه القصة في قبولها، ونظروا إليها نظرة ثانية مخالفة لنظرة القوط ومَن دافع عنهم وشايعهم، حيث نظروا إليها من جانب ذكاء القائد المسلم ومعرفته بنفسية القوط، واللقاء بهم بعد أن زعزع الروح المعنوية عندهم بإلقاء الرعب في نفوسهم، والصدام معهم بهذه القلة التي معه مع كثرتهم إنما هي نوع من أنواع التضحية والفداء، واعتماداً على الروح المعنوية العالية عند جنده في حب الجهاد والنيل بإحدى الحسنيين، وضعف الروح المعنوية عند خصمه استطاع إحراز النصر. وهذا التحليل أو التعليل غير صحيح لأنه مخالف للمنطلقات التي لا تقبل التمثيل بالأعداء ولا بجثث الشهداء من الأصدقاء، لذا فهي مرفوضة، والقصة غير مقبولة، وهي من وضع الذين أحبّوا الدفاع عن القوط بمحاولة إيجاد مبررات لهزيمتهم النكراء.
ولقد كان انتصار المسلمين بإذن الله بما وضع في نفوسهم من روح معنوية عالية في حب الجهاد والاندفاع نحو الأعداء لتحقيق النصر أو لنيل الشهادة، فكتب لهم النصر، وأعطى رتبة الشهادة من استحقّها.
لقد كان قادة المسلمين الأوائل أئمة جندهم وخطباءهم، والمفتين لهم، والمرجع لهم في أمور الدين، لذل فقد كانوا على معرفة بكتاب الله وسنة نبيه وسلوك صحابته، وعلى علم باللغة العربية لإمكانية الاستنباط، لذا فإن القادة الأوائل كانوا جميعاً من العرب ولا يمكن أن يكونوا إلا كذلك، وما فعله الأمويون من تولية الولاة، وإعطاء القيادات للعرب لم يكن إلا بحكم الضرورة للمحافظة على المنطلقات الإسلامية، ولم يكن تعصباً للجنس العربي أبداً. ولقد كان طارق بن زياد من أوائل الذين استطاعوا تحصيل هذه المعرفة من غير العرب، فأهَّله ذلك لتسلّم القيادة وكان أهلاً لها، وقد حافظ على المستوى العام للقائد المسلم، ولم يرتكب مخالفة أبداً، لا حيلة ولا جهلاً، فلم يحرّق سفن المسلمين ويجعلهم يتكبدون خسائر كبيرة، ولم يمثِّل بالأعداء، وكان خطيباً، ووصلت إلينا خطبته، وهو أهل لقولها ولأمثالها.

عن موقع الفسطاط
 
رد: المنطلق الأساسي في التاريخ الإسلامي/محمود شاكر

شكرا لك اخي الفاضل على هذا الموضوع ...... حقيقة يجب بالفعل اعادة قراءة التاريخ من جديد .... تقبل تحياتي
 
عودة
أعلى