فكرة حاملة الطائرات
+
----
-
ظهرت فكرة إقلاع الطائرة من فوق سطح سفينة تسير في المحيط لأول مرة، في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد فترة وجيزة من إقلاع الطائرة الأولى التي صنعها الأخوان "رايت".
ففي عام 1910م وافقت البحرية الأمريكية على تجربة إقلاع طائرة من فوق البارجة الأمريكية "برمنجهام"، ونجحت التجربة..
..................................
ثلاث دول في العالم حتـّم عليها موقعها الجغرافي أن تكون مواجهاتها العسكرية أمام جميع أعدائها على الدوام مواجهات بحرية، أو محمولة عبر البحر... بريطانيا، اليابان، والولايات المتحدة الأمريكية..
انعزال جغرافي
عبر عقود التاريخ الحديث كان بحر اليابان والمحيط الهادي يمثلان عازلاً جغرافياً فريداً محيطاً بدولة تقع في مجموعة جزر في أقصى الشرق هي اليابان، وكان بحر الشمال وبحر البلطيق من جهة، والمحيط الأطلسي من جهة أخرى يؤديان نفس الدور لصالح الجزر البريطانية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية والتي نطلق عليها اسم القارة التي تقع فيها.. "أمريكا"، فقد نشأت وتعاظمت في الحجم والقوة في ظروف لم تسمح بظهور أي منافس لها في الموارد والنفوذ في إطار تلك القارة، ظهرت الولايات المتحدة وما لبثت أن تحولت إلى شبه قارة بعد أن اشترت عدة ولايات جديدة من نابليون بونابرت أثناء صراعه مع بريطانيا بموجب صفقة "لويزيانا" في عام 1803م.
ثم اشترت "ألاسكا" من الإمبراطورية الروسية في أكتوبر 1867م بسبعة ملايين دولار، لكي تتحول القارة كلها إلى دول ثلاث لا ينافس الولايات المتحدة فيها إلا كندا ذات الثلاثين مليون نسمة في الشمال، والمكسيك ذات البشرة السمراء واللسان اللاتيني في الجنوب.. وهكذا بدا العملاق الأمريكي عالي الهامة عظيم القدرة بين هاتين الدولتين وكأنه يمثل وحده القارة الأمريكية بأسرها.
نشأت الولايات المتحدة بعيدة جداً عن تعقيدات العالم القديم وصراعاته، وقوانينه كذلك.. وصار المحيطان الأطلسي والهادئ هما النافذتين اللتين تطلان على العالم الخارجي واللتين تتجه إليهما كل الأنظار حين تكون هذه الدولة بصدد أية مواجهة أو صراع مسلح.
وقوع اليابان وبريطانيا كذلك في محيط بحري جعل أنظار شعبيهما تتجه بصورة غريزية إلى شواطئ البحر، كلما شعرت بتهديد لأمن بلادها..
وحين تحولت كلّ من هذه الدول الثلاث إلى إمبراطورية ذات نفوذ يمتد إلى خارج أراضيها عبر البحار والمحيطات، تحتـّم عليها أن تجد الوسائل التي تحمل القوات والعتاد، وتنقل نيران المدافع ومنصات الصواريخ إلى حيث تقع نقاط التماس بين أمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية وبين مصالح ونفوذ القوى المنافسة على الساحة الدولية
....................................
إلى ساحات القتال
مع مطلع القرن العشرين تمكن الإنسان أخيراً من الإفلات من جاذبية الأرض، حين تمكن الأخوان "رايت" في الولايات المتحدة من الطيران بمركبة طائرة أثقل من الهواء، ومع انقضاء الربع الأول من هذا القرن كانت الطائرات قد دخلت إلى ساحات القتال لتصبح واحدة من محاور القوة والسيطرة على ميدان المعركة، كان الإيطاليون هم أول من استخدموا الطائرات في معركة حربية، وكان الألمان هم أول من أسسوا المدرسة التكتيكية الحديثة في استخدام الطيران خلال المعارك، وأول من صنعوا وقاتلوا بالمقاتلات النفاثة، واستخدموا الصواريخ..
بعد الحرب العالمية الأولى بدا محدوداً دور الطائرات المقاتلة بمدة طيرانها ومداه واللذين تحكمهما كمية الوقود المتاحة للطائرة المقاتلة فضلاً عن إمكانات محركاتها، وبالتالي فإن القواعد الجوية الثابتة باتت تضع حدوداً أمام الإمكانات الهجومية لسلاح الجو، وتقيده بالإطار الجغرافي لحدود الدولة.
بعد أن نجحت البحرية الأمريكية في تجربة إقلاع طائرة من فوق إحدى بوارجها، بدأ التفكير في تجربة الهبوط على أسطح السفن الحربية، وعبر العقدين التاليين بدأت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان في معالجة المشكلات التي تعترض عملية الإقلاع والهبوط الآمن للطائرات فوق أسطح الحاملات البحرية.
حين اندلعت الحرب العالمية الثانية كان المحيط الهادئ هو ميدان الصراع بين الإمبراطورية اليابانية والولايات المتحدة، وقد كان لليابان السبق كأول دولة قامت بتدشين واستخدام حاملات الطائرات على نطاق واسع وفعال في هجمات إستراتيجية، وكانت طائرات الميتسوبيشي (من طراز "زيروZero") هي التي قامت بالهجوم الشهير على ميناء "بيرل هاربور" في جزر هاواي حيث بلغ عددها في تلك الهجمة 350 طائرة منطلقة من ست حاملات على بعد 500 كيلومتر تقريباً من شواطئ الجزيرة، واستطاعت أذرع اليابان البحرية أن تمتد عبر ظلمات المحيط الهادئ لتطال أسطولاً كاملاً لواحدة من أعتى القوى العسكرية في العالم..
كان الهجوم ساحقاً من الناحية التكتيكية، في حين كانت تداعياته الاستراتيجية كارثيةً بالنسبة لليابان ودول المحور.
حين تمكنت اليابان من تدمير الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ لم تكن قد تمكنت من تدمير حاملات الطائرات الأمريكية، فضلاً عن قدرة الولايات المتحدة على إنتاج المزيد من الوحدات البحرية والطائرات المقاتلة والقاذفات التي دخلت الحرب فيما بعد لتضع لها نهاية مختلفة عما أرادته اليابان.
أدرك الأمريكيون بعد هذه المعركة بالذات مدى الأهمية التي يمكن أن تتسم بها تلك القواعد الجوية المحمولة بحراً وما يمكن أن تقوم به من دور محوري في حروب مصيرية وعبر مساحات شاسعة في قلب المحيطات والبحار.
حاملات الطائرات
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ومع دخول المقاتلات النفاثة إلى الخدمة العسكرية قامت الولايات المتحدة ببناء أسطول ضخم من حاملات الطائرات ليصبح لديها عدة مطارات متنقلة عبر البحار كأذرع طويلة لسلاح الجو الأمريكي تكفل له تواجداً سريعاً في مسرح العمليات ومرونة عالية في إيصال نيران وصواريخ طائراته المقاتلة إلى عمق أراضي العدو على مختلف الجبهات.
في عقد الستينيات وبالتحديد في عام 1961م قامت الولايات المتحدة ببناء أول حاملة طائرات مدفوعة بمحركات نووية "إنتربرايز" (The Enterprise)، وهو ما أحدث ثورة في صناعة الآلات الحربية، فمع بدء الاعتماد على الوقود النووي ظهرت حاملات الطائرات العملاقة في البحرية الأمريكية (Supper Carriers)، كما لم تعد حاملة الطائرات مضطرة إلى التوقف في أي بقعة في العالم للتزود بالوقود، إذ صار بمقدور حاملة الطائرات النووية أن تستمر في الإبحار مدةً تصل لـ12 سنة (اثنتي عشرة سنة) متواصلة دون توقف.
في تلك الآونة، كانت الولايات المتحدة قد أقحِمت في حرب فيتنام في الجنوب الآسيوي، ومرة أخرى كانت حاملات الطائرات هي القواعد الجوية الأمريكية التي قامت بإدارة معاركها من البحر.
حاملة الطائرات التي تشق عباب البحار في يومنا هذا، هي مدينة عائمة، سفينة يجاوز وزنها الثمانين ألف طن من الفولاذ، تحمل داخلها كل ضرورات ورفاهيات الحياة اليومية، بدءاً بمخادع النوم وانتهاءً بصالات الألعاب الرياضية والترفيهية، فضلاً عن ورش الصيانة والإصلاح الخاصة بالطائرات.. سفن الدعم اللوجستي تقوم بتزويد تلك المدينة بكل ما يلزم، من وقود للطائرات، طعام للجنود، وحتى بالمزيد من هؤلاء الجنود إن لزم الأمر، لتظل تلك الذراع ممتدة إلى أقصاها، متواجدة في كل مكان تقريباً حول العالم، قادرةً على تقديم الدعم أو شن الهجوم أو التهديد به في أية لحظة وفق ما تقتضيه المعطيات السياسية التي تصنع الإرادة الأمريكية وتحرك أذرعها..
في عام 1990م عندما قام الجيش العراقي باحتلال دولة الكويت، كانت حاملة الطائرات الأمريكية "إندبندنس" Independence (بالمصادفة) تقوم بتدريبات اعتيادية في المحيط الهندي (إلى الجنوب الشرقي من الخليج العربي)، وسرعان ما تحركت في اتجاه الخليج العربي مع مجموعتها القتالية لتصبح رأس الحربة الأول والوحيد الذي يواجه العدوان العراقي ويستطيع أن يوجه ضربات موجعة إلى ما وراء خطوط المواجهة مع الجيش العراقي.
وفي عملية عاصفة الصحراء، قامت الولايات المتحدة بحشد ست حاملات بمجموعاتها القتالية، وكان ديك تشيني وزير الدفاع في ذلك الوقت قد صرح في السادس من سبتمبر أيلول عام 1990م بقوله:
"عندما أنظر إلى القطع البحرية التي تم حشدها في المنطقة، المجموعات القتالية المؤلفة من حاملات الطائرات، أربع منها حُشدت في ذات الوقت أو بأوقات متقاربة، فضلاً عن بقية القطع البحرية الأخرى، فإنني أستطيع الجزم أنه لا توجد اليوم دولة في العالم تستطيع أن تقدم كل هذا الحشد من القوات في مثل هذا التوقيت، إن الإمكانات العسكرية التي قمنا بحشدها في الأسابيع الثلاثة الأولى من التدريبات قد فاقت الإمكانات التي قمنا بحشدها في الشهور الثلاثة الأولى من عام 1950 حين طُلِب منا التحرك إلى كوريا"
بدأت مجموعات القتال في الخليج العربي حاملة قوة تصل إلى مئة مقاتلة اعتراضية وقاذفة، ووصل عددها بنهاية الشهر الأول إلى سبعمائة مقاتلة انتقلت مع مجموعات القتال من أسطولي المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي عبر بحر العرب من جهة، وعبر قناة السويس والبحر الأحمر من جهة أخرى، وقد قامت بتقديم تغطية مناسبة لاحتشاد بقية القوات البرية والجوية وقوات الدول الحليفة في المنطقة، كما أسهمت في حماية المملكة العربية السعودية من هجوم عراقي كان متصوراً أو متوقعاً في تلك المرحلة.
هكذا تمكنت الولايات المتحدة من التوصل بمطاراتها العائمة إلى خطوط المواجهة مباشرة، واستطاعت أن تكفل احتشاداً سريعاً وفاعلاً لقواتها وقوات حلفائها، فضلاً عن إيصال ضربات جوية موجعة إلى عمق أراضي العدو أدت إلى تقرير مصير أية مواجهة برية أو جوية قبل بدئها.
حاملات.. أحجام ومواصفات
حاملات الطائرات الأمريكية اليوم تأتي في عدة طرازات "Classes" كل طراز يمثل حجماً ومواصفات معينة تتفاوت من الأصغر إلى الأكبر ويترتب عليها عدد المحركات وعمرها الافتراضي وحجم القوة الضاربة التي يمكن أن تحملها تلك الطرازات.
وكل حاملة من طراز بعينه تحمل اسماً مميزاً لها بين قطع الأسطول المختلفة، وهكذا نسمع في نشرات الأخبار أسماءً مثل حاملة الطائرات الأمريكية "إندبندنس" أو "جورج واشنطن" أو "رونالد ريجان" كلها أسماء لحاملات (قِطَع) بحرية وليست إشارة للطراز الذي تنتمي إليه تلك القطع.
ومن أبرز طرازات حاملات الطائرات التي عملت في البحرية الأمريكية:
يونايتد ستيتس CVA-58 :
دشن عام 1949م
فورستال CV-59:
دشن عام 1956م، أول طراز لحاملات الطائرات العملاقة (SupperCarriers) صمم لحمل طائرات نفاثة، شاركت في حرب فييتنام.
كيتي هوك CV-63:
دُشن عام 1961م
إنتربرايز CVN-65:
أولى الحاملات المدفوعة بالطاقة النووية (ثمانية محركات)، دشن في سبتمبر أيلول 1960م وشاركت الحاملات في حصار ومنع شحنات الأسلحة السوفييتية إلى كوبا عقب اندلاع أزمة الصواريخ الكوبية.
جون كندي CV-67:
دُشن في أكتوبر تشرين الأول 1964م، حاملة طائرات متعددة المهام تعمل حالياً كاحتياط أول للبحرية الأمريكية.
نيميتس CV-68:
أكبر الطرازات العاملة حجماً وأعظمها قدرة وسعة، NIMITZ المدفوعة نووياً تعد سلاح الردع الأول ورأس الحربة المتقدمة للقوات البحرية وصاحبة التواجد الأوسع والأكثر انتشاراً في بحار ومحيطات العالم، يمكنها حمل 85 طائرة مقاتلة، ويصل طاقم السفينة إلى 3200 عامل وفريق الدعم الجوي إلى 2480.
حاملات الطائرات الأمريكية العملاقة من طراز نيميتس يمكنها أن تبحر لسنوات دون توقف للتزود بالوقود، إلا أنها تحمل عادة من المؤن ما يكفيها لـ90 يوماً.. كما أنها تحتوي على 4 وحدات لتقطير وتنقية مياه البحر توفر لها أربعمائة ألف جالون من المياه النقية يومياً.
ويضم الأسطول الأمريكي اليوم تسع حاملات من طراز نيميتس، وتوجد واحدة قيد الإنشاء، ومما تجدر الإشارة إليه أن الأسطول الأمريكي لم يعد وحده الذي يملك حاملات طائرات، إلا أنه لا زال الوحيد الذي يحتكم على هذا العدد الكبير والقدرة الفائقة على الاحتشاد السريع، كما أن طراز في حجم نيميتس لا يتوفر لأي أسطول على وجه الأرض حتى اليوم.
ومما تجدر الإشارة إليه كذلك أن حاملات الطائرات الأمريكية، وإن بدت للمشاهد من أقوى أسلحة الردع وأدوات صنع السلام التي تعمل في خدمة القرار السياسي الأمريكي، إلا أنها ومنذ الحرب العالمية الثانية لم تخض معركة واحدة متكافئة أو شبه متكافئة أمام جيش نظامي يملك مقومات خوض معركة على أسس قتالية حديثة، وفضلاً عن هذا يقع تحت إشراف قيادة سياسية واعية، فحروب كوريا وفيتنام وعاصفة الصحراء عام 1991م ثم اجتياح العراق عام 2003م، كانت كلها حروب تخوضها الولايات المتحدة أمام جماعات مقاتلة غير نظامية أو أمام جيوش مهترئة التركيب ومشوشة القيادة فضلاً عن غياب العنصر التقني الذي يمكن أن يحدث أي قدر من التوازن يمكننا من الحكم على هذا السلاح الأمريكي حكماً منصفاً.
لم تتعرض حاملات أمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى أية عمليات تخريبية من جماعة مسلحة ولا إلى محاولة قصف من قبل جيش نظامي (بغض النظر عن إمكانية نجاح ذلك)، ولم تواجه واحدة منها إلى اليوم مشكلة في التزود بالوقود أو المؤن في حالة حربٍ، بعيدةً عن شواطئ بلادها، كما أن أحداً لا يمكنه التكهن بما يمكن أن يحدث إن تعرضت حاملة طائرات نووية الدفع إلى هجوم أدى إلى انفجار محرك أو أكثر من محركاتها.. كلها أسئلة لم تطرح بعد.. ولا يمكن الإجابة عليها إلا في إطار عمليات عسكرية تواجه فيها تلك الأسلحة العملاقة تحدياً حقيقياً.
وما من شك في أن هذه الأسلحة ومدى فاعليتها تمثل أحد أهم العوامل التي تدعم القرار الأمريكي و وتؤيد الإرادة الأمريكية في سائر مساعيها.
+
----
-
ظهرت فكرة إقلاع الطائرة من فوق سطح سفينة تسير في المحيط لأول مرة، في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد فترة وجيزة من إقلاع الطائرة الأولى التي صنعها الأخوان "رايت".
ففي عام 1910م وافقت البحرية الأمريكية على تجربة إقلاع طائرة من فوق البارجة الأمريكية "برمنجهام"، ونجحت التجربة..
..................................
ثلاث دول في العالم حتـّم عليها موقعها الجغرافي أن تكون مواجهاتها العسكرية أمام جميع أعدائها على الدوام مواجهات بحرية، أو محمولة عبر البحر... بريطانيا، اليابان، والولايات المتحدة الأمريكية..
انعزال جغرافي
عبر عقود التاريخ الحديث كان بحر اليابان والمحيط الهادي يمثلان عازلاً جغرافياً فريداً محيطاً بدولة تقع في مجموعة جزر في أقصى الشرق هي اليابان، وكان بحر الشمال وبحر البلطيق من جهة، والمحيط الأطلسي من جهة أخرى يؤديان نفس الدور لصالح الجزر البريطانية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية والتي نطلق عليها اسم القارة التي تقع فيها.. "أمريكا"، فقد نشأت وتعاظمت في الحجم والقوة في ظروف لم تسمح بظهور أي منافس لها في الموارد والنفوذ في إطار تلك القارة، ظهرت الولايات المتحدة وما لبثت أن تحولت إلى شبه قارة بعد أن اشترت عدة ولايات جديدة من نابليون بونابرت أثناء صراعه مع بريطانيا بموجب صفقة "لويزيانا" في عام 1803م.
ثم اشترت "ألاسكا" من الإمبراطورية الروسية في أكتوبر 1867م بسبعة ملايين دولار، لكي تتحول القارة كلها إلى دول ثلاث لا ينافس الولايات المتحدة فيها إلا كندا ذات الثلاثين مليون نسمة في الشمال، والمكسيك ذات البشرة السمراء واللسان اللاتيني في الجنوب.. وهكذا بدا العملاق الأمريكي عالي الهامة عظيم القدرة بين هاتين الدولتين وكأنه يمثل وحده القارة الأمريكية بأسرها.
نشأت الولايات المتحدة بعيدة جداً عن تعقيدات العالم القديم وصراعاته، وقوانينه كذلك.. وصار المحيطان الأطلسي والهادئ هما النافذتين اللتين تطلان على العالم الخارجي واللتين تتجه إليهما كل الأنظار حين تكون هذه الدولة بصدد أية مواجهة أو صراع مسلح.
وقوع اليابان وبريطانيا كذلك في محيط بحري جعل أنظار شعبيهما تتجه بصورة غريزية إلى شواطئ البحر، كلما شعرت بتهديد لأمن بلادها..
وحين تحولت كلّ من هذه الدول الثلاث إلى إمبراطورية ذات نفوذ يمتد إلى خارج أراضيها عبر البحار والمحيطات، تحتـّم عليها أن تجد الوسائل التي تحمل القوات والعتاد، وتنقل نيران المدافع ومنصات الصواريخ إلى حيث تقع نقاط التماس بين أمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية وبين مصالح ونفوذ القوى المنافسة على الساحة الدولية
....................................
إلى ساحات القتال
مع مطلع القرن العشرين تمكن الإنسان أخيراً من الإفلات من جاذبية الأرض، حين تمكن الأخوان "رايت" في الولايات المتحدة من الطيران بمركبة طائرة أثقل من الهواء، ومع انقضاء الربع الأول من هذا القرن كانت الطائرات قد دخلت إلى ساحات القتال لتصبح واحدة من محاور القوة والسيطرة على ميدان المعركة، كان الإيطاليون هم أول من استخدموا الطائرات في معركة حربية، وكان الألمان هم أول من أسسوا المدرسة التكتيكية الحديثة في استخدام الطيران خلال المعارك، وأول من صنعوا وقاتلوا بالمقاتلات النفاثة، واستخدموا الصواريخ..
بعد الحرب العالمية الأولى بدا محدوداً دور الطائرات المقاتلة بمدة طيرانها ومداه واللذين تحكمهما كمية الوقود المتاحة للطائرة المقاتلة فضلاً عن إمكانات محركاتها، وبالتالي فإن القواعد الجوية الثابتة باتت تضع حدوداً أمام الإمكانات الهجومية لسلاح الجو، وتقيده بالإطار الجغرافي لحدود الدولة.
بعد أن نجحت البحرية الأمريكية في تجربة إقلاع طائرة من فوق إحدى بوارجها، بدأ التفكير في تجربة الهبوط على أسطح السفن الحربية، وعبر العقدين التاليين بدأت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان في معالجة المشكلات التي تعترض عملية الإقلاع والهبوط الآمن للطائرات فوق أسطح الحاملات البحرية.
حين اندلعت الحرب العالمية الثانية كان المحيط الهادئ هو ميدان الصراع بين الإمبراطورية اليابانية والولايات المتحدة، وقد كان لليابان السبق كأول دولة قامت بتدشين واستخدام حاملات الطائرات على نطاق واسع وفعال في هجمات إستراتيجية، وكانت طائرات الميتسوبيشي (من طراز "زيروZero") هي التي قامت بالهجوم الشهير على ميناء "بيرل هاربور" في جزر هاواي حيث بلغ عددها في تلك الهجمة 350 طائرة منطلقة من ست حاملات على بعد 500 كيلومتر تقريباً من شواطئ الجزيرة، واستطاعت أذرع اليابان البحرية أن تمتد عبر ظلمات المحيط الهادئ لتطال أسطولاً كاملاً لواحدة من أعتى القوى العسكرية في العالم..
كان الهجوم ساحقاً من الناحية التكتيكية، في حين كانت تداعياته الاستراتيجية كارثيةً بالنسبة لليابان ودول المحور.
حين تمكنت اليابان من تدمير الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ لم تكن قد تمكنت من تدمير حاملات الطائرات الأمريكية، فضلاً عن قدرة الولايات المتحدة على إنتاج المزيد من الوحدات البحرية والطائرات المقاتلة والقاذفات التي دخلت الحرب فيما بعد لتضع لها نهاية مختلفة عما أرادته اليابان.
أدرك الأمريكيون بعد هذه المعركة بالذات مدى الأهمية التي يمكن أن تتسم بها تلك القواعد الجوية المحمولة بحراً وما يمكن أن تقوم به من دور محوري في حروب مصيرية وعبر مساحات شاسعة في قلب المحيطات والبحار.
حاملات الطائرات
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ومع دخول المقاتلات النفاثة إلى الخدمة العسكرية قامت الولايات المتحدة ببناء أسطول ضخم من حاملات الطائرات ليصبح لديها عدة مطارات متنقلة عبر البحار كأذرع طويلة لسلاح الجو الأمريكي تكفل له تواجداً سريعاً في مسرح العمليات ومرونة عالية في إيصال نيران وصواريخ طائراته المقاتلة إلى عمق أراضي العدو على مختلف الجبهات.
في عقد الستينيات وبالتحديد في عام 1961م قامت الولايات المتحدة ببناء أول حاملة طائرات مدفوعة بمحركات نووية "إنتربرايز" (The Enterprise)، وهو ما أحدث ثورة في صناعة الآلات الحربية، فمع بدء الاعتماد على الوقود النووي ظهرت حاملات الطائرات العملاقة في البحرية الأمريكية (Supper Carriers)، كما لم تعد حاملة الطائرات مضطرة إلى التوقف في أي بقعة في العالم للتزود بالوقود، إذ صار بمقدور حاملة الطائرات النووية أن تستمر في الإبحار مدةً تصل لـ12 سنة (اثنتي عشرة سنة) متواصلة دون توقف.
في تلك الآونة، كانت الولايات المتحدة قد أقحِمت في حرب فيتنام في الجنوب الآسيوي، ومرة أخرى كانت حاملات الطائرات هي القواعد الجوية الأمريكية التي قامت بإدارة معاركها من البحر.
حاملة الطائرات التي تشق عباب البحار في يومنا هذا، هي مدينة عائمة، سفينة يجاوز وزنها الثمانين ألف طن من الفولاذ، تحمل داخلها كل ضرورات ورفاهيات الحياة اليومية، بدءاً بمخادع النوم وانتهاءً بصالات الألعاب الرياضية والترفيهية، فضلاً عن ورش الصيانة والإصلاح الخاصة بالطائرات.. سفن الدعم اللوجستي تقوم بتزويد تلك المدينة بكل ما يلزم، من وقود للطائرات، طعام للجنود، وحتى بالمزيد من هؤلاء الجنود إن لزم الأمر، لتظل تلك الذراع ممتدة إلى أقصاها، متواجدة في كل مكان تقريباً حول العالم، قادرةً على تقديم الدعم أو شن الهجوم أو التهديد به في أية لحظة وفق ما تقتضيه المعطيات السياسية التي تصنع الإرادة الأمريكية وتحرك أذرعها..
في عام 1990م عندما قام الجيش العراقي باحتلال دولة الكويت، كانت حاملة الطائرات الأمريكية "إندبندنس" Independence (بالمصادفة) تقوم بتدريبات اعتيادية في المحيط الهندي (إلى الجنوب الشرقي من الخليج العربي)، وسرعان ما تحركت في اتجاه الخليج العربي مع مجموعتها القتالية لتصبح رأس الحربة الأول والوحيد الذي يواجه العدوان العراقي ويستطيع أن يوجه ضربات موجعة إلى ما وراء خطوط المواجهة مع الجيش العراقي.
وفي عملية عاصفة الصحراء، قامت الولايات المتحدة بحشد ست حاملات بمجموعاتها القتالية، وكان ديك تشيني وزير الدفاع في ذلك الوقت قد صرح في السادس من سبتمبر أيلول عام 1990م بقوله:
"عندما أنظر إلى القطع البحرية التي تم حشدها في المنطقة، المجموعات القتالية المؤلفة من حاملات الطائرات، أربع منها حُشدت في ذات الوقت أو بأوقات متقاربة، فضلاً عن بقية القطع البحرية الأخرى، فإنني أستطيع الجزم أنه لا توجد اليوم دولة في العالم تستطيع أن تقدم كل هذا الحشد من القوات في مثل هذا التوقيت، إن الإمكانات العسكرية التي قمنا بحشدها في الأسابيع الثلاثة الأولى من التدريبات قد فاقت الإمكانات التي قمنا بحشدها في الشهور الثلاثة الأولى من عام 1950 حين طُلِب منا التحرك إلى كوريا"
بدأت مجموعات القتال في الخليج العربي حاملة قوة تصل إلى مئة مقاتلة اعتراضية وقاذفة، ووصل عددها بنهاية الشهر الأول إلى سبعمائة مقاتلة انتقلت مع مجموعات القتال من أسطولي المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي عبر بحر العرب من جهة، وعبر قناة السويس والبحر الأحمر من جهة أخرى، وقد قامت بتقديم تغطية مناسبة لاحتشاد بقية القوات البرية والجوية وقوات الدول الحليفة في المنطقة، كما أسهمت في حماية المملكة العربية السعودية من هجوم عراقي كان متصوراً أو متوقعاً في تلك المرحلة.
هكذا تمكنت الولايات المتحدة من التوصل بمطاراتها العائمة إلى خطوط المواجهة مباشرة، واستطاعت أن تكفل احتشاداً سريعاً وفاعلاً لقواتها وقوات حلفائها، فضلاً عن إيصال ضربات جوية موجعة إلى عمق أراضي العدو أدت إلى تقرير مصير أية مواجهة برية أو جوية قبل بدئها.
حاملات.. أحجام ومواصفات
حاملات الطائرات الأمريكية اليوم تأتي في عدة طرازات "Classes" كل طراز يمثل حجماً ومواصفات معينة تتفاوت من الأصغر إلى الأكبر ويترتب عليها عدد المحركات وعمرها الافتراضي وحجم القوة الضاربة التي يمكن أن تحملها تلك الطرازات.
وكل حاملة من طراز بعينه تحمل اسماً مميزاً لها بين قطع الأسطول المختلفة، وهكذا نسمع في نشرات الأخبار أسماءً مثل حاملة الطائرات الأمريكية "إندبندنس" أو "جورج واشنطن" أو "رونالد ريجان" كلها أسماء لحاملات (قِطَع) بحرية وليست إشارة للطراز الذي تنتمي إليه تلك القطع.
ومن أبرز طرازات حاملات الطائرات التي عملت في البحرية الأمريكية:
يونايتد ستيتس CVA-58 :
دشن عام 1949م
فورستال CV-59:
دشن عام 1956م، أول طراز لحاملات الطائرات العملاقة (SupperCarriers) صمم لحمل طائرات نفاثة، شاركت في حرب فييتنام.
كيتي هوك CV-63:
دُشن عام 1961م
إنتربرايز CVN-65:
أولى الحاملات المدفوعة بالطاقة النووية (ثمانية محركات)، دشن في سبتمبر أيلول 1960م وشاركت الحاملات في حصار ومنع شحنات الأسلحة السوفييتية إلى كوبا عقب اندلاع أزمة الصواريخ الكوبية.
جون كندي CV-67:
دُشن في أكتوبر تشرين الأول 1964م، حاملة طائرات متعددة المهام تعمل حالياً كاحتياط أول للبحرية الأمريكية.
نيميتس CV-68:
أكبر الطرازات العاملة حجماً وأعظمها قدرة وسعة، NIMITZ المدفوعة نووياً تعد سلاح الردع الأول ورأس الحربة المتقدمة للقوات البحرية وصاحبة التواجد الأوسع والأكثر انتشاراً في بحار ومحيطات العالم، يمكنها حمل 85 طائرة مقاتلة، ويصل طاقم السفينة إلى 3200 عامل وفريق الدعم الجوي إلى 2480.
حاملات الطائرات الأمريكية العملاقة من طراز نيميتس يمكنها أن تبحر لسنوات دون توقف للتزود بالوقود، إلا أنها تحمل عادة من المؤن ما يكفيها لـ90 يوماً.. كما أنها تحتوي على 4 وحدات لتقطير وتنقية مياه البحر توفر لها أربعمائة ألف جالون من المياه النقية يومياً.
ويضم الأسطول الأمريكي اليوم تسع حاملات من طراز نيميتس، وتوجد واحدة قيد الإنشاء، ومما تجدر الإشارة إليه أن الأسطول الأمريكي لم يعد وحده الذي يملك حاملات طائرات، إلا أنه لا زال الوحيد الذي يحتكم على هذا العدد الكبير والقدرة الفائقة على الاحتشاد السريع، كما أن طراز في حجم نيميتس لا يتوفر لأي أسطول على وجه الأرض حتى اليوم.
ومما تجدر الإشارة إليه كذلك أن حاملات الطائرات الأمريكية، وإن بدت للمشاهد من أقوى أسلحة الردع وأدوات صنع السلام التي تعمل في خدمة القرار السياسي الأمريكي، إلا أنها ومنذ الحرب العالمية الثانية لم تخض معركة واحدة متكافئة أو شبه متكافئة أمام جيش نظامي يملك مقومات خوض معركة على أسس قتالية حديثة، وفضلاً عن هذا يقع تحت إشراف قيادة سياسية واعية، فحروب كوريا وفيتنام وعاصفة الصحراء عام 1991م ثم اجتياح العراق عام 2003م، كانت كلها حروب تخوضها الولايات المتحدة أمام جماعات مقاتلة غير نظامية أو أمام جيوش مهترئة التركيب ومشوشة القيادة فضلاً عن غياب العنصر التقني الذي يمكن أن يحدث أي قدر من التوازن يمكننا من الحكم على هذا السلاح الأمريكي حكماً منصفاً.
لم تتعرض حاملات أمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى أية عمليات تخريبية من جماعة مسلحة ولا إلى محاولة قصف من قبل جيش نظامي (بغض النظر عن إمكانية نجاح ذلك)، ولم تواجه واحدة منها إلى اليوم مشكلة في التزود بالوقود أو المؤن في حالة حربٍ، بعيدةً عن شواطئ بلادها، كما أن أحداً لا يمكنه التكهن بما يمكن أن يحدث إن تعرضت حاملة طائرات نووية الدفع إلى هجوم أدى إلى انفجار محرك أو أكثر من محركاتها.. كلها أسئلة لم تطرح بعد.. ولا يمكن الإجابة عليها إلا في إطار عمليات عسكرية تواجه فيها تلك الأسلحة العملاقة تحدياً حقيقياً.
وما من شك في أن هذه الأسلحة ومدى فاعليتها تمثل أحد أهم العوامل التي تدعم القرار الأمريكي و وتؤيد الإرادة الأمريكية في سائر مساعيها.
ظهرت فكرة إقلاع الطائرة من فوق سطح سفينة تسير في المحيط لأول مرة، في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد فترة وجيزة من إقلاع الطائرة الأولى التي صنعها الأخوان "رايت".
ففي عام 1910م وافقت البحرية الأمريكية على تجربة إقلاع طائرة من فوق البارجة الأمريكية "برمنجهام"، ونجحت التجربة..
..................................
ثلاث دول في العالم حتـّم عليها موقعها الجغرافي أن تكون مواجهاتها العسكرية أمام جميع أعدائها على الدوام مواجهات بحرية، أو محمولة عبر البحر... بريطانيا، اليابان، والولايات المتحدة الأمريكية..
انعزال جغرافي
عبر عقود التاريخ الحديث كان بحر اليابان والمحيط الهادي يمثلان عازلاً جغرافياً فريداً محيطاً بدولة تقع في مجموعة جزر في أقصى الشرق هي اليابان، وكان بحر الشمال وبحر البلطيق من جهة، والمحيط الأطلسي من جهة أخرى يؤديان نفس الدور لصالح الجزر البريطانية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية والتي نطلق عليها اسم القارة التي تقع فيها.. "أمريكا"، فقد نشأت وتعاظمت في الحجم والقوة في ظروف لم تسمح بظهور أي منافس لها في الموارد والنفوذ في إطار تلك القارة، ظهرت الولايات المتحدة وما لبثت أن تحولت إلى شبه قارة بعد أن اشترت عدة ولايات جديدة من نابليون بونابرت أثناء صراعه مع بريطانيا بموجب صفقة "لويزيانا" في عام 1803م.
ثم اشترت "ألاسكا" من الإمبراطورية الروسية في أكتوبر 1867م بسبعة ملايين دولار، لكي تتحول القارة كلها إلى دول ثلاث لا ينافس الولايات المتحدة فيها إلا كندا ذات الثلاثين مليون نسمة في الشمال، والمكسيك ذات البشرة السمراء واللسان اللاتيني في الجنوب.. وهكذا بدا العملاق الأمريكي عالي الهامة عظيم القدرة بين هاتين الدولتين وكأنه يمثل وحده القارة الأمريكية بأسرها.
نشأت الولايات المتحدة بعيدة جداً عن تعقيدات العالم القديم وصراعاته، وقوانينه كذلك.. وصار المحيطان الأطلسي والهادئ هما النافذتين اللتين تطلان على العالم الخارجي واللتين تتجه إليهما كل الأنظار حين تكون هذه الدولة بصدد أية مواجهة أو صراع مسلح.
وقوع اليابان وبريطانيا كذلك في محيط بحري جعل أنظار شعبيهما تتجه بصورة غريزية إلى شواطئ البحر، كلما شعرت بتهديد لأمن بلادها..
وحين تحولت كلّ من هذه الدول الثلاث إلى إمبراطورية ذات نفوذ يمتد إلى خارج أراضيها عبر البحار والمحيطات، تحتـّم عليها أن تجد الوسائل التي تحمل القوات والعتاد، وتنقل نيران المدافع ومنصات الصواريخ إلى حيث تقع نقاط التماس بين أمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية وبين مصالح ونفوذ القوى المنافسة على الساحة الدولية
....................................
إلى ساحات القتال
مع مطلع القرن العشرين تمكن الإنسان أخيراً من الإفلات من جاذبية الأرض، حين تمكن الأخوان "رايت" في الولايات المتحدة من الطيران بمركبة طائرة أثقل من الهواء، ومع انقضاء الربع الأول من هذا القرن كانت الطائرات قد دخلت إلى ساحات القتال لتصبح واحدة من محاور القوة والسيطرة على ميدان المعركة، كان الإيطاليون هم أول من استخدموا الطائرات في معركة حربية، وكان الألمان هم أول من أسسوا المدرسة التكتيكية الحديثة في استخدام الطيران خلال المعارك، وأول من صنعوا وقاتلوا بالمقاتلات النفاثة، واستخدموا الصواريخ..
بعد الحرب العالمية الأولى بدا محدوداً دور الطائرات المقاتلة بمدة طيرانها ومداه واللذين تحكمهما كمية الوقود المتاحة للطائرة المقاتلة فضلاً عن إمكانات محركاتها، وبالتالي فإن القواعد الجوية الثابتة باتت تضع حدوداً أمام الإمكانات الهجومية لسلاح الجو، وتقيده بالإطار الجغرافي لحدود الدولة.
بعد أن نجحت البحرية الأمريكية في تجربة إقلاع طائرة من فوق إحدى بوارجها، بدأ التفكير في تجربة الهبوط على أسطح السفن الحربية، وعبر العقدين التاليين بدأت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان في معالجة المشكلات التي تعترض عملية الإقلاع والهبوط الآمن للطائرات فوق أسطح الحاملات البحرية.
حين اندلعت الحرب العالمية الثانية كان المحيط الهادئ هو ميدان الصراع بين الإمبراطورية اليابانية والولايات المتحدة، وقد كان لليابان السبق كأول دولة قامت بتدشين واستخدام حاملات الطائرات على نطاق واسع وفعال في هجمات إستراتيجية، وكانت طائرات الميتسوبيشي (من طراز "زيروZero") هي التي قامت بالهجوم الشهير على ميناء "بيرل هاربور" في جزر هاواي حيث بلغ عددها في تلك الهجمة 350 طائرة منطلقة من ست حاملات على بعد 500 كيلومتر تقريباً من شواطئ الجزيرة، واستطاعت أذرع اليابان البحرية أن تمتد عبر ظلمات المحيط الهادئ لتطال أسطولاً كاملاً لواحدة من أعتى القوى العسكرية في العالم..
كان الهجوم ساحقاً من الناحية التكتيكية، في حين كانت تداعياته الاستراتيجية كارثيةً بالنسبة لليابان ودول المحور.
حين تمكنت اليابان من تدمير الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ لم تكن قد تمكنت من تدمير حاملات الطائرات الأمريكية، فضلاً عن قدرة الولايات المتحدة على إنتاج المزيد من الوحدات البحرية والطائرات المقاتلة والقاذفات التي دخلت الحرب فيما بعد لتضع لها نهاية مختلفة عما أرادته اليابان.
أدرك الأمريكيون بعد هذه المعركة بالذات مدى الأهمية التي يمكن أن تتسم بها تلك القواعد الجوية المحمولة بحراً وما يمكن أن تقوم به من دور محوري في حروب مصيرية وعبر مساحات شاسعة في قلب المحيطات والبحار.
حاملات الطائرات
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ومع دخول المقاتلات النفاثة إلى الخدمة العسكرية قامت الولايات المتحدة ببناء أسطول ضخم من حاملات الطائرات ليصبح لديها عدة مطارات متنقلة عبر البحار كأذرع طويلة لسلاح الجو الأمريكي تكفل له تواجداً سريعاً في مسرح العمليات ومرونة عالية في إيصال نيران وصواريخ طائراته المقاتلة إلى عمق أراضي العدو على مختلف الجبهات.
في عقد الستينيات وبالتحديد في عام 1961م قامت الولايات المتحدة ببناء أول حاملة طائرات مدفوعة بمحركات نووية "إنتربرايز" (The Enterprise)، وهو ما أحدث ثورة في صناعة الآلات الحربية، فمع بدء الاعتماد على الوقود النووي ظهرت حاملات الطائرات العملاقة في البحرية الأمريكية (Supper Carriers)، كما لم تعد حاملة الطائرات مضطرة إلى التوقف في أي بقعة في العالم للتزود بالوقود، إذ صار بمقدور حاملة الطائرات النووية أن تستمر في الإبحار مدةً تصل لـ12 سنة (اثنتي عشرة سنة) متواصلة دون توقف.
في تلك الآونة، كانت الولايات المتحدة قد أقحِمت في حرب فيتنام في الجنوب الآسيوي، ومرة أخرى كانت حاملات الطائرات هي القواعد الجوية الأمريكية التي قامت بإدارة معاركها من البحر.
حاملة الطائرات التي تشق عباب البحار في يومنا هذا، هي مدينة عائمة، سفينة يجاوز وزنها الثمانين ألف طن من الفولاذ، تحمل داخلها كل ضرورات ورفاهيات الحياة اليومية، بدءاً بمخادع النوم وانتهاءً بصالات الألعاب الرياضية والترفيهية، فضلاً عن ورش الصيانة والإصلاح الخاصة بالطائرات.. سفن الدعم اللوجستي تقوم بتزويد تلك المدينة بكل ما يلزم، من وقود للطائرات، طعام للجنود، وحتى بالمزيد من هؤلاء الجنود إن لزم الأمر، لتظل تلك الذراع ممتدة إلى أقصاها، متواجدة في كل مكان تقريباً حول العالم، قادرةً على تقديم الدعم أو شن الهجوم أو التهديد به في أية لحظة وفق ما تقتضيه المعطيات السياسية التي تصنع الإرادة الأمريكية وتحرك أذرعها..
في عام 1990م عندما قام الجيش العراقي باحتلال دولة الكويت، كانت حاملة الطائرات الأمريكية "إندبندنس" Independence (بالمصادفة) تقوم بتدريبات اعتيادية في المحيط الهندي (إلى الجنوب الشرقي من الخليج العربي)، وسرعان ما تحركت في اتجاه الخليج العربي مع مجموعتها القتالية لتصبح رأس الحربة الأول والوحيد الذي يواجه العدوان العراقي ويستطيع أن يوجه ضربات موجعة إلى ما وراء خطوط المواجهة مع الجيش العراقي.
وفي عملية عاصفة الصحراء، قامت الولايات المتحدة بحشد ست حاملات بمجموعاتها القتالية، وكان ديك تشيني وزير الدفاع في ذلك الوقت قد صرح في السادس من سبتمبر أيلول عام 1990م بقوله:
"عندما أنظر إلى القطع البحرية التي تم حشدها في المنطقة، المجموعات القتالية المؤلفة من حاملات الطائرات، أربع منها حُشدت في ذات الوقت أو بأوقات متقاربة، فضلاً عن بقية القطع البحرية الأخرى، فإنني أستطيع الجزم أنه لا توجد اليوم دولة في العالم تستطيع أن تقدم كل هذا الحشد من القوات في مثل هذا التوقيت، إن الإمكانات العسكرية التي قمنا بحشدها في الأسابيع الثلاثة الأولى من التدريبات قد فاقت الإمكانات التي قمنا بحشدها في الشهور الثلاثة الأولى من عام 1950 حين طُلِب منا التحرك إلى كوريا"
بدأت مجموعات القتال في الخليج العربي حاملة قوة تصل إلى مئة مقاتلة اعتراضية وقاذفة، ووصل عددها بنهاية الشهر الأول إلى سبعمائة مقاتلة انتقلت مع مجموعات القتال من أسطولي المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي عبر بحر العرب من جهة، وعبر قناة السويس والبحر الأحمر من جهة أخرى، وقد قامت بتقديم تغطية مناسبة لاحتشاد بقية القوات البرية والجوية وقوات الدول الحليفة في المنطقة، كما أسهمت في حماية المملكة العربية السعودية من هجوم عراقي كان متصوراً أو متوقعاً في تلك المرحلة.
هكذا تمكنت الولايات المتحدة من التوصل بمطاراتها العائمة إلى خطوط المواجهة مباشرة، واستطاعت أن تكفل احتشاداً سريعاً وفاعلاً لقواتها وقوات حلفائها، فضلاً عن إيصال ضربات جوية موجعة إلى عمق أراضي العدو أدت إلى تقرير مصير أية مواجهة برية أو جوية قبل بدئها.
حاملات.. أحجام ومواصفات
حاملات الطائرات الأمريكية اليوم تأتي في عدة طرازات "Classes" كل طراز يمثل حجماً ومواصفات معينة تتفاوت من الأصغر إلى الأكبر ويترتب عليها عدد المحركات وعمرها الافتراضي وحجم القوة الضاربة التي يمكن أن تحملها تلك الطرازات.
وكل حاملة من طراز بعينه تحمل اسماً مميزاً لها بين قطع الأسطول المختلفة، وهكذا نسمع في نشرات الأخبار أسماءً مثل حاملة الطائرات الأمريكية "إندبندنس" أو "جورج واشنطن" أو "رونالد ريجان" كلها أسماء لحاملات (قِطَع) بحرية وليست إشارة للطراز الذي تنتمي إليه تلك القطع.
ومن أبرز طرازات حاملات الطائرات التي عملت في البحرية الأمريكية:
يونايتد ستيتس CVA-58 :
دشن عام 1949م
فورستال CV-59:
دشن عام 1956م، أول طراز لحاملات الطائرات العملاقة (SupperCarriers) صمم لحمل طائرات نفاثة، شاركت في حرب فييتنام.
كيتي هوك CV-63:
دُشن عام 1961م
إنتربرايز CVN-65:
أولى الحاملات المدفوعة بالطاقة النووية (ثمانية محركات)، دشن في سبتمبر أيلول 1960م وشاركت الحاملات في حصار ومنع شحنات الأسلحة السوفييتية إلى كوبا عقب اندلاع أزمة الصواريخ الكوبية.
جون كندي CV-67:
دُشن في أكتوبر تشرين الأول 1964م، حاملة طائرات متعددة المهام تعمل حالياً كاحتياط أول للبحرية الأمريكية.
نيميتس CV-68:
أكبر الطرازات العاملة حجماً وأعظمها قدرة وسعة، NIMITZ المدفوعة نووياً تعد سلاح الردع الأول ورأس الحربة المتقدمة للقوات البحرية وصاحبة التواجد الأوسع والأكثر انتشاراً في بحار ومحيطات العالم، يمكنها حمل 85 طائرة مقاتلة، ويصل طاقم السفينة إلى 3200 عامل وفريق الدعم الجوي إلى 2480.
حاملات الطائرات الأمريكية العملاقة من طراز نيميتس يمكنها أن تبحر لسنوات دون توقف للتزود بالوقود، إلا أنها تحمل عادة من المؤن ما يكفيها لـ90 يوماً.. كما أنها تحتوي على 4 وحدات لتقطير وتنقية مياه البحر توفر لها أربعمائة ألف جالون من المياه النقية يومياً.
ويضم الأسطول الأمريكي اليوم تسع حاملات من طراز نيميتس، وتوجد واحدة قيد الإنشاء، ومما تجدر الإشارة إليه أن الأسطول الأمريكي لم يعد وحده الذي يملك حاملات طائرات، إلا أنه لا زال الوحيد الذي يحتكم على هذا العدد الكبير والقدرة الفائقة على الاحتشاد السريع، كما أن طراز في حجم نيميتس لا يتوفر لأي أسطول على وجه الأرض حتى اليوم.
ومما تجدر الإشارة إليه كذلك أن حاملات الطائرات الأمريكية، وإن بدت للمشاهد من أقوى أسلحة الردع وأدوات صنع السلام التي تعمل في خدمة القرار السياسي الأمريكي، إلا أنها ومنذ الحرب العالمية الثانية لم تخض معركة واحدة متكافئة أو شبه متكافئة أمام جيش نظامي يملك مقومات خوض معركة على أسس قتالية حديثة، وفضلاً عن هذا يقع تحت إشراف قيادة سياسية واعية، فحروب كوريا وفيتنام وعاصفة الصحراء عام 1991م ثم اجتياح العراق عام 2003م، كانت كلها حروب تخوضها الولايات المتحدة أمام جماعات مقاتلة غير نظامية أو أمام جيوش مهترئة التركيب ومشوشة القيادة فضلاً عن غياب العنصر التقني الذي يمكن أن يحدث أي قدر من التوازن يمكننا من الحكم على هذا السلاح الأمريكي حكماً منصفاً.
لم تتعرض حاملات أمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى أية عمليات تخريبية من جماعة مسلحة ولا إلى محاولة قصف من قبل جيش نظامي (بغض النظر عن إمكانية نجاح ذلك)، ولم تواجه واحدة منها إلى اليوم مشكلة في التزود بالوقود أو المؤن في حالة حربٍ، بعيدةً عن شواطئ بلادها، كما أن أحداً لا يمكنه التكهن بما يمكن أن يحدث إن تعرضت حاملة طائرات نووية الدفع إلى هجوم أدى إلى انفجار محرك أو أكثر من محركاتها.. كلها أسئلة لم تطرح بعد.. ولا يمكن الإجابة عليها إلا في إطار عمليات عسكرية تواجه فيها تلك الأسلحة العملاقة تحدياً حقيقياً.
وما من شك في أن هذه الأسلحة ومدى فاعليتها تمثل أحد أهم العوامل التي تدعم القرار الأمريكي و وتؤيد الإرادة الأمريكية في سائر مساعيها.
+
----
-
ظهرت فكرة إقلاع الطائرة من فوق سطح سفينة تسير في المحيط لأول مرة، في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد فترة وجيزة من إقلاع الطائرة الأولى التي صنعها الأخوان "رايت".
ففي عام 1910م وافقت البحرية الأمريكية على تجربة إقلاع طائرة من فوق البارجة الأمريكية "برمنجهام"، ونجحت التجربة..
..................................
ثلاث دول في العالم حتـّم عليها موقعها الجغرافي أن تكون مواجهاتها العسكرية أمام جميع أعدائها على الدوام مواجهات بحرية، أو محمولة عبر البحر... بريطانيا، اليابان، والولايات المتحدة الأمريكية..
انعزال جغرافي
عبر عقود التاريخ الحديث كان بحر اليابان والمحيط الهادي يمثلان عازلاً جغرافياً فريداً محيطاً بدولة تقع في مجموعة جزر في أقصى الشرق هي اليابان، وكان بحر الشمال وبحر البلطيق من جهة، والمحيط الأطلسي من جهة أخرى يؤديان نفس الدور لصالح الجزر البريطانية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية والتي نطلق عليها اسم القارة التي تقع فيها.. "أمريكا"، فقد نشأت وتعاظمت في الحجم والقوة في ظروف لم تسمح بظهور أي منافس لها في الموارد والنفوذ في إطار تلك القارة، ظهرت الولايات المتحدة وما لبثت أن تحولت إلى شبه قارة بعد أن اشترت عدة ولايات جديدة من نابليون بونابرت أثناء صراعه مع بريطانيا بموجب صفقة "لويزيانا" في عام 1803م.
ثم اشترت "ألاسكا" من الإمبراطورية الروسية في أكتوبر 1867م بسبعة ملايين دولار، لكي تتحول القارة كلها إلى دول ثلاث لا ينافس الولايات المتحدة فيها إلا كندا ذات الثلاثين مليون نسمة في الشمال، والمكسيك ذات البشرة السمراء واللسان اللاتيني في الجنوب.. وهكذا بدا العملاق الأمريكي عالي الهامة عظيم القدرة بين هاتين الدولتين وكأنه يمثل وحده القارة الأمريكية بأسرها.
نشأت الولايات المتحدة بعيدة جداً عن تعقيدات العالم القديم وصراعاته، وقوانينه كذلك.. وصار المحيطان الأطلسي والهادئ هما النافذتين اللتين تطلان على العالم الخارجي واللتين تتجه إليهما كل الأنظار حين تكون هذه الدولة بصدد أية مواجهة أو صراع مسلح.
وقوع اليابان وبريطانيا كذلك في محيط بحري جعل أنظار شعبيهما تتجه بصورة غريزية إلى شواطئ البحر، كلما شعرت بتهديد لأمن بلادها..
وحين تحولت كلّ من هذه الدول الثلاث إلى إمبراطورية ذات نفوذ يمتد إلى خارج أراضيها عبر البحار والمحيطات، تحتـّم عليها أن تجد الوسائل التي تحمل القوات والعتاد، وتنقل نيران المدافع ومنصات الصواريخ إلى حيث تقع نقاط التماس بين أمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية وبين مصالح ونفوذ القوى المنافسة على الساحة الدولية
....................................
إلى ساحات القتال
مع مطلع القرن العشرين تمكن الإنسان أخيراً من الإفلات من جاذبية الأرض، حين تمكن الأخوان "رايت" في الولايات المتحدة من الطيران بمركبة طائرة أثقل من الهواء، ومع انقضاء الربع الأول من هذا القرن كانت الطائرات قد دخلت إلى ساحات القتال لتصبح واحدة من محاور القوة والسيطرة على ميدان المعركة، كان الإيطاليون هم أول من استخدموا الطائرات في معركة حربية، وكان الألمان هم أول من أسسوا المدرسة التكتيكية الحديثة في استخدام الطيران خلال المعارك، وأول من صنعوا وقاتلوا بالمقاتلات النفاثة، واستخدموا الصواريخ..
بعد الحرب العالمية الأولى بدا محدوداً دور الطائرات المقاتلة بمدة طيرانها ومداه واللذين تحكمهما كمية الوقود المتاحة للطائرة المقاتلة فضلاً عن إمكانات محركاتها، وبالتالي فإن القواعد الجوية الثابتة باتت تضع حدوداً أمام الإمكانات الهجومية لسلاح الجو، وتقيده بالإطار الجغرافي لحدود الدولة.
بعد أن نجحت البحرية الأمريكية في تجربة إقلاع طائرة من فوق إحدى بوارجها، بدأ التفكير في تجربة الهبوط على أسطح السفن الحربية، وعبر العقدين التاليين بدأت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان في معالجة المشكلات التي تعترض عملية الإقلاع والهبوط الآمن للطائرات فوق أسطح الحاملات البحرية.
حين اندلعت الحرب العالمية الثانية كان المحيط الهادئ هو ميدان الصراع بين الإمبراطورية اليابانية والولايات المتحدة، وقد كان لليابان السبق كأول دولة قامت بتدشين واستخدام حاملات الطائرات على نطاق واسع وفعال في هجمات إستراتيجية، وكانت طائرات الميتسوبيشي (من طراز "زيروZero") هي التي قامت بالهجوم الشهير على ميناء "بيرل هاربور" في جزر هاواي حيث بلغ عددها في تلك الهجمة 350 طائرة منطلقة من ست حاملات على بعد 500 كيلومتر تقريباً من شواطئ الجزيرة، واستطاعت أذرع اليابان البحرية أن تمتد عبر ظلمات المحيط الهادئ لتطال أسطولاً كاملاً لواحدة من أعتى القوى العسكرية في العالم..
كان الهجوم ساحقاً من الناحية التكتيكية، في حين كانت تداعياته الاستراتيجية كارثيةً بالنسبة لليابان ودول المحور.
حين تمكنت اليابان من تدمير الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ لم تكن قد تمكنت من تدمير حاملات الطائرات الأمريكية، فضلاً عن قدرة الولايات المتحدة على إنتاج المزيد من الوحدات البحرية والطائرات المقاتلة والقاذفات التي دخلت الحرب فيما بعد لتضع لها نهاية مختلفة عما أرادته اليابان.
أدرك الأمريكيون بعد هذه المعركة بالذات مدى الأهمية التي يمكن أن تتسم بها تلك القواعد الجوية المحمولة بحراً وما يمكن أن تقوم به من دور محوري في حروب مصيرية وعبر مساحات شاسعة في قلب المحيطات والبحار.
حاملات الطائرات
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ومع دخول المقاتلات النفاثة إلى الخدمة العسكرية قامت الولايات المتحدة ببناء أسطول ضخم من حاملات الطائرات ليصبح لديها عدة مطارات متنقلة عبر البحار كأذرع طويلة لسلاح الجو الأمريكي تكفل له تواجداً سريعاً في مسرح العمليات ومرونة عالية في إيصال نيران وصواريخ طائراته المقاتلة إلى عمق أراضي العدو على مختلف الجبهات.
في عقد الستينيات وبالتحديد في عام 1961م قامت الولايات المتحدة ببناء أول حاملة طائرات مدفوعة بمحركات نووية "إنتربرايز" (The Enterprise)، وهو ما أحدث ثورة في صناعة الآلات الحربية، فمع بدء الاعتماد على الوقود النووي ظهرت حاملات الطائرات العملاقة في البحرية الأمريكية (Supper Carriers)، كما لم تعد حاملة الطائرات مضطرة إلى التوقف في أي بقعة في العالم للتزود بالوقود، إذ صار بمقدور حاملة الطائرات النووية أن تستمر في الإبحار مدةً تصل لـ12 سنة (اثنتي عشرة سنة) متواصلة دون توقف.
في تلك الآونة، كانت الولايات المتحدة قد أقحِمت في حرب فيتنام في الجنوب الآسيوي، ومرة أخرى كانت حاملات الطائرات هي القواعد الجوية الأمريكية التي قامت بإدارة معاركها من البحر.
حاملة الطائرات التي تشق عباب البحار في يومنا هذا، هي مدينة عائمة، سفينة يجاوز وزنها الثمانين ألف طن من الفولاذ، تحمل داخلها كل ضرورات ورفاهيات الحياة اليومية، بدءاً بمخادع النوم وانتهاءً بصالات الألعاب الرياضية والترفيهية، فضلاً عن ورش الصيانة والإصلاح الخاصة بالطائرات.. سفن الدعم اللوجستي تقوم بتزويد تلك المدينة بكل ما يلزم، من وقود للطائرات، طعام للجنود، وحتى بالمزيد من هؤلاء الجنود إن لزم الأمر، لتظل تلك الذراع ممتدة إلى أقصاها، متواجدة في كل مكان تقريباً حول العالم، قادرةً على تقديم الدعم أو شن الهجوم أو التهديد به في أية لحظة وفق ما تقتضيه المعطيات السياسية التي تصنع الإرادة الأمريكية وتحرك أذرعها..
في عام 1990م عندما قام الجيش العراقي باحتلال دولة الكويت، كانت حاملة الطائرات الأمريكية "إندبندنس" Independence (بالمصادفة) تقوم بتدريبات اعتيادية في المحيط الهندي (إلى الجنوب الشرقي من الخليج العربي)، وسرعان ما تحركت في اتجاه الخليج العربي مع مجموعتها القتالية لتصبح رأس الحربة الأول والوحيد الذي يواجه العدوان العراقي ويستطيع أن يوجه ضربات موجعة إلى ما وراء خطوط المواجهة مع الجيش العراقي.
وفي عملية عاصفة الصحراء، قامت الولايات المتحدة بحشد ست حاملات بمجموعاتها القتالية، وكان ديك تشيني وزير الدفاع في ذلك الوقت قد صرح في السادس من سبتمبر أيلول عام 1990م بقوله:
"عندما أنظر إلى القطع البحرية التي تم حشدها في المنطقة، المجموعات القتالية المؤلفة من حاملات الطائرات، أربع منها حُشدت في ذات الوقت أو بأوقات متقاربة، فضلاً عن بقية القطع البحرية الأخرى، فإنني أستطيع الجزم أنه لا توجد اليوم دولة في العالم تستطيع أن تقدم كل هذا الحشد من القوات في مثل هذا التوقيت، إن الإمكانات العسكرية التي قمنا بحشدها في الأسابيع الثلاثة الأولى من التدريبات قد فاقت الإمكانات التي قمنا بحشدها في الشهور الثلاثة الأولى من عام 1950 حين طُلِب منا التحرك إلى كوريا"
بدأت مجموعات القتال في الخليج العربي حاملة قوة تصل إلى مئة مقاتلة اعتراضية وقاذفة، ووصل عددها بنهاية الشهر الأول إلى سبعمائة مقاتلة انتقلت مع مجموعات القتال من أسطولي المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي عبر بحر العرب من جهة، وعبر قناة السويس والبحر الأحمر من جهة أخرى، وقد قامت بتقديم تغطية مناسبة لاحتشاد بقية القوات البرية والجوية وقوات الدول الحليفة في المنطقة، كما أسهمت في حماية المملكة العربية السعودية من هجوم عراقي كان متصوراً أو متوقعاً في تلك المرحلة.
هكذا تمكنت الولايات المتحدة من التوصل بمطاراتها العائمة إلى خطوط المواجهة مباشرة، واستطاعت أن تكفل احتشاداً سريعاً وفاعلاً لقواتها وقوات حلفائها، فضلاً عن إيصال ضربات جوية موجعة إلى عمق أراضي العدو أدت إلى تقرير مصير أية مواجهة برية أو جوية قبل بدئها.
حاملات.. أحجام ومواصفات
حاملات الطائرات الأمريكية اليوم تأتي في عدة طرازات "Classes" كل طراز يمثل حجماً ومواصفات معينة تتفاوت من الأصغر إلى الأكبر ويترتب عليها عدد المحركات وعمرها الافتراضي وحجم القوة الضاربة التي يمكن أن تحملها تلك الطرازات.
وكل حاملة من طراز بعينه تحمل اسماً مميزاً لها بين قطع الأسطول المختلفة، وهكذا نسمع في نشرات الأخبار أسماءً مثل حاملة الطائرات الأمريكية "إندبندنس" أو "جورج واشنطن" أو "رونالد ريجان" كلها أسماء لحاملات (قِطَع) بحرية وليست إشارة للطراز الذي تنتمي إليه تلك القطع.
ومن أبرز طرازات حاملات الطائرات التي عملت في البحرية الأمريكية:
يونايتد ستيتس CVA-58 :
دشن عام 1949م
فورستال CV-59:
دشن عام 1956م، أول طراز لحاملات الطائرات العملاقة (SupperCarriers) صمم لحمل طائرات نفاثة، شاركت في حرب فييتنام.
كيتي هوك CV-63:
دُشن عام 1961م
إنتربرايز CVN-65:
أولى الحاملات المدفوعة بالطاقة النووية (ثمانية محركات)، دشن في سبتمبر أيلول 1960م وشاركت الحاملات في حصار ومنع شحنات الأسلحة السوفييتية إلى كوبا عقب اندلاع أزمة الصواريخ الكوبية.
جون كندي CV-67:
دُشن في أكتوبر تشرين الأول 1964م، حاملة طائرات متعددة المهام تعمل حالياً كاحتياط أول للبحرية الأمريكية.
نيميتس CV-68:
أكبر الطرازات العاملة حجماً وأعظمها قدرة وسعة، NIMITZ المدفوعة نووياً تعد سلاح الردع الأول ورأس الحربة المتقدمة للقوات البحرية وصاحبة التواجد الأوسع والأكثر انتشاراً في بحار ومحيطات العالم، يمكنها حمل 85 طائرة مقاتلة، ويصل طاقم السفينة إلى 3200 عامل وفريق الدعم الجوي إلى 2480.
حاملات الطائرات الأمريكية العملاقة من طراز نيميتس يمكنها أن تبحر لسنوات دون توقف للتزود بالوقود، إلا أنها تحمل عادة من المؤن ما يكفيها لـ90 يوماً.. كما أنها تحتوي على 4 وحدات لتقطير وتنقية مياه البحر توفر لها أربعمائة ألف جالون من المياه النقية يومياً.
ويضم الأسطول الأمريكي اليوم تسع حاملات من طراز نيميتس، وتوجد واحدة قيد الإنشاء، ومما تجدر الإشارة إليه أن الأسطول الأمريكي لم يعد وحده الذي يملك حاملات طائرات، إلا أنه لا زال الوحيد الذي يحتكم على هذا العدد الكبير والقدرة الفائقة على الاحتشاد السريع، كما أن طراز في حجم نيميتس لا يتوفر لأي أسطول على وجه الأرض حتى اليوم.
ومما تجدر الإشارة إليه كذلك أن حاملات الطائرات الأمريكية، وإن بدت للمشاهد من أقوى أسلحة الردع وأدوات صنع السلام التي تعمل في خدمة القرار السياسي الأمريكي، إلا أنها ومنذ الحرب العالمية الثانية لم تخض معركة واحدة متكافئة أو شبه متكافئة أمام جيش نظامي يملك مقومات خوض معركة على أسس قتالية حديثة، وفضلاً عن هذا يقع تحت إشراف قيادة سياسية واعية، فحروب كوريا وفيتنام وعاصفة الصحراء عام 1991م ثم اجتياح العراق عام 2003م، كانت كلها حروب تخوضها الولايات المتحدة أمام جماعات مقاتلة غير نظامية أو أمام جيوش مهترئة التركيب ومشوشة القيادة فضلاً عن غياب العنصر التقني الذي يمكن أن يحدث أي قدر من التوازن يمكننا من الحكم على هذا السلاح الأمريكي حكماً منصفاً.
لم تتعرض حاملات أمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى أية عمليات تخريبية من جماعة مسلحة ولا إلى محاولة قصف من قبل جيش نظامي (بغض النظر عن إمكانية نجاح ذلك)، ولم تواجه واحدة منها إلى اليوم مشكلة في التزود بالوقود أو المؤن في حالة حربٍ، بعيدةً عن شواطئ بلادها، كما أن أحداً لا يمكنه التكهن بما يمكن أن يحدث إن تعرضت حاملة طائرات نووية الدفع إلى هجوم أدى إلى انفجار محرك أو أكثر من محركاتها.. كلها أسئلة لم تطرح بعد.. ولا يمكن الإجابة عليها إلا في إطار عمليات عسكرية تواجه فيها تلك الأسلحة العملاقة تحدياً حقيقياً.
وما من شك في أن هذه الأسلحة ومدى فاعليتها تمثل أحد أهم العوامل التي تدعم القرار الأمريكي و وتؤيد الإرادة الأمريكية في سائر مساعيها.
+
----
-
ظهرت فكرة إقلاع الطائرة من فوق سطح سفينة تسير في المحيط لأول مرة، في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد فترة وجيزة من إقلاع الطائرة الأولى التي صنعها الأخوان "رايت".
ففي عام 1910م وافقت البحرية الأمريكية على تجربة إقلاع طائرة من فوق البارجة الأمريكية "برمنجهام"، ونجحت التجربة..
..................................
ثلاث دول في العالم حتـّم عليها موقعها الجغرافي أن تكون مواجهاتها العسكرية أمام جميع أعدائها على الدوام مواجهات بحرية، أو محمولة عبر البحر... بريطانيا، اليابان، والولايات المتحدة الأمريكية..
انعزال جغرافي
عبر عقود التاريخ الحديث كان بحر اليابان والمحيط الهادي يمثلان عازلاً جغرافياً فريداً محيطاً بدولة تقع في مجموعة جزر في أقصى الشرق هي اليابان، وكان بحر الشمال وبحر البلطيق من جهة، والمحيط الأطلسي من جهة أخرى يؤديان نفس الدور لصالح الجزر البريطانية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية والتي نطلق عليها اسم القارة التي تقع فيها.. "أمريكا"، فقد نشأت وتعاظمت في الحجم والقوة في ظروف لم تسمح بظهور أي منافس لها في الموارد والنفوذ في إطار تلك القارة، ظهرت الولايات المتحدة وما لبثت أن تحولت إلى شبه قارة بعد أن اشترت عدة ولايات جديدة من نابليون بونابرت أثناء صراعه مع بريطانيا بموجب صفقة "لويزيانا" في عام 1803م.
ثم اشترت "ألاسكا" من الإمبراطورية الروسية في أكتوبر 1867م بسبعة ملايين دولار، لكي تتحول القارة كلها إلى دول ثلاث لا ينافس الولايات المتحدة فيها إلا كندا ذات الثلاثين مليون نسمة في الشمال، والمكسيك ذات البشرة السمراء واللسان اللاتيني في الجنوب.. وهكذا بدا العملاق الأمريكي عالي الهامة عظيم القدرة بين هاتين الدولتين وكأنه يمثل وحده القارة الأمريكية بأسرها.
نشأت الولايات المتحدة بعيدة جداً عن تعقيدات العالم القديم وصراعاته، وقوانينه كذلك.. وصار المحيطان الأطلسي والهادئ هما النافذتين اللتين تطلان على العالم الخارجي واللتين تتجه إليهما كل الأنظار حين تكون هذه الدولة بصدد أية مواجهة أو صراع مسلح.
وقوع اليابان وبريطانيا كذلك في محيط بحري جعل أنظار شعبيهما تتجه بصورة غريزية إلى شواطئ البحر، كلما شعرت بتهديد لأمن بلادها..
وحين تحولت كلّ من هذه الدول الثلاث إلى إمبراطورية ذات نفوذ يمتد إلى خارج أراضيها عبر البحار والمحيطات، تحتـّم عليها أن تجد الوسائل التي تحمل القوات والعتاد، وتنقل نيران المدافع ومنصات الصواريخ إلى حيث تقع نقاط التماس بين أمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية وبين مصالح ونفوذ القوى المنافسة على الساحة الدولية
....................................
إلى ساحات القتال
مع مطلع القرن العشرين تمكن الإنسان أخيراً من الإفلات من جاذبية الأرض، حين تمكن الأخوان "رايت" في الولايات المتحدة من الطيران بمركبة طائرة أثقل من الهواء، ومع انقضاء الربع الأول من هذا القرن كانت الطائرات قد دخلت إلى ساحات القتال لتصبح واحدة من محاور القوة والسيطرة على ميدان المعركة، كان الإيطاليون هم أول من استخدموا الطائرات في معركة حربية، وكان الألمان هم أول من أسسوا المدرسة التكتيكية الحديثة في استخدام الطيران خلال المعارك، وأول من صنعوا وقاتلوا بالمقاتلات النفاثة، واستخدموا الصواريخ..
بعد الحرب العالمية الأولى بدا محدوداً دور الطائرات المقاتلة بمدة طيرانها ومداه واللذين تحكمهما كمية الوقود المتاحة للطائرة المقاتلة فضلاً عن إمكانات محركاتها، وبالتالي فإن القواعد الجوية الثابتة باتت تضع حدوداً أمام الإمكانات الهجومية لسلاح الجو، وتقيده بالإطار الجغرافي لحدود الدولة.
بعد أن نجحت البحرية الأمريكية في تجربة إقلاع طائرة من فوق إحدى بوارجها، بدأ التفكير في تجربة الهبوط على أسطح السفن الحربية، وعبر العقدين التاليين بدأت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان في معالجة المشكلات التي تعترض عملية الإقلاع والهبوط الآمن للطائرات فوق أسطح الحاملات البحرية.
حين اندلعت الحرب العالمية الثانية كان المحيط الهادئ هو ميدان الصراع بين الإمبراطورية اليابانية والولايات المتحدة، وقد كان لليابان السبق كأول دولة قامت بتدشين واستخدام حاملات الطائرات على نطاق واسع وفعال في هجمات إستراتيجية، وكانت طائرات الميتسوبيشي (من طراز "زيروZero") هي التي قامت بالهجوم الشهير على ميناء "بيرل هاربور" في جزر هاواي حيث بلغ عددها في تلك الهجمة 350 طائرة منطلقة من ست حاملات على بعد 500 كيلومتر تقريباً من شواطئ الجزيرة، واستطاعت أذرع اليابان البحرية أن تمتد عبر ظلمات المحيط الهادئ لتطال أسطولاً كاملاً لواحدة من أعتى القوى العسكرية في العالم..
كان الهجوم ساحقاً من الناحية التكتيكية، في حين كانت تداعياته الاستراتيجية كارثيةً بالنسبة لليابان ودول المحور.
حين تمكنت اليابان من تدمير الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ لم تكن قد تمكنت من تدمير حاملات الطائرات الأمريكية، فضلاً عن قدرة الولايات المتحدة على إنتاج المزيد من الوحدات البحرية والطائرات المقاتلة والقاذفات التي دخلت الحرب فيما بعد لتضع لها نهاية مختلفة عما أرادته اليابان.
أدرك الأمريكيون بعد هذه المعركة بالذات مدى الأهمية التي يمكن أن تتسم بها تلك القواعد الجوية المحمولة بحراً وما يمكن أن تقوم به من دور محوري في حروب مصيرية وعبر مساحات شاسعة في قلب المحيطات والبحار.
حاملات الطائرات
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ومع دخول المقاتلات النفاثة إلى الخدمة العسكرية قامت الولايات المتحدة ببناء أسطول ضخم من حاملات الطائرات ليصبح لديها عدة مطارات متنقلة عبر البحار كأذرع طويلة لسلاح الجو الأمريكي تكفل له تواجداً سريعاً في مسرح العمليات ومرونة عالية في إيصال نيران وصواريخ طائراته المقاتلة إلى عمق أراضي العدو على مختلف الجبهات.
في عقد الستينيات وبالتحديد في عام 1961م قامت الولايات المتحدة ببناء أول حاملة طائرات مدفوعة بمحركات نووية "إنتربرايز" (The Enterprise)، وهو ما أحدث ثورة في صناعة الآلات الحربية، فمع بدء الاعتماد على الوقود النووي ظهرت حاملات الطائرات العملاقة في البحرية الأمريكية (Supper Carriers)، كما لم تعد حاملة الطائرات مضطرة إلى التوقف في أي بقعة في العالم للتزود بالوقود، إذ صار بمقدور حاملة الطائرات النووية أن تستمر في الإبحار مدةً تصل لـ12 سنة (اثنتي عشرة سنة) متواصلة دون توقف.
في تلك الآونة، كانت الولايات المتحدة قد أقحِمت في حرب فيتنام في الجنوب الآسيوي، ومرة أخرى كانت حاملات الطائرات هي القواعد الجوية الأمريكية التي قامت بإدارة معاركها من البحر.
حاملة الطائرات التي تشق عباب البحار في يومنا هذا، هي مدينة عائمة، سفينة يجاوز وزنها الثمانين ألف طن من الفولاذ، تحمل داخلها كل ضرورات ورفاهيات الحياة اليومية، بدءاً بمخادع النوم وانتهاءً بصالات الألعاب الرياضية والترفيهية، فضلاً عن ورش الصيانة والإصلاح الخاصة بالطائرات.. سفن الدعم اللوجستي تقوم بتزويد تلك المدينة بكل ما يلزم، من وقود للطائرات، طعام للجنود، وحتى بالمزيد من هؤلاء الجنود إن لزم الأمر، لتظل تلك الذراع ممتدة إلى أقصاها، متواجدة في كل مكان تقريباً حول العالم، قادرةً على تقديم الدعم أو شن الهجوم أو التهديد به في أية لحظة وفق ما تقتضيه المعطيات السياسية التي تصنع الإرادة الأمريكية وتحرك أذرعها..
في عام 1990م عندما قام الجيش العراقي باحتلال دولة الكويت، كانت حاملة الطائرات الأمريكية "إندبندنس" Independence (بالمصادفة) تقوم بتدريبات اعتيادية في المحيط الهندي (إلى الجنوب الشرقي من الخليج العربي)، وسرعان ما تحركت في اتجاه الخليج العربي مع مجموعتها القتالية لتصبح رأس الحربة الأول والوحيد الذي يواجه العدوان العراقي ويستطيع أن يوجه ضربات موجعة إلى ما وراء خطوط المواجهة مع الجيش العراقي.
وفي عملية عاصفة الصحراء، قامت الولايات المتحدة بحشد ست حاملات بمجموعاتها القتالية، وكان ديك تشيني وزير الدفاع في ذلك الوقت قد صرح في السادس من سبتمبر أيلول عام 1990م بقوله:
"عندما أنظر إلى القطع البحرية التي تم حشدها في المنطقة، المجموعات القتالية المؤلفة من حاملات الطائرات، أربع منها حُشدت في ذات الوقت أو بأوقات متقاربة، فضلاً عن بقية القطع البحرية الأخرى، فإنني أستطيع الجزم أنه لا توجد اليوم دولة في العالم تستطيع أن تقدم كل هذا الحشد من القوات في مثل هذا التوقيت، إن الإمكانات العسكرية التي قمنا بحشدها في الأسابيع الثلاثة الأولى من التدريبات قد فاقت الإمكانات التي قمنا بحشدها في الشهور الثلاثة الأولى من عام 1950 حين طُلِب منا التحرك إلى كوريا"
بدأت مجموعات القتال في الخليج العربي حاملة قوة تصل إلى مئة مقاتلة اعتراضية وقاذفة، ووصل عددها بنهاية الشهر الأول إلى سبعمائة مقاتلة انتقلت مع مجموعات القتال من أسطولي المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي عبر بحر العرب من جهة، وعبر قناة السويس والبحر الأحمر من جهة أخرى، وقد قامت بتقديم تغطية مناسبة لاحتشاد بقية القوات البرية والجوية وقوات الدول الحليفة في المنطقة، كما أسهمت في حماية المملكة العربية السعودية من هجوم عراقي كان متصوراً أو متوقعاً في تلك المرحلة.
هكذا تمكنت الولايات المتحدة من التوصل بمطاراتها العائمة إلى خطوط المواجهة مباشرة، واستطاعت أن تكفل احتشاداً سريعاً وفاعلاً لقواتها وقوات حلفائها، فضلاً عن إيصال ضربات جوية موجعة إلى عمق أراضي العدو أدت إلى تقرير مصير أية مواجهة برية أو جوية قبل بدئها.
حاملات.. أحجام ومواصفات
حاملات الطائرات الأمريكية اليوم تأتي في عدة طرازات "Classes" كل طراز يمثل حجماً ومواصفات معينة تتفاوت من الأصغر إلى الأكبر ويترتب عليها عدد المحركات وعمرها الافتراضي وحجم القوة الضاربة التي يمكن أن تحملها تلك الطرازات.
وكل حاملة من طراز بعينه تحمل اسماً مميزاً لها بين قطع الأسطول المختلفة، وهكذا نسمع في نشرات الأخبار أسماءً مثل حاملة الطائرات الأمريكية "إندبندنس" أو "جورج واشنطن" أو "رونالد ريجان" كلها أسماء لحاملات (قِطَع) بحرية وليست إشارة للطراز الذي تنتمي إليه تلك القطع.
ومن أبرز طرازات حاملات الطائرات التي عملت في البحرية الأمريكية:
يونايتد ستيتس CVA-58 :
دشن عام 1949م
فورستال CV-59:
دشن عام 1956م، أول طراز لحاملات الطائرات العملاقة (SupperCarriers) صمم لحمل طائرات نفاثة، شاركت في حرب فييتنام.
كيتي هوك CV-63:
دُشن عام 1961م
إنتربرايز CVN-65:
أولى الحاملات المدفوعة بالطاقة النووية (ثمانية محركات)، دشن في سبتمبر أيلول 1960م وشاركت الحاملات في حصار ومنع شحنات الأسلحة السوفييتية إلى كوبا عقب اندلاع أزمة الصواريخ الكوبية.
جون كندي CV-67:
دُشن في أكتوبر تشرين الأول 1964م، حاملة طائرات متعددة المهام تعمل حالياً كاحتياط أول للبحرية الأمريكية.
نيميتس CV-68:
أكبر الطرازات العاملة حجماً وأعظمها قدرة وسعة، NIMITZ المدفوعة نووياً تعد سلاح الردع الأول ورأس الحربة المتقدمة للقوات البحرية وصاحبة التواجد الأوسع والأكثر انتشاراً في بحار ومحيطات العالم، يمكنها حمل 85 طائرة مقاتلة، ويصل طاقم السفينة إلى 3200 عامل وفريق الدعم الجوي إلى 2480.
حاملات الطائرات الأمريكية العملاقة من طراز نيميتس يمكنها أن تبحر لسنوات دون توقف للتزود بالوقود، إلا أنها تحمل عادة من المؤن ما يكفيها لـ90 يوماً.. كما أنها تحتوي على 4 وحدات لتقطير وتنقية مياه البحر توفر لها أربعمائة ألف جالون من المياه النقية يومياً.
ويضم الأسطول الأمريكي اليوم تسع حاملات من طراز نيميتس، وتوجد واحدة قيد الإنشاء، ومما تجدر الإشارة إليه أن الأسطول الأمريكي لم يعد وحده الذي يملك حاملات طائرات، إلا أنه لا زال الوحيد الذي يحتكم على هذا العدد الكبير والقدرة الفائقة على الاحتشاد السريع، كما أن طراز في حجم نيميتس لا يتوفر لأي أسطول على وجه الأرض حتى اليوم.
ومما تجدر الإشارة إليه كذلك أن حاملات الطائرات الأمريكية، وإن بدت للمشاهد من أقوى أسلحة الردع وأدوات صنع السلام التي تعمل في خدمة القرار السياسي الأمريكي، إلا أنها ومنذ الحرب العالمية الثانية لم تخض معركة واحدة متكافئة أو شبه متكافئة أمام جيش نظامي يملك مقومات خوض معركة على أسس قتالية حديثة، وفضلاً عن هذا يقع تحت إشراف قيادة سياسية واعية، فحروب كوريا وفيتنام وعاصفة الصحراء عام 1991م ثم اجتياح العراق عام 2003م، كانت كلها حروب تخوضها الولايات المتحدة أمام جماعات مقاتلة غير نظامية أو أمام جيوش مهترئة التركيب ومشوشة القيادة فضلاً عن غياب العنصر التقني الذي يمكن أن يحدث أي قدر من التوازن يمكننا من الحكم على هذا السلاح الأمريكي حكماً منصفاً.
لم تتعرض حاملات أمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى أية عمليات تخريبية من جماعة مسلحة ولا إلى محاولة قصف من قبل جيش نظامي (بغض النظر عن إمكانية نجاح ذلك)، ولم تواجه واحدة منها إلى اليوم مشكلة في التزود بالوقود أو المؤن في حالة حربٍ، بعيدةً عن شواطئ بلادها، كما أن أحداً لا يمكنه التكهن بما يمكن أن يحدث إن تعرضت حاملة طائرات نووية الدفع إلى هجوم أدى إلى انفجار محرك أو أكثر من محركاتها.. كلها أسئلة لم تطرح بعد.. ولا يمكن الإجابة عليها إلا في إطار عمليات عسكرية تواجه فيها تلك الأسلحة العملاقة تحدياً حقيقياً.
وما من شك في أن هذه الأسلحة ومدى فاعليتها تمثل أحد أهم العوامل التي تدعم القرار الأمريكي و وتؤيد الإرادة الأمريكية في سائر مساعيها.
ظهرت فكرة إقلاع الطائرة من فوق سطح سفينة تسير في المحيط لأول مرة، في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد فترة وجيزة من إقلاع الطائرة الأولى التي صنعها الأخوان "رايت".
ففي عام 1910م وافقت البحرية الأمريكية على تجربة إقلاع طائرة من فوق البارجة الأمريكية "برمنجهام"، ونجحت التجربة..
..................................
ثلاث دول في العالم حتـّم عليها موقعها الجغرافي أن تكون مواجهاتها العسكرية أمام جميع أعدائها على الدوام مواجهات بحرية، أو محمولة عبر البحر... بريطانيا، اليابان، والولايات المتحدة الأمريكية..
انعزال جغرافي
عبر عقود التاريخ الحديث كان بحر اليابان والمحيط الهادي يمثلان عازلاً جغرافياً فريداً محيطاً بدولة تقع في مجموعة جزر في أقصى الشرق هي اليابان، وكان بحر الشمال وبحر البلطيق من جهة، والمحيط الأطلسي من جهة أخرى يؤديان نفس الدور لصالح الجزر البريطانية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية والتي نطلق عليها اسم القارة التي تقع فيها.. "أمريكا"، فقد نشأت وتعاظمت في الحجم والقوة في ظروف لم تسمح بظهور أي منافس لها في الموارد والنفوذ في إطار تلك القارة، ظهرت الولايات المتحدة وما لبثت أن تحولت إلى شبه قارة بعد أن اشترت عدة ولايات جديدة من نابليون بونابرت أثناء صراعه مع بريطانيا بموجب صفقة "لويزيانا" في عام 1803م.
ثم اشترت "ألاسكا" من الإمبراطورية الروسية في أكتوبر 1867م بسبعة ملايين دولار، لكي تتحول القارة كلها إلى دول ثلاث لا ينافس الولايات المتحدة فيها إلا كندا ذات الثلاثين مليون نسمة في الشمال، والمكسيك ذات البشرة السمراء واللسان اللاتيني في الجنوب.. وهكذا بدا العملاق الأمريكي عالي الهامة عظيم القدرة بين هاتين الدولتين وكأنه يمثل وحده القارة الأمريكية بأسرها.
نشأت الولايات المتحدة بعيدة جداً عن تعقيدات العالم القديم وصراعاته، وقوانينه كذلك.. وصار المحيطان الأطلسي والهادئ هما النافذتين اللتين تطلان على العالم الخارجي واللتين تتجه إليهما كل الأنظار حين تكون هذه الدولة بصدد أية مواجهة أو صراع مسلح.
وقوع اليابان وبريطانيا كذلك في محيط بحري جعل أنظار شعبيهما تتجه بصورة غريزية إلى شواطئ البحر، كلما شعرت بتهديد لأمن بلادها..
وحين تحولت كلّ من هذه الدول الثلاث إلى إمبراطورية ذات نفوذ يمتد إلى خارج أراضيها عبر البحار والمحيطات، تحتـّم عليها أن تجد الوسائل التي تحمل القوات والعتاد، وتنقل نيران المدافع ومنصات الصواريخ إلى حيث تقع نقاط التماس بين أمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية وبين مصالح ونفوذ القوى المنافسة على الساحة الدولية
....................................
إلى ساحات القتال
مع مطلع القرن العشرين تمكن الإنسان أخيراً من الإفلات من جاذبية الأرض، حين تمكن الأخوان "رايت" في الولايات المتحدة من الطيران بمركبة طائرة أثقل من الهواء، ومع انقضاء الربع الأول من هذا القرن كانت الطائرات قد دخلت إلى ساحات القتال لتصبح واحدة من محاور القوة والسيطرة على ميدان المعركة، كان الإيطاليون هم أول من استخدموا الطائرات في معركة حربية، وكان الألمان هم أول من أسسوا المدرسة التكتيكية الحديثة في استخدام الطيران خلال المعارك، وأول من صنعوا وقاتلوا بالمقاتلات النفاثة، واستخدموا الصواريخ..
بعد الحرب العالمية الأولى بدا محدوداً دور الطائرات المقاتلة بمدة طيرانها ومداه واللذين تحكمهما كمية الوقود المتاحة للطائرة المقاتلة فضلاً عن إمكانات محركاتها، وبالتالي فإن القواعد الجوية الثابتة باتت تضع حدوداً أمام الإمكانات الهجومية لسلاح الجو، وتقيده بالإطار الجغرافي لحدود الدولة.
بعد أن نجحت البحرية الأمريكية في تجربة إقلاع طائرة من فوق إحدى بوارجها، بدأ التفكير في تجربة الهبوط على أسطح السفن الحربية، وعبر العقدين التاليين بدأت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان في معالجة المشكلات التي تعترض عملية الإقلاع والهبوط الآمن للطائرات فوق أسطح الحاملات البحرية.
حين اندلعت الحرب العالمية الثانية كان المحيط الهادئ هو ميدان الصراع بين الإمبراطورية اليابانية والولايات المتحدة، وقد كان لليابان السبق كأول دولة قامت بتدشين واستخدام حاملات الطائرات على نطاق واسع وفعال في هجمات إستراتيجية، وكانت طائرات الميتسوبيشي (من طراز "زيروZero") هي التي قامت بالهجوم الشهير على ميناء "بيرل هاربور" في جزر هاواي حيث بلغ عددها في تلك الهجمة 350 طائرة منطلقة من ست حاملات على بعد 500 كيلومتر تقريباً من شواطئ الجزيرة، واستطاعت أذرع اليابان البحرية أن تمتد عبر ظلمات المحيط الهادئ لتطال أسطولاً كاملاً لواحدة من أعتى القوى العسكرية في العالم..
كان الهجوم ساحقاً من الناحية التكتيكية، في حين كانت تداعياته الاستراتيجية كارثيةً بالنسبة لليابان ودول المحور.
حين تمكنت اليابان من تدمير الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ لم تكن قد تمكنت من تدمير حاملات الطائرات الأمريكية، فضلاً عن قدرة الولايات المتحدة على إنتاج المزيد من الوحدات البحرية والطائرات المقاتلة والقاذفات التي دخلت الحرب فيما بعد لتضع لها نهاية مختلفة عما أرادته اليابان.
أدرك الأمريكيون بعد هذه المعركة بالذات مدى الأهمية التي يمكن أن تتسم بها تلك القواعد الجوية المحمولة بحراً وما يمكن أن تقوم به من دور محوري في حروب مصيرية وعبر مساحات شاسعة في قلب المحيطات والبحار.
حاملات الطائرات
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ومع دخول المقاتلات النفاثة إلى الخدمة العسكرية قامت الولايات المتحدة ببناء أسطول ضخم من حاملات الطائرات ليصبح لديها عدة مطارات متنقلة عبر البحار كأذرع طويلة لسلاح الجو الأمريكي تكفل له تواجداً سريعاً في مسرح العمليات ومرونة عالية في إيصال نيران وصواريخ طائراته المقاتلة إلى عمق أراضي العدو على مختلف الجبهات.
في عقد الستينيات وبالتحديد في عام 1961م قامت الولايات المتحدة ببناء أول حاملة طائرات مدفوعة بمحركات نووية "إنتربرايز" (The Enterprise)، وهو ما أحدث ثورة في صناعة الآلات الحربية، فمع بدء الاعتماد على الوقود النووي ظهرت حاملات الطائرات العملاقة في البحرية الأمريكية (Supper Carriers)، كما لم تعد حاملة الطائرات مضطرة إلى التوقف في أي بقعة في العالم للتزود بالوقود، إذ صار بمقدور حاملة الطائرات النووية أن تستمر في الإبحار مدةً تصل لـ12 سنة (اثنتي عشرة سنة) متواصلة دون توقف.
في تلك الآونة، كانت الولايات المتحدة قد أقحِمت في حرب فيتنام في الجنوب الآسيوي، ومرة أخرى كانت حاملات الطائرات هي القواعد الجوية الأمريكية التي قامت بإدارة معاركها من البحر.
حاملة الطائرات التي تشق عباب البحار في يومنا هذا، هي مدينة عائمة، سفينة يجاوز وزنها الثمانين ألف طن من الفولاذ، تحمل داخلها كل ضرورات ورفاهيات الحياة اليومية، بدءاً بمخادع النوم وانتهاءً بصالات الألعاب الرياضية والترفيهية، فضلاً عن ورش الصيانة والإصلاح الخاصة بالطائرات.. سفن الدعم اللوجستي تقوم بتزويد تلك المدينة بكل ما يلزم، من وقود للطائرات، طعام للجنود، وحتى بالمزيد من هؤلاء الجنود إن لزم الأمر، لتظل تلك الذراع ممتدة إلى أقصاها، متواجدة في كل مكان تقريباً حول العالم، قادرةً على تقديم الدعم أو شن الهجوم أو التهديد به في أية لحظة وفق ما تقتضيه المعطيات السياسية التي تصنع الإرادة الأمريكية وتحرك أذرعها..
في عام 1990م عندما قام الجيش العراقي باحتلال دولة الكويت، كانت حاملة الطائرات الأمريكية "إندبندنس" Independence (بالمصادفة) تقوم بتدريبات اعتيادية في المحيط الهندي (إلى الجنوب الشرقي من الخليج العربي)، وسرعان ما تحركت في اتجاه الخليج العربي مع مجموعتها القتالية لتصبح رأس الحربة الأول والوحيد الذي يواجه العدوان العراقي ويستطيع أن يوجه ضربات موجعة إلى ما وراء خطوط المواجهة مع الجيش العراقي.
وفي عملية عاصفة الصحراء، قامت الولايات المتحدة بحشد ست حاملات بمجموعاتها القتالية، وكان ديك تشيني وزير الدفاع في ذلك الوقت قد صرح في السادس من سبتمبر أيلول عام 1990م بقوله:
"عندما أنظر إلى القطع البحرية التي تم حشدها في المنطقة، المجموعات القتالية المؤلفة من حاملات الطائرات، أربع منها حُشدت في ذات الوقت أو بأوقات متقاربة، فضلاً عن بقية القطع البحرية الأخرى، فإنني أستطيع الجزم أنه لا توجد اليوم دولة في العالم تستطيع أن تقدم كل هذا الحشد من القوات في مثل هذا التوقيت، إن الإمكانات العسكرية التي قمنا بحشدها في الأسابيع الثلاثة الأولى من التدريبات قد فاقت الإمكانات التي قمنا بحشدها في الشهور الثلاثة الأولى من عام 1950 حين طُلِب منا التحرك إلى كوريا"
بدأت مجموعات القتال في الخليج العربي حاملة قوة تصل إلى مئة مقاتلة اعتراضية وقاذفة، ووصل عددها بنهاية الشهر الأول إلى سبعمائة مقاتلة انتقلت مع مجموعات القتال من أسطولي المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي عبر بحر العرب من جهة، وعبر قناة السويس والبحر الأحمر من جهة أخرى، وقد قامت بتقديم تغطية مناسبة لاحتشاد بقية القوات البرية والجوية وقوات الدول الحليفة في المنطقة، كما أسهمت في حماية المملكة العربية السعودية من هجوم عراقي كان متصوراً أو متوقعاً في تلك المرحلة.
هكذا تمكنت الولايات المتحدة من التوصل بمطاراتها العائمة إلى خطوط المواجهة مباشرة، واستطاعت أن تكفل احتشاداً سريعاً وفاعلاً لقواتها وقوات حلفائها، فضلاً عن إيصال ضربات جوية موجعة إلى عمق أراضي العدو أدت إلى تقرير مصير أية مواجهة برية أو جوية قبل بدئها.
حاملات.. أحجام ومواصفات
حاملات الطائرات الأمريكية اليوم تأتي في عدة طرازات "Classes" كل طراز يمثل حجماً ومواصفات معينة تتفاوت من الأصغر إلى الأكبر ويترتب عليها عدد المحركات وعمرها الافتراضي وحجم القوة الضاربة التي يمكن أن تحملها تلك الطرازات.
وكل حاملة من طراز بعينه تحمل اسماً مميزاً لها بين قطع الأسطول المختلفة، وهكذا نسمع في نشرات الأخبار أسماءً مثل حاملة الطائرات الأمريكية "إندبندنس" أو "جورج واشنطن" أو "رونالد ريجان" كلها أسماء لحاملات (قِطَع) بحرية وليست إشارة للطراز الذي تنتمي إليه تلك القطع.
ومن أبرز طرازات حاملات الطائرات التي عملت في البحرية الأمريكية:
يونايتد ستيتس CVA-58 :
دشن عام 1949م
فورستال CV-59:
دشن عام 1956م، أول طراز لحاملات الطائرات العملاقة (SupperCarriers) صمم لحمل طائرات نفاثة، شاركت في حرب فييتنام.
كيتي هوك CV-63:
دُشن عام 1961م
إنتربرايز CVN-65:
أولى الحاملات المدفوعة بالطاقة النووية (ثمانية محركات)، دشن في سبتمبر أيلول 1960م وشاركت الحاملات في حصار ومنع شحنات الأسلحة السوفييتية إلى كوبا عقب اندلاع أزمة الصواريخ الكوبية.
جون كندي CV-67:
دُشن في أكتوبر تشرين الأول 1964م، حاملة طائرات متعددة المهام تعمل حالياً كاحتياط أول للبحرية الأمريكية.
نيميتس CV-68:
أكبر الطرازات العاملة حجماً وأعظمها قدرة وسعة، NIMITZ المدفوعة نووياً تعد سلاح الردع الأول ورأس الحربة المتقدمة للقوات البحرية وصاحبة التواجد الأوسع والأكثر انتشاراً في بحار ومحيطات العالم، يمكنها حمل 85 طائرة مقاتلة، ويصل طاقم السفينة إلى 3200 عامل وفريق الدعم الجوي إلى 2480.
حاملات الطائرات الأمريكية العملاقة من طراز نيميتس يمكنها أن تبحر لسنوات دون توقف للتزود بالوقود، إلا أنها تحمل عادة من المؤن ما يكفيها لـ90 يوماً.. كما أنها تحتوي على 4 وحدات لتقطير وتنقية مياه البحر توفر لها أربعمائة ألف جالون من المياه النقية يومياً.
ويضم الأسطول الأمريكي اليوم تسع حاملات من طراز نيميتس، وتوجد واحدة قيد الإنشاء، ومما تجدر الإشارة إليه أن الأسطول الأمريكي لم يعد وحده الذي يملك حاملات طائرات، إلا أنه لا زال الوحيد الذي يحتكم على هذا العدد الكبير والقدرة الفائقة على الاحتشاد السريع، كما أن طراز في حجم نيميتس لا يتوفر لأي أسطول على وجه الأرض حتى اليوم.
ومما تجدر الإشارة إليه كذلك أن حاملات الطائرات الأمريكية، وإن بدت للمشاهد من أقوى أسلحة الردع وأدوات صنع السلام التي تعمل في خدمة القرار السياسي الأمريكي، إلا أنها ومنذ الحرب العالمية الثانية لم تخض معركة واحدة متكافئة أو شبه متكافئة أمام جيش نظامي يملك مقومات خوض معركة على أسس قتالية حديثة، وفضلاً عن هذا يقع تحت إشراف قيادة سياسية واعية، فحروب كوريا وفيتنام وعاصفة الصحراء عام 1991م ثم اجتياح العراق عام 2003م، كانت كلها حروب تخوضها الولايات المتحدة أمام جماعات مقاتلة غير نظامية أو أمام جيوش مهترئة التركيب ومشوشة القيادة فضلاً عن غياب العنصر التقني الذي يمكن أن يحدث أي قدر من التوازن يمكننا من الحكم على هذا السلاح الأمريكي حكماً منصفاً.
لم تتعرض حاملات أمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى أية عمليات تخريبية من جماعة مسلحة ولا إلى محاولة قصف من قبل جيش نظامي (بغض النظر عن إمكانية نجاح ذلك)، ولم تواجه واحدة منها إلى اليوم مشكلة في التزود بالوقود أو المؤن في حالة حربٍ، بعيدةً عن شواطئ بلادها، كما أن أحداً لا يمكنه التكهن بما يمكن أن يحدث إن تعرضت حاملة طائرات نووية الدفع إلى هجوم أدى إلى انفجار محرك أو أكثر من محركاتها.. كلها أسئلة لم تطرح بعد.. ولا يمكن الإجابة عليها إلا في إطار عمليات عسكرية تواجه فيها تلك الأسلحة العملاقة تحدياً حقيقياً.
وما من شك في أن هذه الأسلحة ومدى فاعليتها تمثل أحد أهم العوامل التي تدعم القرار الأمريكي و وتؤيد الإرادة الأمريكية في سائر مساعيها.