حديث المبادرة ... بقلم محمد حسنين هيكل

يحي الشاعر

كبير المؤرخين العسكريين
عضو مميز
إنضم
2 فبراير 2008
المشاركات
1,560
التفاعل
98 0 0
حديث المبادرة ... بقلم محمد حسنين هيكل


تكملة لمحاولة تجميع ما يمكن ، من وثائق عن الأحداث التاريخية ، لا بد من أن لا ننسي الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل ، وما دونه في كتبه


فيما يلي حديث المبادرة ... بقلم محمد حسنين هيكل




د. يحي الشاعر

حديث المبادرة: واحد من مصر
طوال الشهور الأربعة الأخيرة فرضت على نفسى نوعاً من الصمت غير الذهبى.

أعنى أنه لم يكن من ذلك النوع الذى تدعونا إليه الحكمة القائلة بأنه "إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب".

كان آخر ما كتبته قبل أربعة شهور، وكان موضوعه البحث عن إستراتيجية عربية. فقد كان يزعجنى كما يزعج غيرى بالقطع ذلك الضياع الذى تردت إليه أوضاعنا وقضايانا العربية، والذى كان مرجعه فى رأيى إلى انعدام الرؤية السليمة للمنهج والهدف فى سياساتنا.

وبينما حاولت أن أقدم تصوراً لما يمكن عمله تحت عنوان "بدلاً من الظلام شمعة"، فقد وجدتنى فى نفس الوقت أحذر من أننا فى غيبة التصميم على وشك تسليم أقدارنا للمصادفات تلعب بها كما تشاء الأهواء - ما لم نسارع بحزم إلى تدارك خطانا وتصحيح مسارنا..

كان ذلك آخر ما كتبته قبل أربعة شهور، وبعدها ذهبت إلى رحلة أوروبية قادتنى فى البداية إلى أثينا للمشاركة فى ندوة دولية عن مستقبل الديمقراطية، ثم إلى فلورنسا أحاول أن أتابع القلق الإيطالى العنيف فى الشمال الذى أوشك أن يتحول إلى ساحة حرب أهلية، ثم إلى زيورخ أتقصى مصير ومآل أموال البترول العربى، وأخيراً إلى لندن التى مازالت فى نظرى أنسب مركز لمتابعة الاتجاهات الغربية خصوصاً فيما يتعلق بأمور الشرق الأوسط.

كانت رحـلة عمل طويلة قصدت فيها إلى آفاق أستطيع عليها أن أرى أوسع، وأن أفهم أدق، وأن أجلو فكرى عن طريق الاحتكاك مرة أخرى بأفكار وتيارات ومجتمعات فوارة بالحرية والحركة.

وعدت إلى القاهرة بعد غياب سبعة أسابيع وفى تقديرى أن أستأنف الكتابة، بحثت عن مشكلة الديمقراطية فى العالم الثالث وهو الموضوع الذى كان من نصيبى أن أعرضه تفصيلاً فى ندوة أثينا الدولية عن مستقبل الديمقراطية، ثم أتبعه بأحاديث أخرى عن موازين القوى المتغيرة فى جنوب أوروبا متخذاً ما يجرى فى إيطاليا اليوم نموذجاً حياً، وعملياً له، وعن مصير ومآل أموال البترول العربى، وأخيراً عن "آخر تطورات أزمة الشرق الأوسط" على ضوء مناقشات واتصالات ومعلومات توفرت لى فى العاصمة البريطانية.

كان ذلك تقديرى!

لكنى لم أكد أبدأ محاولة الكتابة حتى انفجر اقتراح الرئيس السادات باستعداده للذهاب إلى الكنيست الإسرائيلى، ثم تطورت الحوادث بسرعة مذهلة، وإذا أبعد الأشياء عن الظن هو أقربها إلى الوقوع على حد تعبير الكاتب الفرنسى الأشهر "أندرييه موروا"!

وتلاشى اهتمامى بمشكلة الديمقراطية فى العالم الثالث، وتلاشى اهتمامى بغيرها من المشاكل، وبدت لى هذه المشاكل كلها وكأنها مجرد بقايا مترسبة على طبقة جيولوجية من التكوين السحيق لطبقات الأرض..

وتوقفت عن الكتابة أو محاولتها، ورحت بكل حواسى أتابع المسرح الجديد الذى تركزت عليه كل الأضواء، وازدحمت فوقه كل الألوان، وتدافعت حوله كل الأصوات وأصبح فى طرفة عين استعراضاً لم يسبق له مثيل، ويحار مشاهدوه فى نسبته للمجال الذى ينتمى إليه: وهل هو مجال السياسة، أو هو مجال الفن؟

ينبغى أن أقول ومنذ لحظة مبكرة من هذا الحديث أننى لم أكن من المتحمسين لهذا الاستعراض الذى بدا لى غريباً ممعناً فى غرابته، وحاولت أن أكون منصفاً فاتهمت نفسى بأننا قد نكون أمام شىء جديد قصرت مداركنا عن استيعاب حكمته، خصوصاً إذا كنا من مدرسة فى السياسة ترى أن الصراعات بين الأمم والشعوب تناقضات حقيقية فى أسباب المصالح وفى ضرورات الأمن، ثم إن حل هذه التناقضات لا يكون بالقفز فوقها، ولكن بمواجهة دواعيها وعللها وأن ذلك يتحقق بترتيب موازين القوة الذاتية وبحشد التوازنات الإقليمية والدولية المساعدة، ولا يتحقق بحشد أكبر عدد من ميكرفونات الإذاعة وعدسات التليفزيون!

وقلت إننى اتهمت نفسى، ومن هذا السبب وأسباب أخرى غيره، فقد رحت أغالب مشاعرى وأرد فهمى لطبائع الأشياء أن يدفعنى إلى المسارعة بإنكار ما لا أفهم، مقدراً أن الحقيقة فى كل الأحوال أكبر من كل ما نراه منها..

لكن الإنسان - أى إنسان - لا يستطيع أن ينكر نفسه ولا أن يهدر تجربته، وإذا لم يكن صادقاً مع الاثنين فإنه لا يمكن أن يصدق مع غيرهما..

هكذا كنت أريد أن أتكلم، وفى نفس الوقت كنت أريد أن أنتظر.

وتوصلت أخيراً إلى حل وسط هو أن أتكلم وفى نفس الوقت لا أكتب.

أى أبدى تحفظاتى على ما يجرى بالكلمة المنطوقة، وفى نفس الوقت أنتظر على الكلمة المكتوبة حتى تنكشف الصورة وتنجلى مساحات الضوء والظل على رقعتها، ومنذ بدأ هذا الذى اصطلحنا على تسميته - مبادرة السلام - فإنى تكلمت ولكنى هذه اللحظة فقط أكتب..

وأعود إلى بعض ما قلته وقتها كمجرد تمهيد لما أكتبه الآن، وذلك لكى يكون السجل واضحاً وتتابع المواقف فى ترتيبه الصحيح..

تكلمت لأول مرة يوم الاثنين 14 نوفمبر، وكان ذلك بعد خمسة أيام بالضبط من إعلان المبادرة وكان كلامى أمام عدسات التليفزيون لمحطة "أى. بى. سى" وهى أكبر محطات التليفزيون الأمريكية، وكان حديثى مع مندوبها فى الشرق الأوسط "جون سنايدر".

وأستأذن فى أن أنقل الحوار عن نص منقول من التسجيل الأصلى بعثت به إلى - فيما بعد بناءً على طلبى - محطة "أى. بى. سى" وكانت قد أذاعته كاملاً على كل شبكاتها فى الولايات المتحدة مساء يوم الثلاثاء 15 نوفمبر منقولاً بالقمر الصناعى من القاهرة.

بدأ جون سنايدر بسؤالى:

ما هو رأى الشعب المصرى فيما يجرى الآن؟

وقلت:

- إننى بالطبع لا أعرف رأى الشعب المصرى ولا أعطى نفسى حق الحديث نيابة عنه، وكل ما أستطيع أن أبديه هو رأيى الشخصى فقط...

وعدل "جون سنايدر" صيغة سؤاله واتصل الحوار على النحو التالى بالنص:

سؤال: إذن ما هو رأيك أنت؟

جواب: أعترف أننى لا أفهم هذا الذى يجرى الآن، وكل ما أرجوه أن يكون صادراً عن مخطط واضح ومدروس يستهدف استعادة السلام القائم على العدل، وإذا كان الأمر كذلك فإنى أرجو له النجاح، ومع ذلك فلابد أن أعترف أننى لا أستطيع أن أرى كيف يمكن لهذا النجاح أن يتحقق؟!

دعنى أعترف أيضاً أننى شعرت بالقلق عندما سمعت الرئيس السادات يقول إنه لم يستشر فى مبادرته أحداً، وأن جميع مستشاريه لم يعرفوا بها إلا عندما قام بإعلانها..

كنت أفضل أن تكون الأمور على غير هذا النحو، إن عملية صنع السلام عملية هامة، وجادة، وخطيرة... وبأمانة فإننى كنت أفضل أن تجرى عملية صنع السلام فى جنيف.

إن السلام لا تصنعه إرادة رجل واحد مهما كانت الثقة فيه.. ثم إن صنع السلام يحتاج إلى اقتناع كل الناس وبالدرجة الأولى اقتناع كل الدول العربية، فالقضية هى قضية الأمة العربية كلها.

لهذا فإننى كما قلت لك لا أفهم ما يجرى ولا أستطيع أن أتحمس له..

سؤال: هل تخشى من ردود فعل عكسية... أو خطيرة...؟

جـواب: الحقيقة إننى لا أعرف ماذا يمكن أن يحدث، ولكن الذى يشغلنى هو ما حدث فعلاً. إننى حتى الآن لا أعرف ما هو الدافع إلى هذه الزيارة المقترحة للقدس..


هذا الصباح كان عندى هنا فى مكتبى عدد من السفراء العرب، وبالطبع فإننا كنا نتحدث عن آخر التطورات، وكانت هذه النقطة بالذات مثار مناقشاتنا..

أحدهم قال لنا إنه فهم من بعض المصادر القريبة من صنع القرار أن سبب هذه الزيارة هو أن الرئيس السـادات بلغته معلومات عن نوايا هجوم إسرائيلى فأراد استباق الهجوم وإجهاضه بزيارة القدس.

والحقيقة إن ذلك لم يكن مقنعاً لى، لقد كانت هناك تقارير فى الصحافة العالمية أخيراً عن الاستعداد العسكرى الإسرائيلى، وكان أبرز هذه التقارير تقريراً كتبه جيم هوجلاند فى صحيفة الواشنطن بوست - ولكن جيم هوجلاند لم يكن يتحدث عن نوايا إسرائيل القريبة، وإنما كان يتحدث عن مستقبل بعيد..

وإذا ناقشنا نظرية استباق هجوم إسرائيلى وشيك، فإنى أرى أن هذه النظرية لا تثبت لأى مناقشة جادة

لماذا؟

سياسياً: لأنه لابد لأى طرف يذكر فى هجوم أو يقوم به أن يعطى نفسه أرضية سياسية، ومثل ذلك غير متاح لإسرائيل فى الوقت الراهن على الأقل، فقد كان الحديث فى المنطقة كلها وفى العواصم المهتمة بالأزمة وواشنطن بينها بالذات عن مؤتمر جنيف والترتيب له، ومن الذى يحضره، وإجراءات الحضور إلى آخره، وليست هذه أرضية يستغلها أى طرف ويبدأ بهجوم عسكرى، وإلا عرض نفسه للوقوف ضد الدنيا كلها..

وعملياً: فأنا لا أعرف لماذا تقوم إسرائيل الآن بهجوم مباغت على الجبهة المصرية وهى جبهة فى الوقت الحاضر هادئة خالية من أى نوع من أنواع التوتر الساخن.

وفضلاً عن ذلك فكيف يمكن أن يحدث هجوم مباغت وبين الجيشين المصرى والإسرائيلى على الجبهة المصرية مناطق عازلة، ومراكز رقابة يعمل فيها خبراء أمريكيون وذلك إلى جانب منطقة الفصل بين القوات التى تحتلها كتائب الأمم المتحدة.

إن الترتيبات الموضوعة لتنفيذ اتفاقية سيناء الثانية تفرض على كل طرف من الطرفين، حتى فى حالة تحريك قواته لإجراء مناورة مهما كانت صغيرة، أن يبلغ الجنرال سيلاسفو كبير مراقبى الأمم المتحدة، وهو يبلغه ليس فقط بموعد المناورة ولكن بنوعية القوات المشتركة فيها، وحجمها، واتجاهات حركتها، ومن جانبه فإن الجنرال سيلاسفو ينقل هذه المعلومات إلى الطرف الآخر.

فمن أين تأتى المباغتة واحتمال الهجوم الوشيك؟ ومع ذلك فلنفرض أن هذا الاحتمال كان وارداً فهل يتحقق استباقه وإجهاضه بالذهاب إلى القدس المحتلة؟

أتصور أى شىء إلا الذهاب إلى القدس.

أتصور مثلاً أن يذهب الرئيس السادات بمفرده إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ويقوم من فوق منبرها بفضح المخطط الإسرائيلى أمام العالم كله.. وربما خرج من الأمم المتحدة فى نيويورك يقصد إلى البيت الأبيض فى واشنطن ليقابل الرئيس كارتر ويضع الولايات المتحدة أمام مسئولياتها.

ذلك أو غيره يجوز تصوره..

سؤال: ربما كان السبب هو الضغوط الاقتصادية؟

جواب: لا أظن ذلك أيضاً... لو كان ذلك هو الدافع لكان الأولى بالزيارة أن تكون إلى الرياض مثلاً، أو إلى الكويت..

دعنى أعود إلى ما كنت أتحدث فيه عن اللقاء الذى كان هنا فى مكتبى، واشترك فيه بعض السفراء العرب.

أحدهم كان رأيه أنه ربما أراد الرئيس السادات أن يساعد الرئيس كارتر ضد جماعات الضغط الصهيونى.

وكان رأيى: ربما، ولكن ذلك باهظ التكاليف بالنسبة له بالطبع إلا إذا كانت لديه ضمانات مسبقة بإتمام الانسحاب وقيام الدولة الفلسطينية، ففى مثل هذه الحالة يختلف الأمر، ومع ذلك فقد كان الأفضل أن يتم لقاء مباشر - إذا كان ذلك ضرورياً فى جنيف..

سؤال: إذن ما هو الدافع؟

جواب: الحقيقة إننى لا أعرف... هناك دوافع بالتأكيد جعلت هذا التغير فى المواقف ممكناً..

عندما كان الرئيس السادات فى الولايات المتحدة فى الربيع الماضى تحدثوا معه عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وكان رده أن ذلك شىء لن نراه فى جيلنا وربما تحقق فى أجيال لاحقة، وكان فى ذلك على حق.

كان أقصى ما أبدى الاستعداد له هو إنهاء حالة الحرب فى مقابل الانسحاب وقيام الدولة الفلسطينية، وذلك فيما أظن كان منطقياً..

كذلك تحدثوا مع الرئيس السادات فى الربيع الماضى عندما كان فى أمريكا عن المفاوضات المباشرة، وكان رأيه أنه لا يرى إمكانية لذلك طالما الأرض محتلة وكان فى ذلك على حق. كيف تغيرت المواقف؟ ولماذا؟ لا أعرف.

هناك شىء ما حدث، وأنا أعترف بجهلى به، ولكن جهلى به لا ينفى حدوثه.

سؤال: هل تتوقع مقاومة من الشعب المصرى ضد الزيارة المرتقبة؟

جواب: إننى كما قلت لا أستطيع أن أتحدث عن الشعب المصرى، ثم إنه لم يمض وقت كاف على المبادرة بحيث يمكن إجراء رصد دقيق لاتجاهات الشعب.

ولكنى عندما أتحدث عن نفسى فإنى أتحدث فى الواقع عن مواطن مصرى، وبطبيعة الحال يمكن أن ما أشعر به قريب على نحو أو آخر مما يشعر به الآخرون من أفراد الشعب.

وأكثر ما أحس به أنا شخصياً هو الشعور بالحيرة.

إننى عندما أعلنت المبادرة لم آخذ موضوعها جداً فى البداية، وتصورت المسألة كلها زلة لسان، وكانت هناك بعض الشواهد المشجعة على هذا الظن، لكن التطورات سارت فى اتجاه آخر، فقد التقطت إسرائيل الخيط ووجهت دعوة، وتوالت الخطى المتبادلة.

واكتسبت القصة كلها قوة فعل ذاتية بدا صعباً إيقافها.. إننى أمس فقط بدأت أعتقد أن هذه الزيارة سوف تحـدث، وأنا فى حيرة بالنسبة للدافع إليها، ثم إننى متخوف بالنسبة لما يمكن أن تسفر عنه.

لأكثر من ثلاثين سنة كان الصراع العربى الإسرائيلى هو الصراع الرئيسى فى حياتنا، ودعنى أقول لك أنه بالقياس إليه فإن صراعكم مع الشيوعية لا يزال مجرداً فيما يتعلق بكم.

إن صراعنا مع إسرائيل ليس مجرداً، وإنما هو خطر واقع.

إن أحداً لم يمس وحدة أراضيكم... ولا شرد ملايين من أمتكم... ولا خاض ضدكم خمسة حروب متوالية بهدف السيطرة والتوسع.

إننا حتى فيما يتعلق بمصر وحدها لم نستعد بحرب أكتوبر وباتفاقيات سيناء الأولى والثانية إلا ما مساحته سبع أراضى سيناء، ومعنى ذلك أن ستة أسباع سيناء مازالت تحت الاحتلال، هذا بالطبع غير هضبة الجولان السورية ثم الأراضى المحتلة من فلسطين وفى مقدمتها القدس.

دعنى أقول إننى لم أفهم أيضاً سر الذهاب إلى القدس. منذ أيام كما تذكر كان - بلومنتال وزير المالية الأمريكية يزور إسرائيل وأراد تيدى كوليك عمدة القدس أن يصحبه فى زيارة للقدس الشرقية، ولكن بلومنتال - وهو يهودى أمريكى - رفض دعوة تيدى كوليك - لأن حكومة الولايات المتحدة لا تعترف بالسيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية وتسبب ذلك فى أزمة.

كل هذه أشياء لا أفهمها، وأتصور قياساً على شعورى أن هناك غيرى لا يفهمونها.

سؤال: هل أنت متفائل بنتائج هذه الرحلة، أو أنت متشائم؟

جواب: الموضوع ليس موضوع تفاؤل، أو تشاؤم وإنما الموضوع حساب تقديرات... وفى تقديرى أن المواقف الأساسية لم تتغير، على الأقل بتغير الموقف الإسرائيلى، وأمس فقط قرأت رد مناحيم بيجن رئيس وزراء إسرائيل فى الترحيب باقتراح زيارة الرئيس السادات.. إن بيجن حتى وهو يرحب بالزيارة حدد شروطه الأساسية وركز على نقطتين:

الأولى: إن إسرائيل، لن تقبل بمبدأ الانسحاب إلى خطوط ما قبل يونيو سنة 1967.

والثانى: إن إسرائيل لن تسمح بقيام دولة فلسطينية..

وإذن فهو قد بادر إلى تحديد إطار المحادثات المقبلة، وأنا لا أعتبر هذا الإطار مقبولاً، إننى أريد بأمانة أن أكون متفائلاً ولكنى لسوء الحظ لا أجد أساساً مهما كان واهياً أبنى عليه تفاؤلى.

إننى أرى من حولى ما يشبه مهرجان الفرح، ومن العيب أن يتحدث الإنسان بالشؤم فى ليلة الزفاف، ولكنى مع الأسف لا أعتبرها ليلة الزفاف...

وكانت تلك أول مرة أبديت فيها رأيى بالكلمة المنطوقة، وكان ذلك كما قلت يوم الاثنين 14 نوفمبر أى بعد خمسة أيام من إعلان المبادرة.


وفى يوم الخميس 17 نوفمبر، وجدت نفسى أمام عدسات تليفزيون هيئة الإذاعة البريطانية أرد على أسئلة يوجهها إلـى - جوناثان ديمبلباى - وهو من ألمع نجوم الجيل الجديد فى القناة الثانية من التليفزيون البريطانى.

وقد أذيع حوارنا مساء يوم 24 نوفمبر فى برنامج "هذا الأسبوع" تحت عنوان "قرارات صعبة وجذرية"، ومرة أخرى أنقل عن النص المكتوب للحوار كما بعثه إلى جوناثان ديمبلباى نقلاً حرفياً عن التسجيل..

سؤال: ما هو رأيك فى النتائج التى يمكن أن تسفر عنها الزيارة القادمة التى يزمع الرئيس السادات أن يقوم بها إلى القدس..؟

جواب: لابد أن أقول لك بكل موضوعية إننى حتى الآن مازلت مذهولاً لهذه الزيارة.. إنها فى رأيى تجىء على عكس كل شىء من أسس سياساتنا قبلها حتى فى عهد الرئيس السادات نفسه.

كيف يمكن عبور الخطوط إلى الناحية الأخرى؟ ذلك أمر يفوق قدرتى على التصور.

هناك حالة حرب مازالت قائمة... وهناك أجزاء من وطننا محتلة... وهناك أجزاء من عالمنا العربى محتلة. والخصم الذى نعبر الخطوط إليه يقول لنا صراحةً أنه لن يقبل تحت أى ظرف من الظروف أن ينسحب إلى ما وراء خطوط سنة 1967، ولن يقبل تحت أى ظرف من الظروف بقيام دولة فلسطينية.

إننى لا أعرف للرحلة المنتظرة سابقة أخرى فى التاريخ.

ومن سوء الحظ أننى قرأت فى إحدى الصحف المصرية استشهاداً تاريخياً برحلات السلام التى يمكن مقارنتها برحلة القدس.. ومبعث سوء الحظ أن الباحثين فى التاريخ من كتاب الصحف المصرية لم يجدوا ما يقارنون به هذه الرحلة إلا سابقتين عليها هما رحلة "نيفل تشمبرلين" رئيس وزراء بريطانيا إلى ميونيخ لمقابلة "هتلر" سنة 1938، ثم طيران "رودلف هيس" نائب هتلر إلى أسكتلندا فى سنة 1941 لمقابلة "تشرشل"..

وأظن أن المقارنة مزعجة، والحقيقة أننى أعتبرها ظلماً للرئيس السادات..

سؤال: غير معقول... هل قالوا ذلك فعلاً... هل أجروا هذه المقارنة..؟

جواب: إن الصحيفة التى نشرت هذا الكلام على مكتبى فى الغرفة المجاورة وتستطيع أن تأخذها إذا أردت..

سؤال: إذن لماذا هذه الرحلة؟

جواب: أنا شخصياً لا أعرف... ولكنى أدعو الله أن يكون هناك من يعرف أكثر منى وإلا فنحن فى مشكلة خطيرة.. لابد أن يكون ما يعرفه الآخرون خطيراً وحاسماً... لابد أن تكون لديهم أسباب من الثقة تجعلهم مطمئنين إلى نتائج مثل هذه المغامرة الخطيرة.. أما أنا فأعترف بجهلى ولا أخجل من ذلك..

سؤال: هل تتصور أن رد الفعل فى العالم العربى خارج مصر - وهو حتى الآن مصاب بالدهشة والذهول - سوف يفيق مما أصابه ويغير موقفه، خصوصاً سوريا..؟

جواب: أخشى أن الأمر سيكون عكس ذلك.. إن الدهشة والذهول سوف يزولان، ولكنى أعتقد أنه سيحل محلها شعور عميق بالمرارة... إننى سمعت رأياً يقول أن بعض رد الفعل الذى نسمعه الآن من العالم العربى خارج مصر سبق لنا سماعه بعد اتفاقية سيناء الثانية، ومن ثم فليس فى الأمر جديد..

أخشى أن أقول أن المقارنة ليست دقيقة. أنا الآن أمام شىء جديد تماماً...

إن اتفاقية سيناء الثانية كانت على نحو، أو آخر استمراراً للمنطق الذى عقدت به اتفاقية سيناء الأولى..

أما الآن فنحن أمام منطق مختلف تماماً..

سؤال: هل تظن أن هناك فرصة كما أوحى الرئيس السادات بأن ذلك سوف يفتح الطريق أمام مؤتمر جنيف..؟

جواب: إننى لا أدرى كيف يمكن أن يحدث ذلك.. لقد كنا نريد أن نذهب إلى جنيف كوفد عربى موحد، وكان هذا ضرورياً لأسباب عديدة.. والآن فإننى لا أتصور أن إمكانية تشكيل وفد عربى موحد لا تزال قائمة.. إن عقلى لا يستطيع أن يتصور مثل ذلك الاحتمال..

سؤال: إذن فأنت ترى استحالة عقد مؤتمر جنيف..؟

جواب: هذا صحيح.. وأظننا نحتاج الآن إلى جنيف عربية قبل حاجتنا إلى جنيف مع الإسرائيليين..

ورأيت أن أمتنع حتى عن الكلمة المنطوقة مع قرب إتمام الزيارة، بل إننى غادرت القاهرة إلى الإسكندرية لأبتعد عن مركز الحوادث منتهزاً فرصة إجازة العيد، لكن ما يجرى كان له تأثير المغناطيس فى قوة جذبة مهما حاولت الابتعاد، وهكذا وجدتنى على شاطئ البحر فى الإسكندرية وأمامى طوال الوقت جهاز راديو أنتقل بمؤشره بين إذاعات العالم".

وأعترف على استحياء أننى لم أتمالك نفسى ذات مرة حين سمعت إذاعة القاهرة تتحدث عن ترتيبات وصول الرئيس السادات إلى القدس مساء يوم 19 نوفمبر، وتقول أول ما تقول أن سرباً من مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلى سوف يخرج للقاء طائرة الرئيس السادات.

لم أتمالك نفسى ولا أعرف لماذا لحظتها، فإذا أنا أغطى عينى بكفى وأجهش فى بكاءٍ لم أعرفه منذ تلك اللحظة الرهيبة التى وقفت فيها بجوار فراش جمال عبد الناصر وهو يجود بالنفس الأخير، ولم أستطع ضبط مشاعرى إلا عندما أحسست بيد تمس كتفى فى رفق والتفت لأجد طفلى الصغير يرقبنى بعينين تملؤها الدموع والدهشة شاعراً أن شيئاً أخيراً ألم بى، ولكن مداركه لا تسعفه بتفسير لهذا الذى لم يعهده فى من قبل..

وواصلت متابعة الأحداث كما فعل الملايين غيرى فى العالم العربى وخارجه، ولكنى أسلمت نفسى لصمت حزين أطبق على أياماً طويلة حتى بعد أن عدت إلى القاهرة، وانقضى ذلك المهرجان الغريب وانفض سامره، وإن بقيت أصداؤه من الآفاق.

ومرة أخرى ظللت أمسك نفسى عن الكتابة أنتظر النتائج.

ومرة أخرى لجأت إلى الكلمة المنطوقة، لأن الصمت الكامل كان مستحيلاً مهما كانت النتائج.

وأدليت بحديث إلى مجلة "الإكسبريس" الفرنسية، ثم بحديث إلى جريدة - الموند - الفرنسية أيضاً..

ثم بعث إلى "ويليام ريس موج" رئيس تحرير جريدة التايمز البريطانية يقترح على أن أدلى بحديث بوجهة نظرى إلى التايمز؛ لأن العالم كله لا يستطيع أن يسمع وجهة النظر الثانية من مصر. وكان "ويليام ريس موج" رقيقاً فى طلبه، فقد قال لى - إنه يقدر الظروف ولا يريد إحراجى.

ولكنه يعتقد أن الوقت مناسب لسماع كل وجهات النظر خصوصاً من مصر. ووافقت، وبتكليف منه جاءنى "إدوار مورتيمر" مراسل التايمز فى الشرق الأوسط ليقوم بإجراء الحديث معى.

واهتمت التايمز بما قلت، فأبرزت حديثى فى موضوعها الرئيسى فى صدر صفحتها الأولى على ثلاثة أعمدة ثم استكملته فى الصفحة الرابعة، وكان عنوان صفحتها الأولى:

- هيكل يحذر من مخاطر اتفاق بغير قبول عربى...

- تحذير من سلام مصنوع من ورق الكرتون...


قلت ونشرت "التايمز" يوم الثلاثاء 20 ديسمبر ما يلى:

- إننى لست ضد تسوية سلمية لأزمة الشرق الأوسط..

وربما كنت أخفف من معارضتى لزيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل لو أنها اقتصرت على مجرد كونها تحدياً للسلام تواجه به إسرائيل من الداخل.

إن الزيارة تحولت إلى شىء آخر.. تحولت إلى زيارة رسمية.. ثم اكتسبت الزيارة ديناميكية تطبيع العلاقات.. ثم جاء مؤتمر القاهرة - مينا هاوس - ليعزز هذه العملية.. ثم تجىء زيارة بيجن للإسماعيلية وتعززها أكثر وأكثر.

وفى ذلك الوقت فإن مصر فى حالة قطيعة كاملة مع الدول العربية التى تعارض المبادرة، وهى فى نفس الوقت على غير اتصال مثمر مع جبهة الدول المساندة التى تقدم لها الدعم.

حتى لو قبلت منطق الزيارة، فإننى لا أعرف لماذا لم نقل للعالم العربى بما ننوى أن نفعله متحملين مسئوليته من أجل السلام واعدين بعرض النتائج عليه فور إتمام الزيارة.

لم نفعل ذلك.. وبدلاً منه رحنا ندافع عن أنفسنا وتركنا الأمور تتصاعد ثم رحنا نهاجم فى كل الجبهات... العرب والاتحاد السوفيتى.

إننى أسلم أن المبادرة قبلت فى مصر ومن جانب شعبها بحماسة، ولكن ذلك فى ظنى حدث لأسباب أخرى لا علاقة لها بموضوعها، ومن هذه الأسباب الضيق بالحروب وتكاليفها.

ثم جاء تأثير التليفزيون وغيره من وسائل الإعلام التى شدت الشعب المصرى إلى متابعة مبهورة بما يجرى، والنتيجة أن الشعب المصرى أحس أنه شارك فيما جرى، وكان من أثر هذا الإحساس أنه جرف أية تحفظات عليه. ولكن صنع السلام أخطر من كل المؤتمرات التى يمكن أن يصنعها استعراض تليفزيونى ضخم..

إلى جانب ذلك فقد كان هناك الاعتقاد بأن السلام - لا أعرف أى سلام - سوف يؤدى إلى حل جميع مشاكل مصر الاقتصادية.. كان هناك أيضاً إحساس المصريين، بأن غيرهم من العرب ازدادوا غنى فى حين أنهم ازدادوا فقراً.

إن أحداً لا يعارض فى السلام، ولكن السلام يحتاج إلى دعائم قوية يقوم عليها.. بل إننى حتى وبرغم كل ما يقال لا أعتقد أن الاتحاد السوفيتى يعترض على السلام.. إن الاتحاد السوفيتى يحبذ - وكان طول الوقت يحبذ - الوصول إلى تسوية سلمية، وبالنسبة لهم فقد كان ذلك يجنبهم مخاطر صدام محتمل مع الولايات المتحدة.

كذلك فإنهم يريدون أن يوفروا على أنفسهم أعباء إمداد العرب بالأسلحة، ثم إنى أظنهم يتصورون أن جو السلام قد يواتيهم بما يتفق مع خططهم، فهم يتصورون أن انتهاء النزاع مع إسرائيل سوف يفتح الباب أمام ضرورات التغيير الاجتماعى فى العالم العربى..

إن سوء العلاقات بيننا وبين الاتحاد السوفيتى لا يقع علينا وحدنا ولكن الاتحاد السوفيتى نفسه له نصيب فيه، فقد تصرفوا فى كثير من الأحيان بطريقة غليظة، وأظنهم يستحقون بعض ما يجرى لهم الآن، ولكنى لا أعتقد أنهم يستحقونه كله.

كان يجب أن ننسق سياستنا مع الآخرين ولكننا لم نفعل.

وانتقدنا الآخرون فى العالم العربى وانفعلنا.

والآن فإن هناك موقفاً مؤسفاً فى العالم العربى.

هناك فوق مصر ضباب يحجب الرؤية السليمة ويحجب التقييم الصحيح لما قمنا به بسلبياته وإيجابياته، وهناك فى بقية العالم العربى نوع آخر من الضباب... ضباب العصبية التى لا ترى أى شىء إيجابى فيما قمنا به..

إننى لا أوافق على هذه الحملة المعادية للعرب التى نقوم بها الآن... إننا نريد أن نكسب معركة تاكتيكية فى داخل مصر من أجل الحصول على قبول الشعب المصرى لما حدث، ولكننا فى هذا السبيل ندمر بأيدينا عناصر إستراتيجية لقوتنا فى المنطقة كلها.

وليس يهمنى أن يقال بأننا هدمنا حاجزاً نفسياً كان يقوم بيننا وبين إسرائيل إذا كنا قد أقمنا بدلاً منه حاجزاً نفسياً بيننا وبين أمتنا العربية.

إن ذلك قد يمهد لعزلة مصر عن العالم العربى، وهذا أمر خطير بالنسبة للأمة كلها، من أنه سوف يفرض علينا - حتى لو لم نكن نريد ذلك أو نقصده - أن نجد أنفسنا أمام مخرج واحد، وهو عقد اتفاق منفرد مع إسرائيل، وذلك ما تريده إسرائيل.

وحتى لو اضطر بعض العرب إلى السكوت عما نقول به، فإن سكوتهم سوف يكون عناءً شديداً وسوف نفقد عنصر الرضا الاختيارى، وذلك ليس من السلام.. إن سلاماً على هذا النحو سوف يكون بناءً من ورق الكرتون، وسوف يقود إلى الكثير من المتاعب والمخاطر، لأن السلام لا تصنعه الهستيريا من جانب، أو لوى الأذرع من جانب آخر.

هكذا كنت كمن يحاول السير على الصراط المستقيم.

أريد أن أعطى نفسى الوقت اللازم لأفكر، وأقدر بالتزام، وموضوعية... وهكذا امتنعت عن الكلمة المكتوبة لمدة أربعة شهور.

وفى نفس الوقت فلقد كان الصمت مستحيلاً لأن الحقائق واضحة وضوح الشمس... وهكذا اعتمدت على الكلمة المنطوقة أعبر بها عن آرائى بينما التطورات تجرى، وتتلاحق وتهدر كأنها موجات فى أعقاب موجات..

وحين هاجمتنى إحدى صحف القاهرة واستشهدت بفقرات من بعض ما قلت لجريدة الإكسبريس الفرنسية ووضعته فى صفحتها الأولى تحت عنوان:

- واحد ضد مصر - فإنى لم أغضب، ذلك لأننى فى كل ما قلت لم أكن أشعر بأننى واحد ضد مصر، وإنما كنت طول الوقت أشعر أننى "واحد من مصر".
 
حديث المبادرة: اللغز الملفوف بالأسرار والمحاط بالغموض
لم يكن السفر إلى إسرائيل شـهاباً برز من المجهول فجأة، وتوهج فى الظلام على غير انتظار، فلا شىء فى التاريخ يحدث على هذا النحو، لأن التاريخ سياق متصل، وإذا ظهرت أمامنا فى سياقه فجوات؛ فهذه الفجوات فى الحقيقة حلقات ناقصة فى علمنا بما جرى ويجرى!

وهكذا فإننا حين نتحدث عن المفاجئ وغير المنتظر إنما نتحدث فى الواقع عما خفى علينا أمره أو فاتنا فى أوانه رصد مقدماته وتعقب مداخله.

وربما كان علينا أن نفرق بين مقدمات أى حدث وبين مداخله، مع العلم بأن العلاقة متصلة بينهما فأحدهما يفضى إلى الآخر ويقود إليه.

وقد نقول فى محاولة للتعريف بسرعة: إن المقدمات هى مجموعة العوامل التاريخية البعيدة والقريبة التى يمكن أن تؤدى إلى طريق معين، وأما المداخل فهى مجموعة الخطوات العملية التى تؤدى إلى عنوان محدد على هذا الطريق بالذات!

وفى قصة السفر إلى القدس فإن المقدمات طويلة ومعقدة، وهى تبدأ بالظروف التى برز فيها انتماء مصر العربى فى الأربعينات والخمسينات ثم تتصل بعد ذلك بالرؤية المصرية الشائعة للصراع العربى الإسرائيلى فى الستينات والسبعينات، ثم ترتبط بالطريقة التى مورست بها إدارة هذا الصراع خصوصاً بعد حرب أكتوبر العظيمة سنة 1973، وأخيراً ترتبط بمجمل الخيارات الاجتماعية والسياسية والعربية والدولية مما أخذ به وتبناه صناع القرار المصرى فى السنوات الأربعة الأخيرة على وجه التحديد - وهذه كلها موضوعات كبيرة الأهمية عظيمة الخطر ولابد لها من تحليل مفصل أعد أن ألتفت إليه فى مكان لاحق من هذه الأحاديث، ذلك لأننى أريد الآن أن أتوقف عند المداخل فى قصة السفر إلى القدس، لأن هذه المداخل أقرب وألصق بهذه اللحظة التى نحن فيها، ومن ثم فإن تأثيرها مباشر وقوى على اللحظة التالية.

إن الخطوات العملية التى قادت إلى عنوان الكنيست الإسرائيلى فى القدس المحتلة يكاد يصدق عليها تعبير ونستون تشرشل فى وصفه الشهير للاتحاد السوفيتى حينما قال: إنه لغز ملفوف بالأسرار ومحاط بالغموض!

لكن الخطوات العملية التى قادت إلى عنوان الكنيست الإسرائيلى فى القدس المحتلة منعطف مهم، وبالتالى فإن تعقب الخطى على المنعطف الذى سارت عليه الوقائع يصبح أمراً ضرورياً، حتى وإن أصبح هذا الجهد من نوع ما يقوم به قصاصو الأثر فى الصحراء... مزيج من تتبع آثار أقدام ظاهرة على الرمال، إلى فحص مخلفات باقية وراء كثبانها، إلى استقراء الرياح العابرة والروائح العالقة فى الجو، وربط هذا كله مع بعضه، ووصل الفراغات بين أجزائه، ولو حتى بالاستنتاج بغير الجموح إلى الخيال.

ومثل هذا للأمانة هو ما أحاوله الآن!

وربما استطعنا أن نقول بغير مجازفة أن البداية كانت فى الربيع من العام الماضى - ربيع سنة 1977- وذلك عندما استطاعت بعض الظروف والملابسات أن تقنع الرئيس الأمريكى الجديد - وقتها - جيمى كارتر بأن ينقل أزمة الشرق الأوسط من المكانة الخامسة أو السادسة فى أولوياته إلى مكانة متقدمة. وكان أهم هذه الظروف والملابسات هو أن سيلاً من أعضاء الكونجرس الأمريكى عادوا إليه من زيارات لمنطقة الشرق الأوسط يقولون له إنهم لمسوا اعتدالاً كبيراً فى المنطقة وأنها فى رأيهم لحظة مناسبة لتناول الأزمة وأن النجاح فيها ممكن، وإذا حدث النجاح فهو خير استهلال لرئاسته فى مجال السياسة الدولية.

واقتنع الرئيس الأمريكى وبدأ اقترابه من أزمة الشرق الأوسط بدعوات وجهها إلى عدد من ساسة المنطقة ليلتقوا به، وكان الرئيس الأمريكى فى ذلك الوقت قد اعتمد مشروع معهد بروكينجز الشهير للأبحاث فى واشنطن ليكون أساس محاولته لتناول أزمة الشرق الأوسط، وساعد على ذلك أن عدداً من أبرز مستشاريه - برجينسكى وكوانت - كانوا بين مجموعة الخبراء التى أعدت مشروع معهد بروكينجز. واستخلص الرئيس الأمريكى من هذا المشروع أربع نقط محددة للحل على النحو التالى:

انسحاب إسرائيل من معظم الأراضى التى استولت عليها سنة 1967 على أن يتم الاتفاق على الحدود الجديدة الآمنة بالتفاوض بين الأطراف.

إقامة علاقات طبيعية تماماً بين إسرائيل وبين كل جيرانها العرب.

أن يكون للفلسطينيين وطن - وليس دولة - فى مكان من فلسطين يتفق عليه بين إسرائيل وبين المتفاوضين العرب معها.

وأخيراً أن يؤجل موضوع القدس برمته إلى مرحلة لاحقة.

وعرض الرئيس كارتر أفكاره على كل من قابلهم من زعماء المنطقة، وكانت هناك نقطة تشغل باله وتلح عليه وهى: "أن أى اتفاق سليم لا يمكن أن يتوصل إليه غير أطراف النزاع فى المنطقة بأنفسهم ولأنفسهم، وأنه لا يمكن فرض اتفاق من الخارج عليهم، كما أنه من المستحسن أن ينحصر دور القوى الخارجية عن المنطقة فى تسهيل الاتفاق بين الأطراف"، وفى هذه النقطة فقد تساءل الرئيس الأمريكى عن المحاذير التى تمنع الأطراف من مواجهة بعضها مباشرةً، خصوصاً وأن كل بنود المشروع المقترح لحل الأزمة تقتضى اتفاقاً من خلال التفاوض بين الأطراف؟ وفضلاً عن ذلك فإن أهم بنود المشروع هو تطبيع العلاقات تماماً بين إسرائيل وكل جيرانها، وإذا كان التطبيع على هذا النحو هدفاً لابد من الوصول إليه فى حد ذاته؛ فإن الوصول مبكراً إلى قسط منه سوف يساعد على حل عقد مستعصية فى بنود أخرى، ومن هنا كان تساؤل الرئيس الأمريكى: "ما الذى يمنع من إجراء مفاوضات مباشرة؟ وهل السبب هو مجرد العقد النفسية المتخلفة عن مراحل سابقة من الصراع؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل لم يجىء الوقت لتجاوز الماضى؟".

إن بعض الزعماء العرب فى ذلك الربيع الماضى فى واشنطن كانوا حريصين على تشجيع الرئيس الأمريكى الجديد على مواصلة اهتمامه بأزمة الشرق الأوسط... كانوا قد تعودوا التعامل مع هنرى كيسنجر فى عهد رئاسة نيكسون وفورد من بعده، وكان كارتر بالنسبة لهم عاملاً مجهولاً، وفى الوقت نفسه فقد كان رهانهم كاملاً على حل أمريكى، وهكذا فإنهم لم يضعوا تحفظاتهم قاطعة أمام الرئيس الأمريكى.

أبدوا التشكك فى إمكان إجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل بينما قواتها تحتل أجزاء من أراضى أوطانهم.

وأبدوا التشكك فى إمكانية تطبيع العلاقات بسرعة بعد ثلاثين سنة من العداء الشامل.

وأبدى كارتر بعض التفهم لشكوكهم، ولكن لأن تحفظاتهم لم تكن قاطعة فإن الرئيس الأمريكى تصور أن الباب لم يغلق تماماً فى وجه تساؤلاته، وهكذا كان قوله فى النهاية: "إنه يعد ببذل كل جهده لتمهيد الطريق أمام مؤتمر جنيف ولكنه يدرك أن جهوده قد تصل إلى نقطة قد يتحتم فيها على الأطراف مساعدته بأخذ مبادرات تعطى دفعة جديدة لعملية الحل".

فى ذلك الوقت من ربيع 1977 كان الدكتور هنرى كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة السابق يتابع الاتصالات التى تجرى فى واشنطن بكثير من القلق ونفاذ البصر.

كان قد تعود الحياة تحت الأضواء، وكانت أزمة الشرق الأوسط ذات بريق خاص بالنسبة له، وكان قد شجع من طرف خفى فكرة أن يعهد إليه الرئيس الأمريكى الجديد بدور الوسيط الأمريكى فى حل أزمة الشرق الأوسط على أساس غير حزبى، ولكن كارتر لم يتحمس للفكرة رغم ادعاءات "كيسنجر" بأن كل الزعماء من أطراف النزاع يثقون فيه، وفوق ذلك فقد كان هناك موضوع يلح على "كيسنجر" وهو موضوع التهديد الموجه إلى نظام "موبوتو" فى "زائير" بسبب التمرد ومحاولة الغزو التى تقوم بها قوات الجنرال "بومبا" فى إقليم شابا المجاور "لأنجولا". وكان مبعث اهتمام كيسنجر بالموضوع أنه أصبح مستشاراً لمجموعة بنوك أمريكية لها استثمارات طائلة فى "زائير" يضمنها نظام "موبوتو"، وهى تخشى انهياره فتضيع تحت أنقاض الانهيار استثماراتها. وكانت هناك نقطة أخرى فى دواعى اهتمام "كيسنجر" بما يجرى فى "شابا" على حدود "أنجولا"... تلك هى أن أنجولا كانت هزيمته الكبرى فى أفريقيا وهو رجل لا ينسى بسهولة هزائمه.

وسعى "كيسنجر" إلى لقاء بعض الزعامات والشخصيات القادمة من الشرق الأوسط إلى واشنطن، وكانت أهدافه متعددة:

يريد أن يبدو ظاهراً على المسرح يطلب الجميع نصائحه وقد يطلبون دوره.

ويريد أن يلفت نظر الرئيس الأمريكى الجديد إلى نفوذه على زوار واشنطن من الشرق الأوسط.

ويريد أن يتبرع بنصائحه كما كان يفعل أيام المجد، ويتحدث كأستاذ يملك التاريخ ملكية خاصة ويحتفظ بسلطان على الأرض لا يطاوله سلطان.

وكان "كيسنجر" هو الذى أذاع بطريق غير مباشر أن الرئيس السادات عرض عليه أن يكون مستشاراً خاصاً له فى الشئون الخارجية، ولكنه هو - كيسنجر - رجا الرئيس أن يعفيه من هذا المنصب واعداً بأن يكون تحت التصرف فى أى معضلة وبواجب الصداقة دون أى التزام آخر.


وفى ذلك الوقت فى واشنطن كان "كيسنجر" يفيض ويتدفق فى أحاديث مع كل زعماء وشخصيات المنطقة من زوار واشنطن، ومن بين آرائه فى ذلك الوقت:

أن هناك هجوماً سوفيتياً جديداً فى أفريقيا، وأن هذا الهجوم شديد الخطر، وبداياته هى ما يجرى فى "زائير" وما يتعرض له "موبوتو" من غارات الجنرال "بومبا" على "شابا" من قواعد فى "أنجولا".

أن أزمة الشرق الأوسط تحتاج إلى شىء جديد، ثم راح الدكتور "كيسنجر" يتغنى ببعض أمجاده السالفة خصوصاً فى الصين، وكان قوله: "إننى طرقت باب الصين على غير انتظار... فتح العالم عيونه فجأة فإذا أنا فى الصين وإذا قطيعة ثلاثين سنة تسقط فى ثلاثين ساعة قضيتها فى بكين... لقد أسقطت الحاجز النفسى بين الولايات المتحدة والصين وفى حين كان يظن آخرون قبلى أن الرأى العام الأمريكى لن يستجيب لما فعلت، فإن الاستجابة كانت كاملة وأصبح فتح أبواب الصين من أهم منجزات السياسة الأمريكية فى عهد "نيكسون"!

وفى بدايات صيف 1977 كان الدكتور "ناحوم جولدمان" رئيس المجلس اليهودى العالمى والشخصية اليهودية الأولى فى العالم خارج إسرائيل يتحرك بنشاط. كان الدكتور "جولدمان" فى واشنطن قبل أسابيع والتقطت أذناه الحساستان بعض الأحاديث عن موجة الاعتدال الجديدة فى المنطقة، وتجدد لديه الأمل أن تحدث معجزة فى العلاقات العربية الإسرائيلية قبل أن يعلن اعتزاله الوشيك للعمل اليهودى العام.

وركز الدكتور "جولدمان" على عاصمتين: "الرباط" و"بوخارست" باعتبار أن هناك صداقة خاصة تربط بينه وبين "الملك الحسن" ملك المغرب من ناحية وبين الرئيس "تشاوشيسكو" رئيس رومانيا من ناحية أخرى، وكان يعرف أن الاثنين لديهما خيوط وخطوط من الصلات والصداقات فى المنطقة.

ولم تؤثر نتائج الانتخابات الإسرائيلية وفوز "مناحم بيجن" برئاسة الوزارة فى إسرائيل على حماسة الدكتور "جولدمان"، وهكذا فإنه راح يبشر فى "الرباط" وفى "بوخارست" بأن "مناحم بيجن" قد يستطيع أن يلعب دور "ديجول" فى الجزائر وكان قوله: "إن التاريخ قد يثبت أن بيجن هو الرجل القوى الذى يستطيع تقديم تنازلات لا يجسر أحد على اتهامه بالضعف عند تقديمها".

وكانت النغمة شجية، فقد كانت هناك رغبة لدى كثيرين فى أعقاب صدمة فوز "بيجن" إلى سماع ما يطمئن المخاوف من تشدده المعروف.

وسعى "جولدمان" حتى رتب اجتماعات فى المغرب بين بعض المسئولين المغاربة الكبار وبين وزراء إسرائيليين من زملاء بيجن.

وفى نفس الوقت لعب "جولدمان" دوراً فى التمهيد لزيارة "مناحم بيجن" إلى رومانيا، وفى العاصمة الرومانية وضع رئيس الوزراء الإسرائيلى الجديد أفكاره أمام الزعيم الرومانى بوضوح وحسم، طالـباً منه أن ينقل وجهة نظره إلى أصدقائه من العرب وفى مقدمتهم الرئيس "أنور السادات".

وكان ملخص آراء "بيجن" على النحو التالى:

* إن بعض الزعماء العرب يعتمدون فيما يبدو على مقدرة أمريكا فى الضغط على إسرائيل، وهو يؤكد له أن إسرائيل لن تقرر إلا ما تراه لنفسها وبنفسها، وأن أى قدر من الضغط الأمريكى لن يزحزحها خطوة واحدة إلى غير ما تريد.

* إن إسرائيل مطمئنة إلى موازين القوة العسكرية وأنها تستطيع أن تنتظر سنوات وسنوات دون أن ينفد صبرها، وعلى العرب أن يتصرفوا كما يشاءون.

* إنه يطلب مفاوضات مباشرة مع من يرغب من العرب، وسوف يدهش هؤلاء الذين يتقدمون لإسرائيل من استعداد إسرائيل لملاقاتهم فى منتصف الطريق.

وأضاف بيجن:

- كيف يمكن أن أصدق باستعدادهم للحياة معنا بسلام إذا لم يكونوا على استعداد للحديث معنا عن هذا السلام... هذه مسألة نفسية ولكنها تنطوى على عوامل حقيقية... إن رفضهم الكلام معنا الآن هو تعبير عن رفضهم للحياة معنا فى المستقبل وهذه ليست مسألة نفسية.

ثم أبدى "بيجن" استعداده لمقابلة من يشاء مقابلته من الزعماء العرب فى القدس أو أى عاصمة عربية، أو فى "بوخارست"، أو فى "نيويورك" أو "جنيف" فى إطار الأمم المتحدة، أو حتى فى البيت الأبيض فى واشنطن!

ومع دخول صيف سنة 1977 كانت هناك اتصالات كثيرة بين واشنطن وبين عواصم المنطقة، وأظهرت هذه الاتصالات مجموعة اتجاهات بدت كلها عقبات صماء تعرقل الطريق إلى جنيف.

* كانت هناك عقبة تمثيل الفلسطينيين - حتى ضمن وفد عربى موحد - فى مؤتمر جنيف.

* وكانت هناك عقبة أن إسرائيل، وكذلك بعض الأطراف على الناحية العربية، تتشكك فى الدور الذى يمكن أن يقوم به الاتحاد السوفيتى فى حالة انعقاد مؤتمر جنيف، خصوصاً وأن الاتحاد السوفيتى بدأ يظهر ضيقه من النشاط المصرى فى مطاردة سياساته فى أفريقيا.

كان هناك تدخل مصرى مباشر فى زائير لمساعدة موبوتو.

وكان هناك ضغط من القاهرة - وغيرها من العواصم العربية - على الرئيس الصومالى "سياد برى" لكى يطرد الخبراء السوفيت من الصومال.

أى أن المعركة كانت مفتوحة على آخرها بين القاهرة وموسكو فى أفريقيا، فكيف تطمئن القاهرة على دور الاتحاد السوفيتى فى تسهيل أعمال مؤتمر جنيف وله فيه شركة الرئاسة!

* وفى نفس الوقت فإن "مناحم بيجن" عندما زار واشنطن والتقى لأول مرة مع الرئيس الأمريكى "جيمى كارتر" أعاد على مسامعه بعض ما ذكره قبلاً للرئيس الرومانى "تشاوشيسكو" وأوله "كيف يمكن أن أصدق باستعدادهم للحياة معنا بسلام إذا لم يكونوا على استعداد للحديث معنا عن هذا السلام".

وفى وسط هذه العقبات وصل "سيروس فانس" وزير الخارجية الأمريكى إلى المنطقة يبحث عن منفذ وسط السدود المغلقة.

وفيما يبدو فإن فانس حمل معه إلى الإسكندرية خطاباً من الرئيس "جيمى كارتر" إلى الرئيس "أنور السادات"، وفى هذا الخطاب فإن كارتر ذكر الرئيس "السادات" بما كان بينهما عند اجتماعهما فى الصيف فى واشنطن من أن الأمور سوف تصل إلى نقطة يتحتم فيها على الأطراف مساعدته بأخذ مبادرات تعطى دفعة جديدة لعملية السلام، وكان رأى "كارتر" أن الأمور وصلت بالفعل إلى هذه النقطة.

وفى هذا الجو عاد الرئيس "السادات" إلى اقتراح سابق يقضى بإنشاء مجموعة عمل يرأسها "سيروس فانس" نفسه وتتولى وضع جدول أعمال لمؤتمر جنيف، وكان مقتضى اقتراح مجموعة العمل أن تتشكل لجنة ينضم إليها وزراء خارجية مصر وسوريا والأردن وإسرائيل وأن تجتمع هذه اللجنة تحت رئاسة وزير الخارجية الأمريكى. وكان الاقتراح على هذا النحو نوعاً من المفاوضات المباشرة بين أطراف خمسة، ثم يكون على الطرفين الباقيين وهما الاتحاد السوفيتى ومنظمة التحرير الفلسطينية أن ينتظرا دورهما حتى ينعقد مؤتمر جنيف، وبعد أن يتم التمهيد له فى نيويورك التى كان الكل فى الطريق إليها مع بدء دورة الانعقاد العادى للجمعية العامة للأمم المتحدة.

لكن الاقتراح لم يبق فى الجو أكثر من أربع وعشرين ساعة لأن الرئيس "حافظ الأسد" رفضه على الفور عندما نقله إليه وزير الخارجية الأمريكى فى اليوم التالى.

وتعقدت الأمور أكثر وأكثر فى "نيويورك" فقد كانت هناك أوراق متشابكة.

كانت هناك ورقة عمل أمريكية، وورقة عمل أمريكية معدلة، وورقة عمل أمريكية إسرائيلية.

وبلغ من تعقد الأمور أن وزير خارجية فرنسا "لويس دى جيرنجو" قال لأحد الوزراء العرب:

- إننى لم أعد أعرف لنفسى رأساً من قدم... لقد اختلطت الأوراق أمامى كأنها "أوراق كوتشينة بغير نظام".


ثم زاد الطين بلة حين اقتضت أحكام الوفاق أن تصدر ورقة عمل جديدة عليها توقيع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، وكان صدور هذه الورقة صدمة لكثيرين فى نيويورك، فقد بدا لهم أن للأزمة جوانبها المتصلة بالعلاقات على القمة الدولية وأن الاتحاد السوفيتى الذى خرج من الباب يوشك أن يعود من النافذة.

وكان تعليق "سيروس فانس" على غضب البعض فى نيويورك هو قوله:

- أرجوكم أن تعرفوا أنه مستحيل استبعاد الاتحاد السوفيتى من أزمة الشرق الأوسط، فهو موجود فيها بحكم عوامل كثيرة أولها أنه إحدى القوتين الأعظم فى هذا العالم.

وكان أكثر الغاضبين تعبيراً عن غضبه فى نيويورك وواشنطن وقتها هو الدكتور "هنرى كيسنجر" الذى قال لبعض من قابلوه:

- إن "بيجن" لا يريد السوفيت فى محاولات حل أزمة الشرق الأوسط. ثم إن "السادات" دخل فى عداء مرير مع السوفيت فى أفريقيا وهو أيضا لا يريدهم.

وقيل للدكتور "كيسنجر":

هل تستطيع أن تتصور حلاً لأزمة الشرق الأوسط بدون الاتحاد السوفيتى؟

وكان رد الدكتور "كيسنجر":

- حسناً... من قال أنى لا أريدهم فى الحل، ولكن المسألة هى أين أريدهم؟ إننى أريدهم فى البداية وأريدهم فى النهاية ولكنى لا أريدهم فى الوسط.

ثم استطرد الدكتور "كيسنجر" يشرح:

- إننى أردتهم فى البداية لأنهم كانوا فى صميم الأزمة عندما انتهت المعارك فى أكتوبر 1973، ولكن عملية التفاوض نفسها جرت بدون اشتراكهم فى اتفاقيات سيناء الأولى والجولان الأولى وسيناء الثانية، ثم أردتهم بعد ذلك فى مراسم التوقيع لكى يشتركوا فى ضمان التنفيذ.

إن المرحلة التى يستطيعون فيها ممارسة ألاعيبهم هى مرحلة المفاوضات الفعلية ولهذا فإنه يجب عزلهم عنها، وأما عند الجلوس للتوقيع فإنى أحتفظ لهم بمقاعدهم.

وقيل للدكتور "كيسنجر":

- ولكن ما الذى يدعو السوفيت إلى قبول هذا الوضع المهين؟

وكان رده:

- نحن لسنا الذين نضعهم فى هذا المكان... إن أطراف الأزمة أنفسهم هم الذين يجب أن يضعوهم فيه... اتركوا لهم الأمر وهم يتصرفون، ولكن لا تتصرفوا بالاتفاق مع السوفيت على عكس مطلب "السادات" و"بيجن"!

ومع نهاية صيف سنة 1977 كانت الإشارات تترى على القاهرة من "بوخارست" تقول إن الرئيس الرومانى "تشاوشيسكو" لديه ما ينقله إلى الرئيس "السادات" مما جرى فى لقائه مع "مناحم بيجن".

وفى نفس الوقت كان "ناحوم جولدمان" دائم الطيران بين "بوخارست" و"الرباط" وبدا أن عدة اقتراحات تختمر لترتيب لقاء مباشر بين "بيجن" و"السادات".

وبدا من جانب الذين مدوا أصابعهم إلى خمائر الفكرة أنهم يستبعدون "القاهرة" و"القدس" لأن تلك خطوة أبعد مما يمكن توقعه فى هذه الظروف.

وكانت هناك أسئلة مطروحة ولكنها حائرة:

* أين يكون اللقاء... هل يكون فى "بوخارست" أو فى "طنجة"؟

* هل يكون فى إطار الأمم المتحدة، جنيف المقر الأوروبى، أو نيويورك المقر الدائم؟

هل يكون فى واشنطن تحت المظلة الأمريكية وضمانها؟

* ثم، وهذا مهم جداً... هل يكون اللقاء سرياً أو يجرى علنياً تحت الأضواء؟ وكان هناك لأول وهلة تحفظ ضد السرية، لأن السرية غير مكفولة ولأن التسرب - وهو محتمل - قد يعطى مجالاً لحملات تشهير تفسد المحاولة كلها قبل أن تستطيع تحقيق هدف من أهدافها!

* وأخيراً، كيف يتم اللقاء؟ على أساس جدول أعمال معين؟ وكيف يتم الاتفاق عليه؟ وأى ضمان أن لا يحدث له ما حدث من قبل للاتفاق على جدول أعمال جنيف؟!

إن أحداً لا يستطيع أن يقطع كيف تفاعلت هذه الخمائر كلها، ولكن لدينا بعد ذلك قول الرئيس "السادات" فى أول حديث صحفى أدلى به بعد إعلان مبادرته حين قال:

- "لقد بدأت أفكر فى الموضوع بطريقة جدية عندما أقلعت بى الطائرة من مطار بوخارست فى الطريق إلى مطار طهران... عندما كانت الطائرة قرب الحدود التركية البلغارية كان رأيى قد استقر على الذهاب إلى القدس".

وبالتأكيد فإنه من الصعب على أى محلل أن يتصور العوامل والاعتبارات التى دارت فى ذهن الرئيس السادات لحظتها، ولكن قياساً على التطورات اللاحقة فمن المرجح أن أهم هذه العوامل والاعتبارات كانت تصوره لكل ما سمعه عن أهمية العامل النفسى لدى إسرائيل ولدى مناحم بيجن.

وربما - أقول ربما - لمعت وسط هذه العوامل والاعتبارات كلها مقولة الدكتور هنرى كيسنجر فى الربيع: "إننى طرقت باب الصين على غير انتظار... فتح العالم عيونه فجأة فإذا أنا فى الصين على غير انتظار، وإذا قطيعة ثلاثين سنة تسقط فى ثلاثين ساعة قضيتها فى بكين... لقد أسقطت الحاجز النفسى بين الولايات المتحدة والصين، وفى حين كان يظن آخرون قبلى أن الرأى العام الأمريكى لن يستجيب لما فعلت فإن الاستجابة كانت كاملة".

ولعـل السؤال الذى بقى معلقاً فى الطائرة تلك الساعة الحاسمة من تاريخ الشرق الأوسط هو:

- كيف تكون استجابة الرأى العام المصرى لعملية اقتحام الحاجز النفسى بين مصر وإسرائيل؟!

ونستطيع أن نتصور أن هذا السؤال ظل ملحاً لأيام وأسابيع تالية.

بعد رومانيا كانت هناك زيارة لإيران ثم زيارة للمملكة العربية السعودية.

وفى طهران يقول المتصلون بالقصر الإمبراطورى أن الشاه "محمد رضا بهلوى" لم يفاجأ عندما أعلن الرئيس السادات استعداده للذهاب إلى القدس المحتلة. ومن الحق أن يقال إن شاه إيران كان له دائماً رأى فى انتماء مصر العربى وفى دورها فى الصراع العربى - الإسرائيلى.

كان رأى الشاه أن مصر ليست عربية؛ وأنها مثل إيران مجرد جار للعرب ومجرد صديق فى الإسلام.

وكان رأى الشاه أن الصراع العربى - الإسرائيلى كلف مصر أكثر مما تطيق وأنه قد حان الوقت لكى تلتفت مصر لنفسها وتنصرف إلى شئونها الخاصة.

وبالطبع فإننا نستطيع أن نتصور أن رأى الشاه يتأثر برؤيته للأمن القومى الإيرانى.

وفى الرياض يقول المتصلون بالقصر الملكى إن الملك خالد لم يسمع من الرئيس السادات شيئاً عن نواياه، ولو عرف لحاول إثناءه عن عزمه. والراجح أن الرئيس السادات أشار فى أحاديثه مع بعض المسئولين السعوديين بطريقة عابرة إلى اعتقاده بأن تحريك الأزمة قد يقتضى فى مرحلة لاحقة نوعاً من الاتصال المباشر بإسرائيل، ولكن خيالهم لم يصل إلى حد تصور ما هو قادم، ثم إن الملاحظة العابرة لم تدفع أحداً منهم إلى تصور أن فى الأمر عجلة، ولعلهم ظنوا أنه حين يجىء الأوان فإنهم سوف يعرفون مسبقاً وسوف تكون لديهم الفرصة لإبداء الرأى فيما سوف يعرفون.

وفى الطائرة إلى القاهرة فإن الرئيس السادات - على حد روايته فى مؤتمراته الصحفية - طرح الفكرة التى تجول برأسه على رجل واحد وهو وزير خارجيته فى ذلك الوقت "إسماعيل فهمى" وأبدى وزير الخارجية مخاوفه، ودار بين الرئيس ووزيره حوار برز من خلاله الاقتراح الذى أشار إليه الرئيس السادات أكثر من مرة وهو اقتراح دعوة الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى وبريطانيا وفرنسا والصين، إلى جانب أطراف النزاع فى المنطقة إلى اجتماع على مستوى القمة فى القدس.

ولكن هذا الاقتراح جرى العدول عنه فى سياق نفس الحوار فى الطائرة لأن نجاحه كان مرهوناً بقبول كل الأطراف، وذلك أمر يصعب ضمانه.

وربما كان مناسباً فى هذا الموضع أن أقول إن الولايات المتحدة الأمريكية كانت فى ذلك الوقت على علم بالخيارات المطروحة لإجراء لقاء مباشر بين "السادات" و"بيجن"، ولكن أحلامها لم تصل إلى تصور أن القرار الذى يختمر هذه الساعات كان يتعدى كل تلك الخيارات ويتجاوزها كلها بكثير!



ثم جاءت جلسة مجلس الشعب المصرى التى أعلن فيها الرئيس "السادات" اقتراحه باستعداده للسفر إلى القدس المحتلة والتوجه بالخطاب إلى أعضاء الكنيست الإسرائيلى.

وهنا تتضارب الروايات بالنسبة لنقطتين:

أولاهما: هل كان الاقتراح قد اختمر تماماً وتحول إلى قرار قبل أن يقف الرئيس السادات على منبر مجلس الشـعب، أو أن الاقتراح كان مازال بعد خاطراً ملحاً... تحول من خميرة إلى خاطر؟

وثانيهما: سواء كان الاقتراح فى مرحلة القرار أو الخاطر - فهل كان الرئيس السادات ينوى تفجيره تلك الليلة عن قصد مقصود، أو أن الاقتراح تسرب من العقل الباطن إلى اللسان فى زحمة المشاعر والانفعالات أثناء الخطاب؟

هناك من يرجحون الاحتمال الأول فى كل من النقطتين، أى أن الاقتراح كان قد اختمر تماماً وأن تفجيره تلك الليلة من فوق منبر مجلس الشعب كان قصداً مقصوداً.

ولكن هناك من يرجحون الاحتمال الثانى فى كل من النقطتين، وهى أن الاقتراح كان بعد فى مرحلة الخاطر وأن تسربه تلك الليلة لم يكن قصداً مقصوداً، وحجة الذين يرجحون هذا الاحتمال شواهد محددة:

* بين هذه الشواهد أن الرئيس السادات ألح على السيد ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أن يحضر جلسة مجلس الشعب تلك الليلة لدرجة أن ياسر عرفات ذهب وعاد بطائرة خاصة إلى ليبيا فى أربع وعشرين ساعة لكى يتمكن من حضور جلسة مجلس الشعب، ولو كان الرئيس السادات يقصد إلى تفجير اقتراحه تلك الليلة ما كان ألح على ياسر عرفات فى حضور الجلسة حتى لا يحرجه ولو حتى من الناحية الإنسانية فضلاً عن الناحية السياسية.

* وبين هذه الشواهد أن مؤتمراً لوزراء خارجية الدول العربية كان على وشك أن ينعقد فى تونـس بعد أيام، ومن المتصور أن مثل هذا الاقتراح فى ذلك الوقت سوف ينزل على المؤتمر كالصاعقة، ومن المؤكد أنه سوف يحدث ردود فعل عربية سلبية، ومن الخير للاقتراح ولفرص نجاحه أن يجىء بعيداً عن توقيت أى لقاء عربى واسع حتى تفوت فرصة حدوث رد فعل جماعى معاد له من الدقيقة الأولى!

* وبين هذه الشواهد أن الرئيس السادات حين نزل من منبر مجلس الشعب لم ينتظر حتى يسمع قلق معاونيه، ولكنه بادر فطلب توجيه الصحف المصرية إلى عدم إبراز المقطع الذى ورد فيه اقتراحه باستعداده للذهاب إلى الكنيست فى سياق خطابه، وحدث ذلك بالفعل وتولت جهتان رسميتان على الأقل إبلاغ المشرفين على توجيه الصحف فحوى طلب الرئيس السادات.

وأكثر من ذلك وصلت إحدى هذه الجهات الرسمية إلى كتابة تعليقات تنشرها الصحف، والهدف من هذه التعليقات امتصاص الأثر الذى يمكن أن يحدثه الاقتراح الذى انفجر، وبين هذه التعليقات أن الرئيس السادات مستعد للذهاب إلى القدس على شرط أن تستجيب إسرائيل مسبقاً لكامل المطالب العربية وأهمها الانسحاب وإقامة الدولة الفلسطينية.

ولم تمض إلا ساعات على تفجير ذلك الاقتراح حتى كان إعلان الاستعداد للسفر إلى القدس المحتلة دوياً تتجاوب أصداؤه فى كل أرجاء الأرض؛ ومن ثم اكتسب هذا الاقتراح قوة حركة ذاتية خارجة عن كل الإرادات، خصوصاً فى عصر سيطرت فيه وحكمت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة واختلطت فيه الحدود بين التحرك وبين الفعل السياسى... أى أن وسائل الإعلام الحديثة ملكت القدرة على الإيحاء بوجود تحرك ولكن الفعل السياسى ظل قضيةً أخرى مع التسليم بأن الإيحاءات الإعلامية تستطيع فرض قدر من الضغوط لا يمكن الاستهانة به.

ويمكن أن يقال بغير مبالغة أن التليفزيون الأمريكى لعب دوراً حاسماً فى فتح طريق القدس، وأسباب ذلك يمكن فهمها بالطبع وردها إلى دواعيها الحقيقية، وتطايرت الأسئلة والأجوبة أمام العدسات وتحت الأضواء.

سؤال: هل صحيح أنك مستعد للذهاب إلى إسرائيل؟

جواب: نعم... لقد أعلنت ذلك.

سؤال: متى؟

جواب: عندما أتلقى دعوة رسمية... إننى حتى الآن لم أتلق دعوة رسمية.

ومن عدة عواصم فى العالم طارت الرسائل إلى مناحم بيجن تسأله: ماذا تنتظر؟ هذه هى الإشارة التى كنا نتوقعها جميعاً. وكان بيجن لا يصدق، كان أميل - كما قال - إلى اعتبار الإعلان عن الاستعداد للزيارة محاولة ضغط مباشرة تدعوه إلى الاستجابة للمطالب العربية - الانسحاب والدولة الفلسطينية - ولكى يريح نفسه ويريح آخرين فقد أعلن موقفه وهو يتلخص فى نقطتين:

* الأولى أنه يرحب بالزيارة ترحيباً حاراً وقلبياً.

* والثانية أنه لكى تكون الأمور واضحة فإنه يريد تحديد شروط إسرائيل مسبقاً حتى لا يكون هناك مجال للوم بعد ذلك وهذه الشروط هى:

أن إسرائيل لن تنسحب إلى ما وراء خطوط سنة 1967، وأن إسرائيل لن تتعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية، وأن إسرائيل لن تقبل بقيام دولة فلسطينية.

لكن أحداً لم يلتفت إلى ما قال... فقد كان الضجيج العالمى صاخباً... أكثر صخباً من دق أبواب الصين والثلاثين ساعة التى قضاها "كيسنجر" فى بكين وهدمت الحاجز النفسى بين الشعب الأمريكى وبين الشعب الصينى!

وساد فى كل الآفاق جو أسطورى من نوع ما ساد بالفعل أثناء نزول الإنسان على القمر، وفى زحمة المهرجان لم يسأل الكثيرون أنفسهم ذلك السؤال المزعج: وماذا بعد؟

حتى النزول على القمر لم يغير شيئاً فى حياة الرواد الأول... أيام وأسابيع وشهور وهدأت الضجة وعاد الرواد إلى مشاكل كل يوم على الأرض وهى مشاكل لا علاقة لها بكل ما جرى على القمر.

وأتصور - على أية حال - أن هناك بعض من سألوا أنفسهم: وماذا بعد؟

* أتصور - مثلاً - أن البعض فى واشنطن تساءلوا وكان إحساسهم مشوباً بالقلق... لقد فاجأهم الشكل النهائى لما حدث، وعلى حد تعبير أحد مستشارى كارتر فى حوار معى فى القاهرة فإن طبيعة المشاكل التى تطرحها أزمة الشرق الأوسط تقتضى بحثها بغير أسلوب المواجهة المباشرة بين الأطراف، ذلك لأن المشاكل معقدة ومتداخلة وأى خلاف فى حالة المواجهة المباشرة يمكن أن يؤدى إلى أزمة، على العكس مما لو اتبع أسلوب المواجهة غير المباشرة. ثم أن الرئيس كارتر كان يشعر بقلق لأن العملية على النحو الذى تمت به سوف تؤدى إلى استبعاد دور سوريا وإلى تعقيد المشكلة الفلسطينية بأكثر مما هى معقدة.

لكن واشنطن كان عليها أن تكف عن تساؤلاتها وأن تلحق بسرعة بالمهرجان الكبير لأنها لا تستطيع أن تتخلف أو تتردد بعد أن ارتفع الستار عن أول المشاهد المثيرة فيه!

* وأتصور - مثلاً - أن تل أبيب طرحت على نفسها ذات السؤال، ولكن جوابها عنه كان يختلف عن جواب غيرها... كان جوابها: ليكن بعد ذلك ما يكون، فالزيارة إذا تمت سوف تكون فى حد ذاتها أبعد أثراً من أى شىء يلحق بها... أنها وحدها تعطى إسرائيل معظم ما تطلبه إن لم يكن كله: الاعتراف، وتطبيع العلاقات، والمفاوضات المباشرة، وفرصة الانفراد بمصر وحدها، إلى آخره.

والغريب أن "مناحم بيجن" لم يكن حتى هذه اللحظة قد تغلب على الشكوك التى دفعته الى تردد اللحظات الأولى عقب انفجار اقتراح الذهاب إلى القدس.

تصور - وربما كان هناك من صور له - أن الطائرة سوف تنزل فى مطار بن جوريون وينطلق منها سيل من رصاص المدافع الرشاشة يحصد كل زعماء إسرائيل وقياداتها الواقفين فى الانتظار... غارة عنتيبى بالعكس.

ثم قرروا أن يضعوا جهازاً إليكترونياً يستطيع تحليل موجات الصوت بحيث يلتقط كل كلمة يقولها الرئيس السادات فى إسرائيل ويقوم بالنفاذ إلى أعماق الانفعالات التى تعكس نفسها فى موجات وذبذبات الصوت طولاً وعرضاً حتى يمكن لهم أن يضعوا نواياه الحقيقية تحت فحص ميكروسكوبى.

وبلغ الأمر إلى حد إجراء تمويه على الطائرات من طراز كفير التى تقرر خروجها لاستقبال وتوديع الطائرة المصرية الذاهبة إلى القدس والعائدة منها؛ مخافةً أن تلتقط لها صورة من الطائرة المصرية تكشف بعض ما يلزم إخفاؤه من أسرارها.

ثم نصل إلى القاهرة:

هل راودها مثل هذا السؤال كما راود غيرها؟

أظن أن القاهرة لم يكن لديها الوقت لتتساءل: وماذا بعد؟

لقد كان نهارها شديد الزحام وليلها طويل السهر، وعلى أية حال فقد سادت الأجواء كلها قناعة لا أحد يعرف من أين جاءت أو ما هو سندها. هذه القناعة هى أن الأزمة انتهت ووصلت بالفعـل إلى مرحلة الحل النهائى وأن السلام ينتظر عند أول منحنى للناصية القادمة على اليمين!

ثم ظهرت نظرية أن الحاجز النفسى فى الصراع العربى الإسرائيلى يشكل سبعين فى المائة من المشكلة، وإذا كان ذلك... إذن فإن الزيارة فى حد ذاتها سوف تهدم هذا الحاجز، وبذلك يتبقى ثلاثين فى المائة من الموضوع، وهذه سوف يتكفل الضغط العالمى الذى ولدته الزيارة بأن يجرفها ويزيحها عن الطريق لينفتح واسعاً أمام عرائس السلام.

هو التفاهم الكبير فى القرن العشرين.

وكان هذا بالضبط هو سوء التفاهم الكبير فى القرن العشرين!

..........

هكذا كانت "المداخل"!
 
حديث المبادرة: الخلفية العميقة للصورة المثيرة!

قمت أخيراً بجولة عربية قصرتها على منطقة الخليج.

كان هدفى من القيام بجولة عربية فى هذه الظروف بالذات أن أرى وأسمع وأشعر برد الفعل العـربى تجاه التطورات الأخيرة، وبالذات هذا الحدث الذى اصطلحوا على تسميته بمبادرة السلام.

وكان ما دعانى إلى قصر الجولة على منطقة الخليج هو أنها منطقة مأمونة من وجهة النظر السياسية المصرية، وبالتالى فإن ذهابى إليها فى هذه الظروف الحافلة بالتوتر لا يمكن اعتباره فى القاهرة إحدى الكبائر كما لو كنت مثلاً قد ذهبت إلى بغداد أو دمشق أو حتى بيروت، ومع ذلك لم أسلم من احتجاجات السفارات المصرية حيث ذهبت على الطريقة الكريمة التى استقبلت بها وعلى نشر مقابلاتى وتصريحاتى فى الصحف والإذاعة والتليفزيون. وكان ذلك فى تقديرى شيئاً غريباً فى الوقت الذى استقبل فيه عشرات من الصحفيين الإسرائيليين فى القاهرة كالأبطال وحفلت الصحف والإذاعات وقنوات التليفزيون بأخبار مقابلاتهم وتصريحاتهم... تلك على أية حال قصة أخرى!

أعود إلى موضوعى الأصلى.

كنت أقول إننى قمت أخيراً بجولة عربية وكان السؤال الذى سمعته أكثر من غيره حيث ذهبت هو:

- أين مصر؟ وماذا حدث للشعب المصرى؟ وكيف قبل الناس هناك بهذا كله؟ وما الذى جرى؟ وكيف جرى؟ ولماذا جرى؟

وكان ردى فى كل الأحوال:

- مصر بخير... وشعبها كما عهدتموه دائماً...

ثم كنت أضيف:

- وأما فيما يتعلق بقبول الناس لكل هذا الذى جرى فأرجوكم أن تعرفوا أنهم قبلوه، وقبلوه عن رضا وطيب خاطر، بل إنهم تحمسوا له... على الأقل تحمست له أغلبية لا شك فيها، وهذه هى المسألة التى يتعين عليكم أن تفكروا فيها طويلاً وتردوها إلى أسبابها الحقيقية إذا كان يهمكم دور مصر، وأنا شخصياً لا أتصور إلا أنه يهمكم".

ثم كنت أشرح الأسباب لمن كنت أتصور أنه يعنيهم سماعها، وأشهد أنهم كثيرون جداً، لأن مكان ومكانة مصر فى الأمة العربية لا يمكن تعويضها.

كنت أقول لهم:

- أريدكم قبل أى شىء - وكمقدمة لأى كلام - أن تطمئنوا على عروبة مصر، وثقوا أننى لا أقول لكم ذلك فرط حماسة لقناعة أؤمن بها وبالتالى فإنى أعمم خالطاً بين الواقع والتمنى، بل أقوله لأن الأقدار التاريخية للشعوب ليست تقلبات مزاج يرضى ويغضب بالهوى، وإنما الأقدار التاريخية للشعوب هى نتائج مباشرة للجغرافيا والتاريخ وما يصنعه الاثنان بمنطقة معينة من العالم من صلات وتفاعلات وضرورات أمن ومقتضيات مصلحة، وهكذا فإن الاختيار العربى لمصر لم يكن قراراً اتخذه جمال عبد الناصر وبالتالى فهو اختيار يمكن العدول عنه...

القول بمثل ذلك خلط، فحتى القيادات العظيمة للتاريخ لا تملك اختيار أقدار بإصدار قرار، وإنما ميزة القائد التاريخى هى مقدرته على الاتصال بالحقائق التاريخية وقابليته للتعبير عنها فكرةً وحركة.

وهكذا فإن تصور خروج مصر عن عروبتها يوازى تماماً تصور خروج مصر عن جغرافية موقعها وعن تاريخها وعن خلاصة تراثها الإنسانى والحضارى وعن ضرورات أمنها ومقتضيات مصلحتها.

هل ذلك محتمل؟ أو هل هو ممكن؟.

وإذن - قد يتساءل بعضكم - ما هذا الذى تترامى إلينا أصداؤه مما يقال الآن فى مصر؟

وبدون أن أدخل فى تفاصيل لا لزوم لها، فإنى أقول لكم:

- تجاوزوا عن بعض ما تسمعون الآن منسوباً إلى مصر... ضعوا الحقائق الثابتة والمؤكدة وحدها أمام عيونكم، واتخذوها دون غيرها دليلاً ومرشداً، وحينئذ يستبين أمامكم وينكشف ما هو أصيل وما هو دخيل.

ثم كنت أستطرد:

- لكى أكون أميناً معكم فإنى لا أقول لكم ذلك وأسكت بعده؛ وإنما أجد لزاماً على أن ألفت نظركم إلى أن هناك بجانب الحقائق الثابتة والمؤكدة - مؤثرات طارئة وعارضة.

إن هذه المؤثرات الطارئة والعارضة لا تستطيع يقيناً إلغاء الحقائق أو إنكار وجودها، ولكننا يجب أن نسلم أن هذه المؤثرات تستطيع أحياناً - ولو لبعض الوقت - أن تحجب وتغطى وتحول دون الرؤية الصحيحة أو الرؤية الكاملة للحقائق.

وهنا أستأذنكم أن أتكلم بصراحةٍ أكثر متمنياً أن لا أتجاوز بها الحد أو القصد، ذلك أن بعض ما سوف أقوله يحمل شيئاً من العتاب عليكم!

أريد أن أقول لكم: إن كل فرد فى هذه الأمة العربية يحب مصر، فهى ليست مصرنا وحدنا وإنما هى مصرهم جميعاً، ولكنى أتساءل ما إذا كان كل فرد فى هذه الأمة يفهم مصر بقدر ما يحبها... أكاد أقول أن الكل يحبونها ولكن ليس الكل يفهمونها... وأن تحب إنساناً فقد يكفيك النظر إليه، وأما أن تفهمه فإنه يقتضيك أن تضع نفسك فى مكانه وفى ظروفه وأن تعيش مشاعره ومشاكله.

والذين أحبوا مصر كثيرون، نظروا إلى دورها وطالعوا ثقافتها، وشاهدوا ما أبدعت من خلق وفن.

لكن الذين فهموا مصر أقل أكيداً من الذين أحبوها.

إن أفلام السينما المصرية على سبيل المثال ليست مفتاحاً لفهم مصر إلا بمقدار ما نستطيع أن نفهم الولايات المتحدة عن طريق السينما الأمريكية، وبالقطع فإن أفلام رعاة البقر والجنس والجريمة ليست هى التعبير الصحيح عن أقوى المجتمعات فى عصرنا.

وكذلك فإن الطريق إلى فهم مصر لا يمر بأبهاء فنادق القاهرة الكبرى أو مغانى هذه العاصمة الكبيرة وملاهيها.

وأسأل: كم من أبناء أمتنا العربية عاشوا حياة أسرة مصرية عادية؟ كم منهم يعرفون ريف مصر؟ كم منهم يعرفون قضايا العمل والبناء الاقتصادى المصرى؟ كم منهم يعرفون مشاكل التحول الاجتماعى؟ بل كم منهم يعرفون خصائص الشخصية المصرية مع العلم أن حقيقة وحدة الأمة لا تنفى حقيقة التنوع فى خصائص شعوبها؟

إن عدم الفهم لم يخلق سوء الفهم فحسب ولكن خلق ما هو أخطر... خلق مآزق تاريخية من نوع ما نعيش فيه الآن، واسمحوا لى أن أضرب مثالاً.

فى تجربة جمال عبد الناصر مثلاً فإن استقراء الواقع أملى على مصر مجموعة اختيارات اجتماعية وسياسية ودولية.

فى الداخل كان الاختيار طريقاً عربياً إلى نوع من الاشتراكية، ولست أعرف أى خيار آخر كان يمكن أن يكون متاحاً لبلد كان متوسط الدخل القومى للفرد فيه حوالى 47 جنيهاً فى بداية التجربة، فإذا تذكرنا التفاوتات البشعة فى توزيع الدخول وقتها أدركنا حجم المشكلة الاجتماعية بعد المشكلة الاقتصادية.

وترتب على ذلك خط معين فى التنمية الشاملة استطاع على سبيل المثال فيما بين سنة 1956 إلى سنة 1966 أن يعطى زيادة سنوية فى الدخل القومى بمعدل 6.7 فى المائة طبقاً لتقرير البنك الدولى بتاريخ 5 يناير 1976، وهى نسبة لم يكن لها مثيل فى العالم النامى كله - فإذا وضعنا هذه الزيادة أمام مشهد التحولات الاجتماعية الضخمة التى عاشتها مصر فى الستينات لرأينا صورة عظيمة لشعب يبنى حياته من جديد بعمله وجهده. خصوصاً إذا ذكرنا أنه فى تلك الظروف لم تكن مصر تطلب من أمتها العربية عوناً ولا كانت تلك الأمة - بصراحة - قادرة على مد يد العون إلى مصر، بل ربما كان العكس هو الصحيح.

ولقد امتزجت التجربة الداخلية المصرية مع مطالب الأمن العربى الشامل فأملت على مصر فى ذلك الوقت سياسة خارجية معينة اختارت طريقاً مستقلاً ولا منحازاً فى المجال الدولى وتمكنت من بناء توازن إقليمى وعالمى استطاع تمكين مصر من قيادة قوى الدفاع عن المصير العربى، وانتصرت أحياناً - كما حدث سنة 1956 - ولم تنتصر أحياناً - كما حدث سنة 1967 - وكان معيار أصالة الالتزام المصرى أنه فى النصر لم يتكبر وفى غير النصر لم يتخاذل، وإنما راح يحشد جهده ويعبئ قواه ويواصل مسيرته.


ماذا رأينا فى تلك الفترة - هنا فى عالمنا العربى - من جانب الذين لم يفهموا مصر؟

* لم يفهموا - مثلاً - دواعى الاختيار الاشتراكى فى مصر فركزوا ضده - نسوا أنه ليس هناك أمام مصر طريق غير طريق التنمية الاجتماعية الاقتصادية الشاملة.

* لم يفهموا - مثلاً - دواعى خياراتها الدولية - بما فى ذلك صداقة متكافئة أقامتها مع الاتحاد السوفيتى - وخلطوا بين الصداقة مع الاتحاد السوفيتى وبين الشيوعية الدولية - نسوا أن الخطر السابق فى تلك المرحلة كان هو الاستعمار العالمى وأن الشيوعية الدولية هى الخطر اللاحق، والسابق أولى بالتصدى واللاحق سوف يجىء دوره، ثم أن تحديد الأولويات بحزم هو أول الضرورات فى إدارة الصراعات.

* لم يفهموا - مثلاً - مبرر طلب مصر للسلاح السوفيتى، وأصبح إخراج السلاح السوفيتى من المنطقة هدفاً ملحاً يتقدم غيره من الأهداف إطلاقاً - نسوا أن السلاح السوفيتى هو السلاح الوحيد الذى نستطيع به محاربة التوسع الصهيونى لأن الغرب - وهو مورد السلاح الوحيد لإسرائيل - لا يستطيع أن يكون فى نفس الوقت مورد السلاح الوحيد للعرب، وإذا حدثت المعجزة فمعنى ذلك أن الغرب سوف يكون وحده الحكم على حدود الصراع العربى - الإسرائيلى، بل سوف يكون وحده الحاكم وليس مجرد الحكم.

هكذا فإن الحرب التى وجهت إلى التجربة الناصرية كلها من داخل العالم العربى ومن جانب الذين لم يفهموا مصر فيه - خلطت بين الأسباب المتعددة للاختيارات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية لكل شعب عربى، ولم تحسن تقدير الدواعى المعقدة للاختيارات الخارجية الإقليمية والدولية وما ترتب على هذه الاختيارات فى كل ميدان ومجال خصوصاً فى ترتيب الأولويات والفرز بين ما هو ملح فيها وبين ما هو مؤجل.

وتتداعى من هنا أسئلة:

- أليس أن استبعاد الخيار الاشتراكى يفتح الباب لبعض ما نرى فى مصر باسم الانفتاح الاقتصادى؟

- أليس أن استبعاد التوازن الدولى فى المنطقة يؤدى الى بعض ما نرى فى المنطقة الآن كمسرح مستباح للنفوذ الأمريكى؟

- أليس أن استبعاد السلاح السوفيتى من المنطقة يؤدى الى بعض ما نرى اليوم من استبعاد السلاح أساساً كعنصر من عناصر الحل لما نسميه أزمة الشرق الأوسط؟

ثم وهذا هو الأهم فى موضوعى اليوم:

- أليس أن ضرب تجربة بكاملها - أو محاولة ضربها - لا يقتصر ضرره على بعض المقصود وإنما يمتد الضرر من الجزء الى الكل؟

وبعبارة أصرح:

- أليس أن هذا كله يمكن أن يصيب ضمن ما يصيب التزام مصر العربى، وقد كان تأكيده وترسيخه جزءًا أساسياً من مجمل التجربة الناصرية، مع العلم بأنها - شأنها شأن أى تجربة غيرها - عرضة للصواب والخطأ وعرضة للنقد والتوجيه ولكن من موضع الفهم وليس من موضع العداء.

وإذن أى غرابة أن تسمعوا الآن بعض ما تصل إليكم أصداؤه من مصر محاولةً من البعض أن يشككوا فى عروبتها؟

ومع ذلك أقول لكم: اطمئنوا على عروبة مصر فإن عروبتها لم تكن قراراً اتخذه جمال عبد الناصر أو غيره لأن الأقدار التاريخية للشعوب لا يمكن أن يصنعها أو يقطعها قرار: إنها الجغرافيا والتاريخ منذ الأبـد وإلى الأزل وهى صلات وتفاعلات قرون وهى ضرورات أمن ومقتضيات مصلحة.

والآن وبعد هذه المقدمة وقد طالت، وبعد هذا العتاب ولعله لم يتجاوز الحد والقصد، أحاول معكم مواجهة بعض تساؤلاتكم.

إن بعضكم يتساءل - وهو معذور فى تساؤله - ما الذى جرى؟ وكيف جرى؟ ولماذا جرى؟

وهل يعقل أن تختلف الأمور على هذا النحو من الشىء الى نقيض الشىء فى ساعات معدودات، خصوصاً وأن الأمر يتصل بإستراتيجيات عليا لشعوب، وبانتماءات وولاءات تحملت مسئوليتها أجيال بعد أجيال، وبنظريات أمن، ومصالح ومواقف إلى آخره؟....

إننى بالطبع فيما سوف أجيب به أو أحاول - أقتصر فى حديثى على الشعب المصرى، فهو الذى يهمنى بالدرجة الأولى رصد ودراسة الأفعال وردود الأفعال لديه وهو الذى يعنينى شرح وتفسير تحركاته واتجاهات هذه التحركات.

..................

..................

ثم كنت أقول:

هناك فى ظنى ثلاث مجموعات من الأسباب:

* الأولى منها مجموعة أسباب قديمة ونستطيع ردها جميعاً إلى أخطاء فى الفكر والفعل السياسى المصرى - والعربى - خلال الثلاثين سنة الأخيرة وربما أكثر وأبعد.

* والثانية منها مجموعة أسباب جديدة مرجعها ومردها جميعاً إلى طول الصراع وإلى ملابسات ومضاعفات أخرى عربية ودولية زادت من تكاليفه وأثقلت وطأته.

* والثالثة والأخيرة منها مجموعة أسباب طارئة وهى تتمثل فى الجو النفسى الذى أحاط بالتطورات الأخيرة وصنع ما يشبه الانفصام بين ما كان قبلها وما جاء بعدها.

وكنت أقول:

- سوف أبدأ بمجموعة الأسباب القديمة... أخطاء الفكر والفعل السياسى المصرى خلال الثلاثين سنة الأخيرة، وأعدها على النحو التالى:

أولاً: إن الفكر والفعل السياسى فى مصر قدم قضية فلسطين إلى الشعب المصرى باعتبارها قضية تضامن مع شعب شقيق فى محنة دهمته، ولم يكن ذلك دقيقاً. فالحقيقة أن الغزوة الصهيونية كانت موجهة إلى مصر قبل فلسطين. إن القوى الدولية الطامعة فى إرث الخلافة العثمانية والراغبة فى السيطرة على الشرق أدركت منذ بداية القرن التاسع عشر أن مصر هى القوة المحلية الوحيدة القادرة فى المستقبل المرئى على توحيد الأمة العربية وعلى تحدى المطامع المرسومة للمنطقة بعد تحلل الدولة العثمانية وانهيارها.

إن هذه القوى الدولية الطامعة قابلت الخطر الذى تحسبت له فعلاً عندما ظهرت دولة "محمد على" فى مصر وحينما استطاع الجيش المصرى بقيادة ابنه "إبراهيم باشا" أن يصل إلى الشام ليلتقى هناك بالأحلام العظيمة فى قيام دولة عربية كبرى فى المشرق. إن القوى الأوروبية - وبريطانيا فى مقدمتها - أدركت لحظتها أن اتصال عرب مصر بعرب الشام والجزيرة يستطيع توليد شحنة هائلة من الطاقة كفيلة بتغيير أوضاع المنطقة التى كانت جاهزة للتقسيم غنائم وجوائز للأقوياء الطامعين. إن القوى الأوروبية كما تذكرون حاصرت "محمد على" وضيقت الخناق عليه ثم استطاعت ضربه وفرضت عليه معاهدة سنة 1840 وهدفها إبعاد مصر نهائياً عن المشرق العربى. وكان الأمر يحتاج بجانب معاهدة سنة 1840 إلى ما نسميه اليوم "إجراءات أمن إضافية"، وتقدم البارون "روتشيلد" عميد البيت المالى اليهودى العتيد إلى اللورد "بالمرستون" رئيس وزراء بريطانيا فى ذلك الوقت يعرض عليه فكرة تمكين اليهود من الهجرة إلى فلسطين وإقامة نطاق من المستوطنات فيها يكون بمثابة حائط يحجز أو على الأقل يعطل أى حركة من مصر إلى المشرق أو أى حركة من المشرق إلى مصر.

والمراسلات التى دارت بين "بالمرستون" و"روتشيلد" موجودة فى الوثائق الرسمية البريطانية وهى ليست سراً لمن يريد الاطلاع عليها، وأظن أن مراجعة بعضها مفيد فى هذه الظروف، وتكفى سطور من خطاب بعث به "روتشيلد" إلى رئيس الوزراء البريطانى فى شهر مارس سنه 1841 وفيه يقول: "إن هزيمة محمد على وحصر نفوذه فى مصر ليست كافية لأن هناك قوة جذب متبادلة بين العرب وهم يدركون أن عودة مجدهم القديم مرهونة بإمكانيات اتصالهم واتحادهم. إننا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض فسوف نجد أن فلسطين هى الجسر الذى يوصل بين مصر وبين بقية العرب فى آسيا. وكانت فلسطين دائماً هى بوابة من الشرق. والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر وفى هذه البوابة؛ لتكون هذه القوة بمثابة حاجز يمنع الخطر العربى ويحول دونه. والهجرة اليهودية إلى فلسطين تستطيع أن تقوم بهذا الدور، وليست تلك خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض الميعاد مصداقاً للعهد القديم فقط ولكنها أيضاً خدمة للإمبراطورية البريطانية ومخططاتها، فليس مما يخدم الإمبراطورية أن تتكرر تجربة محمد على سواء بقيام دولة قوية فى مصر أو بقيام اتصال بين مصر والعرب الآخرين".


ولست أريد أن أضيع سياق حديثى فى وثائق التاريخ، ولكن يكفى أن نتذكر أن الهجرة اليهودية الأولى إلى فلسطين فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر تمت نتيجة لمراسلات "بالمرستون" و"روتشيلد" واتفاقهما معاً، وكانت الأفكار التى عبر الاثنان عنها فى ذلك الوقت من القرن التاسع عشر هى نفسها الأفكار التى ترددت بعد ذلك فى جلسات مجلس الوزراء البريطانى التى نوقش فيها وعد بلفور سنة 1917.

لقد كانت للصهيونية أساطيرها وأحلامها فى فلسطين ولكن القوة الاستعمارية هى التى ساندت هذه الأساطير والأحلام وهى التى أعطتها فرصة التحقيق. كانت أرض فلسطين هى الجسر بين عرب أفريقيا وعرب آسيا... وكان يراد لأرض فلسطين أن تتحول إلى حاجز يمنع مصر ويصد الشام والجزيرة ويوقف ويضرب عند اللزوم قوة الجذب المتبادل بين العرب هناك وهنا.

لكننا فى مصر ركزنا على جزء من الحقيقة وأغفلنا أجزاء، وبدا مما ركزنا عليه أننا طرف فى الصراع بحكم التضامن مع غيرنا وليس بحكم الدفاع عن أنفسنا.

وكان هذا أول الأخطاء.

ثانياً: إن الفكر والفعل السياسى المصرى - خصوصاً فى عصر جمال عبد الناصر - قدما انتماء مصر العربى باعتباره حقيقة مسلماً بها، ومع أنها حقيقة يجب التسليم بها فإن هذا التسليم كان يحتاج إلى دعم وترسيخ عن طريق المناقشة الحرة والمفتوحة حتى وإن كان الشك بدايتها. ولابد أن نتفق معاً على أن مصر هى الكيان العربى الوحيد الذى يملك لظروف تاريخية عديدة إمكانية الادعاء بوجود أمة - وليس مجرد دولة - مستقلة ومنفصلة، ومن هنا فإن انتماء مصر إلى الأمة العربية كان يحتاج إلى جهد أكبر وأوسع وإلا ظلت دعاوى الاستقلال والانفصال تطل برأسها إذا ما أتيحت لها ظروف شك أو أتيح لها أن تجد من القوى المتربصة من تذكى نزعات الاستقلال والانفصال ولمقاصدها وليس لمقاصد مصر.

كان يجب أن ندرك أنه حتى الحقائق تحتاج إلى تأصيل يمد جذورها فى الأرض، ذلك لأنه بغير جذور قوية ضاربة فى أعماق الأرض فإن فروع الشجرة حتى وإن أزهرت وأثمرت تصبح تحت رحمة الرياح والزوابع.

وكان هذا ثانى الأخطاء.

ثالثاً: إن الفكر والفعل السياسى المصرى - والعربى أيضاً - لم يتمكنا خلال الثلاثين سنة الأخيرة من وضع إستراتيجية عامة وشاملة ومستمرة لإدارة الصراع ضد الحاجز الغريب الذى تمكن من الجسر الفلسطينى الذى هو فى نفس الوقت بوابة المشرق إلى مصر وبوابة مصر إلى المشرق. ولم يكن هذا الحاجز الغريب على الجسر وعند البوابة قد اقتصر على مجرد مستعمرات استيطان يهودية وإنما تحول هذا الحاجز إلى رأس جسر مسلح لم يعزل ويحجز فقط وإنما راح يستنزف الأقوى ويرهق الوجود العربى كله.

وفى غيبة إستراتيجية عامة وشاملة ومستمرة فإن أعباء الصراع لم تتوزع على أصحابه بالعدل، وإنما وقع النصيب الأكبر منها بالطبيعة على الأقرب إلى خطوط الاحتكاك والصدام.

تحمل الشعب الفلسطينى أقسى الأعباء، وتحمل الشعب المصرى والشعب السورى أكبرها كلٌ بحجمه، ولما كان الشعب المصرى أكبر حجماً فقد كان نصيبه أظهر ولا أقول أثقل.

وبرغم هذه الأسباب من قصور الفكر والفعل السياسى المصرى - والعربى - فإن الشعب المصرى كان بحسه الصافى يفهم بأكثر مما يقال له وكان يندفع إلى أبعد مما يطلب منه.

ثم كنت أقول:

- سوف أنتقل الآن إلى المجموعة الثانية من الأسباب، ومرجعها ومردها جميعاً إلى طول الصراع وإلى ملابسات ومضاعفات أخرى عربية ودولية زادت من تكاليفه وأثقلت وطأته - وأعدها بدورها على النحو التالى:

أولاً: إن القوة الإسرائيلية زادت بما تلقته وتتلقاه من دعم غير محدود، ومع زيادة القوة الإسرائيلية - وقد وصلت كما تعرفون إلى نطاق السلاح النووى - فإن المسئولية أصبحت باهظة.

ولقد وجدت مصر نفسها تخوض خمسة حروب - إذا تذكرنا حربنا العظيمة المنسية وهى حرب الاستنزاف - وفى بعض هذه الحروب - كحرب سنة 1956 وحرب الاستنزاف - كانت مصر وحدها، وفى بعضها الآخر كان معها جزء فقط من قوة الأمة العربية.

وأعتقد فى غير ما تعصب أن مصر استطاعت فى فترة تصدرت فيها قيادة الصراع العربى أن تصل إلى إزاحة الاستعمار من كل الأرض العربية، ثم أنها استطاعت أن تهيئ الظروف التى مكنت من تحرير موارد وثروات الأمة العربية - ولكن ذلك لم يقدر بما كان ينبغى أن يقدر به.

إن أحداً لا ينكر ولا يحق له أن ينكر - أن انتصار السويس هو الذى حمل رياح التغيير إلى الأرض العربية كلها... ولكن ذلك ما لبث أن نسى.

ومن ناحية أخرى فأنا أول من يسلم أن هزيمة سنة 1967 صدمت أمتنا كلها، ومع ذلك فلقد كان واجباً علينا جميعاً أن لا نبالغ فى اللوم وأن نتذكر أنها عثرة الصامدين فى الميدان يقاتلون ومهما كانت أخطاؤهم فى الحساب فلقد حاولوا قدر ما استطاعوا وظلوا حتى والدماء تنزف من جروحهم رافضين للمساومة على الحق - وما كان أسهله - ومصممين على القتال - وما كان أصعبه.

وهكذا فإنه ليس فى التكاليف فقط ولكن فى المشاعر أيضاً أحس الشعب المصرى - وله بعض الحق - أن ما يلقاه من أمته أقل مما كان ينتظره.

ثانياً: ولكى أكون منصفاً فإن دول المساندة قدمت لدول المواجهة - ومصر بينها - ما لا يمكن إنكار أهميته من أسباب الدعم، وكون أن مصر كانت تنتظر أكثر لا يعنى إنكار أهمية ما حصلت عليه فعلاً، وفى الحقيقة فإن ما حصلت عليه مصر لم يكن لها بالمعنى الضيق وإنما كان لمجمل حصيلة القوة العربية الشاملة وقدرتها.

لكننا هنا أيضاً وقعنا فى خطأ دفع الشعب المصرى ثمنه، ذلك الخطأ هو أن دول المساندة ودول المواجهة معاً رأت أن تغطى الأرقام ولا تكشف تفاصيلها، وكانت لذلك تعلات أعترف أننى لا أجد لها داعياً... قيل بالحساسية تعلة... وقيل بعدم تشجيع الآخرين تعلة... وقيل بالحياء الطبيعى تعلة... وقيلت تعلات أخرى لا أظنها مقنعة.

والنتيجة أن الشعب المصرى تحت ظن أن هؤلاء الذين اغتنوا من رفع أسعار البترول نتيجة لحربنا نحن فى أكتوبر احتكروا لأنفسهم الذهب وتركوا لغيرهم التراب، وليس ذلك صحيحاً كما أعرف، ولكن أصحاب الحق لا يعرفون.

والنتيجة أننا تركنا حملات التشكيك الموجهة إلى الشعب المصرى تحرضه على أمته - كما حرضت من قبل أمته عليه!

ثالثاً: ولم تكن حرب التشكيك التى وجهت إلى الشعب المصرى تستهدف تحريضه على أمته فقط ولكن الحرب امتدت إلى ما هو أبعد وأعمق... نفذ التشكيك إلى كل شىء...إلى قدرات الشعب المصرى... إلى إنجازاته... حتى إلى معاركه التى دفع فيها دماء أغلى الأبناء.

تجربة ثورة 23 يوليو كلها تصور الآن وكأنها سنوات طويلة من القهر والظلم.

السد العالى وهو ملحمة يصور الآن وكأنه كارثة.

حرب السويس وانتصارها الذى كان نقطة تحول فى العالم العربى، وفى قارات العالم الثلاث النامية - آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية - تصور الآن وكأنها هزيمة ساحقة.

كان هناك من يتصورون أنهم بهذا ومثله يهدمون تاريخ شخص، وما دروا أنهم قصدوا أو لم يقصدوا لن ينالوا الشخص، فقد أصبح دوره ملكاً للتاريخ يحكم له أو يحكم عليه، وإنما الضرر سوف يقع على الشعب الذى هو مالك التاريخ وصانعه.

ومع ذلك دعونى أعبر أمامكم فى صراحة عن شعور غامض أحس به أحياناً وربما أحس به غيرى.

شعور بأن حملة التشكيك الموجهة إلى الشعب المصرى إنما هى قصد مقصود يراد منه أن يهتز يقين الشعب المصرى فى كل شىء حتى فى نفسه، ليصل إلى حالة من الإحباط الشديد تورثه شعوراً من اللامبالاة يجعله يقبل بما لا يمكن قبوله ويسكت عما لا يجوز السكوت عليه.

لكن الشعب المصرى - ودعونى أؤكد لكم - أثبت بالواقعة بعد الواقعة وبالموقف بعد الموقف أنه أصلب مما تظن به الظنون وأنه أذكى من هؤلاء الذين يحاولون أن يسلبوه ثقته بمصيره وثقته بنفسه وأنه أقوى من أى شعور بالمرارة والإحباط.

وكنت أقول:

- والآن تجىء المجموعة الثالثة من الأسباب، وهى أسباب طارئة تتمثل كما قلت فى الجو النفسى الذى أحـاط بالتطورات الأخيرة، وصنع ما يشبه الانفصام بين ما كان قبلها أو ما جاء بعدها.

وهنا يطول الحديث ذلك أن سرد الوقائع والحوادث هنا يجب أن يدور بأسلوب العرض السينمائى البطىء لكى تظهر الومضات والخلجات ولكى نتبين القسمات وما ارتسم عليها من تعبيرات.

ولعلى حين أستعير أسلوب السينما - العرض البطىء - لا أقحم على السياسة عنصراً غريباً على طبيعتها، فالحقيقة أن بعضاً مما رأينا فى التطورات الأخيرة كان فى كثير منه عدسات وميكروفونات وأضواء وألوان، ولم تكن السيدة "جولدا مائير" رئيسة وزراء إسرائيل السابقة بعيدة عن الواقع حين قالت: "لا أعرف إذا كان ما يحدث يستحق جائزة نوبل التى تمنح لجهود السلام العظيمة.. ولكنى أعرف يقيناً أنه يستحق جائزة الأوسكار التى تمنح لأفلام السينما الناجحة"!
 
(4) حديث المبادرة: ماذا حدث داخل مشاعر الشعب المصرى؟


نصل إلى تلك الأيام المثيرة من نوفمبر 1977.

تلك الأيام التى بدأت بالوقوف على منبر مجلس الشعب المصرى وانتهت بالوقوف على منبر الكنيست الإسرائيلى....

كيف عاشها الشعب المصرى؟ وماذا كانت أحاسيسه خلالها؟ وعلى أى نحو تفاعلت مشاعره فى أعماق.. أعماق وجدانه الإنسانى والسياسى؟

أسئلة أعتقد أننا سوف نسمع عنها الكثير فى مستقبل الأيام لأنها سوف تكون موضوعات لأبحاث ودراسات وتحاليل لا غنى عنها لمن يريد أن يفهم ويغوص فى بواطن الأمور أكثر مما يعوم على سطحها.

ومن سوء الحظ أن الإسرائيليين على وشك أن يسبقونا فى هذا المجال، ففى الأيام الأولى من العام الجديد 1978 وصل إلى مصر فريق من أساتذة علم النفس اليهود وهدفهم إجراء دراسة لمجمل العوامل النفسية التى حكمت التصرف الجماعى المصرى فى الأسابيع الأخيرة من سنة 1977.

وكانت الأبواب مفتوحة أمامهم حيثما ذهبوا، وكذلك كانت الأفواه، والله وحده يعرف ما الذى وجدوه وسمعوه، ثم سجلوه فى أوراقهم وذهبوا به من حيث أتوا.

وهذه على أية حال مسألة أخرى، والمسائل الأخرى فى هذه الحكاية كثيرة كما نرى، وليس هناك ما نملكه حيالها غير الإشارة لها ثم تركها لمستقبل الأيام.

نعود إلى موضوع هذا الحديث: تلك الأيام المثيرة من نوفمبر 1977، وكيف عاشها الشعب المصرى؟ وماذا كانت أحاسيسه خلالها؟ وعلى أى نحو تفاعلت مشاعره حيالها؟

لعلنا نتفق على أنه لا يمكن فهم أى حدث فى عزلة عن المناخ الذى جرى تحته، كما أنه لا يمكن إدراك أى تعبير بعيداً عن الإطار الذى تم فيه.

أن خلفية الصورة وراء الحركة البارزة على سطحها هى جزء لا يتجزأ من الانطباع العام الذى تنقله الصورة إلى العين والعقل.

وهكذا فإن تذكرة سريعة بالمناخ والإطار والخلفية التى جرت عليها وقائع تلك الأيام المثيرة من نوفمبر 1977 تبدو ضرورية ولازمة.

وليست بنا حاجة إلى الذهاب بعيداً للحصول على ما نريد... يكفينا أن نتذكر ما أشرنا إليه فى حديث سبق عن مجموعات العوامل التاريخية القديمة والجديدة التى أثرت على رؤية الشعب المصرى للصراع العربى الإسرائيلى: التصورات القاصرة عن عروبة مصر... والطرح الخاطئ لجذور الصراع العربى الإسرائيلى وعلاقته بمصر ومصلحتها وأمنها... وطول النزاع... وفداحة تكاليفه... والإحساس بأن الجزء الأكبر من العبء وقع على كاهل الشعب المصرى... وأخيراً حملة التشكيك المخيفة فى كل التجربة المصرية الحديثة.

إذا تذكرنا ذلك كله نستطيع أن نفهم أن الأرض كانت ممهدة، خصوصاً إذا أضفنا إليه تأثيرات حالة التخبط التى سيقت إليها أزمة الشرق الأوسط... (جنيف أو لا جنيف..؟- من القادر على حمل الترياق من العراق؟- كيسنجر أو نيكسون أو فورد أو كارتر؟- جولدا مائير تعتزل وإسحاق رابين يجىء - إسحاق رابين يسقط وشيمون بيريز فى الطريق... شيمون بيريز لا يصل وبدلاً منه وصل مناحم بيجن - ما هى رؤيتنا للمخاطر التى تحيط بنا، إسرائيل أخطر أو الشيوعية الدولية؟- جهودنا المكثفة وأين هى مطلوبة؟ فى سيناء والضفة الغربية وغزة والقدس أو فى زائير والقرن الإفريقى وربما تشاد، ومن يعرف ماذا أيضاً؟)

هكذا.

العوامل التاريخية القديمة والجديدة فعلت فعلها.

ثم أضيفت إليها التأثيرات الطارئة، فلم تصبح الأرض ممهدة فحسب وإنما ساد إحساس غريب بالرغبة فى الخلاص بأى ثمن من كل هذا العناء والإحباط والشعور بالاغتراب والضياع.

وفى هذا الجو المثقل والمشحون - انفجر فجأة اقتراح السفر إلى القدس المحتلة. وهنا نستعير من فنون السينما أسلوب العرض البطىء لكى تبين وتظهر كل القسمات والتعبيرات والخلجات والومضات.

نمشى بأسلوب العرض البطىء مشهداً بعد مشهد.

* المشهد الأول: كان رد الفعل التلقائى لدى الشعب المصرى فور سماعه لاقتراح السفر إلى القدس المحتلة - هو رد الفعل الغالب فى العالم كله، وهو: عدم التصديق.

هذه مثل سابقات لها مناورة سياسية، وربما كانت هذه المرة أجرأ ولكن حدة اندفاعها لا تغير من طبيعتها.

وكان المنطق الذى أوحى بعدم التصديق هو القياس على المواقف الثابتة والمعروفة: لقد كان يقال أن المفاوضات المباشرة مستحيلة... وتطبيع العلاقات لن يحدث فى هذا الجيل - فهل تستحيل المفاوضات المباشرة ويستحيل تطبيع العلاقات وفى نفس الوقت تتم زيارة للقدس على مستوى القمة؟ وأليست هذه أعلى مرحلة من مراحل المفاوضات المباشرة وتطبيع العلاقات؟

وإذن فهى مناورة... أو هى حركة علاقات عامة تستهدف التأثير على الرأى العام الأمريكى بإحراج إسرائيل، ذلك أن الشروط التى ستوضع لمثل هذه الزيارة سوف ترغم إسرائيل إما على الاستجابة وإما على كشف نواياها بطريقة نهائية وقاطعة.

وكان مما ساعد على غلبة مثل هذه التصورات أن الصحف المصرية خرجت فعلاً بإيماءات مقصودة تقول بأن الزيارة بالطبع لا يمكن أن تتم إلا بتعهد إسرائيلى واضح بقبول الانسحاب وإقامة الدولة الفلسطينية.

ولم يكن فى مقدور أحد وقتها أن يتصور أن مصدر هذه الإيماءات كان فى وادٍ وسلطة القرار السياسى فى وادٍ آخر.

* المشهد الثانى: فجأة بدأ الاقتراح يأخذ قوة الحركة الذاتية وذلك عن طريق الأفعال وردود الأفعال المتبادلة خصوصاً على مرأى ومسمع من العالم كله... دبلوماسية التليفزيون.

بدأت الشكوك تذوب... ويحل محلها نوع من اليقين الغريب والقلق بأن الزيارة ربما تحدث.

ليست هناك شروط من جانب مصر.

وصحيح أن "مناحم بيجن" أعلن شروطاً أكد فيها عدم استعداده لقبول الانسحاب من كل الأراضى المحتلة سنة 1967 وعدم استعداده لقبول إنشاء دولة فلسطينية - إلا أن ضجيج المهرجان أغرق كل الكلمات... أصوات الأشياء ابتلعت كل همهمات البشر ولم يعد مسموعاً إلا الصخب العالمى الذى تعلو طبقاته ثانية بعد أخرى.

كانت الأنفاس كلها محتبسة ومتقطعة، والتساؤلات كالشرر المتطاير من اللهب.

"تتم الزيارة؟ أو لا تتم؟

الظاهر أنها ستتم... نعم مؤكد أنها ستتم... يا له من مشهد لا يصدق... حركة تبهر المشاهدين على وشك أن تبدأ ولكن كيف تنتهى؟".

وتعلقت الأنظار والأسماع كلها فى الراديو والتليفزيون.

* المشهد الثالث: الطائرة القادمة من الإسماعيلية تهبط فى مطار بن جوريون.

الصوت والصورة والظلال والأجواء منقولة من إسرائيل مباشرة، وقادة إسرائيل واقفون فى الانتظـار المدنيون والعسكريون... مناحم بيجن.. جولدا مائير... إسحاق رابين... ييجال يادين... ييجال آللون... شيمون بيريز... آبا ايبان... أفراييم كاتزير وغيرهم... ثم العسكريون موشى ديان... آريل شارون... موردخاى جور... إسرائيل تال وغيرهم.... وحدات من الجيش الإسرائيلى بأعلامها فى مقدمة طوابير المستقبلين، وألوف من أفراد الشعب الإسرائيلى وراء طوابير المستقبلين.

هذه إذن إسرائيل... وهؤلاء قادتها... وهذه وحدات جيشها... وفى خلفية المشهد شعبها...

وهنا حدث شىء هام يستحق أن نتأمله بالتدقيق والتعميق.

إن طول صراعنا العنيف والدامى مع إسرائيل خلق فى أعماقنا اهتماماً - وربما فضولاً مكبوتاً - حول كل ما يتصل بالعدو.

كانت أحواله تشغلنا، وكان بعض قادته فى حياتنا نوعاً من الأشباح الغامضة.

إن تلك لم تكن ظاهرة تفردنا بها وحدنا دون بقية الشعوب والأمم، وإنما عرفها غيرنا كما عرفناها.

إن اهـتمام الشعب البريطانى بـ "أدولف هتلر" كان - ومازال حتى الآن - واسعاً وعميقاً.

والكتب مازالت تظهر فى الولايات المتحدة الأمريكية عن الأميرال اليابانى "ياما موتو" الذى قاد الغارة اليابانية الصاعقة على ميناء "بيرل هاربور".
بل إن بعضنا ربما يتذكر أن "الفيلد مارشال مونتجمرى" حين ولى قيادة الجيش الثامن فى العلمين كتب فى أول تقرير له إلى وزارة الحرب يقول:

"إننى أتلقى منذ توليت قيادتى توصيات من وزارة الحرب تنقلها إلى هيئة أركان الحرب المشتركة - تدعونى إلى البدء فوراً فى القيام بعمليات هجومية ضد الفيلق الأفريقى بقصد تصفية الوجود الألمانى فى شمال أفريقيا. إننى أعتقد أن هناك أعمالاً تمهيدية للهجوم يجب أن أحققها وبعضها فى المجال النفسى. إننى أشعر أن شبح القائد الألمانى الفيلد مارشال روميل يجوس فى خيال قواتى وهذه مسألة خطيرة، وأشعر أن على حلها، فلا يمكن أن أبدأ القتال إلا إذا استطعت تخليص الجيش الثامن من شبح روميل".

ومثل هذا الذى دعا الشعب البريطانى إلى الاهتمام بـ "هتلر"، ودعا الأمريكيين إلى تأليف الكتب عن "ياما موتو"، ودعا "مونتجمرى" إلى البدء بمطاردة شبح "روميل" - كان عندنا.

كان عندنا مثل ما عندهم: اهتمام وفضول مكبوت فيما يتعلق بالعدو وقياداته.

وهكذا فإن زيارة إسرائيل التى أصبحت استعراضاً لا نظير له فى العالم أتاحت لجماهير الشعب المصرى - عبر تكنولوجيا وسائل الاتصالات الحديثة - فرصة اكتشاف المجهول الإسرائيلى والتعرف مباشرة على أشباحه.

وهكذا التصق ملايين المصريين لساعات بعد ساعات إلى أجهزة الراديو والتليفزيون وعيونهم مفتوحة على آخرها بالفضول المنبهر والمذهول.

* المشهد الرابع: أن عدم التصديق كما رأينا أفسح مكانه لنوع من الدهشة الصاعقة.. والدهشة الصاعقة كما لاحظنا تحولت إلى فضول ثم إلى اهتمام ثم إلى استمتاع من نوع غريب باستعراض لم يسبق له مثيل فى حياتنا السياسية سواء بالنسبة للموضوع أو بالنسبة للشكل.

إن ملايين المصريين ثانية بعد ثانية، ودقيقة بعد دقيقة، وساعة بعد ساعة، وطوال أربعين سـاعة - التصقوا بأجهزة الراديو والتليفزيون يسمعون من خلالها ما يدور بآذانهم ويطلون عليه بعيونهم، وعن طريق هذا الالتصاق الكامل وهذه المعايشة الوثيقة للحدث فقد تولد لديهم نوع من الإحساس بالمشاركة فيه.

إنهم لم يعودوا مجرد متفرجين على مشهد غريب مثير، وإنما تحولوا - حتى رغم إرادتهم - إلى مشاركين فيه، ومن خلال هذا الإحساس بالمشاركة فإن أية تحفظات كانت لهم قبل وقوع الحدث تاهت فى خضم التأثيرات الجارفة وتبعثرت. إن مثل ذلك الشعور يحدث لنا إذا شهدنا مسرحية أو فيلماً محبوك التمثيل والإخراج... نغادر مقاعدنا بعد أن تضاء الأنوار فى المسرح أو السينما ونحن مأخوذون بالجو الدرامى للقصة، ونظل لساعات وربما لأيام مأخوذين...

ولم يكن ذلك الذى سمعناه ورأيناه من خلال أجهزة الراديو والتليفزيون مجرد مسرحية أو فيلم عادى... لقد كان استعراضاً حياً... بل إنه بدا أكبر من الحياة نفسها!

* المشهد الخامس: وكانت الحماسة فياضة ومتدفقة أمام عيوننا فى إسرائيل، وكانت الحماسة فياضة ومتدفقة ملء آذاننا من العالم كله.

وهذا النوع من المشاعر الهستيرية شديد العدوى.

إننا حـين نجد رجلاً يستغرق على نفسه من الضحك - مثلاً - لا نستطيع أن نملك أنفسنا، فنجد أننا نجاريه فيما يفعل - بالعدوى - حتى دون أن نعرف ما الذى أضحكه.

وكانت للحماسة الفياضة المتدفقة فى إسرائيل أسبابها، فقد بدت الزيارة بالنسبة لهم نهاية لسلسلة من المتاعب والمشاكل لم تتوقف منذ قيام الدولة سنة 1948.

أخيراً تحقق لهم اعتراف الآخرين بهم... وأخيراً جاءهم السلام حتى على الأمر الواقع الذى حاولوا ثلاثين سنة أن يفرضوه - هكذا خطر لهم.

وكانت للحماسة الفياضة المتدفقة فى العالم كله أسبابها، فقد بدت الزيارة بالنسبة للعالم كله وكأنها تضع حداً للتوتر فى منطقة حساسة بالنسبة لهم... تهددهم أحداثها باحتمالات حرب عالمية وحظر بترولى.. كما أن أطرافها كانوا يواجهونهم بمشكلة اختيار صعبة بين اليهود والعرب.. أخيراً آن لهم أن يستريحوا من هذا الصراع - هكذا خطر لهم!

وانتقلت إلينا عدوى الحماسة الفياضة المتدفقة دون فرصة نسائل فيها أنفسنا عما إذا كانت لدينا مثل أسبابهم للحماسة الفياضة المتدفقة.

وربما كان علينا أن نصيخ السمع أكثر لهذا الصخب العالمى الذى أحاط بالحدث وأن نسأل أنفسنا:

- من هم هؤلاء السعداء به..؟

ومن هم هؤلاء الذين يمدحوننا فجأة؟

وهل هم أصدقاء يتمنون الخير لنا... أو أنهم فريق آخر. لا يعنيه ما يعنينا ولا تشغله همومنا... وحقوقنا؟

لم يسأل أحد. لأن هذه الأسئلة بالشك سخيفة فى يوم الفرح الكبير.

ثم من هو ذلك الذى يملك القدرة على التصدى للطوفان!

* المشهد السادس: وانتهى الاستعراض الكبير المثير.

الكل تابعوه، ومن خلال المتابعة تولد لديهم إحساس بالمشاركة فيه.

والكل باستثناءات قليلة - تحمسوا له ولو بتأثير العدوى من حماسة الآخرين له.

هكذا أصبح الحدث أمراً واقعاً مقبولاً وبكل الرضا، وإذن فإن أحداً لم يعد مستعداً للتفكير مرةً أخرى بسرعة فى كل ما جرى.. وترتب على ذلك أن المطلوب الأول فى هذه المرحلة أصبح إعطاء الحدث فرصة للتجربة. "لا داعى للتشكيك الآن فكلنا شاركنا... وليس هناك مبرر لاستباق الحوادث... أعطوا التجربة فرصة"... هكذا كان يقال!

وفى بعض الأحيان، وفى تجارب الشعوب، كما فى تجارب الأفراد - يصبح الوهم نعمة ولو حتى كلحظة فرار من واقع مستحيل أو يبدو مستحيلاً.

وساد لبعض الوقت نوع غريب من الوهم بل حتى و"الإيهام"، ولم يكن أحد على استعداد لأن يتذكر أو يذكر غيره بأن الصراعات التاريخية الكبرى تظهر نتيجة لتناقضات حقيقية فى أمن ومصالح الأطراف المتصارعة.

وربما سـاعدت بعض رواسب المواريث العربية القديمة على نزعة التبسيط المخل للصراعات، فحولت أزمة الشرق الأوسط إلى شبه نزاع قبائلى مما يحدث فى طلب الثأر أو خصام على ملكية بئر ماء فى مراعى الصحراء!

"لقد ذهبنا نحن إليهم وأثبتنا أننا أكبر منهم وسوف يخجلون من أنفسهم ثم يجيئون إلينا بطلب الصفح والغفران".

* المشهد السابع: كانت نزعات "الوهم" قادرة على تغليف معظم الحقائق، ولكن الشعوب الحية قادرة على أن تحس - بوعيها المركز فى أعماقها خلال تجارب القرون - أن الأمور لا يمكن أن تكون فى بساطة ما يبدو على سطحها فى لحظة من اللحظات.

وهكذا فإن الضمير المصرى راح يسائل نفسه ويحاورها لعله يصل فيما يرى ويسمع إلى يقين. وفى هذه العملية من البحث فى أعماق الحوادث فإن الضمير المصرى وصل إلى استنتاج كان له الحق فى الوصول إليه والاطمئنان - ولو إلى حد ما - بعد الوصول إليه.

هذا الاستنتاج تترابط حلقاته المنطقية على النحو التالى:

"لابد أن يكون هناك شىء وراء هذا كله... شىء لا نعرفه... شىء جرى ترتيبه والإعداد له سلفاً. إن مشاكل صراعنا مع إسرائيل عويصة ومعقدة، ولم يكن ممكناً أن يكون هناك قفز فوقها كما رأينا إلا على أساس حساب جرى تقدير نتائجه مقدماً.

إن هناك خطوطاً عريضة بالتأكيد لاتفاق أو مشروع اتفاق جرى التوصل إليه بمساعدة الولايات المتحدة... لابد أن هناك اتفاقاً من هذا النوع أو مشروع اتفاق".

إن هذا الاستنتاج - وله مبرراته - تمكن من أن يستقر كاعتقاد راسخ طوال الفترة التى انقضت منذ زيارة القدس المحتلة إلى اجتماع الإسماعيلية الفاشل.

فى تلك الفترة كان موضوع الخلاف بين حدود الاستنتاجات نقطة واحدة وهى:

هل أن الاتفاق الذى جرى ترتيبه والإعداد له سلفاً اتفاق ثنائى بين مصر وإسرائيل تتحرر بمقتضاه سيناء كلها؟

أو هل الاتفاق شامل يتعدى سيناء ويمتد إلى كل الأرض العربية المحتلة؟

لم يكن هناك خلاف تقريباً على أن هناك اتفاقاً من نوع ما... ذلك منطق الأشياء وغيره لا يمكن أن يكون منطقياً.

وإنما كان الخلاف على حدود الاتفاق المتصور.

ولقد ساعدت أقوال كثيرة أطلقت فى تلك الفترة على الإيحاء - بل التأكيد صراحةً - بأنه ليست هناك مشكلة فى سيناء، وكان ذلك كله مما قوى الاستنتاج العام بوجود اتفاق.


* المشهد الثامن: فى ذلك الوقت الحافل بالتأثيرات الدرامية والآمال الواسعة والأوهام الوردية والاستنتاجات المتفائلة ولها عذرها - بدأ رد الفعل العربى. ولأسباب متعددة فإن رد الفعل العربى بدا وكأنه انطلق فجأة من ماسورة مدفع رشاش تتدافع طلقاته بسرعة وفى كل اتجاه. وكان من السهل فى حالة المزاج السائدة فى مصر أن يبدو رد الفعل العربى - على هذا النحو - وكأنه هجوم شامل، واستثيرت حوافز المقاومة المصرية وهى عادةً أقوى ما تكون عندما تتعرض للهجوم.

ومن ناحية أخرى فقد كان هناك الحرص على ما لاح وكأنه حلم قريب التحقيق، والخوف من أن يؤدى التشدد والتشنج إلى تبديده وإضاعته، وبدأت التساؤلات تتصاعد وترتفع حرارتها درجة بعد درجة.

لماذا لا ينتظرون حتى تظهر النتائج؟

من الذى أعطى الآخرين حق الوصاية على تصرفاتنا؟

إن تضحياتنا أكثر من تضحيات غيرنا، ومن ثم فنحن نسأل ولا نسائل، لقد أعطينا الدم وهم جادوا بالكلمات... وأحياناً بالمال، وليست هناك ثروة من المال تساوى قطرة الدم. إذا لم يكن يعجبهم ما نفعل، فليفعلوا ما يعجبهم، لهم طريقهم ولنا طريق غيره.

وهكذا درجة بعد درجة تحولت حوافز المقاومة إلى دوافع للتحدى.

* المشهد التاسع: وكان هناك من انتظـروا هذه الفرصة السانحة وسكبوا الزيت على النار، واستثيرت فى مصر - بقصد وعن عمد - رواسب الغرائز الانفصالية، وشنت بغير مبرر حملات كراهية ضد انتماء مصر العربى، وكان ذلك شيئاً مخيفاً.

حـتى لو كان القصد هو الحصول على نصر تكتيكى يحتفظ بتأييد الشعب المصرى لما حدث، فلقد كان هذا النصر التكتيكى يتحقق على حساب مواقع وموارد استراتيجية هائلة.

وهكذا نسبت مشاكل مصر ببساطة إلى انتمائها العربى، ونسب دور مصر فى الصراع العربى الإسرائيلى إلى هؤلاء الفلسطينيين الذين لا يرحمون ولا يريدون لرحمة الله أن تنزل... بل إن معارك مصر العظيمة ودورها فى حركة التحرر العربى عموماً نسب إلى حماقة السياسة المصرية فى زمن سابق وإلى تهورها.

وصل الأمر إلى حد أننا اعترفنا على أنفسنا بغير حق وأصل ودليل بأننا أطلقنا شعار إلقاء اليهود فى البحر، وهو شعار لم يقل به أحد فى مصر ولا أحد فى العالم العربى كله، وكان هذا الشعار من اختراع الدعاية الإسرائيلية وظلت تردده حتى تصور بعضنا أننا أصحابه فعلاً، وفى الحقيقة فإننا كنا أبرياء منه.

(ولعلى أستطرد هنا إلى رواية القصة الحقيقية لهذا الشعار الذى ألصق افتراءً بالحركة القومية العربية.... ففى ذات يوم من سنة 1966 كان الرئيس "جوزيف بروز تيتو" يتحدث مع "جمال عبد الناصر" عن المشكلة الفلسطينية، وقال الرئيس تيتو فى إخلاص صديق:

إن قضيتكم لا يساعد عليها أن تطلقوا شعاراً كشعار إلقاء اليهود فى البحر.

وقال جمال عبد الناصر:

إننى لم استعمل هذا الشعار فى حياتى، وأنا لست متحمساً له.

وقال تيتو فى دهشة:

الغريب أننى كنت أظنك صاحب هذا الشعار.

وأتذكر أننى حضرت هذا الحوار بين الاثنين، وأتذكر أن "جمال عبد الناصر" بعد لقائه بالرئيس "تيتو" طلب إجراء تحقيق فى أصل هذا الشعار ومصدره.

وجرى تحقيق واسع النطاق شاركت فيه فى ذلك الوقت كل أجهزة رئاسة الجمهورية ووزارة الإرشاد القومى فى مصر ووزارة الخارجية، وأسفر التحقيق عن أن مصرياً مسئولاً أو غير مسئول لم يطلق هذا الشعار... بل إن أحداً من المسئولين العرب لم يطلقه كذلك، وكان أقرب شىء إليه وإن اختلف معناه عنه هو جواب أعطاه السيد "عبد الرحمن عزام" أمين عام الجامعة العربية سنة 1947 وفى جو صدور قرار التقسيم.

فقد توجه إليه صحفى بريطانى بسؤال عن السبب الذى يدعوه إلى معارضة قرار تقسيم فلسطين، وعما يمكن أن يفعله المهاجرون اليهود القادمون بالبواخر من أوروبا إلى فلسطين... وكان رد "عبد الرحمن عزام" هو قوله:

- "لقد جاءوا بالبحر.. ويستطيعون أن يعودا منه إلى حيث جاءوا".

وهو معنى يختلف كثيراً عن معنى إلقاء اليهود فى البحر.

وأتذكر أن نتيجة التحقيق أرسلت إلى الرئيس "تيتو" فى يوغوسلافيا.

وأتذكر أيضاً أننى رويت القصة فيما بعد لعدد من الأصدقاء البريطانيين، وبينهم الوزير العمالى السابق "كريستوفر مايهيو"، وسألنى "كريستوفر مايهيو" عما إذا كنت متأكداً مما أقوله، وهكذا كتب "كريستوفر مايهيو" مقالاً أعلن فيه عن استعداده لتقديم خمسة آلاف جنيه إسترلينى لأى شخص يستطيع نسبة شعار إلقاء اليهود فى البحر إلى مسئول مصرى أو عربى، وبادر أحد الصحفيين الإسرائيليين العاملين فى لندن إلى رفع قضية على "كريستوفر مايهيو" يطالبه بالخمسة آلاف جنيه، وطالبه "كريستوفر مايهيو" أمام المحكمة بأن يقدم أدلة على نسبة التصريح إلى أحد من العرب المسئولين، وعجز الصحفى الإسرائيلى، وحكمت محكمة بريطانية برفض الدعوى).

برغم ذلك كله - وفى وسط جو الهيستيريا - فقد وجدنا مقالات فى صحف مصرية تعود إلى اتهام مصر بشعار لم تنجح إسرائيل فى إلصاقه بأحد فيها!!

* ثم يجىء المشهد العاشر: وفيه تحولت الهيستيريا إلى الغواية.

بدأنا نقول أن "السلام القادم" - ولا أعرف من أين - سوف ينهى معاناة الشعب المصرى ويتكفل بحل كل مشاكله.

سوف ترتفع الأجور وتنخفض الأسعار، ويبيض وجه الرغيف، وتحل أزمة الإسكان، وتختفى مشاكل المواصلات، وتعود الحرارة إلى أجهزة التليفونات التى انكتمت أنفاسها.

إن صناعة بيع الوهم لم تكتف بسحابات الأحلام الغامضة والمبهمة، بل حاولت أن تنزل حتى بالوهم لتحوله إلى جرعات تخدير يذهب بالوعى وبالعقل.

لكن الشـعب المصرى كان كعادته أقوى من أى مؤثرات عارضة فى لحظة عابرة من الزمان.

لقد أثبت فى كل تاريخه أنه القادر على الإمساك بالأحلام العظيمة وتحقيقها، وهى عالم آخر غير أحلام اليقظة وضبابها.

وكانت تلك هى المقدمات والمداخل!
 
(1) صباح ليلة الفرح: العرب بين القبول والرفض.. والصمت!

كانت الصورة مشوشة غداة نزول الستار على الاستعراض الكبير فى القدس المحتلة.

كان المشهد والمشاعر أشبه مما يكون عادةً صباح ليلة الفرح:

بقايا زينات وورود انحنت رؤوسها وتساقطت أوراقها ومقاعد ارتبكت صفوفها، وأبدان فارغة وزجاجات وأقداح - هذا عن المشهد.

وأما عن المشاعر فقد كانت مختلطة - المنى يتوه فى التمنى، والتساؤلات تتراوح بين الشك واليقين، وفى الرؤوس نشوة ولكن فيها أيضاً دوار وصداع سببهما طول السهر، وفى البطون شبع ولكن فيها أيضاً قلق سببته كثرة الطعام، والشراب.

لم يكن هناك شك فى أن الجماهير المصرية كانت مازالت بعد مأخوذة بمثيرات التجربة التى عاشتها، وأحست بفضل قوة تكنولوجيا الاتصالات الحديثة أنها لم تعش التجربة مجرد متفرجة، وإنما تولد لديها - حتى بالرغم منها - إحساس غريب بأنها شاركت فى كل ما حدث.

إن ذلك الوضع - حقيقة سياسية - لم يعد فى مقدور أحد إغفالها مهما كان رأيه وحيثما كان موقفه.

إن - الحقيقة السياسية - لا تصدر عن صواب قناعة ما، أو خطؤها، ولكن من مجرد وجود هذه القناعة بصرف النظر عن الصواب والخطأ.. إن مجرد وجود قناعة فى حد ذاته على مستوى شعب أو أمة هو الذى يخلق - الحقيقة السياسية - وبصرف النظر عن العوامل والمؤثرات التى ساعدت على خلقها. وهنا فإن - الحقيقة السياسية - تختلف عن الحقيقة العلمية.

فالحقيقة العلمية نتيجة تدل عليها قوانين وليست قناعات ذاتية مهما اتسعت درجة شيوعها. ثم إن الحقيقة السياسية شىء يختلف عن الحقيقة المطلقة إذا جاز أن يكون هناك حقيقة مطلقة فى أى شىء.

إن تقبل الجماهير المصرية لما سمى بمبادرة السلام أصبح - كما قلت - "حقيقة سياسية" ليس فى مقدور أحد إغفالها مهما كان رأيه، وحيثما كان موقفه..

ولم يكن معنى ذلك أن يغير المعارضون لها رأيهم فى تقييم ما حدث، ولكن كان معناه أن المقتضيات السياسية تفرض عليهم تكييف أسلوب معارضتهم مع - الحقيقة السياسية الراهنة إذا كانوا حريصين على الشعب المصرى ودوره فى العمل القومى الإسرائيلى وتعريته، خصوصاً أمام الرئيس الأمريكى - جيمى كارتر - وحكومته والرأى العام فى الولايات المتحدة.

ولم يكن الوفد المصرى إلى تونس بهذا الموقف يخدع غيره من الوفود، أو يغرر بها، وإنما كانت تلك تصوراته الفعلية.

كان الاقتراح - عندما صعد الوفد إلى سلم الطائرة المسافرة إلى تونس - معلقاً وكانت هناك محاولة لربط الزيارة بتعهدات مؤكدة تقطعها الحكومة الإسرائيلية على نفسها استجابةً عملية للمبادرة وتقديراً عملياً لأهميتها. وكان الوفد المصرى إلى تونس يعرف من خبرة تجارب طويلة أن إسرائيل لن تربط نفسها مسبقاً، وبالتالى فهو لن يستجيب، وإذن - فإن الزيارة لن تتم.

إن التطورات - كما نعرف الآن - سارت فى اتجاه آخر، ولكن تصورات الوفد المصرى إلى تونس ساعدت بغير قصد - على تعطيل الفصل العربى.

هكذا فإنه عندما أفاق الجميع من الصدمة وخرجوا من منطقة - ضباب الحرب - فإنهم كانوا يحسون بتأخرهم فى إبداء رد فعلهم - وربما خشى بعضهم أن يتهم بالتواطؤ وبالعلم المسبق - وهكذا اندفعت خطواتهم إلى المعارضة بسرعة مفاجئة، ثم جاءت معارضتهم مشوبة بانفعالات عصبية.

وكان هذا خطأ تداعت منه أخطاء.

بين هذه الأخطاء - ما أشرت إليه قبل قليل - من عجز عن دراسة وفهم الحالة النفسية للشعب المصرى.

وهكذا فإن ما اندفع بسرعة مفاجئة إلى الانفعال العصبى لم يعد صداماً مع مبادرة قام بها سياسى يجوز الصدام معه، وإنما تحول ولو مؤقتاً إلى صدام مع شعب لا يجوز الصدام معه.

ولم يكن ممكنا لأية عبارات موجهة بالتحية لهذا الشعب أن يخفف من وقع الصدام، خصوصاً إذا كانت هذه التحية لن تصل إليه بسبب التعتيم الإعلامى، وإنما الذى سيصل إليه هو الإدانة مصحوبة بالمبالغات الطبيعية التى تستهدف استثارة الإقليمية والوطنية، وهى دائماً ذخيرة حية قابلة للفرقعة فى أى جو ساخن ومشحون.

ومن بين هذه الأخطاء أنهم فى طرابلس تصوروا أن - نقص العروبة - يمكن أن يكون قضية يحاسب على أساسها أى نظام حاكم فى مصر، وذلك ببساطة ليس صحيحاً.

إن عروبة مصر حقيقة علمية، ومصلحة مصر العربية حقيقة علمية ثانية، وأمن مصر العربى حقيقة علمية ثالثة، ولكننا اتفقنا على أن الحقائق السياسية تكون أحياناً نقيضاً مع الحقائق العلمية. ومن الحقائق السياسية فى مصر - وهذه مسألة لابد من الاعتراف بها - إن انتماء مصر العربى لم يعمل بعد القدر الكافى بين الجماهير المصرية لأسباب متعددة سبق لى فى سلسلة سابقة من هذه الأحاديث أن أشرت إليها.

قلت إن مصر أقدم دولة فى التاريخ وذلك يخلق خلطاً بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمة فيها، وقلت إن الفكر والفصل السياسى المصرى أخذا قضية انتماء مصر العربى أمراً مفروغاً منه، وبالتالى فإن أحداً لم يبذل جهداً كافياً لتأصيله، وقلت إن وحدة الأمن العربى ليست واضحة فى اليقين المصرى بالدرجة الواجبة وكذلك وحدة المصلحة العربية.

ومن محصلة ذلك كله أن الفكرة العربية فى مصر تكون معرضة ومكشوفة لدعاوى من نوع - مصر وحدها.. أو- مصر أولاً - أو ما شابه ذلك، وكلها دعاوى يسهل ترويجها والارتكان عليها بنجاح - فى بعض الأحيان - بقصد تعطيل التفاعلات الضرورية بين الشعوب على ضفتى النهر وبين الأمة من المحيط إلى الخليج.

إن تهمة - الخيانة - ما لبثت أن أطلقت بغير حساب وبدون تحرز. والمشكلة أن تهمة - الخيانة فى العالم العربى أصبحت مرفوضة ومردودة من كثرة الاستعمال وكأنها عملة انمحت نقوشها من تعاقب تداول الأيدى لها، فلم يعد فى مقدور أحد أن يعرف قيمتها ولا أن يعرف مكان سكها، ولا فى أى عهد من عهود السلاطين جرى ضربها.

وإظهار الخطأ فى أى تصرف ممكن، وتحميل كل طرف مسئوليته من واقع سياسته ممكن، والتنبيه والتحذير وإبراء الذمة كلها أمور ممكنة، ولكن الوصول إلى إطلاق تهمة "الخيانة" ليس ممكناً بسهولة أو ببساطة.

لقد كانت هناك شوائب أخرى فى موقف الدول التى تنادت بالرفض إلى الاجتماع فى طرابلس صباح ليلة الفرح:

كان بعض الأطراف مشغولين بإظهار أنهم كانوا طول الوقت على صواب، وأنهم لم ينخدعوا، فى حين فاتت الخديعة على زملاء لهم - ومثل هذه مشاعر لا يعرفها العمل السياسى عند المستوى القومى.

لم تسـتطع الدول التى تنادت بالرفض أن تؤمن موقفاً موحداً فى ظرف اعترفت جميعاً بخطورته، وكان المظهر العملى والعلنى لذلك هو انسحاب العراق، مهما اختلفت الآراء فى أسباب هذا الانسحاب ودوافعه.

ثم جاءت قرارات المؤتمر، وقد برزت فيها محاذير ثلاثة واضحة:

1- إن القرارات حملت ما يمكن أن يبدو، وكأنه عقوبات موجهة إلى الشعب المصرى، ونموذج ذلك القرارات بالمطالبة بنقل مقر أمانة الجامعة العربية من القاهرة، وهو أمر مستحيل من الناحية الواقعية إذا أعملت تصوير ميثاق الجامعة.

ثم إن نقل الجامعة من القاهرة على فرض أنه ممكن قانوناً - لا يخدم هدف التمسك بعروبة مصر، وربما كان الأجدر هو التمسك بالقاهرة كمقر للجامعة ولو مجرد الرمز، بل وكان ممكناً أن تظل الجامعة منبراً يمكن فيه الاحتكام إلى الشعب المصرى بمقدار ما تسمح به الظروف.

ولعل أحداً لا يتهمنى فيما أقول الآن بتعصب إقليمى.

وفى الحقيقة فإننى لا أصدر فيه من مشاعر المواطنة المصرية، وإنما أصدر فيه عن إيمان قومى بأهمية الدور المركزى لمصر فى العمل العربى، على الأقل للسنوات العشر القادمة، وهى السنوات الحاسمة.


2- إن بعض القرارات بدت كأنها موجهة - ضد شخص - بأكثر مما بدت وكأنها موجهة مع هـدف - وذلك فتح الباب لضمان المصالح الضيقة، والمناقشات العقيمة، وتسوية الحسابات القديمة، وربما لم يكن ذلك موجوداً، ولكن ظواهر الجو العام خلقت انطباعاً بوجوده، ولم يكن ذلك الانطباع نافعاً.

3- يتصل بذلك أن القرارات شجبت سياسة ولم تطرح بديلاً لها.

لقد كانت هناك مآزق لاشك فيها، وليس يكفى أحد عند قمة المسئولية القومية العليا أن - يشخص المآزق، وإنما كان عليه أن يشير إلى باب خروج، بل أظن أنه كان عليه أن - يحاول إبقاء مثل هذا الباب مفتوحاً للخروج.

إن المآزق السياسية تختلف عن المآسى الإغريقية، ففى حين أن هذه المآسى الإغريقية تصبح أقداراً نهائية لا ترد - فإن المآزق السياسية لابد من تخطيها والخروج من قيودها إلى حيث الحركة ممكنة وضرورية.

هكذا فإنه فى الوقت الذى كان متاحاً فيه لمؤتمر طرابلس أن يمثل وجهة النظر الأخرى فى العالم العربى - فإن هذا المؤتمر اكتفى بأن يكون مجرد تعليق بالإدانة على ما صدر عن القاهرة، ولم يكن ذلك كافياً فيما أظن.

وهكذا ذهب هذا المؤتمر صرخة فى واد، وساعد على ذلك أن الرأى العالمى كان متلفتاً بكليتـه إلى المهرجان الكبير، ثم إن الرأى العام العربى ذاته تنازعه الحيرة فيما يجرى، فبعضه غير مقبول، وبعضه الآخر غير مقنع، وبين عدم القبول، وعدم الاقتناع سادت الحيرة واستحكم الارتباك.

إن الحيرة والارتباك خلقا موقفاً عربياً ثالثاً هو موقف الصمت الذى التزمته مجموعة دول - المساندة، وهى فى الواقع مجموعة الدول المنتجة للبترول التى يقع عليها عبء تمويل الموقفين السابقين على موقف الصمت، وهما موقف القبول، وموقف الرفض.

إن موقف هذه المجموعة من الدول أصبح دقيقاً ومعقداً إلى درجة مزعجة:

فمن ناحية تعرف هذه الدول أن شرعية النظم فيها تقوم على أساس تقليدى، وهذا الأساس التقليدى يفرض عليها التمسك بأكثر المواقف تشدداً خصوصاً فيما يتعلق بعروبة الأماكن المقدسة فى الأرض المقدسة، ولم يكن ذلك شيئاً جديداً، ذلك أن محضر اللقاء بين الملك "عبد العزيز آل سعود" والرئيس الأمريكى "فرانكلين روزفلت" فى نهاية سنة 1944 وعلى مياه بحيرة التمساح مازال وثيقة قاطعة بالنسبة للولاء التقليدى فى هذه الدول.

كان الملك عبد العزيز قاطعـاً مع الرئيس الأمريكى فى كل المشروعات المتعلقة بتقسيم فلسطين، وفتح أبوابها للهجرة اليهودية، وفى الخطر المحدق بالقدس، وكان لهذا القطع أثره على - روزفلت - الذى تنقل عنه وثائق وزارة الخارجية الأمريكية قوله بعد لقائه مع الملك عبد العزيز:

إننى فى هذه الساعة على بحيرة التمساح عرفت عن الوضع فى الشرق الأوسط بأكثر مما عرفت عنه خلال الاثنى عشر عاماً الماضية التى قضيتها فى البيت الأبيض فى واشنطن.

ومن ناحية أخرى فإن هذه الدول - ولأسباب اجتماعية بالدرجة الأولى - تخشى عواقب أكثر المواقف تشدداً.

إن أكثر المواقف تشدداً كفيل بتفجير عوامل الثورة الكامنة فى الواقع العربى، وإذا ما تذكرنا أن الخطوط متداخلة بين الثورة القومية، والثورة الاجتماعية - لوجدنا أسباب الخشية ظاهرة وواضحة لكل عين.

وأتذكر أننى سئلت بعد، ولقد دامت إقامتى عشرة أيام فى منطقة الخليج.

- كيف تقييمك لموقفهم هناك؟

وقلت وقتها - ومازال ذلك رأيى إلى هذه اللحظة:

- إنهم فى الموقف الصعب.

قلوبهم تمنعهم عن مسايرة القاهرة فيما ذهبت إليه.

وعقولهم تصدهم من السير مع غيرها إلى حيث يذهبون.

هذا هو موقفهم بين القلب، والعقل.

وأتذكر تعليقات متباينة تدلل على صحة هذا التقييم، وأستأذن فى الإمساك عن نسبة هذه التعليقات إلى أصحابها، ويكفينى أن أقول إنها جميعاً صدرت عن أهل "حل وعقد" وبينها ما يلى:

قول أحدهم مثلاً:

أريدك أن تعرف أن هناك نوعين من الرفض رفض بالصوت ورفض بالصمت.. هذه حقيقة موقفنا لأننا لا نرى جدوى الآن من رفع الأصوات عالية وصاخبة.

ثم قول أحدهم مثلاً:

ليت هذه المبادرة تنجح.. هل لديها فرصة للنجاح..؟

سوف نكون أسعد الناس إذا استطاعت تحقيق الانسحاب الكامل من كل الأراضى العربية بما فيها القدس، وتحقيق قيام الدولة الفلسطينية.. سوف نكون أسعد الناس إذا نجحت، وإذا ثبت أننا جميعاً كنا على خطأ.

هل تعرف أن هذا ليس موقفنا وحدنا..

إنه أيضاً موقف من يقفون اليوم موقف الرفض الصريح..

إنه على سبيل المثال موقف الرئيس الجزائرى هوارى بومدين..

إنه كان هنا عندنا.

إن الرئيس بومدين قال لنا بالحرف إنه إذا نجحت هذه المبادرة فى تحقيق المطالب العربية - سوف يذهب إلى القاهرة - حتى بدون إخطار مسبق - ومن هناك يعلن أنه على خطأ، وإذا فشلت هذه المبادرة وكان هناك رجوع عنها فإنه أيضاً لن يتردد فى الذهاب إلى القاهرة ليضع إمكانياته وإمكانيات الجزائر فى خدمة المرحلة القادمة من العمل العربى الموحد.

وأخيراً قول أحدهم لى، وكان ذلك فى نفس اليوم الذى أعلن أن الرئيس السادات قرر توجيه خطاب إلى مجلس الشعب بعد قرار سحب اللجنة السياسية من القدس فى الثامن من شهر يناير الماضى:

- هل تظن أنه سوف يعلن فشل المبادرة؟

ليته يفعل.. إذن لأصبحت الأمور ميسرة بالنسبة لنا، ساعتها نستطيع التحرك ونستطيع توجيه الدعوة فوراً إلى مؤتمر عربى على مستوى القمة لنبحث فى الخطوة التالية من عملنا المشترك ونمشى.

وهكذا تمزقت المواقف العربية أكثر، وأكثر:

لم يعد هناك رفض واحد، وإنما أصبح هناك رفض رباعى يمثله مؤتمر الصمود والتصدى ورفض منفرد يمثله موقف العراق.

ولم يعد هناك صمت واحد، وإنما هناك صمت يتمنى النجاح للمبادرة إذا كان ممكناً، وصمت يتمنى فشلها لأن ذلك الفشل حتمى.

لكن القبول بغير حد لا يمكن أن يكون موقفاً دائماً، ثم إن الرفض بغير مخرج بديل لا يمكن أن يكون موقفاً دائماً، وأخيراً فإن الحيرة، والارتباك، والتردد لا يمكن أن تكون جميعاً موقفاً دائماً.

وكان ذلك جانباً من الصورة المشوشة غداة نزول الستار على الاستعراض الكبير فى القدس المحتلة.
 
(2)
صباح ليلة الفرح: التحليل الإسرائيلى للمبادرة

بين كل الذين شاركوا فى الاستعراض السياسى الكبير الذى شهدته القدس المحتلة أيام 19، 20، 21 نوفمبر سنة 1977 - فإن إسرائيل كانت الطرف الذى حاول أن يحتفظ برأسه سليمة لكى يستطيع أن يفكر وأن يقدر بعد انتهاء الاحتفالات وانفضاض سامر الفرح المثير.

كانت مشاعرهم هناك حبوراً ونشوة لم يسبق لهما مثيل، ولكنهم فى نفس الوقت أحسوا بضرورة الحذر حتى لا يجدوا أنفسهم على غير رغبة منهم - وبدون إرادة - يتحملون وحدهم تكاليف ذلك المهرجان الذى عاشه الكل واستمتع به الكل.

وليس هذا التشبيه من عندى، ولكنه لوزير إسرائيلى قاله فى مطار اللد لسفير دولة أوروبية كبرى، وكانا قد التقيا معاً بعد وداع الطائرة العائدة من القدس إلى القاهرة عصر يوم 21 نوفمبر.

قال السفير الأوروبى للوزير الإسرائيلى:

- لقد كانت أياماً لا تنسى...

ثم استطرد السفير:

- أظنكم يا سيدى الوزير سوف تكونون مطالبين بأن تعطوا شيئا مقابل كل ما أخذتموه هذه الأيام.

ورد الوزير الإٍسرائيلى على الفور:

- لا أعرف لماذا يتحتم علينا أن نقدم مقابلاً لكل ما حدث، إن ما حدث كان عظيماً بلا شك، ولكن المسائل لابد أن تكون محددة، إن الآخرين والعالم كله دعوا أنفسهم إلى مهرجان حافل على أرضنا، وقد رحبنا بهم، لقد كان ذلك المهرجان نوعاً من حفلات المفاجآت يجىء فيه الذين دعوا أنفسهم إليه بطعامهم وشرابهم، وموسيقاهم أيضاً، ثم يذهبون بعد تقديم شكرهم للذين فتحوا لهم بيتهم ليكون مسرحاً للمهرجان.

إن صحفياً أمريكياً كبيراً كان واقفاً بين الاثنين عندما دار هذا الحوار، وعندما روى لى تفاصيله فى القاهرة بعد مجيئه إليها من القدس المحتلة، فقد كان تعليقه على الفور:

- إننى بعد أن سمعت هذا الحوار تنبهت إلى أن المشاكل الحقيقية على وشك أن تبدأ.

وطبقاً لرواية هذا الصحفى الأمريكى الكبير - وهو مصدر معظم المعلومات الواردة فى هذا الحديث - فإن القيادة الإسرائيلية بدأت فى عقد سلسلة من الاجتماعات المكثفة لتقييم الزيارة، ابتداءً من صباح اليوم التالى لانتهائها، أى يوم 22 نوفمبر.

قبل الزيارة - طبقاً لرواية هذا المصدر الذى أثق بغير حدود فى حسن اطلاعه - فإن القيادة الإسرائيلية - معززة بكل أجهزة الرصد والتحليل - لم يكن لديها الوقت الكافى للتقييم الشامل والدقيق - وفى الواقع فإن شاغل هؤلاء جميعاً قبل الزيارة - ومنذ انفجر الاقتراح بالاستعداد للقيام بها - كان سؤالاً واحداً:

- ما الذى حدث؟

لقد كانت هناك محاولات فى عدد من العواصم للجمع فى لقاء مباشر بين السادات - وبيجن.. وكانت هناك اجتماعات تمهيدية قام بها رسل ومبعوثين.. وبرغم ذلك كله فقد كان هناك شك إسرائيلى فى أن هذا اللقاء المباشر بين السادات وبيجن يمكن إتمامه علناً أو سراً لتصادمه الكامل مع منطوق ومضمون المواقف العربية السابقة عليه.

والآن ينفجر اقتراح زيارة القدس على غير انتظار، فما هى القصة، وهل تتم هذه الزيارة فعلاً... أو أن المسألة كلها مجرد مناورة يقصد بها إظهار النوايا الطيبة، ثم تفرض مصر فى آخر لحظة شروطاً معينة للقيام بها ترفضها إسرائيل، وحينئذ يسهل إلقاء اللوم عليها وتحميلها تبعات فرصة قتل حمامة السلام قبل أن تفرد أجنحتها وتحلق على الطريق من القاهرة إلى القدس؟

وكان هناك انقسام فى الرأى حول الإجابة على هذا السؤال الواحد..

البعض فى القيادة الإسرائيلية وفى أجهزة الرصد والتحليل يؤكد أن الزيارة لن تتم وأنها مجرد مناورة.

والبعض الآخر يستبعد إتمامها لأسباب مختلفة، بينها أنه مع التسليم بأن هدفها هو المناورة فإن الهدف لا يتحقق بمجرد الإعلان، وإلا فإنه من السهل كشف المناورة بإظهار أنها لم تكن أكثر من إعلان لا يستند إلى نية حقيقية!

وفى تلك الساعات فقد كان قرار القيادة الإسرائيلية وأجهزة الرصد والتحليل العاملة فى خدمتها، أن من الخير - قطعاً لأى طريق على أى مناورة - أن تعلن إسرائيل شروطها مسبقاً لإتمام الزيارة، وهى أنها لا تقبل الانسحاب وراء خطوط سنة 1967، ولا تقبل دولة فلسطينية مستقلة - ثم تنتظر تطورات الأحداث.

ولقد ظل الشك يغلب اليقين، واليقين يغلب الشك، حتى بدا أن الزيارة أصبحت أمراً واقعاً أو كادت، وهكذا انتقل البحث على عجل صباح يوم السبت 19 نوفمبر - أى قبل ساعات من موعد وصول الطائرة - إلى سؤال آخر وهو:

كيف يمكن لإسرائيل أن تستفيد إلى أقصى حد من هذه الزيارة؟

وكان رأيهم أن هناك نوعين من الفوائد يمكن تحقيقهما - وعلى النحو التالى:

- نوع من الفوائد يتحقق بمجرد إتمام الزيارة.

- ومن نماذج هذا النوع من الفوائد أن الزيارة فى حد ذاتها اعتراف بإسرائيل.

- ثم إنها فى حد ذاتها أيضاً تطبيع للعلاقات على أعلى مستوى، خصوصاً إذا أحيطت بكل المظاهر التى تجعل منها زيارة رسمية يقوم بها رئيس دولة إلى دولة أخرى.

- وإلى جانب ذلك فإنه حتى إذا كان هدف الزيارة هو التأثير على الولايات المتحدة؛ فإن القيام بها فى حد ذاته شبه اعتراف بأن معظم أوراق الحل ليست - كما يقال فى يد الولايات المتحدة، وإنما فى يد إسرائيل.

- والنوع الثانى من الفوائد لا يتحقق بمجرد إتمام الزيارة، وإنما هو يقتضى من إسرائيل جهداً وعملاً.

- ومن نماذج هذا النوع من الفوائد أن تنتهز فرصة إصغاء العالم المبهور بما يجرى فى القدس لشرح موقفها من الصراع العربى الإسرائيلى على أوسع نطاق.

- وقد حدث ذلك عندما وقف مناحم بيجن فى الكنيست يرد على خطاب الرئيس السادات، ثم انتهز الفرصة للادعاء بأن العرب بدأوا الحرب ضد إٍسرائيل أربع مرات بغير استفزاز، وأن حروب إسرائيل جميعاً كانت دفاعية ومشروعة، وبأن العرب هم الذين قالوا بشعار إلقاء اليهود فى البحر، فى حين أن إسرائيل لم تكن تطلب غير حق العيش فى أمان مع العرب - وكانت الدنيا كلها تسمع!

ومن نماذجه أيضاً أن تحاول بكل الوسائل أن تمنع أى ذكر لمنظمة التحرير الفلسطينية طوال فترة الزيارة، وكأن هذه المنظمة غير موجودة فى حسابات كل الأطراف.

- وقد ادعى الجنرال "موشى ديان" وزير الخارجية الإسرائيلية فيما بعد، وعقب انتهاء الزيارة، أنه لفت نظر الوفد المصرى بطريقة واضحة إلى خطورة ذكر اسم منظمة التحرير الفلسطينية بأى شكل من الأشكال وروى الجنرال ديان أنه قال لبعض المصريين البارزين:

- إننا كنا نريد الحصول على نسخة من الخطاب الذى يزمع الرئيس السادات إلقاءه فى الكنيست لكى يستطيع رئيس الوزراء بيجن أن يعد رده عليه، ولكننا ندرك أنكم تريدون الاحتفاظ به سراً إلى لحظة إلقائه، وليس لدينا اعتراض على ذلك، ومهما يكن فهناك ملاحظة أود أن أقولها كصديق عاش عمره كله مع العرب، وهى أن محاولة السلام كلها سوف ترتطم بالصخور إذا ورد ذكر لاسم منظمة التحرير الفلسطينية فى أى كلام، لأن ذلك سوف يستتبع رد فعل قاطع من جانب الطـرف الإسرائيلى.. إن ذكر حق الانسحاب من الأراضى مفهوم، وذكر حقوق الفلسطينيين محتمل، ولكن اسم منظمة التحرير سوف يكون بمثابة لغم سريع الانفجار.

- ومن نماذجه أخيراً - وفى صميم الموضوع - وفى غيبه توقع الحصول على نتائج حاسمة قبل بدء المفاوضات - أن تحصل إسرائيل على تعهدات تنزع عنصر التوتر عن الصراع.

- وكان من ذلك ما أعلن عنه قرب نهاية الزيارة، وهو التعهد باستمرار الاتصال، وأن يكون كل شىء قابلاً للتفاوض، ثم التعهد بأن تكون حرب أكتوبر 1973 هى آخر الحروب بين مصر وإسرائيل، وأن يكون طريق الاثنين بعد ذلك لحل أية خلافات بينهما هو طريق الدبلوماسية والحوار.


وبدأت القيادة الإسرائيلية - ومعها أجهزة الرصد والتحليل - اجتماعاتها المغلقة لتقييم الزيارة غداة انتهائها - كما قلت - أى يوم 22 نوفمبر.

وكانت هناك أمام الذين جلسوا للبحث معلومات وتحليلات ووثائق لا نهاية لها.

من بينها تسجيلات صوتية لكل كلام قيل فى إسرائيل، ودراسات إليكترونية لانفعالات نبرات الصوت بما يكشف النوايا الحقيقية لأصحابها، وبينها دراسة للصور تحاول أن تستشف مكنونات صدر كل مصرى ذهب إلى إسرائيل فى تلك المناسبة، ومن بينها معلومات واردة من كل عواصم الدنيا - بما فيها القاهرة.

كان ذلك كله قد تجمع لدى الجنرال - "شلومو جازيت" - رئيس المخابرات العسكرية، الذى استطاع رجاله أن يحصلوا على كل كلمة وتصرف وحركة قام بها الوفد المصرى ومرافقوه خلال الزيارة، حتى مع خدم الفنادق ومع سائقى السيارات.

وكان أول سؤال وجهه مناحم بيجن فى هذا الاجتماع:

- أنه يريد إجابة محددة وواضحة عن سؤالين اثنين:

أولاً: ما هو الدافع الحقيقى لهذه الزيارة؟

وثانياً: ما هى النوايا الحقيقية بعد هذه الزيارة؟

واستفاض البحث واستبان منذ اللحظة الأولى أن هناك فى الواقع ارتباطاً وثيقاً بين السؤالين، لأن الدافع الحقيقى إلى الزيارة هو جزء من النوايا الحقيقية بعدها.

استناداً إلى مصدرى الذى أشرت إليه - وقد أتيح له أن يتحدث مع معظم صناع القرار الإسرائيلى - فإن البحث عن الدافع الحقيقى للزيارة تشعب إلى استكشاف كل الاحتمالات والتعريض لها، بالنفى أو التأكيد.. ومن ثم باستبعاد بعضها واعتماد بعضها الآخر:

ومقدماً فإن أحداً منهم لم يساوره شك فى أن القصد النهائى من المبادرة هو الرغبة فى الوصول إلى تسوية.

إن هذه الرغبة كانت بادية أمامهم منذ وقت طويل، ولم تعد فى تقديرهم موضع شك، ولكن ما تدور حوله الشكوك هو أن تتوازى الرغبة فى التسوية مع الثمن المطلوب لتحقيقها.

أى أن الشكوك لم تكن تدور حول الرغبة، ولكن حول الاستعداد لدفع ثمنها - كما تراه إسرائيل - ومن هنا فإن التفكير فى الدوافع والنوايا كان قاصراً على الأسلوب، ولم يتعد الأسلوب إلى صميم الموضوع.

وعلى هذا الأساس راحوا يستعرضون كل الاحتمالات:

1- استبعدوا مثلاً احتمال أن يكون الخوف من صدام عسكرى - ولوعن طريق الخطأ - احتمالاً مقبولاً، وكانت وجهة نظر الجنرال - موردخاى جور - رئيس هيئة أركان حرب الجيش الإسرائيلى أنه لم تكن هناك تحركات على الجبهة من شأنها أن ترفع درجة الخطر عليها.

لقد كانت هناك مناورة الخريف المعتادة للقوات الإسرائيلية فى سيناء.

ولكن هذه المناورة جرت وانتهت فى الحدود المقررة لها، وأخطر الجنرال - سيلاسفو- كبير مراقبى الأمم المتحدة، كما أخطرت هيئة الرقابة الأمريكية، وتولى الاثنان إخطار الجهات المصرية الرسمية بموعد بدء المناورة وانتهائها، وبحجم القوات المشتركة فيها، وفق ما تقتضى به اتفاقيات فك الاشتباك.

ولم تكن هناك تحركات عسكرية على الجبهة المصرية، وصحيح أنه كانت هناك تحركات فى العمق المصرى، ولكن هذه التحركات كان مردها عودة بعض الفرق المصرية التى كانت محتشدة فى الصحراء الغربية على حدود ليبيا إلى مواقعها الأصلية، بعد أن بدأت عملية حوار مصرى - ليس بوساطة فلسطينية - هدفها حل سوء التفاهم بين البلدين وتصفية أسباب الخلاف.

2- استبعدوا مثلاً احتمال أن يكون هناك تصور مصرى بأن الزيارة فى حد ذاتها سوف تجعل إسرائيل مضطرة - أدبياً - إلى الاستجابة للمطالب المصرية بالانسحاب الكامل وإقامة دولة فلسطينية، وكان أكبر الدواعى إلى استبعاد هذا الاحتمال:

أن الكل يفهم بالطبع أن الصراعات الدولية لا تحكمها المجاملات أو مبادرات العلاقات العامة بين الأطراف.

ثم إن الزيارة بدأت على أساس شروط أعلنتها إسرائيل وسمعت بها القاهرة، ومؤداها أن إسرائيل لا تنوى الانسحاب الكامل إلى خطوط ما قبل يونيو1967 مهما كانت الظروف، وأنها فى كل الأحوال ليست على استعداد لقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة.

ذلك أعلن قبل الزيارة، وعندما تتم الزيارة بعده فمعنى ذلك أنها تتم على أساس قبوله والاعتراف به.

3- ولم يستبعدوا مثلاً احتمال أن يكون الدافع إلى الزيارة ما تصوروه فى إسرائيل عن سوء الأحوال الاقتصادية فى مصر.

وقد كانوا يعرفون حجم المساعدات العربية لمصر، وكانوا يعرفون أيضاً أن معين هذه المساعدات لم ينضب ولكنهم قدروا بين ما قدروه أن يكون صبر مصر قد نفد وتحملها قد استنفد.

4- ولم يستبعدوا مثلاً احتمال أن يكون نفاد صبر من إحراز أى تقدم نحو حل المشكلة عن طريق مؤتمر جنيف بين دوافع الزيارة.

إن الطريق إلى جنيف كان يبدو مسدوداً، وهم يعرفون ذلك لأنهم تولوا بأنفسهم قطع مسالكه.

ولقد خطر لهم أن مصر فى النهاية لم تعد تريد مؤتمر جنيف لأن الأطراف العربية الأخرى سوف تعرقل تقدمه، ثم إن اشتراك السوفيت فيه - مع سوء العلاقات المصرية السوفيتية - سوف يكون عنصر تعويق إضافى من وجهة نظرها، وكان بين تقديراتهم أن البيان الأمريكى السوفيتى الأخير - الذى أعاد للدور السوفيتى فى حل أزمة الشرق الأوسط فاعليته ونشاطه - قد أصاب القاهرة بضيق شديد.

5- أخيراً رجحوا مثلاً أن يكون احتمال المناورة لكسب تأييد الرأى العام الأمريكى لصالح مصر - وعزل إسرائيل بالتالى عن أهم قواعد قوتها - بين أهم العوامل التى دعت إلى الزيارة، ولقد أحسوا بالأثر الدرامى الذى أحدثته مشاهد القدس، والذى بدت فيه الرحلة إلى المدينة وكأنها الرحلة إلى سطح القمر.

- وأشار الجنرال - ديان - فى هذا الصدد إلى حقيقة أن طائرة الرئيس السادات إلى القدس حملت داخلها أكبر ثلاثة من مذيعى التليفزيون الأمريكى، وهم:

- "والتر كرونيكايت" - نجم إذاعة سى بى إس - وبرباره والترز - نجمة إذاعة إى. بى. سى - "وجون تشاشلور" - نجم إذاعة إن. بى. سى - ولاحظ الجنرال - ديان - أن "برباره والترز" - كانت أصلاً فى القدس تجرى مقابلة مع - مناحم بيجن - ولكن طائرة مصرية خاصة حملتها إلى الإسماعيلية قبل موعد الزيارة بساعات، لكى تنزل - مع الآخرين - وراء الرئيس السادات لحظة نزوله فى مطار بن جوريون.

ولا يمكن أن يكون لهذه الترتيبات كلها هدف غير تعبئة الرأى العام الأمريكى.

6- وكان استنتاجهم بعد ذلك محدداً، وهو أن يكون احتمال الضغط على الإدارة الأمريكية وعلى رئيسها - جيمى كارتر - أهم دواعى الزيارة إطلاقاً، ويكون هدف هذا الضغط على الرئيس الأمريكى هو أن يقوم هو بدوره بالضغط على إسرائيل.

كانت هذه هى الخطوط التى سارت عليها أفكارهم وتحليلاتهم وتقديراتهم بالنسبة لحقيقة الدوافع إلى رحلة القدس، وللنوايا الحقيقية وراءها!

واستناداً إلى مصدرى - الذى أشرت إليه - فإنهم فى هذا الاجتماع وفى اجتماعات لاحقة قدروا أنهم لا يستطيعون على الفور رسم سياسة طويلة الأجل، فهذه تحتاج إلى درس أوسع وأعمق، وحتى يتوصلوا إليها فقد اعتمدوا خطوط سياسة قصيرة الأجل ترتكز على ما يلى:

1- محاولة كسب الوقت حتى يضيع الأثر الدرامى لرحلة القدس، ويخبوا وهجها فى كل خيال تابع وقائعها مستثاراً ومنبهراً، ثم تبدأ المشاكل الحقيقية للصراع فى الظهور واحدة بعد الأخرى بعيداً عن الأجواء الأسطورية وضغوطها.

ولقد وضعوا لمحاولة كسب الوقت خططاً وأساليب، بينها أن يكون ساسة إسرائيل أول القائلين بأن عليها - الآن أن تقدم تنازلات هائلة لم تكن فى حساب أحد - وكان الهدف هو امتصاص التوقعات التى راحت تنتظر رد إسرائيل على المبادرة.


2- محاولـة قصر الاتصالات فى المرحلة اللاحقة للزيارة مباشرةً على مصر وإسرائيل وحدهما، على أن يظل الآخرون بعيداً، وكان أقصى دور تريده إسرائيل للولايات المتحدة الأمريكية هو دور الشاهد، وكان أقصى دور تريده إسرائيل للأمم المتحدة هو دور المتفرج.

ومن هذا المنطلق كان ترحيب إسرائيل باقتراح اجتماع القاهرة.

وقد أحس - "سيروس فانس" - وزير الخارجية الأمريكية بحدود الدور المطلوب من أمريكا، فبعث بمساعده - "أثرتون" إلى اجتماع مينا هاوس ليكون مجرد - مسهل للأمور وكان هذا دوراً جديداً فى السياسة الدولية.

كذلك أحس - "كورت فالدهايم" - السكرتير العام للأمم المتحدة بحدود الدور المطلوب من المنظمة الدولية، فاعتذر أن تكون رئاسة جلسات مؤتمر القاهرة للجنرال - "سيلاسفور" - وكانت تعليماته إليه أن يحضر وأن يراقب لا أكثر ولا أقل.

وراحت الأيام تمر.. أيام بعد أيام.

وانعقد مؤتمر القاهرة، وجاء الوفد الإسرائيلى برئاسة - "إلياهو بن إليسار" - مدير مكتب مناحم بيجن وهو رجل مخابرات سابق لا علاقة له بعمليات التفاوض ولا بالقضايا السياسية فى الصراع العربى - الإسرائيلى!

ومنذ اللحظة الأولى راح هذا الوفد يضيع الوقت فى قضايا شكلية، ولكنه كان الشكل الذى يمس الجوهر مباشرةً.

لاحظ رئيس الوفد الإسرائيلى أن هناك مقاعد خالية لوفد فلسطين وبادر إلى الاحتجاج، وتقرر رفع اللوحة التى تشير إلى فلسطين من فوق المائدة أمام مجموعة المقاعد الخالية للوفد الذى لن يجىء، وإذا جاء فلن يدخل.

ثم جاءت ورقة من خارج قاعة الاجتماع، فوضعت أمام - بن إليسار - واعتدل فى مقعده وقال بصلافة غريبة:

- لقد لفت نظرى الآن إلى أن هناك أعلاماً معلقة على مدخل الفندق إلى قاعة المؤتمر، وكان بينها علم مجهول لم نستطع تمييز هويته، ونحن نطلب رفعه وكان هذا هو العلم الفلسطينى.

واستجابةً له تم رفع العلم بعد الاعتذار بأن تعليقه كان بمبادرة من إدارة الفندق.

وانتهت مناورات الشكل القريب من صميم الموضوع، وبدأت عملية الدخول إلى مقدمات الموضوع نفسه.

ولكى يحدد - "بن إليسار" - موقفه فإنه انتهز أول فرصة مواتية، وفى نفس جلسة العمل الأولى للمؤتمر، لكى يعيد تأكيد ما سبق أن أعلنه - مناحم بيجن، قبل إتمام الزيارة، وهو:

1- أن إسرائيل لن تقبل فى أى ظرف من الظروف بمبدأ الانسحاب إلى خطوط ما قبل يونيو1967 - فذلك خارج حتى عن منطوق قرار مجلس الأمن رقم 242 الذى يشير إلى الانسحاب من - أراضى - احتلت سنة 1967 ولم يشر هذا القرار إلى - الأراضى - التى احتلت سنة 1967.

2- أن إسرائيل لن تقبل بأى حال من الأحوال بقيام دولة فلسطينية مستقلة، فالقرار رقم 242 تحدث عن مشكلة اللاجئين ولم يتطرق إلى قضية شعب أو قضية دولة.

وبصرف النظر عن أى تحديد فقد كان واضحاً أن - بن إليسار - يريد عملياً أن يناقش مسألة واحدة:

ترتيبات السلام العملية على الجبهة المصرية وحدها.

ولم يتردد فى أن يقول - "أثرتون" - المندوب الأمريكى صراحةً:

- كيف يمكن أن أناقش قضايا تتعلق بالسوريين والأردنيين وهم ليسوا موجودين فى هذا الاجتماع، وفى نفس الوقت فإن الوفد المصرى لا يحمل تفويضاً منهم يخوله التحدث باسمهم ونيابة عنهم!

ووصل مؤتمر القاهرة إلى طريق مسدود.

الوفد المصرى يريد أن يبدأ ببحث الانسحاب، والوفد الإسرائيلى يريد أن يبدأ بترتيبات السلام.

والوفد المصرى يريد أن يناقش مشروعاً بإعلان مبادئ للتسوية العامة تنطبق على كل الجبهات، والوفد الإسرائيلى لا يرى أمامه غير الوفد المصرى وحده ثم إن هذا الوفد لا يحمل تفويضاً من أحد!

وجلسات مؤتمر القاهرة لا تكاد تنعقد إلا وتنفض، فلم يزد مجموع الوقت الذى استغرقه العمل الفعلى فيه عن ساعتين وأربعين دقيقة على امتداد خمسة عشر يوماً تقريباً.

- كانت تكالـيف عقد المؤتمر - بما فى ذلك الضيافة - بمعدل مائة ألف جنيه مصرى كل يوم!

وبدا أن مؤتمر القاهرة لا يمكن أن يستمر - بغير منطق ولا هدف - أكثر مما استمر، وكان لابد من خطوة أخرى، وأظن أن إسرائيل فى تلك الفترة من شهر ديسمبر 1977 - أحست بأن الوقت قد حان لكشف بعض الأوراق.

إن السياسـة القصيرة الأجل أدت بعض أغراضها ولم يعد ممكناً لها وحدها أن تتحمل الضغط... إن هذه السياسة قصيرة المدى صدت تيار الحوادث وهدأت سرعة تفوقه، ولكنها الآن فى حاجة إلى دفع جديد.

وكانت القيادة السياسية الإسرائيلية - معززة بأجهزة الرصد والتحليل - قد توصلت فى بحث سياستها على المدى الطويل إلى خطوط مشروع شبه متكامل.

ومن تقديراتهم للدوافع والنوايا المصرية - أن المبادرة مناورة، وأن هدفها هو الولايات المتحدة - فإن بيجن قرر عرض مشروعه على الرئيس الأمريكى جيمى كارتر قبل عرضه على مصر، وهكذا طار رئيس الوزراء الإسرائيلى إلى واشنطن بعرض مشروعه فى البيت الأبيض، وعلى قيادات الكونجرس، وعلى الرأى العام الأمريكى، كأنه يريد أن يحمى ظهره تماماً قبل أن يتقدم بمشروعه فى الإسماعيلية.

وبينما - بيجن - لا يزال فى الطريق من واشنطن إلى إسرائيل - طار - ايزرا وايزمان - وزير الدفاع الإسرائيلى إلى القاهرة يحمل صورة من المشروع الإسرائيلى، وأهم ما فيه - بالنسبة لمهمته فى القاهرة - خريطة لسيناء رصدت عليها الخطوات المقترحة من وجهة النظر الإسرائيلية.

وكانت الخريطة مزعجة سواء فى ذلك خطوط مراحل الانسحاب كما تتصورها إسرائيل، أو مواقع المطارات التى تريد التمسك بها، أو عوازل المستعمرات التى أقامتها فى شمال سيناء.

ولم يتصور أحد من الذين اطلعوا على الخريطة فى القاهرة أن هذه هى كلمة إسرائيل فى الرد على المبادرة، وكان التعليق بسرعة: إن ذلك بالون اختبار مما تلجأ إسرائيل لإطلاقه حتى تستكشف الأجواء قبل مؤتمر الإسماعيلية.

وجاء مؤتمر الإسماعيلية، وكان صدمة، فلقد ظهر أن خريطة - وايزمان - لم تكن بالون اختبار، وهكذا انهار مؤتمر الإسماعيلية، وكان الشاهد على انهياره وقائع المؤتمر الصحفى الذى شارك - بيجن - فيه عقب انتهاء الجلسات، ولست أظننى فى حاجة إلى العودة تفصيلاً إلى وقائع ذلك المؤتمر الصحفى، فهى مازالت ماثلة للأذهان.

وانتهى صباح ليلة الفرح.

ذهبت بقايا النشوة فى الرءوس وجاءت لحظة الحقيقة!
 
(3) صباح ليلة الفرح: أمريكا بين غير المقبول وغير المحتمل!


كانت الولايات المتحدة الأمريكية هى الطرف الذى قدر منذ البداية أن صباح ليلة الفرح سوف ينتهى بذهاب النشوة وبقاء الصداع، والسبب بالطبع أن الولايات المتحدة - ودون كل القوى المتصلة بالأزمة والداخلة فى حركتها - كانت وحدها تعرف المواقف الحقيقية لإسرائيل ولمصر، وتدرك مدى المسافة الشاسعة التى تفصل بينهما.

وربما استطعنا أن نقول - مع ما قد يبدو فى القول من تعارض - أن الولايات المتحدة فوجئت ولم تفاجأ فى الوقت ذاته برحلة القدس:

لم تفاجأ لأنها كانت الداعية باستمرار إلى ضرورة التخلص من العقد القديمة التى تحول دون إجراء مفاوضات مباشرة بين العرب وإسرائيل - ولأنها كانت على صلة بالجهود المبذولة لترتيب لقاء بين السادات وبيجن.

ولكنها فوجئت باقتراح الزيارة للقدس، وكان تقديرها أن الوقت مازال مبكراً للقيام بهذه الزيارة، لأن هذه الزيارة يمكن أن تجىء فى نهاية عملية طويلة وختاماً لها، وليس فى بداية هذه العملية وافتتاحها لها.

وكان أوضح تعبير عن هذا المعنى هو ما قاله الأستاذ "مالكولم كير" فى مقال نشرته له صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" بتاريخ 4 ديسمبر 1977 - بالنص ما يلى:

"إن كل الأطراف العربية المعنية كانت على استعداد للذهاب إلى جنيف لتحصل على انسحاب من الأراضى العربية المحتلة وإعلان مبدأ قيام الدول الفلسطينية، فى مقابل الورقة الوحيدة التى كان العرب يملكونها، وهى قبول إسرائيل فى المنطقة بعد حروب دامت ثلاثين سنة".

"إن زيارة القدس، وإكليل زهور على قبر الجندى الإسرائيلى المجهول، وتبادل النكت مع جولدا مائير - كل هذا كان يمكن أن يكون طبيعياً بعد التوقيع النهائى على اتفاقية سلام".

"إن الورقة الوحيدة التى يملكها العرب ألقيت على المائدة قبل أن تبدأ اللعبة".

وأهمية هذا الكلام لا تجىء فقط من أن "مالكولم كير" واحد من أبرز أساتذة العلوم السياسية فى أمريكا، ولكن لأنه كان واحداً من واضعى تقرير معهد "بروكينجز" الشهير الذى اعتمده الرئيس الأمريكى "جيمى كارتر" أساساً لجهوده من أجل حل أزمة الشرق الأوسط.

مهما يكن فلقد كان التقدير الأمريكى - ومصدرى هنا أحد مستشارى البيت الأبيض الذين يجلسون أحياناً فى اجتماعات مجلس الأمن القومى الأمريكى - على النحو التالى:

1- إن الزيارة سوف تخلق توقعات جامحة بإمكانية التوصل إلى حل مرضٍ وسريع... حل درامى يتناسب مع دراما الزيارة نفسها، وذلك أمر يصعب تصوره فى الظروف - الموضوعية المحيطة بأزمة مستعصية كأزمة الشرق الأوسط.

2- إن الزيارة على هذا النحو دليل على وجود رغبة فى القفز فوق الدور الأمريكى - وليس فقط الدور السوفيتى - حيث محاولات حل الأزمة.

وكانوا فى واشنطن على علم بعبارة نسبت إلى "موشى ديان" وزير الخارجية الإسرائيلى، وورد فيها قوله موجهاً لبعض الوسطاء بين مصر وإسرائيل:

"قولوا للمصريين أننا سعداء بالولايات المتحدة ورائنا، كما لم تكونوا سعداء بالاتحاد السوفيتى وراءكم".

ثم إن الرغبة فى القفز لا تقتصر على مجرد تجاهل دور القوتين الأعظم، ولكن القفز كان أيضاً فوق مؤتمر جنيف وكل أطرافه وإطار الأمم المتحدة الذى يحيط به.

3- إن النجاح الوحيد الممكن بعد هذه الزيارة هو الوصول إلى حل ثنائى منفرد بين مصر وإسرائيل، ومثل ذلك الحل قد تكون له تأثيرات غير ملائمة على مجمل العلاقات الأمريكية بدول المنطقة العربية كلها.

إن مصر وإسرائيل كلتيهما قد تركزان اهتمامهما على مجال العلاقات المباشرة بينهما، ولكن الولايات المتحـدة مضطرة إلى موازنة علاقاتها بإقليم كامل واتتها فيه أخيراً فرصه لم تكن تخطر على البال، وهى لا تريد لهذه الفرصة أن تضيع.

ولقد انتهزت هذه الفرصة فمدت صلاتها إلى كل الأطراف، وهى الآن على غير استعداد لأن يشعر طرف من هذه الأطراف أنها تخلت عنه فى منتصف الطريق بعد أن خدعته فى أوله.

4- إن بعض ما هو محتمل الحدوث قد يؤثر على سمعة ومكانة الدول التقليدية فى المنطقة العربية، وبخاصة السعودية التى بقيت نقطة الارتكاز الأساسية فى سياسة أمريكا العربية، وموقف السعودية موقف له حساسيته الخاصة، فإن السعودية تصدرت محاولة تصفية بقايا الثورة الاجتماعية فى المنطقة، ولكنها لا تستطيع - ولا تملك - لأسباب عديدة - أن تقبل بما يمكن أن يبدو تصفية القومية العربية.

5- إن النجاح - حتى فيما يتعلق بتسوية مصرية إسرائيلية منفردة - مازال بعيداً تعترضه مصاعب وعقبات، سواء فيما يتعلق بالانسحاب الذى تطلبه مصر أو ضمانات السلام التى تطلبها إسرائيل. إن الطرفين كليهما لم يعرف من النوايا الحقيقية للآخر غير ما جرى الإعلان عنه رسمياً. وفى الاتصالات المكتوبة عن طريق الولايات المتحدة، فإن واشنطن رأت فى بعض الأحيان أن تحبس عن كل طرف بعض ما قد يصدم تصوراته من مطالب الطرف الآخر، وذلك حتى تظل العجلة دائرة.

6- وأخيراً فإن جو الزيارة فى حد ذاته أعاد إلى أذهان كثيرين فى البيت الأبيض الأمريكى ذكريات "طريقة كيسنجر"، وهى طريقة لا تعجبهم كثيراً، فهى فى رأيهم تعطى لمتفرجى التليفزيون صوراً أكثر إثارة، ولكنها لا تعطى للمشاكل الحقيقية حلولاً أكثر واقعية.

يقول محدثى وهو- كما أسلفت - أحد مستشارى البيت الأبيض، إلى جانب عمله كأستاذ فى واحد من أكبر مراكز العلوم السياسية فى الولايات المتحدة:

- لقد جلسنا فى إحدى اللجان نحاول أن نبحث عن الدافع لزيارة القدس، وطال بحثنا بغير نتيجة، وأخيراً قال أحدنا:

لماذا نحاول دائماً أن نبحث عن سبب عقلانى محدد وراء أى قرار سياسى؟ لماذا نفترض أن يتصرف الآخرون على غير ما نتصرف فيه أحياناً؟ وهل نحن هنا فى الولايات المتحدة نتصرف دائماً من وحى سبب عقلانى محدد؟.

تعالوا نتذكر ما حدث مرة فى اجتماع لمجلس الأمن القومى، وكان يرأسه "ريتشارد نيكسون" وبجواره "هنرى كيسنجر" مستشاره - فى ذلك الوقت - لشئون الأمن القومى.

كان البحث عن فيتنام والتطورات الأخيرة فيها.

وكنا نحن - مجموعة من المستشارين والأساتذة - قد وضعنا آرائنا والخيارات التى نقترحها للقرارات أمام المجلس، وانتهى المجلس، وعرفنا أن قراره هو "تصعيد الغارات الجوية على فيتنام الشمالـية"، وأصبنا جميعاً بالذهول، فلم يكن هناك قط فى توصيات أحدنا خيار يقترح تصعيد الغارات، فمن أين جاء هذا الاقتراح ودوافعه مع العلم بأننا جميعاً رأينا منذ اللحظة الأولى مخاطرة؟

وأحاط عدد منا "هنرى كيسنجر" يسألونه، وكان رده:

- إن الرئيس لم يجـد أمامه خياراً يعجبه، وكان يشعر شعوراً طاغياً بأنه لابد من عمل شىء... لابد من عمل شىء ما.

ومنذ ذلك اليوم أطلق بعضنا على تلك التجربة وصف نظرية "ضرورة عمل شىء ما".

ونظر إلى محدثى وسألنى:

- هل أكون على خطأ كبير إذا قلت إن قرار الزيارة إلى القدس نبع من إحساس طاغ "بـ ضرورة عمل شىء ما"؟

واستطرد محدثى:

- كان السؤال الذى واجهنا بعد ذلك هو: ما العمل؟ كان الرأى الأول الذى برز وطرح نفسه أمامنا هو:

- ليس أمامنا غير مراقبة ما يجرى من بعيد - هذه مفاوضات مباشرة بين طرفين لم يستشرنا أحدهما مقدماً فيما ينوى أن يفعله، وهم على أى حال لم يطلبوا منا عمل شىء، وليس فى مقدورنا أن نطلب إليهم عمل شىء.. المسئولية عليهم وحدهم.

إن هذا الرأى ما لبث أن تراجع لسببين أساسيين:

السبب الأول: إحساسنا بأن الرهان فى الشرق الأوسط قد ارتفع بطريقة فادحة على كل الأطراف، سواء أرادت أولم ترد.. سواء استشيرت أو لم تستشر.

إن الرهان راح يتزايد مع كل لحظة حتى وصل فى لحظة من اللحظات إلى الرهان على الرصيد كله: تكسب فتأخذ كل شىء.. تخسر فتفقد كل شىء.

ولم يخدع أى منا نفسه، فإن رصيد الولايات المتحدة ذاتها دفع - حتى بالرغم منها - إلى المائدة، فهى صاحبة أكبر المصالح فى الشرق الأوسط، ثم هى أقرب الأصدقاء إلى الجالسين على مائدة الرهان، وضمانها لهم قائم بدون انتظار توقيعها.


والسبب الثانى: أن المأزق قادم فى الطريق، وسوف نواجهه أمامنا بأسرع مما يتصور كثيرون، ولم تكن لدينا معلومات، وإنما كان لدينا "علم المفاوضات" ذاته كفرع من أهم فروع العلوم السياسية، و"علم المفاوضات" يقول لنا أنه لابد من وسيط فى القضايا الدولية التى تتصادم فيها مصالح وآراء الأطراف تصادماً كاملاً.

ذلك أن المفاوضات بينهم سوف تظهر العقبات الناجمة من اختلاف النظر للأمور، وإذا لم يكن هناك طرف ثالث بين المتفاوضين فإن أول خلاف فى وجهات النظر سوف يكون أول مأزق تتوقف عنده العملية كلها.

وهكذا فإن مصالحنا كلها هناك على مائدة الرهان الكبير.

ثم إنه إذا كانت مائدة المفاوضات سوف تحتاج بسرعة إلى طرف ثالث يحول دون المآزق - فإن الولايات المتحدة وحدها تستطيع أن تكون هذا الطرف الثالث.

وهكذا قلنا لأنفسنا أنه مهما كانت تحفظاتنا؛ فإن توقعاتنا تدعونا إلى الاقتراب مما يحدث ومتابعته عن كثب.

واستطرد محدثى:

نظرياً كان قرارنا بالاقتراب مما يحدث ومتابعته عن كثب مسألة سهلة، ولكنه عملياً كان مشكلة فى منتهى الصعوبة.

لابد أن تتذكر هنا نوعية وظروف الرجال الذين كان فى يدهم مفتاح القرار الأمريكى: أولهم وهو الرئيس "جيمى كارتر" بعيد عن السياسة الدولية بتكوينه وبتجربته فى الجنوب، وهو على استعداد لأن يسمع ويفهم ويتعلم، ولكن ذلك يحتاج إلى وقت.

"أيزنهاور" مثلاً كان قبل دخوله البيت الأبيض قائداً لقوات الحلفاء فى أوروبا، وهناك عرف العالم واتصل بمشاكله.

"كنيدى" نفس الشىء، وكذلك "جونسون".

أحسنهم جميعاً فى معرفة ما يدور فى العالم كان "نيكسون" ولكن "جيمى كارتر" كان ظاهرة جـديدة فى الولايات المتحدة.. من متجر فول سودانى فى الجنوب إلى المكتب البيضاوى فى البيض الأبيض.

ثانيهم وهو "سيروس فانس" وزير الخارجية: قضى حياته كلها محامى شركات كبرى وهناك تعلم أن "الحل الوسط" هو باب كل تسوية.

ولكن أزمة الشرق الأوسط تواجهه بتجربة أخرى.

إسرائيل تطلب الأمن "الكامل" ومصر تطلب الانسحاب "الكامل".

وأى شىء "كامل" لا يمكن أن يكون حلاً وسطاً يهضمه عقل "سيروس فانس" أو توحى به تجربته.

ثالثهم وهو "زبجينيو بريجينسكى" مستشار "كارتر" للأمن القومى: مثله مثل "هنرى كيسنجر" خبير فى العلاقات بين القوتين الأعظم، وكل القضايا الدولية تثير - اهتمامه بمقدار ما تمس العلاقات مع الاتحاد السوفيتى.

وميزة "كيسنجر" على "برجينسكى" أن "كيسنجر" ممثل من الدرجة الأولى... نجم من ألمع طراز، وليس "برجينسكى" كذلك، وهكذا فإن الأضواء تفزعه، بينما كيسنجر لا يستطيع أن "يبدع" إلا إذا كانت كل الأضواء مسلطة عليه.

لاحظ أننى لم أقل أن كيسنجر "يحل" ولكن قلت أنه "يبدع".

مشكلة برجينسكى أنه يريد أن "يحل" ولا يهمه أن "يبدع" تحت الأضواء، وربما كان لا يعرف - حتى لو أراد - كيف "يبدع" تحت الأضواء.

واستطرد محدثى:

- كان "برجينسكى" على أى حـال هو الذى توصل إلى "صياغة" عملية للموقف الأمريكى، خصوصاً بعد أن وصلت الأمور إلى المأزق فعلاً بعد لقاء الإسماعيلية، وعادت الأطراف إلى الاتجاه إلينا مرة أخرى لنفتح ثغرة فى السد الذى توقف أمامه الطرفان:

عاد "بيجن" يؤكد لنا مرةً أخرى طلبه بأن نظل بعيداً ولا نتدخل فنفسد المحاولة المباشرة بينه وبين السادات، لأننا بذلك نكون كمن يجهض المبادرة ويعود بالأمور بعدها إلى ما كانت عليه قبلها.

وعاد "السادات" يقول إن 99 فى المائة من الأوراق مازالت فى يد الولايات المتحدة، وإنه يتحتم علينا أن نتدخل بينه وبين "بيجن"، وإلا كنا كمن يتخلى عن المبادرة وتعود الأمور بعدها إلى ما كانت عليه قبلها.

وكان موقفنا فى تلك اللحظة كما يلى:

إن المبادرة نفسها كانت شيئا "غير مقبول" بالنسبة لنا عندما بدأت.

لعلك تتذكر أن أى موقف سياسى هو فى الحقيقة مفاضلة بين "غير المقبول" و"غير المحتمل" فى أى مشكلة..

إن المشاكل السياسية المعقدة لا تطـرح على أحد مواقف مريحة، وإلا ما كانت هناك أزمات، لكننا نختار "غير المقبول" لأننا لا نستطيع مواجهة نتائج "غير المحتمل".

وأظن أن "برجينسكى" كان يفكر فى هذا النسق أو على نحو قريب منه وهو يحاول وضع صياغة عملية للموقف الأمريكى.

وتتابعت خطوط تفكيره على النحو التالى:

1- إن الحركة الذاتية للمبادرة لا تعطيها غير طريق واحد للنجاح، وهذا الطريق هو طريق تسوية ثنائية بين مصر وإسرائيل، فهذا وحده هو الموضوع الذى يملك الطرفان المتحادثان بحثه فى حدود اتصالهما المباشر معاً.

2- إن الوصول إلى هذه النتيجة خطر، فالرئيس السادات لا يريده، ثم إن الوصول إليه يؤدى إلى قطيعة كاملة بين مصر والعالم العربى، وهذا يفقد مصر دورها العربى، وهذا الدور مطلوب لأنه فى الظروف الراهنة يؤثر لصالح الاعتدال فى المنطقة عموماً، وفوق ذلك فإن الحل المنفرد يصعب تمريره خصوصاً إزاء السعودية وغيرها من دول شبه الجزيرة العربية والخليج.

3- هكذا فإن المفاوضات المصرية الإسرائيلية لابد من تغطيتها بأسرع ما يمكن، ولا تتحقق مثل هذه التغطية إلا بعنصرين:

العنصر الأول: أن يتقدم الملك حسين ملك الأردن للمشاركة فى هذه المفاوضات فيما يتعلق بالضفة الغربية وغزة.

والعنصر الثانى: أن تقوم دول المساندة بتشجيع هذه العملية، ولو من بعد وأن يكون صمتها أقرب إلى الموافقة منه إلى الرفض.

ولكن المشكلة أن الملك "حسين" رفض أن يتقدم لأنه حتى الآن لم يجد أساساً صالحاً يتقدم عليه للمشاركة فى المفاوضات كما أن "الملك حسين" يبدو يائساً من إمكانية حدوث "مرونة" مفاجئة مع المطالب الإسرائيلية، وقد قال لمن سألوه:

- إننى حاولت بمفردى سبع سنوات مع الإسرائيليين عن طريق الولايات المتحدة وطرق أخرى، ولم أجد معروضاً على غير مشروع "آلون"، وهو شىء لا أستطيع قبوله... منذ انتهت معارك 1967 إلى صدور قرار الرباط لم يكن أمامى غير مشروع "آلون"، وأنا لا أستطيع تحمل مسئوليته.

4- إن المفاوضات المصرية الإسرائيلية لا تستطيع - مهما كان ويكون - أن تنتظر انضمام أطراف أخرى، ولهذا فإن التقدم الثنائى ممكن مع استمرار فتح الباب فى مرحلة لاحقة لانضمام الطرف الثالث الأردنى.

وعلى هذا الأساس فإن المفاوضات المصرية الإسرائيلية ينبغى أن تبحث شيئين:

أولهما: مشروع تسوية مصرى - إسرائيلى.

والثانى: مشروع عام بإعلان المبادئ التى تجرى على أساسها التسوية الشاملة بحيث يعتبر هذا الإعلان مرجعاً للحل على الجبهات الأخرى.

ولكن مشروع التسوية المصرى الإسرائيلى ما لبث أن ارتطم بالمطالب الإسرائيلية فى سيناء ذاتها، وبالذات مطالب المطارات والمستعمرات وجداول الانسحاب وتوقيتاته.

كذلك اصطدم مشروع الإعلان العام بمبادئ التسوية برغبة مصر أن يكون هذا الإعلان واضحاً ومفصلاً، ورغبة إسرائيل أن يكون هذا الإعلان أشد غموضاً من صياغة قرار مجلس الأمن رقم 242.

5- إن السيناريو- كما يتصوره "بريجنسكى" لا يعطى لسوريا شيئاً فى هذه المرحلة.

واستطرد محدثى:

- إن السؤال الحرج الذى يواجه سيناريو "برجينسكى" هو: هل الوقت فى صالحه أو أن الوقت ضده؟ إن هذه العملية - حتى مع التفاؤل الشديد - لا يمكن ترتيبها فى فترة زمنية أقل من سنتين أو ثلاث سنوات.

هذه هى أقل مدة لازمة لكى تستطيع الأطراف تعديل مواقفها والانسحاب مع صياغة "برجينسكى" بالطبع إلا إذا حدثت مفاجآت، ومع أن المفاجآت لا يمكن استبعادها من سياسات الشرق الأوسط إلا أن الولايات المتحدة نفسها لا تستطيع التخطيط والحركة على أساس المفاجآت.

إنها تفضل الاعتماد على التطور الطبيعى - والبطىء عادة - للأمور، ولكن ماذا عن التفاعلات الاجتماعية والسياسية فى قلب المنطقة ذاتها؟

إن أطرافاً كثيرة تطالبنا بالإسراع، ويقال لنا دائماً إننا أمة تحب السرعة، وهذا صحيح، ولكن سياراتنا الحديثة لا تستطيع أن تجرى بسرعة إلا على طرق معبدة، والطرق فى الشرق الأوسط بحار من الرمال.

واستطرد محدثى:

- إن "هنرى كيسنجر" على وشك أن يفرغ من كتابه، وهو يبحث عن شاغل آخر لنفسه وهو لا يكف عن إرسال الإشارات فى اتجاه البيت الأبيض يقول للرئيس أنه جاهز لأى مهمة فى الشرق الأوسط، فهو يعرف تفاصيل الأزمة، ويعرف أطرافها، ويعرف مطالبهم، ويعرف نقاط ضعفهم وقوتهم، ثم هو - أكثر من ذلك - يعرف كيف يجعل الأمور تأخذ شكل الحركة السريعة بينما هى فى الواقع تكون ساكنة وجامدة، وهذا ما لا يتقنه غيره، لكن الرئيس لا يريد، وكذلك "فانس" و"برجينسكى" أيضاً.

واستطرد محدثى وقد انتقل من السياسة إلى الفلسفة:

أوقات مثيرة تلك التى نعيش فيها.

هل تذكر اللعنة الصينية التقليدية؟

إنهم عندما كانوا يغضبون من أحد فى الصين القديمة كانوا يقولون له:

"اذهب ولتكتب لك الحياة فى أوقات مثيرة".

كانوا يعرفون أن الأوقات المثيرة مرهقة ومضنية...
 
(4)
صباح ليلة الفرح: الاتحاد السوفيتى.. أفكاره ومشاعره

صباح ليلة الفرح كان الاتحاد السوفيتى يشعر بالمرارة فى حلقه وعلى طرف لسانه. ولم يكن ذلك الإفراط بدا منه فى ساعات النشوة والحبور. فهو لم يأكل ولم يشرب ولم يسهر ولم يرقص ولم تكن عدساته أو ميكروفوناته من شهود مهرجان الألوان والأصوات الحافل. ولا رأت جماهيره ولا سمعت، وربما لم تعرف حتى الآن أن شيئاً ما قد حدث فى القدس.

وإذن ففيمَ الشعور بالمرارة فى الحلق وعلى طرف اللسان؟

هل هو ضد فكرة الزيارة المفاجئة؟

هل هو ضد الوصول إلى تسوية سلمية لأزمة الشرق الأوسط؟

هل هو خائف من نجاح لا يشترك فى صنعه؟ أو ماذا؟

من سوء الحظ أنه ليس أمامنا فى محاولة تحليل أى موقف للاتحاد السوفيتى غير استقراء الطبائع والتجارب، ثم الاستنتاج على هدى قرائن وعلامات تظهر من بعيد، وهى تنقل رسائلها بالرموز والإيماءات، ثم تختفى بنفس السرعة التى ظهرت بها.

ومع ذلك فليس أمامنا غير أن نحاول، آخذين هذه الأسئلة المطروحة عن سبب الشعور بالمرارة فى الحلق وعلى طرف اللسان - سؤالاً بعد سؤال.

هل الاتحاد السوفيتى ضد فكرة الزيارة المفاجئة للقدس، وهل هو ضد التغييرات السريعة فى المواقف، وما قد تعنيه من تنازلات؟

الرد على هذا السؤال كما يلى:

1- إن الاتحاد السوفيتى ليس غريباً على هذه المفاجآت ولا حتى على التغييرات السريعة فى المواقف، وما قد تعنيه من تنازلات، ففى تجربته هو نماذج أكبر - من الناحية العالمية وتأثيرها - من أى شىء حدث فى شهر نوفمبر الماضى فى القدس.

ففى أغسطس 1939 قام الاتحاد السوفيتى بأكبر انقلاب فى السياسة الدولية حين عقد فجأة مع - أدولف هتلر - معاهدة صداقة وعدم اعتداء.

كانت النازية منذ ظهورها هى العدو الأول والأكبر للاتحاد السوفيتى، وكانت حربه ضدها عنيفة وشرسة، وقد حشد وراءه كل الأحزاب الشيوعية فى هذه الحرب.

وفجأة بدون إعلان، وصل "يواكيم روبنتروب" وزير خارجية ألمانيا النازية إلى موسكو، واتصلت المفاوضات أياماً قليلة، ثم انفجر إعلان الاتفاق كأنه قنبلة ذرية، وظل العالم كله أياماً شبه مغمياً عليه.

ولكن الاتحاد السوفيتى تصدى للدفاع عن الانقلاب فى سياسته، وراح يبرره بأنه فى صالح السلام، وجر وراءه إلى موقفه الجديد كل الذين كانوا وراء موقفه القديم، وكان بعضهم ينجر رغماً عنه وكأنه أسير لجام.

وظل الاتحاد السوفيتى يبرر ويبرر حتى صباح ذلك اليوم من صيف سنة 1941 حين اندفعت مدرعـات ألمانيا النازية فجأة تجتاح حدوده، وتنفد فى أهم جمهورياته - أوكرانيا كأنها السكين فى الزبد.

وعندها فقط عاد الاتحاد السوفيتى يتحدث مرة أخرى عن شرور الفاشية وجنون الهتلرية إلى آخره.

والنقطة التى تعنينى هنا نقطة واحدة، وهى أن الاتحاد السوفيتى ليس غريباً - بدليل تجاربه هو - عن المفاجآت، ولا عن الأعداء الذين تقلبهم المناورات السياسية أصدقاء فى طرفة عين.

2- وفيما يتعلق بالصراع العربى - الإسرائيلى، فإن الاتحاد السوفيتى لم يجد فيه فى أى وقت من الأوقات ذلك التناقض الحاد الذى كان بين الشيوعية والفاشية.

وكثيراً ما أخطـأ السوفيت فى تحليلاتهم لدواعى هذا الصراع، فنسبوه مرةً إلى التعصب الدينى، ومرةً أخرى إلى العصبية القومية، ثم استطاعوا بعد عناء أن يصلوا إلى قرب الحقيقة فى دواعى ذلك الصراع.

ومع ذلك فإن الفهم المستجد لم يمنعهم من تقديم اقتراحات لا تختلف كثيراً عن مضمون زيارة القدس.

وأتذكر أنه عقب نجاحهم فى عقد مؤتمر طشقند سنة 1966 لتسوية الخلافات بين الهند وباكستان - أن "أليكسى كوسيجين" بعث إلى جمال عبد الناصر يسأله رأيه فى - طشقند - ثانية بين العرب وإسرائيل...

وكان تصور كوسيجين أن يعقد اجتماع فى طشقند بوساطته يحضره جمال عبد الناصر وليفى أشكول، ثم تجرى فيه تسوية الصراع العربى الإسرائيلى.

ورد جمال عبد الناصر على كوسيجين يقول له إن الصراع العربى الإسرائيلى أعمق جذوراً مما يمكن تصفيته على هذا النحو المقترح، ثم إن الصراع عربى إسرائيلى وليس مصرياً إسرائيلياً.

وسقط الاقتراح من يومها، ولم يبعث ثانيةً من قريب أو بعيد، لأن الاتحاد السوفيتى ما لبث بعد ذلك سنة 1967 أن قطع علاقاته بإسرائيل؛ وبالتالى لم يعد فى وسعه أن يسعى بوساطة بين العرب وبينها.

والنقطة التى تعنينى هنا نقطة واحدة - أيضاً - وهى أن الاتحاد السوفيتى سبق له أن اقترح على مصر شيئاً مماثلاً لما جرى فى القدس، وكان اقتراحه له فى إطار مصرى إسرائيلى كذلك.

3- والاتحاد السوفيتى بمنطقه ليس ضد التنازلات حتى وإن وصلت إلى حد التنازلات الإقليمية، فهو يصل إلى القول بأن سلامة الأوطان فى سلامة نظمها التقدمية، وأنه حتى إذا اضطر نظام تقدمى إلى التسليم فى بعض التراب الوطنى - فهذا جائز له - مؤقتاً لأنه يستطيع تعديل موازين القوى فى ظروف ملاءمة تمكنه من استرداد ما تنازل عنه حين كانت الموازين ضده.

ويتذكر الرئيس "هوارى بومدين" - مثلاً - أنه حين قصد إلى الاتحاد السوفيتى ومعه الرئيس العراقى السابق عبد الرحمن عارف فى أعقاب معارك يونيو 1967- أن بعض القادة السوفيت كانوا ينصحون بالوصول إلى تسوية سريعة لأزمة الشرق الأوسط حتى وإن اقتضت تنازلات إقليمية عربية لإسرائيل، وكان منطقهم أن العرب فى جو التسوية سوف يتمكنون من إعادة بناء قوتهم، وتعديل موازين القوى لصالحهم، واسترداد ما ضاع منهم بالتالى فى مستقبل أكثر ملائمة لهم.

وكان القادة السوفيت يستشهدون فى محاولتهم لإقناع الزعماء العرب بتجربة - لينين - عندما تنازل بمقتضى معاهدة برست ليتوفسك - عن ثلاث جمهوريات روسية، ثم عاد الاتحاد السوفيتى واستردها فى التسوية العامة التى أعقبت الحرب العالمية الثانية.

ومرة أخرى ثالثة فإن النقطة التى تعنينى هنا هى أن الوصول إلى حد للتنازلات الإقليمية مقبول بالمنطق السوفيتى.

وإذن فإن الجواب على أول الأسئلة المطروحة عن سبب الشعور بالمرارة فى حلق الاتحاد السوفيتى وعلى طرف لسانه يصبح هو:

- لا أظن أن الاتحاد السوفيتى ضد فكرة الزيارة المفاجئة للقدس، ولا ضد التغييرات السريعة فى المواقف حتى وإن كانت تعنى تنازلات إقليمية.

نصل إلى السؤال الثانى، وهو:

هل الاتحاد السوفيتى ضد تسوية سلمية لأزمة الشرق الأوسط؟

والرد على هذا السؤال بدوره كما يلى:

1- هناك حقيقة من الحقائق الكبرى فى عالمنا المعاصر، وعلينا أن نعيها ونستوعبها تماماً فى كل ما نتصرف به دولياً، وهذه الحقيقة هى أن الشاغل الأكبر للولايات المتحدة هو الاتحاد السوفيتى، كما أن الشاغل الأكبر للاتحاد السوفيتى هو الولايات المتحدة.

إن كل خطوات السياسة الدولية لكل منهما - تقريباً يجرى تخطيطها وتنفيذها وحساب نتائجها وفى الاعتبار بالدرجة الأولى تأثيرها على الأخرى.

أى إن واشنطن عنصر ثابت فى أى قرار تتخذه موسكو بمقدار ما أن موسكو عنصر ثابت فى أى قرار تتخذه واشنطن.

ومن هذا المفهوم فإن الاتحاد السوفيتى يتصرف فى الشرق الأوسط - كما يتصرف فى غيره من المناطق فى العالم - وعينه على الولايات المتحدة أولاً، ونفس الشىء بالنسبة للولايات المتحدة.

وبمقتضى هذا المفهوم فإن الاتحاد السوفيتى يحاذر فى منطقة الشرق الأوسط بأكثر مما يحاذر فى أى منطقة غيرها من العالم، والسبب أنه يعرف أن الولايات المتحدة تملك مصالح حيوية لا تستطيع الاستغناء عنها فى الشرق الأوسط، وأى تهديد حقيقى لها يعنى حرباً نووية لا شك فيها.


إن الاتحاد السوفيتى يعترف للولايات المتحدة فى المنطقة بمورد طاقة ليس فى مقدورها أن تعيش بدونه، وإذن فهى سوف تقاتل دفاعاً عنه، وهكذا يتصرف الاتحاد السوفيتى فى المنطقة واضعاً لنفسه حداً لا يتخطاه، وهو أن لا يصل فى تحركاته إلى درجة تشعر معها الولايات المتحدة أن هناك خطراً حقيقياً على منابع البترول..

ثم إن الاتحاد السوفيتى - إلى جانب ذلك - يعرف أهمية الارتباط الأمريكى بإسرائيل.

ويعرف كذلك خطورة منطقة الشرق الأوسط كقاعدة مواصلات جوية وبحرية وبرية.

وهكذا فإن حذره فى الشرق الأوسط أكثر مما يتصور أحد.

والاتحاد السوفيتى يدرك أن الصراع العربى الإسرائيلى يحتوى على شحنات قابلة للانفجار الواسع.

ومن هنا فإنه لا يكتفى بالحذر يفرضه على نفسه، ولكنه يدعو إليه كل من يستطيع دعوتهم من العرب.

وأظن أن كثيرين من الزعماء العرب سمعوا من القادة السوفيت مرات كثيرة مناشدة حارة لضبط النفس.. وأعتقد أنهم - وبنفس الألفاظ تقريباً - قالوها لأكثر من مسئول عربى: لابد أن تحاذروا.. أنتم فى منطقة يملك الأمريكان فيها مصالح حيوية لا يترددون فى الحرب دفاعاً عنها، ونحن نسلم أنها مصالح استعمارية ولكن الأمر يقتضى أسلوباً آخر غير الصدام المباشر الذى يمكن أن يؤدى إلى انفجار عالمى.. هل تريدون حرباً عالمية؟ فى الحرب العالمية الماضية فقد الاتحاد السوفيتى - عشرين مليون قتيل.. ولم تكن حرباً نووية.

2- إن الاتحـاد السوفيتى يعتقد أن الصراع العربى الإسرائيلى كان فادح التكاليف بالنسبة له.

والذين يعرفون "أليكسى كوسيجين" - رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى - وأظننى... واحداً منهم - يعرفون غرامه بالأرقام ومقدرته الفائقة على حفظها وهو لا يتردد - بين وقت وآخر - فى أن يلقى بنظرة آسفة ومتجهمة إلى بعض زواره من العرب ثم يقول:

إن العرب مدينون للاتحاد السوفيتى بخمسة عشر مليون روبل، أى أكثر من خمسة عشر بليون دولار، نصفها تقريباً ديون سلاح.

ثم يستطرد كوسيجين:

- ومن يعلم إذا كنا نستطيع تحصيل ديوننا؟

ثم يكتسب صوت كوسيجين نبرة الفيلسوف الحائر ويقول:

- ومع ذلك ما فائدة تكاليف هذا السلاح كله بالنسبة لكم وبالنسبة لنا..

- إن التنمية هى التى تبنى القوة الحقيقية وليس السلاح.

- إن السلاح يجىء بعد التنمية وليس قبلها.

قبل التنمية فإن السلاح إهدار موارد، وبعد التنمية فإنه فى حدود معقولة - يصبح استثماراً مفيداً للأمن الوطنى.

وأتذكر أن جمال عبد الناصر رد مرة على ملاحظة من هذا النوع لكوسيجين:

- إن ما أسعى إليه هو التوازن بين التنمية والسلاح، فنحن أمام عدوان توسعى وإذا لم تكن التنمية محمية فإن ثمارها قد تقع بالكامل فى يد العدو.

سنة 1955 كان رأيى مثل رأيك.. كنت أريد التنمية ولم أكن أريد السلاح ولكن التوسع الإسرائيلى فرض على أن أعيد النظر فى موقفى وأن أحصل على سلاح أحمى به عملية التنمية كما أحمى به حدود الوطن.

ولست أظن أن كوسيجين اقتنع تماماً.. فإن تساؤلات الفيلسوف الحائر ترددت بعد ذلك فى أقواله فى أكثر من مناسبة.

هكذا رأيهم...

3- إن الاتحاد السوفيتى يعتقد - أو على الأقل يعتقد كثيرون فيه - أن الوصول إلى تسوية لأزمة الشرق الأوسط سوف يفتح الباب للتفاعلات الاجتماعية الواسعة والعميقة على طول المنطقة وعرضها.. وهذه التفاعلات مع التفاوتات الطبقية المخيفة فى الشرق الأوسط سوف تدفع إلى آفاق المنطقة بأفكارهم أو أفكار قريبة منها.. وفى رأيهم أن التفاعلات التى تعقب التسوية قد تؤدى إلى إسقاط سيطرة البورجوازية التقليدية القديمة فى العالم العربى إلى جانب البورجوازية الطفيلية الجديدة.

أى أن الشرق الأوسط يجد نفسه بعد التسوية فى حالة ثورية - فوارة تعجل بتغييرات اجتماعية تعطلت بسبب الطابع الوطنى والقومى للصراع مع إسرائيل.

وإذن فإن الجواب على ثانى الأسئلة المطروحة عن سبب الشعور بالمرارة فى حلق الاتحاد السوفيتى وعلى طرف لسانه يصبح هو:

- لا أظن أن الاتحاد السوفيتى - لأسباب متعددة لديه يعترض على تسوية سلمية لأزمة الشرق الأوسط.

يبقى السؤال الثالث، وهو:

هل الاتحاد السوفيتى خائف من نجاح لا يشترك فى صنعه؟

والرد على هذا السؤال كما يلى:

1- إن الاتحاد السوفيتى يرى ما يراه غيره - حتى الولايات المتحدة - من أن التسوية المقبولة مازالت بعيدة، لأن موازين القوة الحقيقية بين أطراف الصراع العربى الإسرائيلى ليست فى الوقت الراهن فى وضع يسمح بالتوصل إلى تسوية مقبولة.

وما هو ممكن فى الوقت الحاضر هو صلح منفرد بين مصر وإسرائيل، وهو أمر له مشاكله الضخمة، وفضلاً عن ذلك فهو لا يستطيع أن يتيح سلاماً.

والممكن الثانى فى الوقت الحاضر هو تسوية أوسع من مصر وإسرائيل، ولكنها تستبعد أطرافاً أساسيين فى الصراع كالفلسطينيين، ومثل هذه التسوية سوف تكون بالضرورة سلاماً إسرائيلياً، وهو شىء يختلف عن السلام الحقيقى.

وإذن فالتسوية بعيدة، والقريب فقط هو المشاكل الناجمة عن التعثر على طريقها، لأن موازين القوى لا تسمح بأكثر من ذلك.

2- إن الاتحاد السوفيتى يدرك أنه لا يمكن أن تتم تسوية دائمة فى الشرق الأوسط بدونه وحتى إذا أمكن استبعاده فى بعض المراحل فإن المرحلة الحاسمة - وهى مرحلة ضمان التسوية - سوف تكون مستحيلة بغير اشتراكه فيها.

بل إنه إذا أراد بعض العرب استبعاد الاتحاد السوفيتى من ضمان التسوية فإن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها سوف تصر على اشتراكه.. بل أكثر من ذلك سوف تصر إسرائيل نفسها على اشتراك الاتحاد السوفيتى فى الضمان.

3- إن الاتحاد السوفيتى يثق أنه ليس فى مقدور أحد أن يخرجه من الشرق الأوسط فضلاً عن غيرها من المناطق الأخرى فى العالم التى يريد ويهمه التواجد فيها.

فالاتحـاد السوفيتى واحدة من القوتين الأعظم، وهى موجودة فى الفضاء العالمى لكل القارات، وموجودة على سطح المحيطات والبحار وفى أعماقها.

ثم إن جوارها الجغرافى مع الشرق الأوسط يرقى إلى مرتبة حقائق الطبيعة.

ثم إن عشرين سنة من العلاقات الوثيقة بين الاتحاد السوفيتى والشرق الأوسط لا يمكن أن تنتهى بالسكتة القلبية، فهناك رموز لهذه العلاقات باقية: صلات سياسية وإنسانية، ومعجزات مشتركة تشير إلى سدود ومصانع تدور فيها الحركة ليل ونهار.

وأخيراً فإن الاتحاد السوفيتى - إلى جانب كونه إحدى القوتين الأعظم عقيدة عالمية لها قوة جذبها فى كل أرجاء الأرض، خصوصاً تلك الأرجاء الفوارة بالتفاعلات الاجتماعية.

وإذن فإن الجواب على ثالث الأسئلة المطروحة عن سبب الشعور بالمرارة فى حلق الاتحاد السوفيتى وعلى طرف لسانه يصبح هو:

- لا أظن أن الاتحاد السوفيتى خائف من نجاح فى الشرق الأوسط لا يشترك فى صنعه.


وإذن لماذا المرارة وعلى طرف اللسان صباح ليلة الفرح فى القدس؟

بعض المرارة يمكن رده بالطبع إلى حقيقة أن الاتحاد السوفيتى واجه نكسة سياسية محققة فى الشرق الأوسط.

ولكن أى واحدة من القوتين الأعظم تستطيع أن تخسر جولة فى منطقة من المناطق دون أن تشعر أن الأقدار تخلت عنه، فخسارة جولة فى إى صراع ليست نهاية التاريخ، ثم أن ما يضيع فى منطقة من العالم يمكن تعويضه بسرعة فى منطقة أخرى لأن الكرة الأرضية كلها هى مساحة مطامع ومخططات القوتين الأعظم.

وإذن - مرة أخرى - لماذا المرارة؟

أكاد أقول إن السبب - أو معظمه - يتصل بالسياسة فى جانبها المعنوى أكثر مما يتصل بالسياسة فى جانبه العملى الذى تصنعه حقائق القوة وحدها.

وفى هذا الجانب المعنوى فإن مرارة الاتحاد السوفيتى - هذه اللحظات - تعود إلى شعوره القوى - وهو شعور لا جدوى من إنكاره - بأن هيبته العالمية اهتزت من جراء ما حدث له فى الشرق الأوسط:

كاد أن يصل مع صدام مع الولايات المتحدة بسبب العرب سنة 1956 و1967 و1973 - ثم هجره بعض أصدقائه العرب واندفعوا إلى ود بغير ثمن مع الولايات المتحدة.

وقطع علاقته بإسرائيل ودعا الدول الشيوعية الأخرى إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل سنة 1967 احتجاجاً على احتلالها لأراضى عربية، وقبلت كل هذه الدول فيما عدا رومانيا التى احتفظت بعلاقاتها مع العرب، وكانت هى وسيلتهم مع إسرائيل وطرفاً نشيطاً فى الترتيب لمهرجان القدس.

دافع عن وجهة النظر العربية بأنه لا مفاوضات مباشرة مع إسرائيل طالما هى تحتل أرضاً عربية، فإذا الأمور تنعطف إلى عكس الاتجاه الذى كان يشير إليه.

حاول أن يجمع اليسار الدولى كله على موقف معاد لإسرائيل، فإذا التطورات تمزق موقف اليسار العالمى كله، فاليسار الأوروبى لأسباب متنوعة مع زيارة القدس وبعض اليسار فى أوروبا الشرقية ذاتها يتخذ نفس الموقف، بل إن بعض عناصر اليسار العربى توصله للاتجاه المرسوم.

حارب العرب فى أكتوبر من أول لحظة إلى آخر لحظة بسلاحه، ولكنهم فور انتهاء المعارك حاولوا استبعاد دوره من العمل السياسى الذى تلا العمل العسكرى، وكانت الولايات المتحدة تعتذر لنفسها بأنها تريد دوره ولكن أصدقاءه العرب هم الذين لا يريدون.

بل إنه حينما اعترفت الولايات المتحدة له بهذا الدور فى البيان الأمريكى السوفيتى الذى صدر فى أكتوبر الماضى فإن بعض العرب غضبوا لأن أمريكا حاولت إدخاله من النافذة بعد أن أخرجوه هم من الباب.

خرج بعض العرب لمطاردته خارج حدود الإقليم العربى وكأنهم موكلون بمطاردته حيث يكون وكأنها حرب صليبية ضده ليس فيها - من وجهة نظره - أى صالح للعرب.

حاولوا مداراة فشلهم العربى بالبحث عن بداية حوار أحياناً وبالصمت أحياناً أخرى، ولكن الحوار لم يجد ولا نفع الصمت وأصبحوا مثل المقامر يواصل رهانه على أمل تعويض خسائره أو جزءاً منها، ولكن كل لعبة تجىء لترفع خسائره إلى حد باهظ لا يحتمل.. إلى حد ضياع الهيبة فضلاً عن ضياع الرصيد.

لحق بذلك كله أن الاتحاد السوفيتى فوجئ بالتطورات الأخيرة، ولم يكن يملك غير متابعتها بشعور بالبلاهة لا نستطيع مداراة تعبيره على وجهه.

والقـوى الأعظم لا تحب أن تفاجأ بشىء وهى الفخورة دائماً بقدرتها على الاستشعار عن بعد.

ثم إن ملامح البلاهة على وجهها تثير شماتة الآخرين ولا تثير عطفهم، والقوى الأعظم تطلب الاحترام لنفسها قبل طلب شىء غيره.

لعلى أقول - وقد قلت هذا كله حتى الآن - إن الاتحاد السوفيتى كان يشعر فى قرارة نفسه أنه مسئول عما حدث بمثل مسئولية الآخرين - فقد كانت له أخطاؤه القاتلة وكان له أسلوبه الغليظ بالكلمات والتصرفات.

لكن ذلك الاعتراف بالمشاركة فى مسئولية الخطأ لا ينفى الإحساس بضياع الهيبة ولا يعوض عن ضياعها.

وباختصار فإن الاتحاد السوفيتى يشعر أنه غرر به فى الشرق الأوسط، وأكثر من ذلك أنه أهين.

وكانت الإهانة علنية رأتها القوة الأعظم الثانية ورآها العالم الثالث النامى ورأتها الدنيا كلها.

وليس أصعب على القوة الأعظم من اهتزاز مهابتها.

إن هيبة أى واحدة من القوتين الأعظم لا تقل فى أهميتها بالنسبة لها عن سلاحها النووى.

السلاح النووى فى ترسانتها هو رمز قوتها المادية.. والمهابة من حولها هى رمز قوتها السياسية.

ومن هنا جاءت المرارة فى الحلق وعلى طرف اللسان صباح ليلة الفرح فى القدس!
 
(5) صباح ليلة الفرح: الرأى العام العالمى وحسابات التكاليف!
نصل الآن إلى أضخم شهود المهرجان، وأكبر المتحمسين له، وهم الذين أعطوه فى الواقع رونقه البهيج، وجعلوه فرحة للدنيا بأسرها.

وبالطبع فإن الذى أقصده هنا هو ما نسميه اصطلاحاً: الرأى العام العالمى..

والرأى العام العالمى قوة غير محددة "فهو موزع على كل قارات الأرض".

ثم إن الرأى العام العالمى قوة غير ملتزمة "فهو اليوم باهتمامه فى مكان، ولكنه غداً - باهتمامه أيضاً - فى مكان آخر".

وهنا مشكلة الرأى العام العالمى بعد ميزته.

ميزته أنه يستطيع أن يلقى حدثاً من الأحداث بمزاج معين يفيض على الكون كله للحظة من اللحظات.

ولكن مشكلته - بعد ذلك - أنه يعـيش لحظته ويكتفى بها.. أى أنه كالمدعوين فى أى فرح، لهم متعته وليست عليهم مسئوليته.. حياتهم الليلة فيه، وغداً تلك الليلة ذكرى، وبعد غد قصة أخرى.

وربما كان موقف أوروبا الغربية من المبادرة - على مستوى الحكومات وعلى مستوى الشعوب - هو خير نموذج يمكن عن طريقه دراسة موقف ما نسميه "الرأى العام العالمى" من ليلة الفرح وصباح ليلة الفرح.

وفى الحقيقـة فإن أوروبا الغربية - شأنها شأن آخرين فى العالم - لم يكن لها غير دور المدعوين، فمنذ زمن طويل لم يعد لها أكثر من هذا الدور بحكم العديد من الظروف.

ولكى لا يكون هناك لبس، فلابد أن نسلم بأن أوروبا الغربية كانت مهتمة بأزمة الشرق الأوسط، ولكن الاهتمام - بغير قدرة - لا يعطى أصحابه الحق فى أى دور فعال.

وقد فقدت أوروبا الغربية قدرتها العالمية بحكم موازين القوى المتغيرة، وهى موازين ركزت هذه القدرة العالمية فى القوتين الأعظم، وتركت لغيرهما فى أحسن الفروض دور القوى الإقليمية فى نطاق محدد، أو دور القوى المساعدة خارج هذا النطاق.

وقد كانت آخر مرة حاولت فيها أوروبا الغربية أن تقوم بدور فعال فى أزمة الشرق الأوسط هى محاولة الجنرال "شارل ديجول" خلال أزمة يونيو سنة 1967 أن يدعو إلى مؤتمر قمة رباعى - الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى وفرنسا وبريطانيا - لبحث الموقف المتوتر فى الشرق الأوسط.

وكانت هذه المحاولة تعبر عن الطموح الشخصى للجنرال "ديجول"، ولكن لأنها لم تكن تعبر عن موازين القوى الحقيقية فى العالم وقتها - وإلى اليوم - فإن الدعوة لم تلق استجابة، واستعيض عنها باجتماعات عقدتها الدول الأربعة فى نيويورك - على مستوى المندوبين الدائمين فى الأمم المتحدة - لبحث تطورات أزمة الشرق الأوسط، ثم ما لبثت هذه الاجتماعات الرباعية أن توارت وأفسحت الطريق لاتصالات ثنائية بين القوتين الأعظم لبحث تطورات أزمة الشرق الأوسط، وهى اتصالات مازالت تجرى حتى هذه اللحظة.

وبصرف النظر عن التفوق المطلق للقوتين الأعظم على غيرهما فى مجال السلاح النووى، وفى الطاقة الإنتاجية، وفى السيادة على البحار - وهى العوامل التى تعطى للقوة الأعظم مكانتها التى لا تنازع - فإن أوروبا الغربية لم تكن تستطيع - حتى بالمعايير التقليدية - أن تعطى لنفسها قدرة خاصة تمكـنها من أى دور فعال فى أزمة الشرق الأوسط - فمثل هذه القدرة كانت تتطلب ما يلى على الأقل:

1- أن تكون أوروبا الغربية فى وضع يسمح لها بأن تقدم لأطراف النزاع ما يحتاجون إليه من سلاح فى صراعهم، والسلاح ليس صفقات متقطعة، ولكنه إمداد مستمر بنظم حربية منسقة، وذلك خارج طاقة أوروبا الغربية، ويكفى أن نتذكر أن ما جرى استهلاكه فى معارك أكتوبر سنة 1973 - التى استمرت أسبوعين - يوازى إنتاج أوروبا الغربية كله على طول سنتين..

2- أن تكون أوروبا الغربية فى وضع يسمح لها بتقديم مساعدات اقتصادية سخية يعتمد عليها أطراف النزاع.

والمساعدات الاقتصادية ليس اتفاقيات بعشرات ملايين الدولارات بين وقت وآخر، ولكن المساعدات الاقتصادية المؤثرة تعهدات دائمة تصل حدودها إلى البلايين وذلك أيضاً خارج طاقة أوروبا الغربية "بل لعل أوروبا الغربية تريد البلايين من سيولة الشرق الأوسط، قبل الملايين تقدمها مساعدة لبعض من فيه".

3- أن تكون أوروبا الغربية فى وضع يسمح لها بالضغط السياسى على أطراف النزاع أو على أيهم، بحيث يكون من أثر ذلك تقريب المواقف المتعارضة لهم، ولكن ذلك - أخيراً - خارج طاقة أوروبا الغربية.

هكذا لم يعد لأوروبا الغربية القدرة، وإن بقى لديها الاهتمام، ومبعث الاهتمام واضح بطبيعة الحال، فالشرق الأوسط هو الشاطئ الآخر للبحر الأبيض، ثم هو مورد البترول، وفوق ذلك فهو مالك أكبر ثروة نقدية سائلة عرفها التاريخ، فضلاً عن علاقات خاصة ربطتها به حقبات التاريخ منذ فجر الحضارة إلى عصر الاستعمار.

ومن نتيجة الاهتمام الباقى مع القدرة الزائلة - إن النشاط الاقتصادى الأوروبى فى الشرق الأوسط أخذ مجاله فى التجارة، ثم إن النشاط السياسى الأوروبى فى الشرق الأوسط لم يجد غير مجال العلاقات العامة.

والعلاقات العامة هى فن خلق انطباعات ملائمة، وهذا بالتدقيق ما تفعله أوروبا الغربية حيال أزمة الشرق الأوسط وأطرافها.

أى أن السياسة الأوروبية - فى إدراكها لعجزها عن التأثير العملى فى أزمة الشرق الأوسط - تركز على الإيحاء للأطراف بأنها تتعاطف معهم وتتفهم وجهات نظرهم.

ولأن القدرة محدودة - كما يسلم الجميع - فإن النوايا الطيبة لا تتعرض لامتحان عسير.

وهكذا كان موقف حكومات أوروبا الغربية تجاه أزمة الشرق الأوسط:

* بيانات سياسية "مقبولة" بين وقت وآخر.

* مجاملات ظاهرة، وهى على أى حال تخدم أصحابها فى نفس الوقت، فقصة الصراع فى الشرق الأوسط على الصفحات الأولى وفى مقدمة كل نشرة إخبارية، وأن يظهر سياسى أوربى فى الصورة الواسـعة لأزمة الشرق الأوسط - فذلك شىء لا بأس به فى السياسة المحلية لبلاده، وربما أوسع.

* ثم منافسة بين فرنسا وبريطانيا: أيهما تكون الوسيط المعتمد من العرب إلى مجموعة السوق الأوروبية، لأن ذلك يعطيها مركزاً ممتازاً بين دول المجموعة المهتمة بمشكلات الطاقة والنقد، إلى آخره.

وكانت فرنسا - على سبيل المثال - هى الطرف السباق إلى الوساطة قبل المبادرة، وبعد المبادرة - وقد تخلفت فرنسا عن تأييدها فى البداية - فإن "كالاهان" رئيس وزراء بريطانيا انتهز الفرصة واندفع إلى الساحة ليسبق فرنسا.

وكانت فرنسا فى مأزق، فقد كان رأيها - ومايزال - أن فرص النجاح أمام تلك المبادرة ضئيلة، ولكنها لم تستطع البقاء بعيداً، فاقتربت تقول للقاهرة:

"إنها تخلفت لأن الاقتراح الأول الذى عرض على دول السوق بتأييد المبادرة كان مصدره واشنطن، وباريس لا تحب الاستجابة المطيعة لطلبات واشنطن - وفى نفس الوقت كانت فرنسا فى دمشق تنصح بالتروى والحذر لأن المبادرة فى مطلق الأحوال لن تصل إلى نتيجة".

والحقيقة أن الحكومات فى أوروبا الغربية كانت - بلا استثناء تقريباً - عاجزة بالفعل عن رؤية المدى الذى يمكن أن تصل إليه المحاولات الأخيرة فى أزمة الشرق الأوسط، ولكن دقات الطبول شدتها إلى ساحة المهرجان، ولم يكن لديها ما تخسره من الدخول، خصوصاً وأن الجو العام فى أوروبا الغربية كلها - وفى غيرها من القارات - تحول إلى جو فرح يريد أن يسهر ليلته المثيرة إلى الفجر، ويحرص على أن لا يفوته من وقائعها ومشاهدها شىء.. ولا حركة ولا خلجة..


نصل الآن إلى نقطة هامة، وهى: ما الذى صنع جو الفرح العام الذى غمر أوروبا كلها ليلة الفرح، وقاد الناس فيها جميعاً إلى ساحة المهرجان؟

وإذا حاولنا البحث فى هذه النقطة، فسوف نجد أن العوامل التى صنعت جو الفرح كانت كلها عوامل بعيدة عن طبيعة مشاكل أزمة الشرق الأوسط، وعن مخاطرها، وعن حلولها.

وبصفة عامة فإن هذه العوامل كانت على النحو التالى:

1- إن أزمة الشرق الأوسط ظلت وحدها - دون المشكلات الكبيرة فى الأربعينات - والخمسينات والستينات وأكثر السبعينات - بدون حل.

إن روح العصر أملت حلولاً وسطاً لكل العقد إلا أزمة الشرق الأوسط.

إن "الوفاق" ساد علاقات القوتين الأعظم، و"المساومة التاريخية" - على حد تعبير "برلينجوير" زعيم الحزب الشيوعى الإيطالى - تحكم العلاقات بين الشيوعيين والرأسماليين فى أوروبا الغربية، ومشاكل جنوب شرق آسيا جرى حلها على نحو أو آخر، فحرب فيتنام انتهت، وعزلة الصين انكسرت بدخولها إلى الأمم المتحدة والعضوية الدائمة لمجلس الأمن.

لكن الصراع العربى الإسرائيلى وحده يزداد توتراً مع كل يوم على خلاف طبيعة العصر - كما يتصورون.

والآن هل جاءت اللحظة الموعودة لكى ينزاح هذا الصراع بدوره، ويذهب ضمن ما ذهب من الصراعات إلى الماضى؟

2- إن أزمة الشرق الأوسط كانت دائماً تجر إلى مواجهة بين العملاقين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى - ولقد كادت هذه المواجهة أن تحدث فعلاً سنة 1956 وسنة 1967 وسنة 1973 - وأى مواجهة بين العملاقين سوف تبدأ بغير شك فى أوروبا الغربية، وفى ظل التفوق السوفيتى الضخم فى الأسلحة التقليدية فإن أجزاء كبيرة من القارة العريقة قد تكون معرضة للاجتياح فى الأيام الأولى من المواجهة، وهذا كابوس يزعج أوروبا الغربية كلها.

والآن هل هذه هى الفرصة التى طال انتظارها ليتبدد الكابوس إلى الأبد؟

3- إن أزمة الشرق الأوسط فى آخر انفجار لها سنة 1973 أصابت أوروبا الغربية بما لا تزال تعانى منه حتى الآن، وأوله مضاعفة أسعار البترول عدة مرات فى ضربة واحدة، ولقد أدى ذلك إلى مشكلات طاحنة.. عجز فى موازين المدفوعات... خلل فى التنمية... زيادة البطالة... تضخم نقدى وارتفاع فى الأسعار... إلى آخره.

والآن هل هذه هى نهاية كل هذه القائمة من المشاكل التى ينسب إليها كل ما هو آخذ بخناق الناس فى أوروبا الغربية كلها؟

4- إن أزمة الشرق الأوسط - كما يقال لهم - تهددهم فى أى انفجار قادم بحظر بترولى جديد، وربما برفع الأسعار مرة أخرى، أى أنها كالسيف المعلق فوق رقابهم، وهو سيف يمكن أن يشعروا بنصله فى أى وقت بدون استعداد وبدون ذنب منهم أو حتى خطأ.

والآن فهل للسيف المشهر أن يعود إلى غمده نهائياً ويرتاح الجميع؟

5- إن أزمة الشرق الأوسط - وهذه نقطة بالغة الأهمية - تذكرهم دائماً بشىء حاولوا نسيانه ومازالوا يحاولون، وهذا الشىء هو المشكلة اليهودية.

إن المشكلة اليهودية فى حقيقتها مشكلة أوروبية، ولقد أراحوا أنفسهم منها بتصديرها إلى الشرق الأوسط، أو هكذا تصوروا، ولكن التجربة ظلت قلقة، ذلك أن معاداة السامية وهى الوجه الآخر للمشكلة اليهودية - نشأت فى أوروبا وفرضتها على الشرق الأوسط - بدون أى أساس تاريخى - طرح مشكلة جديدة دون أن يحل المشكلة القديمة.

وهكذا فإن الصراع العربى الإسرائيلى ظل دائماً تذكرة للضمير الأوروبى بأن المشكلة التى حاول أن يهرب منها مازالت تطارده، ولو معنوياً على الأقل.

والآن فهل أوشك الضمير الأوروبى على أن يرتاح؟؟

6- إن أزمة الشرق الأوسط - وهذه نقطة تتصل بسابقتها مباشرة - أبرزت مأساة الشعب الفلسطينى الذى حرم من أرضه، لأن أوروبا الغربية أرادت أن تحل مشكلة ضميرها على حسابه.

ولقد بدأت المأساة الفلسطينية تطرح نفسها بعنف - خصوصاً فى السنوات الأخيرة - على الضمير الأوروبى.

وفى السنوات الأخيرة فلقد كانت هناك لحظات من عذاب الضمير الأوروبى بين مشكلة شعب فلسطين والمشكلة اليهودية، وكان الضمير الأوروبى يحاول بكل وسيلة أن يهرب من الاختيار.

والآن فهل أعفى الضمير الأوروبى من الاختيار الصعب... وجاءت معجزة تنهى كل العذاب فى ليلة فرح واحدة؟

7- ثم نتذكر فى نهاية هذه المجموعة من العوامل التى صنعت جو الفرح أن أرض - الأساطير كانت مهيأة لأسطورة جديدة، فلقد كان المسرح الذى اختير لليلة المشهودة هو ساحة القدس، والقدس ليست مجرد مدينة وإنما القدس رمز أكبر من أى مدينة.

وهو رمـز يلفه جـو مشحون بعطر الأديان، وعبق التاريخ، ودخان البارود، وروائح الدم... دم القديسين والشهداء والمغامرين.

كانت القدس ملتقى كل الرسالات، ومطلب كل الإمبراطوريات، وزينة كل العصور.

وكان نداء القدس دائماً غلاباً، ينفذ من الآذان إلى أعماق أعماق الوجدان مختلطاً بأصداء الأناشيد والترانيم والصلوات والدعوات.

هكذا فإن المسرح أضفى على الحدث مسحة شبه دينية، وشبه تاريخية وشبة أسطورية.

وكان هذا فى حد ذاته شيئا مثيراً لكل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، وهكذا هرعت جميعها إلى القصة النموذجية فى إثارتها.

ويقال أحياناً إن فنون الإعلام لا تقدم السلع فحسب، وإنما تخلق الحاجة الملحة إليها.

وبنفس المقياس، فإنه يمكن أن يقال أن فنون الإعلام لا تعطى الأخبار فحسب وإنما تخلق الاهتمام الأوسع بها.

ومثل ذلك حدث بالفعل.

هكذا كان موقف أوروبا الغربية - على مستوى الحكومات وعلى مستوى الشعوب - كنموذج يمكن عن طريقه دراسة موقف الرأى العام العالمى من ليلة الفرح وصباح ليلة الفرح.

وبقية المواقف - على اتساع الدنيا كلها - نفس الشىء أو قريب منه:

فى بعض دول أوروبا التى كانت تربطها علاقات خاصة بالعرب تفرض عليها اتخاذ جانب الحذر فى علاقاتها بإسرائيل - فقد كان الإحساس بأنهم تخلصوا من التزام أدبى تجاه العرب فرض عليها التحفظ تجاه إسرائيل، وضايقهم مع قوى تساندها - كالولايات المتحدة مثلاً.

من هذه الدول مثلاً كانت البرتغال التى سارعت إلى تبادل السفارات بينها وبين إسرائيل.

ومن هذه الدول مثلاً كانت إسبانيا التى أقدمت، ثم تراجعت فى اللحظة الأخيرة، وآثرت الانتظار.

فى بعض دول أفريقيا ارتفع الحرج عن دول قطعت علاقاتها بإسرائيل تحت الضغط العربى، وراحت تتحين فرصة لاستئناف العلاقات معها، ولو لم يكن تواطؤ إسرائيل مع نظام جنوب أفريقيا العنصرى - وهو تواطؤ تتضح أبعاده يوماً بعد يوم - لأقدمت دول أفريقية عديدة على إعادة علاقاتها مع إسرائيل.

وليس هناك شك أن بعض الدول الصديقة والقريبة من العرب أحست بحرج، ومن هذه الدول مثلاً يوغوسلافيا والهند، ولقد كان ليوغوسلافيا بالتحديد موقف مبدئى فى الصراع العربى الإسرائيلى، ومع أن المواقف المبدئية لا تتقلب مع الأجواء - خصوصاً بالنسبة لعملاق من حجم الرئيس "جوزيف بروز تيتو"- إلا أن أحداً فى النهاية لا يستطيع أن يكون ملكياً أكثر من الملك ذاته.

وهكذا - على نحو أو آخر - بقية المواقف.

وسئلت أخيراً:

- أليس كسباً لنا أن تعيش الدنيا معنا مهرجان سلام، وأليس مؤكداً أن هذا المهرجان - حتى وإن تحول إلى ذكرى، وحتى وإن تجاوزته الظروف إلى قصة أو قصص أخرى - سوف يترك أثراً طـيباً... وألا يساوى هذا الأثر؟ وأليست تلك إيجابيات ما حدث... إنه لا يمكن أن يكون سلبياً كله؟

وكان ردى:

- لقد كان كسباً، وسوف يكون أثره طيباً حتى وإن تحول إلى ذكرى، ولكن السياسة - شأنها شأن غيرها - هى فى النهاية "حسابات تكاليف".

إن إقامة أى "فرح" عملية لا تتحكم فيها سعادة المدعوين إليه فحسب، ولكن يتحكم فيها أولاً "حساب التكاليف".

ولنضرب مثالاً سياسياً مبسطاً:

- إن المملكة العربية السعودية مثلاً تستطيع أن تملأ الكون كله سعادة لو أنها أعلنت صباح ذات يوم عن استعدادها لبيع بترولها بسعر دولار واحد للبرميل بدلاً من أحد عشر دولاراً للبرميل.

إن الدنيا كلها لن تهتف للسعودية فحسب، ولكنها سوف تركع أمامها وتصلى لها قبل النوم كل ليلة.

لكن السعودية بالطبع لا تفعل، لأن "حساب التكاليف" يتحكم ويحكم فى النهاية.

هذه هى الإجابة على جزء من السؤال، ومازال أمامنا بقية، وهو عن الإيجابيات فيما حدث وعن السلبيات فيه.

وأقر على الفور أن هناك إيجابية أساسية واحدة فى كل ما حدث، تلك هى أنه كفيل بأن يعطى الآخرين ويعطينا "يقيناً" لا مجال بعده لشك أو لتردد.

كان الآخرون يظنون أن العرب لم يعطوا السلام فرصة، ولو أنهم فعلوا كذا أو فعلوا كذا لتغير وجه الشرق الأوسط، ولانزاحت عنه غيوم الخطر وسطعت فى آفاقه شمس السلام.

وها قد حدث ما لم يكن يخطر على بال أحد أن يقترحه علينا - فلا انزاحت الغيوم ولا سطعت الشمس.

وكان البعض منا تداخلهم الوساوس بتأثير ما يسمعون من الآخرين، وكانت هواجسهم تخيل لهم أننا لو فعلنا كذا أو فعلنا كذا لأسقط فى يد الخصم مهما - كانت مطامعه - ولاضطر أن يجنح للسلم كما جنحنا لها.

وهـا قد حدث - مرة أخرى - ما لم تكن هواجسنا تجسر على الاقتراب منه ولو حتى خيالاً... ومع ذلك لم يجنحوا.

وإذن فإن الأمر أكبر من النوايا الطيبة، وأعقد مما تهفو إليه الظنون والوساوس.

ولقد آن أن يدرك الآخرون - وأن ندرك نحن أيضاً - أن تلك هى طبيعة الأشياء فى الصراعات التاريخية الكبرى.

ليست قضية نوايا، وسلكنها قضية إرادات..
 
(1)
الحوار الضائع: نحن لا نفهم ما تقوله إسرائيل والعكس صحيح!
إذا كان ما جـرى - ولا زال يجرى - بين مصر وإسرائيل نوعاً من الحوار، فإنى أعترف بالعجز عن فهم اللغة التى يدور بها - بل أخشى أن أطراف الحوار أنفسهم لا يعرفون بأى لغة يتكلمون.

وأتوقع أن أجد من يقول لى بسلامة نية: إنهم اعتمدوا الإنجليزية لغة رسمية للحوار، فكلهم درسوها إلى درجة أو أخرى!

وبالطبع فإن ذلك لم يكن ما قصدته من السؤال! فأنا أعرف أن مفردات من اللغة الإنجليزية يجرى تبادلها عبر المقاعد والموائد أثناء الجلسات الرسمية وغير الرسمية، وحتى عبر الخطوط المباشرة وغير المباشرة. ولكن المسألة التى تثير تساؤلى هى ما إذا كانت هذه المفردات تعنى نفس الشىء بالنسبة للطرفين؟ - وإلا فإنه حوار ضائع.

إن الألفاظ مجرد أشكال ورموز للمعانى. فإذا لم يكن هناك توافق على هذه المعانى، فإن الألفاظ تصبح مضللة.. لا تؤدى إلى المقصود منها، وربما أدت إلى عكسه. وتاريخ العالم ملىء بنماذج سوء الفهم التى تصور أطراف فيها أنهم على اتفاق، ثم ظهر أنهم على اختلاف رغم استعمالهم نفس الألفاظ. لم تكن معانى الألفاظ بالنسبة لهم واحدة، ولهذا كان الحوار ضائعاً.

وبعض سوء الفهم من هذا النوع لا ضرر منه. ومن ذلك - على سبيل المثال - القصة المشهورة عن المكتشف البريطانى الشهير "توماس كوك" حين وقعت أنظاره على أستراليا لأول مرة ونزل على شاطئها الغربى، وراح يسجل كل ما يراه من تضاريس الأرض وأشكال النبات وأنواع الحيوان. ولمح "كوك" ضمن ما لمح حيواناً غريباً يقفز ولا يجرى لأن أقدامه الخلفية طويلة، فى حين أن أقدامه الأمامية شديدة القصر. وسأل "كوك" أحد السكان بالإشارة عن اسم هذا الحيوان، ورد ساكن استراليا القديم قائلاً: كانجارو!"

وسجلها "توماس كوك" أمام وصف الحيوان: حيوان غريب اسمه "كانجارو".

وشاع الاسم، والتصق بحيوان "الكانجارو" الأسترالى المشهور.

ومرت عشرات السنين، ثم تبين أن كلمة "كانجارو" فى لغة هذه القبائل الأسترالية التى سكنت أستراليا قديماً معناها: لا أعرف!!

هذا النموذج من سوء الفهم سهل لا تنتج عنه أضرار، ولا تترتب عليه مخاطر، لكن الأمر يختلف فى الصراعات الكبرى وفى مواجهاتها السياسية أو العسكرية المعقدة.

فى الصراعات الكبرى تكون المسائل على درجة عالية من الدقة والحساسية بحيث لا يصبح الاتفاق على معانى الألفاظ هو المشكلة - وإنما تصبح الإشـارات والإيماءات قادرة وحدها على خلق أجواء تتعطل فيها إمكانية أى حوار.

ولقد كان من ذلك نموذج قريب أدى ما جرى فيه - مع عوامل أخرى - إلى نسف الاجتماع الأخير للجنة السياسية المشتركة بين مصر وإسرائيل فى الأسبوع الثالث من شهر يناير الماضى فى القدس. كان ذلك حين وقف "مناحم بيجـين" رئيس وزراء إسرائيل فى حفل أقامه تكريماً للوفد المصرى فى هذه المحادثات، وراح يتكلم عن حق تقرير المصير وكيف أسىء استعماله فى أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية. ثم التفت إلى "سيروس فانس" وزير الخارجية الأمريكية - وكان يجلس إلى يساره - وقال له:

- "أنت وأنا نذكر هذه الظروف جيداً لأننا حضرناها..."

والتفت "بيجـين" إلى يمينه حيث يجلس وزير الخارجية المصرى، واستطرد:

- "وأما وزير خارجية مصر فربما لا يتذكرها لأنه كان صغيراً عندما جرى ذلك كله..."

كان الجو مشحوناً بطبيعة الظروف، وبهذه الملاحظة وغيرها فإن الجو المشحون تكهرب، وأحس وزير خارجية مصر أنه مطالب بالرد بحزم، وحسناً فعل.

إن أحد الذين حضروا هذا العشـاء الأخير كان شخصية أمريكية مرموقة، وقد التقيت به فيما بعد، وسمعت انطباعاته عن جو تلك الليلة.

كان تصويره كما يلى:

- لم يكن هناك حوار طوال تلك الليلة... كان الحوار معطلاً... كان واضحاً لكل من يريد أن يرى أن هناك فجوة واسعة بين الطرفين.

سوف أترك المواقف والقضايا السياسية جانباً... لكنه حتى على الناحية الإنسانية، لم يكن هناك مجال للقاء على أى مستوى.

إن الفجوة كانت إنسانية وفكرية وعاطفية. وكان هناك نقص فى الحساسية لدى الإسرائيليين يصعب على الذين لا يعرفونهم تخيله.

إننى - على سبيل المثال - كنت جالساً على مائدة فى هذا العشاء ضمت أحد العسكريين من أعضاء الوفد المصرى، إلى جانب الجنرال "آريل شارون" وزير الزراعة، والجنرال "موردخاى جور" رئيس الأركان (فى ذلك الوقت).

وفجأة مال الجنرال "شارون" إلى الأمام، وقال موجهاً الحديث إلى الجنرال "جور" عبر المائدة:

- موتى (اسم التدليل لـ "موردخاى") إنك كنت فى القاهرة... قل لى كيف رأيتها: أنا لم أرها فى حياتى مطلقاً... إلا بالطبع من خلال صور الاستطلاع الجوى!"

وأغمضت عينى وحبست أنفاسى، فلم أتصور أن نقص الحساسية يمكن أن يصل بـ "شارون" إلى توجيه سؤال بمثل هذه الصيغة على مسمع من ضابط مصرى.

لكن "جور" - لسوء الحظ - استطاع منافسة "شارون" والتفوق عليه فى نقص الحساسية، فقد أجاب:

- آريك (اسم التدليل لـ "آريل") لا يخطر ببالك حجم القاهرة...

كبيرة جداً ومزدحمة إلى درجة لا يمكن تصورها... لقد ذكرتنى بشىء وأنت تقول أنك لا تعرفها إلا من خلال صور الاستطلاع الجوى... هل تعرف أن بعض الأحياء فيها متهدمة وغارقة فى المستنقعات بحيث تبدو وكأنها تعرضت بالأمس فقط لغارة جوية مركزة"؟

لقد أغمضت عينى مرة أخرى وحبست أنفاسى، ولم أستبعد أن أجد الضابط المصرى الجالس معنا يسحب طبقاً من على المائدة ويكسره فوق رأس أى من الجنرالين. لكنه - فيما أحسست - استطاع السيطرة على مشاعره. بعدها فإن أى حوار أصبح مستحيلاً!"

انتهت رواية الأمريكى المرموق.

........

وبمقدار ما أن "توماس كوك" لم يكن يريد أن يخطئ فى نقل اسم الـ"كانجارو" إلى العالم - فلست أظن أن "مناحم بيجن" - رغم غلاظة تصرفاته أحياناً - قصد إساءة الأدب أمام وزير خارجية مصر وهو ضيفه فى القدس، أو أن الجنرالين "شارون" و"جور" تعمدا إظهار كل هذا القدر من بلادة الحس أمام ضابط مصرى يجلس معهما على مائدة عشاء.

لكنه الحوار الضائع!

ليس عن جهل بمفردات اللغة - وهذا يحدث أحياناً - وإنما عن اختلاف فى معانى الألفاظ مع توهم الاتفاق، ومن تضارب بين الأسماء والمسميات لدى أطراف تباعدت تجاربها، ومن تباين فى درجة الحس بما تنقله الإيماءات والإشارات حتى وإن استغنت عن الكلمات.

فى الصراعات الكبرى أيضاً فإن الحوار بين الأطراف ليس هو فقط ما يدور عبر المقاعد والموائد فى الجلسات الرسمية وغير الرسمية، وعبر الخطوط المباشرة وغير المباشرة، وإنما هو دائرة أوسع.

أى أن ما يقوله أى طرف ويسمعه الطرف الآخر داخل فى دائرة الحوار.

حتى إذا كان هذا الطرف يتحدث مع آخرين... حتى إذا كان حديثه مع نفسه.


هكذا فإن ما يقوله رئيس وزراء إسرائيل فى أى مكان يكون فيه... ما يقوله أقطاب أحزاب الائتلاف الحاكم... ما تجرى به المناقشات فى الكنيست.. ما ينشر فى صحافة إسرائيل ويذاع من محطاتها - هذا كله وغيره داخل فى دائرة الحوار، وعلينا أن نسمعه...

نفس الشىء بالنسبة لنا، وعليهم أن يسمعوا.

وأن يسمعوا ونسمع - فليس ذلك هو المهم، فالألفاظ - كما اتفقنا - أشكال ورموز للمعانى.

المهم هو:

- هل الكلمات تحمل نفس المعانى بالنسبة للطرفين؟

- وهل الأسماء تشير إلى نفس المسميات بالنسبة للطرفين؟

- وهل الإيماءات والإشارات تعنى نفس الشىء بالنسبة للطرفين؟

إذا كان هناك اتفاق - إذن فالحوار متصل بصرف النظر عن نتيجته، وإذا لم يكن هناك اتفاق فالحوار معطل من بدايته، رغم أن الكلمات طائرة عبر المقاعد والموائد، وعبر الخطوط المباشرة وغير المباشرة.

ولعلنا نلاحظ أن هذا الحال يختلف كثيراً عن حال آخر يطلقون عليه مجازاً تعبير "حوار الطرشان". ففى "حوار الطرشان" يتكلم الجميع وكلهم لا يسمعون. ولكن المشكلة فى حال تعطل الحوار فى الصراعات الكبرى أن الجميع يتكلمون ولكن الجميع يسمعون، وما يسمعونه لا يعنى نفس الشىء بالنسبة لكل طرف منهم... وهكذا ينشأ سوء الفهم.

وربما أوضحت أننى هنا لا أتحدث عن سوء النية، فتلك قضية أخرى. وإنما حديثى عن سوء الفهم وأضراره، وهى أحياناً أبعد أثراً وخطراً من أى شىء آخر على مسار أى حوار.

وأستشهد ببعض النماذج:

1- لا أعرف لماذا كان إصرارنا على القول بأن "المبادرة" كانت قرار رجل واحد، لم يناقشه معه أحد، واحتفظ به فى رأسه حتى جاءت اللحظة المناسبة فأعلنه مفاجأة لكل الناس؟

هناك أسباب أستطيع تصورها، وربما استطعت تقدير بعضها:

* أن الرجل الواحد يريد أن يثبت للأطراف الأخرى أنه يملك سلطة اتخاذ قرار.

* أن الرجل الواحد يريد أن يتحمل المسئولية وحده.

* أن الرجل الواحد يريد أن يعفى آخرين - خصوصاً فى المحيط الدولى - من أى إحراج قد يشعرون به إزاء أطراف لها فى المبادرة آراء معاكسة.

ربما كانت هناك أسباب غير ذلك لا أعرفها...

لكننا لم نسأل أنفسنا سؤالاً كان طرحه ضرورياً، وهو:

- كيف تفهم إسرائيل هذا الذى رحنا نصر على قوله، ونحاول تأكيده بكل إلحاح؟ هل ستفهمه كما يعنيه الذين قالوا به، أو أنها ستفهمه على نحو آخر لا تسمح بغيره تجربتها، ورؤيتها للأشياء من خلال هذه التجربة؟

الرد على هذا السؤال يقدمه الجنرال "موشى ديان" وزير الخارجية الإسرائيلية أثناء حوار جرى بينه وبين بعض أقطاب الجالية اليهودية فى الولايات المتحدة، وقد جرى هذا الاجتماع فى بيت أحد كبار الممولين اليهود فى مدينة نيويورك، ونشرت بعض التفاصيل مما دار فيه فى أكثر من صحيفة أمريكية، وبينها الـ "واشنطن بوست".

قال الجنرال "ديان" أثناء حديثه:

- لقد كانت زيارة القدس حادثاً تاريخياً ضخماً، ولكن هذا الحادث لا يكفى لكى يكون قاعدة يقوم عليها بناء السلام.

إن الأوضاع فى العالم العربى لا يجب أن تغيب عن بالنا، فنظم الحكم كلها هناك لا تستند إلى شرعية ثابتة ومستمرة. وإنما سلطة الحكام هناك مطلقة، وما يقرره أى حاكم اليوم قد يغيره خلف له بعد سنوات قليلة، وقد رأينا من ذلك الكثير. بل إن نفس الحاكم قد يغير سياساته بزوايا حادة، ولا يجد أحداً يسائله.

ولهذا فإن بناء السلام يجب أن يقوم على دعائم تختلف عن مجرد أجواء حسن النية الطارئة التى فجرتها زيارة القدس... ونحن على استعداد لأن نصدق ما نـراه، ولكن هل يعقل أن عداوة ثلاثين سنة يمكن أن تذوب فى لقاء ثلاثين ساعة"؟

هكذا فإننا قصدنا شيئا، وفهموا غيره، وتعطل الحوار.

2- لا أعرف ما الذى كان يدعونا إلى تلك الحملة المركزة لـ "غسل مخ" الشعب المصرى تجاه الصراع العربى الإسرائيلى...

رحنا نصور له أن السلام قريب... وكان فى متناول اليد طوال الوقت، ولكننا نحن الذين رفضنا أن نمد يدنا بالمكابرة والجهل.

كان قصدنا - فيما أظن - أن نجعل الجماهير المصرية فى إطار تستطيع فيه قبول المبادرة. ولكن المشكلة أن العيار زاد عن حده، فإذا نحن نصل إلى نزع سلاح الشعب المصرى. إن أول سلاح يملكه أى شعب تجاه أى عدو هو سلاح الرفض. وتجريد أى شعب من هذا السلاح قبل أن يجىء سلام حقيقى معناه أن هذا الشعب أصبح منزوع السلاح نفسياً بينما الحرب مستمرة.

ولولا أن الشعب المصرى كبير.. كبير، ولولا أنه أصيل.. أصيل لما استطاع استعادة توازنه وتمالك نفسه بسرعة مذهلة.

ولكن ذلك لا يمنع أنه جرت محاولة لوضع الشعب المصرى فى أقل من مكانته الطبيعية، وذلك شىء لا يغتفر.

والمحزن أنها ليست المرة الأولى التى تحدث فيها هذه المحاولة، فلقد كانت هناك سابقة سنة 1974، عندما عبئت الجماهير المصرية "بغسيل المخ" لكى تستقبل "ريتشارد نيكسون" كما يستقبل الأبطال، وهو الرجل المتهم فى بلده بجرائم سياسية وغير سياسية، بما فى ذلك الرشوة.

وبرغم ذلك، فقد فاتنا أن نسأل أنفسنا سؤالاً كان ضرورياً وهو:

- ما هو أثر هذه المحاولة لـ "غسيل المخ" فى مصر على مواقفهم هناك فى إسرائيل؟

من سوء الحظ أننا سمعنا رأيهم فى شكل سؤال قامت رئيسة تحرير "دافار" بتوجيهه أثناء المؤتمر الصحفى المشترك فى الإسماعيلية فى نهاية ديسمبر الماضى. وقفت رئيسة تحرير "دافار" لتسأل على مسمع من الدنيا كلها:

- "أليس غريباً هذا التحول الذى حدث فى مواقف الشعب المصرى.... وأى ضمان لدى إسرائيل أن الموقف الجديد للشعب المصرى سوف يستمر؟"

ولم تكن رئيسة تحرير "دافار" وحدها هى التى تساءلت، وإنما تساءل غيرها أيضاً، وبينهم صحفى إسرائيلى كبير فتحت له كل الأبواب فى مصر، وفى نهاية زيارته ذهب إلى رؤية أحد أصدقائه الدبلوماسيين.. سفير دولة غربية كبيرة فى القاهرة، معبراً عن قلقه وقائلاً له:

- إننى فى حيرة من الصورة التى ظهر بها الشعب المصرى أمامنا، ولست أعرف حقيقة ما يخفيه داخل أعماقه.

لقد سألت نفسى هل يتصور المصريون أنهم يضحكون علينا بهذه الطريقة فى إظهار رغبتهم فى السلام... مثل ذلك تصور ساذج... لكن الأخطر منه - لأنه أكثر سذاجة - أن يكون فى وهمهم أن الصراع العربى الإسرائيلى يمكن حله بهذه المظاهر من الترحيب بنا.

"كلتا الحالتين لا تدعونى إلى أن أطمئن".

والشعب المصرى فى صميم الأمر غير ملوم، فلقد كان هناك من تولوا غسل مخه، ولو لأيام. فى زيارة "نيكسون" صوروا له أن الرخاء قادم يرتفع عليه علم الخمسين نجمة. وفى استقبال الإسرائيليين تكرر نفس الشىء بدعوى أن السلام قادم يرتفع عليه علم نجمة داود الواحدة... استشهاداً فى غير موضعه بالقول الكريم:

"وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله".

مرة أخرى قصدنا شيئاً، وفهموا غيره، وتعطل الحوار.

3- لا أعرف ما هو السبب الذى جعلنا نفتح أبواب مصر لكل هذه الأعداد من الإسرائيليين.

فى وقت من الأوقات كان فى مصر قرابة خمسمائة صحفى ومصور ومذيع من إسـرائيل، أو من ادعوا هذه الصفة. وكانت مصر كلها مباحة أمامهم... مدنها وريفها.

والغريب أن كل واحد منهم لم يجىء إلى مصر إلا بعد تصريح خاص من وزارة الخارجية لأنه ذاهب إلى "أرض العدو"، وعندما جاءوا هنا تحولوا - فى رأى بعضنا - إلى أصدقاء.


ولقد وصل الأمر إلى حد ترتيب مظاهرات ودية تستقبل "إلياهو بن اليسار" رئيس الوفد الإسرائيلى فى مؤتمر القاهرة الفاشل، حينما ذهب لزيارة معبد يهودى فى وسط القاهرة، وحينما ذهب لزيارة قرية "ميت أبو الكوم". وعاد "بن اليسار" من زياراته إلى فندق "مينا هاوس" يقول للدكتور عصمت عبد المجيد رئيس الوفد المصرى، على مسمع من عشرات الصحفيين المصريين والأجانب:

- إننى سمعت اليوم هتافاً بحياة "بيجن"... إننى لم أسمع مثل هذا الهتاف فى حياتى... لا أظن أن هذا الهتاف تردد أبداً فى إسرائيل".

ولقد أضيئت القاهرة - كأنها ليلة مهرجان - طوال فترة وجود الوفد الإسرائيلى فى القاهرة. ومع أن إضاءة القاهرة كانت لها مناسبة مختلفة، إلا أن المناسبات اختلطت، وضاعت الحدود.

ونحن نكرم ضيوفنا أحياناً بالمظاهرات والهتافات والأضواء الملونة، وأحياناً نكرم بهـا أنفسنا... ولكن هل كل ذلك مما يجوز فى العلاقات مع إسرائيل؟

وهل ساعدهم ذلك كله على الفهم، أو أنهم أساءوا الفهم نتيجة لاختلاف ما تعنيه الظواهر أو تعنيه الكلمات؟

لقد فهموا ما أرادوا أن يفهموه!

"أن الشعب المصرى يريد السلام بأى ثمن. وإذا كان هناك بعض الذين مازالوا يعاندون، فليس على إسرائيل غير أن تنتظر حتى تقع التفاحة ناضجة من فوق الشجرة، فتلتقطها بيدها إلى فمها مباشرة".

قصدنا شيئاً، وفهموا غيره، وتعطل الحوار.

4- لا أعرف أى منطق دعانا إلى هذه الحملة التى شنتها وسائل الإعلام عندنا ضد انتمائنا العربى؟

ما الذى أردنا إثباته لأنفسنا أو لغيرنا بهذه الحملة؟

تصورنا أننا بذلك نبرز إرادتنا المستقلة، ونسينا أننا بذلك نتنازل طواعية عن معظم أسباب القوة الاستراتيجية التى تجعل لإرادتنا - مهما بلغت درجة استقلالها - وزناً مؤثراً فى مصير الشرق الأوسط... بل حتى فى مصير مصر ذاتها.

وما الذى فهمته إسرائيل مما حاولنا إثباته؟

لقد رد "مناحم بيجن" على هذا السؤال فى الولايات المتحدة أيضاً، حين قال أمام نادى الصحافة:

- لا أعرف لماذا نتفاوض مع مصر فى قضايا تتصل بالفلسطينيين أو بسوريا.

إن مصر جاءتنا وهى لا تحمل تفويضاً من غيرها.

إننا على استعداد لاتفاق منفرد مع مصر، ومصر هى التى ترددت فى قبوله حتى الآن".

ولم يقل "بيجن" أى سلام تستطيع مصر أن تحصل عليه منفردة؟

صحيح أن الأمة العربية لا تستطيع أن تحارب بغير مصر، ولكن الصحيح أيضاً أن مصر لا تستطيع أن تحارب بغير بقية الأمة العربية، وحرب أكتوبر شاهد على هذه الحقيقة، فلقد كانت أهم منجزات تلك الحرب راجعة إلى أن المعارك جرت على جبهتين فى نفس الوقت.

وأى سلام تستطيع مصر أن تحصل عليه منفردة... لا يمكن أن يعكس غير موازين القوى الراهنة بينها وبين إسرائيل.

ولست أظن - وأتمنى أن أكون مخطئاً - أن هذا الوضع ملائم، حتى من وجهة نظر مصرية أنانية وانعزالية!

لكننا قصدنا شيئاً، وفهموا غيره، وتعطل الحوار.

5- ولست أعرف ما الذى يفرض علينا أن نقول ما قلناه أخيراً من أن خيار الحرب مستبعد من الإستراتيجية المصرية، وأنه ليس أمامنا إلا المفاوضات ومزيد من المفاوضات، فإذا لم تنجح محاولة، رحنا بعدها نحاول ثانية وثالثة... هكذا إلى الأبد.

هل يمكن أن تكون هذه إستراتيجية تستخلص حقاً أو ترد عدواناً؟

ومع ذلك، فهل سألنا أنفسنا:

- كيف يكون تقديرهم لهذا الذى تقوله حمامات السلام البيضاء التى تخفق بأجنحتها فى أجواء القاهرة؟!

إنهم لم يتقدموا بالسلام رداً على دعوة السلام.

وإنما راحوا يكسبون الوقت تحت شعار "دعونا نتفاوض".

حاولوا إنشاء خط ساخن بين القاهرة والقدس، أليس هو ضرورى للتفاوض؟

وحاولوا إنشاء علاقات شخصية بين البعض هنا والبعض هناك، أليس ذلك مما يسهل التفاوض؟

وحاولوا أن يدفعوا "وايزمان"- بعد "كيسنجر" و"فانس" و"آثرتون"- أن يقوم بدور "المكوك" فى عملية التفاوض بمنطق "إبعاد الغرباء"، أليس ذلك أدعى إلى نجاح المفاوضات؟

وكان تعليقهم على القول باستبعاد خيار الحرب من الاستراتيجية المصرية هو:

- لقد كان ذلك ما اتفقنا عليه فى القدس حين أعلنا سوياً أنه لا حروب بعد الآن، وأن حرب أكتوبر كانت آخر الحروب".

كان ذلك تعليقهم، وكان تصرفهم شيئا آخر:

خاضوا هم الحرب العربية الإسرائيلية السادسة فى جنوب لبنان - بعد حرب 48، وبعد حرب 56، وبعد حرب 67، وبعد حرب الاستنزاف، وبعد حرب أكتوبر- تصرفوا بقوة السلاح، وتركوا غيرهم لأحلام السلام!

هكذا أخيراً - قصدنا شيئاً، وفهموا غيره، وتعطل الحوار.

حوار أتحفظ عليه من أوله إلى آخره، ولأسباب مبدئية قبل أية تفاصيل.

ومع ذلك فهو حوار معطل.

ولم تكن هناك سوء نية، وإنما كان هناك سوء الفهم:

الكلمات لا تدل على نفس المعانى، والأسماء والمسميات غير الأسماء والمسميات، والمشاعر مختلفة، وكذلك درجة الحساسية.

المشكلة لغة. قصور لغة بالمعنى الواسع.

و"كانجارو" ليست الاسم الأصلى للحيوان الأسترالى المشهور.

ومعناها الحقيقى فى لغة القبائل الأسترالية القديمة: لا أعرف!
 
(2) الحوار الضائع: لماذا يتفقون هناك ونختلف هنا؟



لا يضيع الحوار بين الأطراف فى صراع بسبب قصور اللغة فحسب، ولا بسبب تباين وتباعد معانى الكلمات والأسماء والمسميات ودرجات الحس والشعور إلى آخره...

إلى جانب ذلك كله - وكله وارد - يضيع الحوار أيضاً نتيجة اختلاف ما يسمونه - مجموعة القيم السائدة فى مجتمع من المجتمعات، وتمايزه بها عن غيره. ويكون ذلك عادةً نتيجة لمواريث تقليدية مؤثرة، ومراحل فى التطورات بلغها طرف ولم يبلغها بعد طرف ثان.

وقد تكون هناك عوامل أخرى فاتت على. ولكن ذلك هو التفسير الوحيد الذى وجدته نماذج عديدة ضاع فيها الحوار وتقطعت حباله وأوصاله.

ولم يكن هناك نموذج واحد فيكون التفسير هو: الصدفة. ولم يكن هناك نموذجان فيكون القول: إنها صدفة تكررت. وإنما الذى حدث أن النماذج توالت أحدها بعد الآخر، مما ينفى عنها ظاهرة الصدفة، ويجعلها على وجه اليقين - نمط سلوك - يكاد أن يصل إلى مرتبة العرف، وربما مرتبة القانون.

وعلى سبيل المثال ما يلى:

تصورنا فى نهاية سنة 1973 أن - هنرى كيسنجر - وزير خارجية الولايات المتحدة - ساحر الدبلوماسية الغربية وقتها - سوف يتكفل وحده بحل أزمة الشرق الأوسط على نحو مقبول منا: انسحاب من الأرض المحتلة، ودولة فلسطينية (لم يحدث).

وتصورنا فى بداية 1974 أن - هنرى كيسنجر - ليس إلا وزير خارجية لـ "ريتشارد نيكسون" رئيس الولايات المتحدة، والسلطة كلها فى يده، وبالتالى الحل (ولم يحدث).

وتصورنا سنة 1975 أن "جيرالد فورد" الرئيس الأمريكى الذى خلف "نيكسون" سوف يستطيع، لأنه رجل طيب يحب العدل ويكره الظلم (ولم يحدث).

وتصورنا سنة 1976 أن الرئيس الأمريكى الجديد "جيمى كارتر" سوف - يفهم قضيتنا ويتولى حلها؛ لأنه فلاح من - جورجيا - عاش على الأرض الطيبة يزرع الفول السودانى، ولم يعش فى دهاليز السياسة وسراديبها (ولم يحدث).

وتصورنا سنة 1977 أن الطريق المستقيم يقودنا إلى الوحش فى جحره - ! - وهكذا كانت المبادرة بعد أن أكد لنا الرئيس الرومانى - "تشاوشيسكو" - أن "مناحم بيجن" - رئيس وزراء إسرائيل الجديد رجل يريد السلام ويملك سلطة قراره (ولم يحدث)، ولم نتوقف مرة لنراجع أنفسنا ونسأل: لماذا لم يحدث كل هذا الذى تصورناه مرة بعد مرة؟

وحين خطر لنا أن نفعل ذلك أحياناً، فقد اعتمدنا التبرير بديلاً للتفسير، وهكذا اكتفينا بعلة أن "كيسنجر" لم يقدر لأنهم حاصروه وكبلوه. و"نيكسون" لم يقدر لأنهم دهموه بفضيحة "ووترجيت". و"فورد" لم يقدر لأن الوقت لم يسعفه قبل سقوطه فى الانتخابات. و"كارتر" لم يقدر لأن "بيجن" قفز أمامه فجأة كالعفريت من العلبة و"بيجن" لم يقدر لأنه مزدوج الشخصية، طالعنا فى القدس بوجه قط وديع، ثم أطل علينا فى الإسماعيلية بوجه ذئب جائع إلى الأرض والمستعمرات.

نماذج متكررة، أحدها بعد الآخر فى سياق متصل، ومثل ذلك لا يمكن رده، إلى الصدفة، ولا يسهل تفسيره بمجرد تبريره.

وإذن ما هو السبب أو الأسباب؟

قلت فى البداية إنه اختلاف مواريث ومراحل تطور، وربما جازفت بتفصيل وتحديد أكثر، فقلت:

إن الخطأ الذى وقعنا فيه - إذا صدق ظنى - هو أننا قسنا سلطة القيادات عند غيرنا بسلطة القيادات عندنا، ثم أننا خلطنا بين القوة العاملة للدولة والقوة الشخصية لرئيسها.

وهكذا تصورنا - بمقاييسنا - أن "نيكسون" و"فورد" و"كارتر" يملكون من سلطة القرار فى الولايات المتحدة الأمريكية ما يملكه الرؤساء والملوك والسلاطين العرب. وبما أن اليمن والمغرب وعمان - مثلاً - ليست فى قوة الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذن فلابد أن الرئيس الأمريكى قادر على كل شىء.. إذا شاء فعل، وإذا حسنت نيته تمكن من إثباتها فى طرفة عين.

وكان هذا خطأ حتى فى أبسط قواعد المنطق التى تقول لنا إن المتشابهات فقط هى التى يمكن قياسها لبعضها، وأما المختلفات فالعلاقة بينها لا يمكن أن تكون بالقياس وإنما بالمفارقة.

وإذا شئنا أن نذهب فى التفصيل والتحديد إلى أبعد لقلنا:

إن السلطة فى معظم بلدان العالم العربى مازالت سلطة قبلية، وهذه هى الحالة التى تسمح بتركيزها فى يد واحدة تملك بمفردها سلطة القرار.

وليس ذلك هو الحال فى الولايات المتحدة - مثلاً "فالسلطة هناك دستورية وقانونية، ومراكز متعددة لصنع القرار، وضوابط وتوازنات تحمى عملية صنعه بين مختلف المؤسسات".

هكذا فإننا حين ننظر إلى أنفسنا ثم نحكم على غيرنا، نقع فى الخطأ لأننا ننسى المواريث ومراحل التطور ومجموعات القيم السائدة المتباينة والمتباعدة.

وربما كان أبلغ دليل على أننا نظرنا إلى أنفسنا وحكمنا على غيرنا هو تلك القصة التى وردت فى كتابات معظم الصحف عن الأسئلة التى وجهناها إلى الرئيس الرومانى "نيكولاى تشاوشيسكو" قبل قرار المبادرة.

سألناه على ضوء معرفته واجتماعاته برئيس الوزراء الإسرائيلى - عما يلى:

هل "مناحم بيجن" يريد السلام؟ وهل يملك القوة التى تمكنه من إصدار قراره؟

أى أننا فى الحقيقة سألنا عن إستراتيجيات وخطط وبرامج ومشروعات.

وحينما قلت قبل سطور - مثلاً إن السلطة فى الولايات المتحدة دستورية وقانونية ومراكز متعددة لصنع القرار، وضوابط وتوازنات تحمى عملية صنعه بين مختلف المؤسسات - فلقد كان يجب أن أضيف شيئا آخر هو: أن القرار فى تلك المجتمعات لا يصدر من فراغ؛ ذلك أن الدولة فى المجتمعات السابقة إلى مراحل متقدمة من التطور ليست مجرد مؤسسة سلطة، وإنما هى مؤسسة هدف، والسلطة أداة لتنفيذ هذا الهدف. وقيمتها ترتبط بنجاحها أو فشلها فى تحقيقه. بل ترتبط بذلك شرعيتها من الأساس.

وحينما نقول إن الدولة - مؤسسة هدف - فهذا يعنى فى الحقيقة أنها تعمل من أجل تحقيق تصور إستراتيجى كامل على جميع المستويات. وينطبق هذا على العمل الداخلى والأمن. ونستطيع القول بأن كل دولة لها - فى مجال الأمن مثلاً ثلاث مستويات لتحقيق هدفها.

هناك مستوى الإستراتيجية العليا.

وهناك مستوى الإستراتيجية.

وهناك مستوى التاكتيك.

وبالنسبة للولايات المتحدة فإننا نستطيع تلخيص إستراتيجيتها العليا فى جملة واحدة على النحو التالى:

أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية - بنظامها الاجتماعى - هى أقوى بلد فى العالم، وأن تكون فى هذه القوة غير مسبوقة بأى قوة أخرى مهما كانت الظروف والتكاليف.

وهكذا فإن قرار الرئيس الأمريكى الأسبق - جون كيندى - سنة 1960 - بضرورة أن يكون أول إنسان تطأ قدماه سطح القمر إنساناً أمريكياً - لم يكن قرار - مزاج - وإنما كان قرار إستراتيجية عليا.
فقد أحس - كيندى - أن الاتحاد السوفيتى سبق الولايات المتحدة فى مجال الأقمار الصناعية والصواريخ التى تحملها إلى الفضاء العالى، وذلك حين أطلق أول كوكب صناعى دوار حول الأرض - سبوتنيك - سنة 1957.

وكان حتماً أن تؤكد الولايات المتحدة أنها الأقوى.. وأن يجىء هذا التأكيد بطريقة درامية لا تترك لأحد فى العالم مجالاً للشك، وكان القمر هو ساحة التجربة - بصرف النظر عن التكاليف - لأن الهيبة عنصر رئيسى من عناصر القوة.

وعلى مستوى الإستراتيجية - بعد مستوى الإستراتيجية العليا - فإننا نستطيع أن نلمح الخطوط الرئيسية - للهدف الأمريكى:

- المنافسة فى كل المجالات وبكل الوسائل مع القوة الثانية التى تحاول أن تجرى معها فى السباق على مركز الأقوى فى العالم - وهى الدولة السوفيتية فى الظروف الراهنة.

- مد الحماية الأمريكية عبر الأطلنطى إلى أوروبا الغربية، وعبر الباسيفيكى إلى اليابان، وهذه جميعاً شريكة نفس النظام الاجتماعى، وبالتالى شريكة نفس دواعى الأمن.

- حلف الأطلنطى، وحلف جنوب شرق آسيا.

- التركيز على أقاليم معينة فى العالم ذات أهمية، خاصة اقتصادية أو عسكرية، وربط المصلحة والأمن مع الولايات المتحدة وحلفائها - الشرق الأوسط مثلاً.

- محاولة خلق مناخ إقليمى وعالمى ملائم لمصالح الولايات المتحدة وضرورات أمنها، وذلك عن طريق جهد سياسى وإعلامى مكثف خصوصاً إذا أدى إلى إحراج القوة الثانية التى تحاول منافسة الولايات المتحدة - حملة الحقوق الإنسانية ضد الاتحاد السوفيتى مثلاً.

- إشاعة جو عام من حسن النية تجاه الولايات المتحدة، وربما كان أنجح تحقيق لذلك هو أن أنماط الاستهلاك الأمريكى راحت تكتسح مجتمعات أخرى، بينها مجتمعات متخلفة لا تستطيع أن تدفع التكاليف العالية لنمط الاستهلاك الأمريكى، وذلك ما يسمى أحياناً بـ "إستراتيجية الكوكاكولا".

وعلى مستوى التاكتيك - أى تنفيذ مهام الإستراتيجية العليا والإستراتيجية - يستطيع قرار رئيس الولايات المتحدة أن يلعب دوره وأن يظهر أهميته.

من "جورج واشنطن" الرئيس الأول إلى "جيمى كارتر" - الرئيس الحالى للولايات المتحدة - لا يستطيع أى فرد ولا تقدر أية سلطة على تغيير الإستراتيجية العليا أو الإستراتيجية.. وإنما كلهم يمارسون حق الاجتهاد فى التاكتيك.

إسرائيل نفس الشىء إلى حد ما:

الإستراتيجية العليا: ثلاث نقط بارزة إقامة الدولة - التوسع فى حدودها - الهجرة المفتوحة إليها.

الإستراتيجية: علاقة مع القـوة الغالبة فى كل عصر - التفوق العسكرى فى الشرق الأوسط.

التاكتيك: مفتوح بابه للاجتهاد، ولكن لا اجتهاد فى الإستراتيجية العليا أو الإستراتيجية.

ومن هنا نستطيع أن نفهم ظاهرة نتحسر عليها أحياناً ونحن ننظر إلى أحوالنا، ثم ننقل النظر إلى أحوال العدو. خلافاتهم هناك محصورة. وحلها بطريق الحوار.

لماذا؟

لأن هناك مرجعاً - من الإستراتيجية العليا والإستراتيجية - يحجّم كل التصرفات وعنه تصدر كل الاجتهادات. ولهذا لم يكن غريباً أن نرى ونسمع اتفاق الحكومة والمعارضة فى إسرائيل على ثلاث نقط جوهرية فى أية مفاوضات مع العرب:

لا عودة إلى خطوط ما قبل سنة 1967.

لا دولة فلسطينية على أى بقعة من أرض فلسطين.

لا تعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية.

ويقال لنا أحياناً:

ليتنا نتعلم جميعاً أن الدولة الحديثة ليست - أداة سلطة - وإنما هى أداه تحقيق إستراتيجية عليا وإستراتيجية كلاهما ثابت. وتاكتيك بعد ذلك نستطيع أن نترك مائة زهرة تتفتح فيه - على حد تعبير - ماوتسى تونج...

ذلك وحـده هو الذى يضبط اختلاف الآراء... ليس بقمعها. وإنما بالرجوع فيها إلى قانون.

هذا هو الخطأ الذى نقع فيه:

فى يدنا سلطة، وفى يدهم إستراتيجية، والمشكلة عويصة، خصوصاً عندما نقيس عليهم فى اتخاذ القرار.

ومن هذا الخطأ يتعطل الحوار، ليس فقط بسبب قصور اللغة ولا بسبب تباين وتباعد معانى الكلمات، ولكن أيضاً بسبب اختلاف مجموعات القيم السائدة على الناحيتين.

والغريب أن التعامل اليومى فى إدارة الصراعات يشير إلى هذا الخطأ ويكشف أمامنا مزالقه، ومع ذلك فنحن لا نتوقف، ولو لكى نعيد الدرس والتقييم.

وأمامنا الظواهر المبينة عن هذا الخطأ فى الأقوال والتصرفات على هذه الناحية أو هناك، ونحن لا نلتفت. وأضرب الأمثلة من الناحيتين:

من ناحيتنا مثلاً:

1- نحن لا ندرس برامجهم وخططهم، ونتصور ذلك جميعاً من قبل بالونات الاختبار تطلق فى الجو لمعرفة رد فعلنا عليها، وهذا هو كل شىء. والحقيقة شىء آخر، فهناك برامج وخطط قامت عليها مواقف وجرت انتخابات وشكلت مجالس تشريعية وتنفيذية إلى آخره.

2- نحن دائماً نفضلها محادثات مغلقة بين رجلين اثنين لا ثالث معهما، متصورين أن ذلك أدعى إلى النجاح، وغيرنا لا يفهم هذا الأسلوب. وقد تحدث أحياناً فى علاقات الدول المتقدمة اجتماعات مغلقة بين الكبار، ولكنها لا تكون للتفاوض إطلاقاً وإنما تكون إقراراً لمبادئ بين الكبار، أو إقراراً لتفاصيل توصلت إليها مفاوضات طويلة قام بها خبراء، وربما ادعيت - ولا أظننى مخطئاً فى دعواى - بأن المحادثات التى جرت مغلقة بين مسئولين عرب كبار وبين غيرهم بقيت فى صدورهم، ولم توضع على الورق فى معظم الأحيان. وأظن على سبيل المثال - وبعض الظن ليس إثماً - أنه لا يوجد سجل كامل بمحادثات - كيسنجر - مع أى زعيم عربى فى الجلسات التى عقدها مغلقة معهم، وكانت تلك أهـم الجلسات. والأمر لا يقتصر على المحادثات مع كيسنجر، وإنما المشكلة أوسع وأبعد. وليس هناك عذر فى معظم الأحيان إلا غياب مفهوم الدولة، وفى بعض الأحيان يمكن التماس العذر. وأتذكر أن الملك فيصل كان صريحاً معى ذات يوم أثناء نقاش طويل بيننا حول هذه النقطة فى شهر مايو سنة 1971. سألته عن أوراقه.. عن تسجيلات مقابلاته التى قام بها فى العالم كله خلال تجربة لا تضاهيها تجربة أخرى فى العالم العربى. وكان قوله:

إننى لا أكتب شيئا على الورق.. كل ما لدى احتفظت به فى رأسى، فهو أكثر أماناً.. أحياناً كنت أملى بعض التفاصيل على عمر السقاف أو غيره من الإخوان، لكن ما أمليته قليل.

ثم استطرد يرحمه الله - بصراحة يقول:

إلى عهد قريب - طال عمرك - لم تكن فى السعودية دولة. لكن الأوضاع الآن تختلف، ولا تستطيع الدول أن تمارس دورها الآن بغير سجلات على ورق.. أليست تلك ذاكرة الدولة؟

ونحن لا نصدق الآخرين حين يتحدثون إلينا عن مصاعبهم فى الداخل، بما فيها إقناع زملائهم فى الحكم، أو نظائرهم فى المعارضة، أو مجالسهم النيابية، أو صحافتهم، إلى آخره.

نتصور اعترافهم بهذه المصاعب خداعاً لنا فى أسوأ الحالات. وفى أحسن الحالات - بتغليب حسن النية - فإننا نتصوره إقراراً بالعجز عن اتخاذ القرار.

وليس عجزاً فى الحقيقة، ولكنه تعدد مصادر القرار والتأثير فيه لدى السابقين إلى التطور، وهو لسوء الحظ - ظاهرة قوة وليس ظاهرة عجز...

من ناحيتهم مثلاً:

1- يدركون أنهم أمام فرد، عمر قراره من عمر بقائه فى السلطة، وبعدها لا أحد يستطيع أن يضمن أى شىء. وذلك يدفعهم إلى الشك فى الأساس الذى تقوم عليه شرعية الطرف الذى يحاورهم ويحاورونه.

وربما كانوا على استعداد لعقد اتفاق يرون الظروف ملائمة له. ولكنه اتفاق لمدى قصير لا يتعداه إلى المدى الطويل؛ لأن هذا المدى الطويل مرهون بغيب يصعب حسابه، خصوصاً إذا كان أى خلف على استعداد لنسخ أى سلف.

ومن سوء الحظ أن الجنرال "موشى ديان" وزير الخارجية الإسرائيلية قضى جلسة عمل بأكملها مع الرئيس الأمريكى "جيمى كارتر" يدور حول هذه النقطة ويلح عليها.

2- أن هذا الوضع يدفعهم إلى تشديد الضغط على الناحية الأخرى. ذلك أن إرادة الرجل الذى يواجهونه مطلقة، وهم على استعداد، لأن يحصلوا منه على كل ما يستطيع التنازل عنه من ميزات يأخذونها لأنفسهم وتتحول إلى حقائق سياسية.

وفى نفس الوقت فهم فى أمان من المعاملة بالمثل، أى أنهم محصنون ضد التنازلات لأن سلطتهم - مساكين - سلطة مقيدة محكومة بألف اعتبار واعتبار.

3- لقد تعلموا بالتجربة لعبة رخيصة التكاليف. فهم يضغطون للحصول على تنازلات ولا يقدمـون فى مقابلها شيئاً. ويشعرون فى الوقت نفسه أنهم مطالبون بأن يقدموا فى مقابل ما حصلوا عليه. وهكذا تواتيهم معرفتهم بطبائع الشرق العريق!... يخجله المديح ولكنه يسعده، وهكذا فإنهم فى مقابل التنازلات يعطون قصائد شعر لمن يريد.

وهكذا تنكشف فى نهاية مفاوضات طويلة مع "كيسنجر" مثلاً أو "نيكسون" أو "فورد" أو غيرهم: أننا أعطينا ميزات وحصلنا على شهادات.. ونتنبه أحياناً بعد الوقت المناسب، ونغضب مرات ويتعطل الحوار.

وتقفز إلى ذاكرتى صيحة "أمين الريحانى":

أنا الشرق عندى فلسفات فهل من يبيعنى بها طائرات؟

وأسأل بعده:

أليست هناك وسيلة نستبدل بها ما لدينا من سلطات بشىء آخر اسمه إستراتيجيات؟

على الأقل لكى يتصل - ولا يتعطل - الحوار!
 
(3) الحوار الضائع: نوع الضمانات التى يطلبها الآخرون؟



ويضيع الحوار أيضاً بين الأطراف نتيجة للاختلاف بين منطق ومنطق مما تصدر عنه التصرفات. ومن الطبيعى أن كل تصرف يصدر عن منطق سواء اتفقنا معه أو لم نتفق.

ولقد رأينا من قبل كيف ضاع الحوار بين الأطراف بسبب قصور اللغة، وتباين وتباعد معانى الكلمات والأسماء والمسميات ودرجات الحس والشعور.

ورأينا من قبل - كذلك - كيف ضاع الحوار لأن مجموعات القيم السائدة هنا ليست هى مجموعات القيم السائدة هناك.

والآن فنحن أمام قضية أخرى - ثالثة - من قضايا الحوار الضائع، ولعل موضوعها - كما تنطق به الوثائق - أوضح وأفدح، وهو: الاختلاف بين منطق ومنطق.

ولست أعرف كيف يمكن توصيف المنطق الذى تصدر عنه تصرفاتنا أحياناً، ولكنى أعرف كيف يمكن توصيف المنطق الذى تصدر عنه تصرفاتهم فى إسرائيل دائماً.

ولكى لا يضيع هذا الحديث - كما ضاع ذلك الحوار - فقد اخترت أن أركز فيه على نقطة واحدة، وهى - عملية التفاوض - فى منطق الطرفين، باعتبار أن التفاوض هو الصورة البسيطة المباشرة لحوار بين الأطراف فى أى نزاع دولى.

وربما سمحت لنفسى أن أستطرد هنا إلى القول بأننا - فيما يبدو لى - نستهين بـ - عملية التفاوض - فى حين أن المفاوضات أصبحت علماً مستقلاً بذاته فى محيط العلوم السياسية.

وإلى عهد قريب كانت العلوم السياسية مجالاً محصوراً لا يبتعد كثيراً عن دراسة التاريخ والقانون الدولى والمنظمات الدولية، ولكنها الآن شىء يختلف تماماً؛ أصبح الصراع علما مستقلاً، وأصبحت إدارة الأزمات علماً مستقلاً وأصبح حل الأزمات علماً مستقلاً، وأصبح العنف - بعيداً عن القوة - علماً مستقلاً، وأصبحت المفاوضات علماً مستقلاً، وتلك كلها ثورات فى مجال علوم السياسة لا أعرف تماماً أين نحن من تأثيراتها؟

لكن إسرائيل - مع الآسف - ليست بعيدة عما يجرى فى العالم، ومنطقها فى - التفاوض - يعكس علمياً وعملياً بما هو مطلوب فى - عملية التفاوض - ذاتها، بصرف النظر عما هو مطلوب قبلها من توازنات ومطلوب معها من مؤثرات.

وبدون الدخول فى تفاصيل لا لزوم لها فى هذا الحديث، فإن ما هو مطلوب فى عملية التفاوض - ذاتها لا يختلف كثيراً عن المنطق العلمى والعملى الذى تدعو إليه كل علوم الإدارة الحديثة، ابتداءً من إدارة الأعمال إلى إدارة الصراعات - وأهمه ما يلى:

لابد فى البداية من تحديد إطار المفاوضات، وإلا دخل المتفاوضون إلى القاعات وجلسوا على الموائد وراح كل منهم يتكلم، وفى الحقيقة لا يقول شيئاً فى الموضوع.

إن كل طرف لا يعطى شيئاً إلا إذا أخذ شيئاً فى مقابله، فمثل هذا التبادل فى عناصر القوة هو المعنى الوحيد لعملية التفاوض.

من حق كل طرف أن يحاول - أخذ أقصى ما يستطيع، وأن يحاول أن - يعطى - فى مقابله أقل ما يمكن، فذلك هو جوهر - عملية التفاوض.

ما يعطيه أى طرف أو يأخذه يجب أن يكون محدداً وبشكل واضح ومسجلاً وموثقاً بطريقة لا لبس فيها، وإلا تحولت نتيجة المفاوضات إلى جدل فلسفى - أو بيزنطى - يتصل إلى آخر الزمان.

لابد أن تكون هناك ضمانات، وروادع تكفل احترام النتيجة التى تصل إليها - عملية التفـاوض - وتفرض ما يترتب على الإخلال بما تعهد به الأطراف، وأن يكون ذلك منصوصاً عليه بحزم، وإلا فقدت - عملية التفاوض - قدرتها على الفعل.

إذا كان ذلك منطقهم هناك فى التفاوض، فما هو منطقنا نحن؟

وقلت منذ البداية إننى لا أعرف.. ومازال ذلك قولى بمنتهى التجرد والإخلاص. ما أعرفه هو أننا لسنا مثلهم علميين وعمليين، وإنما نحن...

ماذا أقول؟

ربما كنا من الفرسان... وربما كنا من الشعراء... وربما كنا من الفنانين... وربما كنا شيئا آخر.

والمشكلة أنه كيفما كنا، فإن ما لدينا ليس هو بالضبط ما هو مطلوب للمفاوضات بما تعنيه فى الفكر السياسى الحديث.

وهكذا يتعطل ويضيع الحوار لأنه ليس هناك منطق مشترك بين الفروسية والشعر والفن وأشباهها وبين إدارة الأعمال وإدارة الصراعات والأزمات فى هذا الزمان.

ولنأخذ نماذج عملية فى محاولة لدراسة منطق إسرائيل فى المفاوضات.

قبل أكثر من ستين سنة - أى سنة 1917 - كانت إسرائيل تريد من بريطانيا - وهى القوة العالمية الغالبة فى ذلك العصر - وعداً بالحكم الإسرائيلى فى فلسطين. وبرغم العلاقات الوثيقة بين الحركة الصهيونية بزعامة وايزمان وبين الحكومة البريطانية برئاسة "لويد جورج"؛ فإن وايزمان أصر على تعهد مكتوب وموقع، وأن تكون صياغته من الوضوح بحيث تعنى وطناً قومياً لليهود فى فلسطين. أى دولة يهودية - وكان "وعد بلفور".

بعد ثلاثين سنة - بالضبط سنة 1956- وكانت إسرائيل قد قامت، تنفيذاً لوعد بلفور المكتوب والموقع بإمضاء وزير الخارجية البريطانية - وجدت إسرائيل نفسها طرفاً فى مؤامرة ضد مصر دعتها بريطانيا وفرنسا إلى الاشتراك فيها، وهى مؤامرة التواطؤ الثلاثى فى حرب السويس. كان المطلوب من إسرائيل شيئاً واحداً محدداً، هو أن تعطى مبرراً للتدخل البريطانى الفرنسى فى منطقة قناة السويس، وبالتحديد كان دورها أن تبدأ فى القيام بعمليات عسكرية يكون توقيتها قبل ساعات من الغزو البريطانى الفرنسى، بحيث تكون المعركة بينها وبين مصر هى الادعاء الذى تتمسك به الدولتان الكبيرتان للتدخل العسكرى بمقولة "الحرص على الملاحة فى قناة السويس".

كانت المؤامرة تحقق لإسرائيل هدفاً هو أكثر مما تطمح إليه، ومع ذلك فإنها أصرت على أن يكون الاتفاق - المؤامرة - مفاوضات فى قرية "سيفر" قرب "باريس" وأن يكون كل شىء فى التواطؤ محـدداً ومكتوباً على ورق، وموقعاً بإمضاء مسئولين مخولين بالتوقيع عن الحكومتين البريطانية والفرنسية، حتى فى مؤامرة لم يكن الطموح كافياً، ولا حسن النية بين الأطراف كافياً وهكذا كانت معاهدة سيفر السرية فى 25 أكتوبر 1956، قبل بدء العمليات العسكرية فى سيناء بأربعة أيام، ولم يطمئن بال - "دافيد بن جوريون" - رئيس وزراء إسرائيل إلا حينما طوى نسخة من المعاهدة بعناية ووضعها فى جيب سترته الداخلى وعاد يركب طائرته إلى إسرائيل لينفذ دوره فى المؤامرة!

أصل إلى نموذج ثالث قريب. ولأنه قريب، ولأن الوقائع فيه مازالت ماثلة للأذهان، فإنه نموذج يستحق التركيز عليه بقدر أكبر من التفاصيل. وهذا النموذج هو "اتفاقية فصل القوات" الثانية بين مصر وإسرائيل التى وقعت بالحروف الأولى فى أول سبتمبر 1975.

كانت المفاوضات لحل أزمة الشرق الأوسط - فى أعقاب حرب أكتوبر - تجرى تحت رعاية وتوجيه الولايات المتحدة الأمريكية، وهى الطرف الدولى الأقرب والألصق بإسرائيل.

وكانت المفاوضات قد توصلت - فى مرحلة سابقة - إلى اتفاقية أولى للفصل بين القوات على الجبهة المصرية، واتفاقية أولى للفصل بين القوات على الجبهة السورية، وكان تقدير الولايات المتحدة أنه لابد من مواصلة الاندفاع فى المفاوضات، وإلا توقفت العملية، وكان هذا هو الدافع إلى محاولة التوصل إلى اتفاق ثان لفصل القوات على الجبهة المصرية.

كان العرب قد أعطوا وقدموا من الدلائل والتأكيدات والتنازلات ما لم يكن يخطر على بال أحد، حتى راسمى السياسة الأمريكية فى أكثر أحلامهم جموحاً وإغراقاً فى الخيال.
وهذه نقطة سوف أعود إليها تفصيلاً فيما بعد، لكنى أركز الآن على ما حدث فى مفاوضات الاتفاقية الثانية للفصل بين القوات على الجبهة المصرية:

كان المطلوب من إسرائيل فى هذه الاتفاقية أن تسحب قواتها إلى مسافة لا تزيد عن بضعة كيلو مترات إلى الشرق من قناة السويس، وكان ذلك يعنى أن تعود إلى مصر آبار البترول فى - أبو رديس - ورأس سدر - واعتبرت إسرائيل أن ذلك تنازلاً ضخماً أكرهت عليه، وقد قدمته للولايات المتحدة وليس لغيرها؛ لكى تتمكن الولايات المتحدة من تدعيم موقفها السياسى العام فى المنطقة، وهكذا فإن الولايات المتحدة مطالبة بأن تعطى لإسرائيل مقابل ما أخذته منها وقدمته لمصر.

وكانت لإسرائيل مطالب متعددة، وفى كل النواحى والمجالات.

وبرغـم وشائج القربى بين الولايات المتحدة وإسرائيل وبرغم الأهداف المشتركة والثقة المتبادلة، فإن إسرائيل لم تكن على استعداد لأن تترك شيئا للحظ أو لحسن النوايا، وهكذا لم تقبل إسرائيل أن تعيد إلى مصر بضعة كيلو مترات من سيناء إلا بعد توقيع ثلاثة وثائق بينها وبين حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.

وبرغم طول بعض هذه الوثائق، فإنى أنشرها بالنص نقلاً عن محضر جلسة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكى بتاريخ 3 أكتوبر 1975.

وهدفى من نشر النص أن ندرس المنطق الإسرائيلى وما يصدر عنه.

أولى الوثائق الثلاث - وهى ضمن الملاحق السرية لاتفاقية سيناء الثانية - تتعرض لمؤتمر السلام المنتظر فى جنيف، وترتب تنسيق المواقف بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ونص الوثيقة كما يلى:

مذكرة باتفاق بين حكومتى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.

مؤتمر السلام فى جنيف:

1- يدعى مؤتمر جنيف للاجتماع فى وقت يتم التنسيق بشأنه بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.

2- إن الولايات المتحدة سوف تواصل التزامها بالسياسة المتبعة حالياً تجاه منظمة التحرير الفلسطينية؛ طالما أن منظمة التحرير الفلسطينية لا تعترف بحق إسرائيل فى البقاء ولا تقبل قرارى مجلس الأمن رقم 242 و 338.

إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سوف تجرى مشاورات وافية وإلا سوف تنسق مواقفـها وإستراتيجيتها فى مؤتمر السلام فى جنيف مع إسرائيل فيما يتعلق بهذه المسألة مع حكومة إسرائيل.

وبنفس الطريقة فإن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تجرى مشاورات وافية وسوف تسعى إلى تنسيق مواقفها وإستراتيجيتها فى مؤتمر السلام فى جنيف مع إسرائيل فيما يتعلق باشتراك أى دولة أخرى فى المؤتمر.

ومن المتفق عليه أن اشتراك أى دولة أخرى أو جماعة أو منظمة فى مرحلة لاحقة من مؤتمر السلام فى جنيف - يتطلب اتفاقاً بين جميع الأطراف الأصليين فى المؤتمر.

3- إن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تبذل كل جهدها فى المؤتمر للتـأكد من أن جميع المفاوضات فى المسائل الحيوية سوف تكون على أساس ثنائى.

4- إن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تعارض - وإذا دعت الضرورة سوف تصوت ضد أى مبادرة فى مجلس الأمن تستهدف إدخال تغييرات على الشروط التى قام عليها مؤتمر جنيف، وسوف تعارض أيضاً بنفس الطريقة أى محاولات لتعديل قرارى مجلس الأمن رقم 242، 338 بطريقة تجعلهما غير ملائمين لأهدافهما الأصلية.

5- إن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تسعى للتأكد من أن دور الدولتين الداعيتين للمؤتمر سوف يكون متسقاً مع ما تم الاتفاق عليه فى مذكرة التفاهم بين حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وحكومة إسرائيل فى 20 ديسمبر 1973.

6- إن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل سوف تنسقان جهودهما للتأكد من أن المؤتمر سوف يمارس عمله بطريقة متناسقة مع أهداف تلك الوثيقة ومع الهدف المعلن لمؤتمر جنيف، وبالذات فتح السبيل لاتفاق يجرى التفاوض عليه بين إسرائيل وكل واحدة من جيرانها على حدة.

إمضاء إمضاء

عن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية: عن حكومة إسرائيل:

هنرى كيسنجر، إيجال آللون

وزير الخارجية، نائب رئيس الوزراء ووزيرالخارجية.

وتتعرض الوثيقة الثانية لموضوع إمداد إسرائيل بالأسلحة الأمريكية، ومع أن هذه الوثيقة تعبر عن تأكيد أمريكى لإسرائيل، ومن ثم يمكن تلقيها شفوياً - فإن إسرائيل صممت على أن يجيئها التأكيد مكتوباً... مسجلاً وموثقاً.

وهكذا فإن نص الوثيقة الثانية كما يلى:

تأكيدات من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية إلى إسرائيل.

فى موضوع المساعدات العسكرية والاقتصادية لإسرائيل:

فإن التأكيد التالى تم نقله بواسطة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية إلى إسرائيل، علاوة على ما تضمنته المذكرة باتفاق بين الولايات المتحدة وإسرائيل:

إن الولايات المتحدة الأمريكية مصممة على أن تواصل إمداد إسرائيل بكل ما يلزم لتقوية قدراتها الدفاعية، وذلك عن طريق إمدادها بأنواع متطورة من المعدات مثل طائرات ف - 16.

إن الولايات المتحدة الأمريكية توافق على اجتماع مشترك يعقد فى موعد مبكر يقوم بإعداد دراسة مشتركة لإمكانية إمداد إسرائيل بأسلحة تكنولوجية متقدمة، بما فى ذلك قذائف - بيرشنج - أرض أرض مزودة برؤوس تقليدية، وترى حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أن تكون نتيجة هذه الدراسات إيجابية.

إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سوف تقدم سنوياً لموافقة الكونجرس الأمريكى طلباً بالموافقـة على مساعدات عسكرية واقتصادية، تمكن إسرائيل من مواجهة احتياجاتها العسكرية والاقتصادية.

ثم تجىء أخيراً الوثيقة الثالثة، وهى فى ظنى أهم هذه الوثائق فيما ندرسه عن المنطق الإسرائيلى وما يصدر عنه من تصرفات، فهذه الوثيقة لم تترك موقفاً يمكن أن تواجهه إسرائيل إلا واحتاطت له، وربما كان الأفضل أن أترك نصها يعطى وحده عبرتها.

النص كما يلى:

مذكرة باتفاق بين حكومتى الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل:

إن الولايات المتحدة الأمريكية تعترف بأن الاتفاق المصرى الإسرائيلى الذى تم التوقيع عليه بالحروف الأولى فى 1 سبتمبر 1975 (والمشار إليه فيما بعد بوصف الاتفاق) دعا إسرائيل إلى الانسحاب من مناطق حيوية فى سيناء، وهو على هذا النحو يشكل خطوة ضخمة لها معناها من جانب إسرائيل فى سبيل تحقيق السلام النهائى.

إن هذا الاتفاق يحظى بالتأييد الكامل للولايات المتحدة الأمريكية.

تأكيدات من الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل:

1- إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سوف تبذل كل مجهود لكى تتمكن من أن تلبى كاملاً - وفى حدود مواردها وموافقة وتخصيص الكونجرس، وذلك على أساس جارى وطويل المدى - كل احتياجات إسرائيل من العتاد العسكرى وغير ذلك من مستلزمات الدفاع، وكل احتياجات إسرائيل من الطاقة، وكل احتياجاتها الاقتصادية.

إن الاحتياجات المشار إليها فى الفقرات 2 و3 و4 أدناه صالحة للإدراج فى حجم المساعدات الكلى المطلوب فى السنة المالية 1976 والسنوات المالية التالية لها.


2- إن احتياجات إسرائيل من الإمداد العسكرى على المدى الطويل من الولايات المتحدة الأمريكية سوف تكون موضع مشاورات دورية بين ممثلين عن مؤسسات الدفاع فى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وعندما يتم الاتفاق على كمية من الإمداد توضع بها مذكرة اتفاق بين حكومتى الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.

ولهذا الغرض فإن دراسة مشتركة بواسطة الخبراء العسكريين سوف تبدأ فى ظرف ثلاثة أسابيع، وفى إجراء هذه الدراسة التى سوف تتضمن احتياجات إسرائيل سنة 1977، فإن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تنظر بروح الود إلى طلبات إسرائيل من الأسلحة المتطورة.

3- إن إسرائيل سوف تتولى بنفسها ترتيبات الحصول على ما يلزمها من البترول بالوسائل الطبيعية وفى حالة ما إذا لم تتمكن إسرائيل من تحقيق احتياجاتها بهذه الوسائل، فإن حكومة الولايات المتحدة فور إخطارها بهذه الحقيقة بواسطة الحكومة الإسرائيلية سوف تتصرف ولمدة خمس سنوات على النحو المبين فيما بعد، وفى نهاية هذه المدة فإن أياً من الطرفين يستطيع إنهاء هذه الترتيبات بإخطار مسبق مدته عام واحد.

أ- إذا لم تتمكن إسرائيل من الحصول على البترول اللازم لاستهلاكها المحلى فى ظروف لا توجد فيها أى قيود على مقدرة الولايات المتحدة الأمريكية على الحصول على احتياجاتها العادية من البترول فإن حكومة الولايات المتحدة سوف تمكن إسرائيل فوراً من شراء كل احتياجاتها المشار إليها من البترول..

وإذا لم تكن إسرائيل قادرة على تأمين الوسائل الضرورية لنقل هذا البترول إلى إسرائيل، فإن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سوف تبذل كل جهدها لمساعدة إسرائيل على الحصول على الوسائل اللازمة للنقل.

ب- إذا لم يكن البترول المطلوب لاحتياجات الاستهلاك الطبيعى لإسرائيل متاحاً للشراء فى ظروف توجد فيها قيود بالحظر أو خلافه، تمنع الولايات المتحدة الأمريكية من الحصول على البترول لمواجهة احتياجاتها الطبيعية، فإن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سوف تجعل البترول اللازم متاحاً لإسرائيل على الفور طبقاً لبرنامج وكالة حفظ الطاقة الدولية، وذلك بنفس الشروط التى تتعامل بها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية حتى تتمكن إسرائيل من مواجهة احتياجاتها الضرورية.

وإذا لم يكن فى وسع إسرائيل تأمين الوسائل اللازمة لنقل هذا البترول إلى إسرائيل، فإن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سوف تبذل كل جهد لمساعدة إسرائيل على تأمين الوسائل اللازمة للنقل.

وسوف يجتمع الخبراء الإسرائيليون والأمريكيون سنوياً أو أكثر إذا دعا أحد الأطراف لمراجعة احتياجات إسرائيل المستمرة من البترول.

4- بغرض مساعدة إسرائيل فى الحصول على مطالبها من الطاقة، وكجزء من الرقم الكلى فى الفقرة - 1 - أعلاه، توافق الولايات المتحدة الأمريكية على ما يلى:

أ- فى تحديد المبلغ الإجمالى الذى تتقدم به الحكومة الأمريكية للكونجرس بشأن المساعدات الأمريكية، فإن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سوف تعطى اهتماماً خاصاً لاحتياجات إسرائيل من البترول، وللفترة المقررة فى البند الثالث أعلاه، سوف تأخذ فى تقديرها عند حساب هذا الرقم مصاريف إسرائيل الإضافية فى استيراد البترول الذى يحل محل البترول الذى كان يمكن لإسرائيل أن تحصل عليه طبيعياً من حقول أبو رديس ورأس سدر 4.5 مليون طن سنة 1975.

ب- إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سوف تتقدم إلى الكونجرس بطلب تخصيص اعتمادات يتم تحديدها باتفاق مشترك لتقديمها إلى حكومة إسرائيل، باعتبارها لازمة لمشروع بناء وسائل تخزين تتسع للاحتياطى المطلوب لإسرائيل بحيث يمكن رفع حجم الاحتياطى المخزون لكى يصل مما يكفى لستة شهور إلى ما يكفى لسنة عند انتهاء المشروع.

إن المشروع يجب إتمامه خلال أربع سنوات، ولهذا فإن البناء وعملية إقامته وتمويله وكافة المسائل المتصلة بالمشروع سوف تكون موضع محادثات مفصلة بين الحكومتين.

5- إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لن تتوقع أن تبدأ إسرائيل فى تطبيق الاتفاق قبل أن تفى مصر بما تعهدت به بمقتضى اتفاق فض الاشتباك من السماح بمرور كافة البضائع من وإلى الموانى الإسرائيلية عبر قناة السويس.

6- إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تقر وجهة نظر إسرائيل بأن أى اتفاق قادم مع مصر يجب أن يكون اتفاق سلام نهائى.

7- فى حالة قيام مصر بخرق أى من بنود الاتفاق فإن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سوف تكون مستعدة للتشاور مع إسرائيل فى معنى هذا الخرق، وفى أية إجراءات لتصحيحه بواسطة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.

8- إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سوف تصوت ضد أى مشروع قرار يقدم إلى مجلس الأمن وتجده - فى تقديرها - مؤثراً بشكل غير ملائم على الاتفاق.

9- إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سوف ترفض الانضمام إلى - وسوف تحاول منع جهود الآخرين من - أية محاولة لطرح مقترحات تجدها هى وإسرائيل ضارة بمصالح إسرائيل.

10- بالنظر إلى تعهد الولايات المتحدة الأمريكية المستمر بالالتزام ببناء وسلامة إسرائيل، فإن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سوف تأخذ على محمل الجد أية تهديدات توجه إلى أمن وسيادة إسرائيل بواسطة أى قوة دولية.

ولتدعيم هذا الهدف فإن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية فى حالة صدور مثل هذا التهديد سوف تتشاور على الفور مع الحكومة الإسرائيلية بشأن تقديم كل مساعدات دبلوماسية أو غيرها يمكن أن تقدمها لإسرائيل وفقاً للقواعد الدستورية المرعية.

11- إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وحكومة إسرائيل سوف تبدآن فى أقرب فرصة ممكنة - وفى خلال شهرين من توقيع هذا الاتفاق إذا أمكن - فى إعداد خطة طوارئ لإمداد إسرائيل بالعتاد العسكرى فى أى موقف ينشأ ويستدعى ذلك.

12- إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن التزامات مصر بمقتضى الاتفاق المصرى الإسرائيلى، وكذلك تطبيقه وصلاحيته وسريانه، لا تتوقف على أى تصرف أو أية تطورات تجرى بين أية دولة عربية أخرى وإسرائيل.

إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن هذا الاتفاق قائم بذاته.

إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تتفق مع الموقف الإسرائيلى فى أنه فى الظروف السياسية الراهنة فإن المفاوضات مع الأردن يجب أن تتوجه نحو تحقيق تسوية سلمية شاملة.

14- طبقاً لمبدأ حرية الملاحة فى أعالى البحار وحق المرور المفتوح خلال وفوق المضايق التى تصل بين المياه الدولية، فإن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر أن مضايق باب المندب وجبل طارق ممرات مائية دولية، وسوف تؤيد حق إسرائيل فى المرور الحر والمفتوح خلال هذه المضايق، وعلى نفس هذا الأساس فإن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تعترف بحق إسرائيل فى الطيران الحر فوق البحر الأحمر ومضايقه، وسوف تؤيد دبلوماسياً ممارسة هذا الحق.

15- فى حالة انسحاب قوات الطوارئ الدولية أو أى قوات تابعة للأمم المتحدة بغير اتفاق مسبق بين الأطراف فى الاتفاق بين كل من مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية - وإذا لم يكن هذا الاتفاق قد تم استبداله باتفاق آخر- فإن الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن هذا الاتفاق سوف يبقى ملزماً فى كل أجزائه.


16- إن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تتفقان على أن إمضاء بروتوكول الاتفاق بين مصر وإسرائيل وسريان تطبيقه بالكامل لا يتم قبل موافقة الكونجرس الأمريكى على دور الولايات المتحدة الأمريكية فى متابعة ومراقبة المهام المشار إليها فى الاتفاق وفى ملحقه.

إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية قد أخطرت حكومة إسرائيل أنها حصلت على موافقة حكومة مصر على المشار إليه أعلاه.

إمضاء إمضاء

عن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية عن حكومة إسرائيل.

هنرى كيسنجر، إيجال آللون.

وزير الخارجية، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية.

إن البند الأخير فى هذه الوثيقة وهو البند 16 وكذلك الجملة الختامية التالية له - يستحقان لفت نظر سريع.

فإسرائيل تجد أن أى اتفاق مع حكومة الولايات المتحدة لا يكفيها، ولهذا تشترط موافقة الكونجرس الأمريكى عليه، والمدخل هو دور الولايات المتحدة فى مراقبة الاتفاق وهو دور يقتضى مجىء بضع مئات من الخبراء الأمريكيين لتشغيل محطة مراقبة فى منطقة الممرات، ومثل ذلك التواجد الأمريكى بأفراد على أرض أى صراع يقتضى موافقة الكونجرس، وهكذا فإن إسرائيل لا تضمن موافقة الكونجرس فحسب، ولكنها تضمن موافقة الرأى العام الأمريكى تبعاً لموافقة الكونجرس.

وكل ذلك لا تكتفى به إسرائيل، وإنما هى تريد فضلاً عنه وزيادة عليه أن تتأكد أن مصر تعرف وتوافق على تقديم هذه الضمانات التى تتضمنها البنود الستة عشر للـمذكرة باتفاق بين حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وحكومة إسرائيل.

كل ذلك... كله تأخذه إسرائيل وتسجله وتوثقه، فى مقابل الانسحاب بضعة كيلو مترات إلى الشرق من قناة السويس، وتعيد فيها لمصر بعض بترولها الموجود فى سيناء!!

وأعترف أننى لا أجد فيه شيئا غريباً، وإنما هو المنطق السليم والعملى فى إدارة الصراعات.

وهناك سؤال يلح على الآن، وأتصوره ملحاً على غيرى:

- إذا كانت إسرائيل قد أخذت ذلك كله مفصلاً مسجلاً موثقاً فى مقابل بضعة كيلو مترات من سيناء، فما الذى أخذه العرب فى مقابل كل ما أعطوه للولايات المتحدة أو لإسرائيل، وهو هائل... هائل إلى غير حدود؟!

بعضه - وليس كله - يتضمن ما يلى:

1- إخراج الاتحاد السوفيتى من العالم العربى - أو محاولة ذلك - ابتداءً من طرد الخبراء إلى إلغاء المعاهدات.

2- مطاردة الاتحاد السوفيتى فى أفريقيا - أو محاولة ذلك - خصوصاً فى القرن الأفريقى - بصرف النظر عن النتائج الفعلية.

3- فتح الأبواب على مصراعيها للولايات المتحدة، ابتداءً من تركيز أوراق الحل فى يدها إلى تأييد وتوسيع دائرة مصالحها.

4- رفع حظر البترول قبل أن تتحقق الأهداف التى فرض من أجلها.

5- تسهيل وجود عسكرى أمريكى فى المنطقة تصعب السيطرة على نشاطه.

6- الاعتراف بوجود إسرائيل، والتفاوض مباشرةً معها.

7- تجميد سعر البترول وقبول الدفع عنه بالدولار رغم تدهور أسعاره يوماً بعد يوم.

8- المبادرة بكل ما تعنيه.

ذلك بعض ما أعطيناه، وليس كله، ولست أعرف ماذا أخذنا فى مقابله.

لم نأخذ أكثر من وعود غامضة مبهمة تحتمل كل معنى وكل تأويل.. لكننا اكتفينا بها حامدين وشاكرين.. ولم ننتبه إلى أن الحوار قد ضاع لاختلاف - بل تصادم - منطقين.

ثم أسعدنا أن نقول لأنفسنا: هم مرابون يهود، ونحن لسنا كذلك... نحن فرسان وشعراء وفنانون...
 
(4) الحوار الضائع: تصورات السلام كما يراها "بيجن" و"ديان" و"جور"
وبسبب اختلاف التصورات يضيع الحوار أخيراً.. كما ضاع - أولاً - بسبب قصور اللغة وتباين وتباعد معانى الكلمات والأسماء والمسميات ودرجات الحس والشعور....

وكما ضاع - ثانياً - لأن مجموعات القيم السائد هنا ليست هى مجموعات القيم السائدة هناك.

وكما ضاع - ثالثاً - بسبب تصادم المنطق الذى تصدر عنه تصرفاتنا مع المنطق الذى تصدر عنه تصرفاتهم، حتى من خلال عملية واحدة محددة كعملية التفاوض..

وهاهو الحوار يضيع - رابعاً وأخيراً - بسبب تصورات المستقبل للأطراف التى يذهب كل منها إلى وادٍ بعيد: هم إلى وادٍ سبق لهم استكشاف آفاقه ودراسة دروبه، ونحن إلى وادٍ آخر شددنا الرحال إليه بغير بوصلة تهدى أو دليل يقود.

وفى هـذا الحديث أيضاً أحاول التركيز على نقطة واحدة لشرح مسألة "اختلاف التصورات"، وكيف يمكن أن تؤدى إلى تعطيل وتضييع الحوار.

والنقطة الواحدة التى أقترحها لهذه المحاولة فى التركيز هى نقطة "تصورات السلام"، وهى فى الحقيقة أوسع الآفاق المفتوحة للتصورات، ذلك لأن بقية النقط فى جهود حل الصراع تتعرض فى الغالب لقضايا حالية وقائمة على الأرض، فموضوع الانسحاب - مثلاً - ليس مجال تصورات. وموضوع الشعب الفلسطينى وحقوقه ليس هو الآخر مجال تصورات.

الأرض حقيقة مادية قائمة، بصرف النظر عن مواقع قوات الاحتلال.

والشعب الفلسطينى حقيقة قائمة، بصرف النظر عن مكان تواجد جموعه فى الوقت الراهن: هل هى فى الأرض التى احتلت سنة 1948، أو الأرض التى احتلت سنة 1967، أو فيما حول الأرض الفلسطينية من بقية أرجاء الأمة العربية.

وأما السلام فهو شىء يختلف... شىء لم يوجد قط منذ قامت إسرائيل - وهكذا فهو محاولة خلق منذ البداية، وبداية الخلق تصور.

كيف نتصور السلام؟

كيف يتصورون السلام؟

نبدأ بالتصور العربى للسلام. ونلاحظ لأول وهلة أنه ليس هناك تصور عربى، وإنما هناك عدة تصورات عربية للسلام:

1- هناك تصور عربى يعتقد أن السلام ليس احتمالاً مطروحاً تحت أى ظرف، فهناك صراع بين طرفين على قطعة من الأرض لا تحتمل غير أحدهما، وفى تقدير هذا التصور أن أحد طرفى الصراع - الطرف الفلسطينى - يملك الحق الأصيل فى الأرض، بينما الطرف الثانى - الطرف الإسرائيلى - لا يملك غير ادعاء باطل تسنده قوة غالبة، وذلك لا ينشئ حقاً، والصراع بين الحق والباطل لا سبيل فيه إلى حل وسط. وهكذا فإن الطريق إلى السلام مسدود، وأى جهد لتصوره فى ظل الأمر الواقع ضرب من الوهم.

والغريب أن ذلك هو نفسه التصور الإسرائيلى للسلام. ومنه إلى حد كبير رفض إسرائيل القاطع لفكرة إقامة دولة فلسطينية أو لأى اتصال مع منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الطليعة السياسية والعسكرية للشعب الفلسطينى. ولا يكف "مناحم بيجن" على سبيل المثال عن القول بأن "قيام دولة فلسطينية يعتبر نفياً لقيام دولة إسرائيل".

2- هناك تصور عربى يحاول الهرب من كل موضوع السلام، وذلك هو موقف بعض دول المساندة. البعض هناك يدرك أن الضرورات لها أحكام. ولكن لأن هذه الدول بعيدة عن خطوط المواجهة المباشرة، فإن الضرورات لا تطالبها هى بشىء ولا تفرض عليها أحكامها، "وإذا رضى الإخوان على خطوط المواجهة بشىء فذلك حقهم ومسئوليتهم، ولهم ما يرون" هكذا يقال!

وهذا التصور - بنظرته الإجمالية للأمور - يريد حلاً لأزمة الشرق الأوسط يمكن معه السيطرة على التفاعلات العنيفة فى العالم العربى بمضاعفاتها السياسية والاجتماعية.

لكن ما يريده هو الحل فقط، وأما تصورات السلام فبينه وبينها حد الله. وهكذا فإنه يسير إلى منتصف الطريق، لكنه يريد أن يخرج - أو هل أقول يهرب - قبل نهايته!

3- هناك تصور عربى للسلام تتبناه سوريا وهو يرى أن السلام هو إنهاء حالة الحرب.

4- وهناك تصور عربى للسلام تتبناه مصر، وهو يرى أن السلام يمكن أن يتضمن - إلى جانب إنهاء حالة الحرب - بعض إجراءات الأمن، وبعض تطبيع العلاقات، إلى آخره.

والمشكلة أن تضارب التصورات العربية عن السلام - وغيبة تصور واحد وموحد - معناه أنه لا سلام؛ ذلك لأن السلام "حالة" لا تقبل التجزئة. فهى توجد أو لا توجد.. تقوم أو لا تقوم... أى أنه لا يوجد شىء اسمه نصف سلام، بمقدار ما يقول المثل الأمريكى "إنه ليست هناك امرأة نصف حامل" فهى إما أن تكون فى حالة حمل، أو لا تكون!

بمعنى أنه حتى إذا عقدت مصر - لا سمح الله - اتفاق سلام منفرد مع إسرائيل، فإن ذلك ليس سلاماً فى الشرق الأوسط، وإنما خطر الحرب ماثل على الجبهة الشرقية، وإذا انفجر الوضع عليها فليس هناك ضمان لرد الفعل المصرى، وهكذا.

ويترتب على هذا - بالمنطق المجرد، وبصرف النظر عن اجتهاداتى واجتهادات غيرى وآرائى وآراء غيرى - أن إسرائيل لن تدفع ثمن السلام العربى إلا إذا كان هناك تصور عربى واحد وموحد للسلام.

ومن ناحية ثانية - وذلك أيضاً من باب المنطق المجرد - فإن القوة العربية - على فرض وجود الكفاية منها - لا تستطيع أن تفرض السلام لأنها لا تعرف أى سلام تريد.

وهكذا فإن تصورات السلام من الناحية العربية خليط مشوش يمشى - أو لعله يتدحرج - نحو وادٍ بعيد بغير بوصلة تهدى أو دليل يقود!

ننتقل إلى الناحية الأخرى...

إلى تصورات السلام الإسرائيلى.

التصور الإسرائيلى للسلام - ومن أسباب عديدة - لا يجهد نفسه فى البحث كثيراً حول التصورات العربية التى ترفض السلام أو التى تهرب منه. ويفضل - لدواعى عملية - أن يركز على التصورات القائمة على خطوط المواجهة مباشرةً؛ وبالتالى فإنه معها - وليس مع غيرها - يدور الحوار.

والذى نلاحظه - من أول نظرة - أن التصور الإسرائيلى للسلام يرفض رفضاً كاملاً كل التصورات السورية وكل التصورات المصرية للسلام، حتى برغم بعد المسافة بينهما واتساع الخلاف.

والسبب أن التصور الإسرائيلى للسلام فى وادٍ آخر سبق له استكشاف آفاقه ودراسة دروبه ورسم خريطة كاملة له.

وأترك الكلام لـ "مناحيم بيجن" رئيس وزراء إسرائيل، أنقل عن نصوص حديثه تقريباً داخل اجتماع فى إحدى القاعات المغلقة فى القدس.

قال "مناحيم بيجن":

"إننى أريد السلام، ولكنى أريده سلاماً حقيقياً".

"إن السلام بالنسبة لإسرائيل مخاطرة، وأنا على استعداد لقبولها. لكن الناس لا يقبلون المخاطرات إلا إذا كانت فرص النجاح ظاهرة أمامهم وعواقبها مأمونة".

"والسلام بالنسبة لى هو أمن أرض إسرائيل، وأمن شعب إسرائيل، ثم إن هناك عنصراً ثالثاً لابد أن آخذه فى الاعتبار، وهو أننى عندما أقول إن السلام قد جاء، فمعنى ذلك أنه لا يعود من حق إسرائيل أن تطالب يهود العالم - وبالذات يهود الولايات المتحدة - بالتبرع لأمن إسرائيل، ولا أستطيع أن أطالب الولايات المتحدة بأن تعطينا السلاح والمساعدات الاقتصادية لأن ذلك ضرورى لأمن إسرائيل".

سوف يقال لى "لقد وصلتم إلى السلام، ويمكنكم أن تعتمدوا على أنفسكم ولا أستطيع أن أجادل فيما يقال لى".

هكذا فإن المسئولية تفرض علىّ أن لا أسمى سلاماً إلا كان سلاماً فعلاً ما أسميه.

إنهاء حالة الحرب بمعنى توقف العمليات العسكرية ليست سلاماً؛ لأن القتال يمكن أن يندلع فى أى وقت.

عندما وقعنا اتفاقية الهدنة سنة 1949، كنا نتصور أنها بمثابة إنهاء لحالة الحرب، وأنها تمهيد للسلام - وذلك لم يحدث.

"هنا فى إسرائيل - على قمة الحكم أو على قمة المعارضة ثلاثة من الذين اشتركوا فى وضع اتفاقية الهدنة فى رودس سنة 1949، وهم: الكولونيل "إيجال يادين" والماجور "موشى ديان" والماجور "إسحق رابين" - وقتها كانت رتبتهم صغيرة، ما بين كولونيل وماجور وبعدها كبروا وأصبحوا جميعاً جنرالات.

"كثيراً ما سألتهم: كيف قبلتم هذه الخطوط فى رودس؟

وكان ردهم: نحن لم ندقق فى مواقع التلال والهضاب والوديان على الخرائط، فقط كان تصورنا أن اتفاقية الهدنة سوف تؤدى إلى السلام.

بعد قرابة ثلاثين سنة من توقيع اتفاقية الهدنة لم يتحقق السلام، والآن لابد أن ندقق فى مواقع الاحتلال والهضاب والوديان.

لقد خضنا من وقتها أربعة حروب: حرب السويس، وحرب الأيام الستة، وحرب الاستنزاف، وحرب يوم الغفران - ودفعنا تضحيات كثيرة بالدم. وحين قلت إن حرب يوم الغفران يجب أن تكون آخر الحروب، فقد كنت أعنى أنها يجب أن تقودنا إلى السلام.

فقد حرصت عندما شكلت وزارتى على تكديس كل خبرة الحرب فيها: "بادين" وهو نجم حرب 1948، هو الآن نائب رئيس الوزراء.. و"دايان" نجم حرب 1956، هو اليوم وزير الخارجية.. و"وايزمان" نجم حرب67، هو وزير الدفاع.. و"شارون" نجم حرب 73، هو وزير الزراعة.

كدست كل تجربة الحرب فى وزارتى، لكى لا نخطئ مرة أخرى فى تقدير دواعى السلام!

هذه المرة لا خطوط على الأرض فوق التلال والهضاب والوديان، وإنما أرض إسرائيل بكاملها.

وهذه المرة لابد من ضمانات حول أرض إسرائيل، حتى نتأكد أنهم غير قادرين على الوصول إليها.

وهذه المرة سلام حقيقى كالسلام القائم بين بريطانيا وفرنسا مثلاً".

وتوقف "مناحم بيجن" عن الكلام فى تلك الجلسة فى القدس، والتقط منه حبل الحديث "موشى ديان" وزير الخارجية، ومضى يقول:

- أننى أريد أن أوضح مفهومين للسلام.

"هناك السلام بمعنى المحافظة على وضع قائم"... وهذا هو السلام الجامد.

"وهناك المفهوم الآخر، وهو السلام باعتباره إستراتيجية... أى حركة مستمرة. والسلام باعتباره إستراتيجية هو ما تريده إسرائيل، حركة ليست لها نهاية...... هل هناك نهاية لحركة العلاقات السلمية بين بريطانيا وفرنسا؟ إن السلام بينهما ليس موضوع نصوص وقيود، ولكنه باب مفتوح على الآخر.

هناك أربع درجات من السلام:

هناك السلام الأدنى Minimal peace، وهناك السلام الجزئى Partial peace، وهناك السلام العادى Formal peace، وهناك السلام الأقصى Maximal peace..

السلام الأدنى جربناه بالقرار 338 الذى دعا إلى وقف إطلاق النار وفى نفس الوقت إلى المفاوضات بين الأطراف لأول مرة. والسلام الجزئى جربناه باتفاقيات الفصل بين القوات. والسلام العادى يمكن أن يتحقق بمبادرة الرئيس المصرى وزيارته للقدس، على شرط أن نعرف أن السلام العادى مقدمة إلى السلام الأقصى... بمثابة فتح باب له. إذا لم نفعل ذلك، تراجعنا من مفهوم السلام كإستراتيجية، كحركة مستمرة، إلى مفهوم السلام كوضع نريد المحافظة عليه، وذلك صعب.

المطلوب الآن هو خطوة كبيرة واسعة.

ندخل من باب السلام العادى، ونمشى منه مباشرة إلى السلام الأقصى.

السلام الأقصى ليس مجرد نبذ الحرب، والاتفاق على الحدود، وتبادل السفراء.. هذه كلها خطوات فى إطار السلام العادى. السلام الأقصى حدود مفتوحة بغير قيد.. تجارة.. تعاون علمى وتكنولوجى.. اتفاقيات ثقافية.. سياحة.. مشروعات مشتركة فى كل المجالات.. حرية لانتقال رؤوس الأموال والأيدى العاملة.. حركة بلا نهاية".

واستطرد "ديان":

- إن بعض رفاقنا فى إسرائيل - حتى داخل الوزارة - يحذروننا من عدم جدوى الوصول إلى حالة "السلام الأقصى" مع العرب فى ظل الأوضاع الراهنة فى العالم العربى. فهم يرون أن النظم القائمة بالحكم الآن لا تستطيع ذلك، وبالتالى فليس هناك ما يمكن أن تربحه إسرائيل من التخلى عن عوامل القوة التى تمسك بها فى يدها الآن من أجل صنع السلام باشتراك نظم معرضة لتغييرات اجتماعية وسياسية يصعب التنبؤ بها.

ومع ذلك فإن الرأى الغالب بيننا على استعداد لأن يقبل المخاطرة، إذا كان الطرف الآخر على استعداد للسلام الأقصى!".

وسكت ديان ليتكلم الجنرال "جور" رئيس أركان الحرب وقتها - وكأنها أدوار موزعة فيما بينهم!

وقال الجنرال "جور":

- أريد أن أقول إنه لابد أن تمر فترة اختبار كافية لحالة "السلام الأقصى" قبل أن نعطى التنازلات النهائية التى يطلبها العرب.

إن صراع ثلاثين سنة - كما قال رئيس الوزراء - لا يمكن أن يزول وتزول آثاره فى أيام أو شهور.

ومن ناحية أخرى فلابد أن نتأكد من أن العرب قد تحولوا إلى صراعات أخرى غير الصراع العربى الإسرائيلى.

هناك مسألة لابد من الالتفات إليها، وقد نبهتنى إليها التقارير الواردة إلينا من القاهرة. إن الناس هناك يتصورون أن توقيع اتفاقية سلام سوف ينهى جميع مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بالطـبع لن يحدث، ولا أستطيع تقدير النتائج التى يمكن أن تترتب على خيبة أملهم فيما ينتظرونه.

وبالنسبة للعالم العربى كله فيبدو لى أنهم لا يعرفون بعد أن السلام عندما يجىء سوف يفرض عليهم تغـييرات اجتماعية عميقة وواسعة، وتأثير ذلك على الأوضاع السياسية مفتوح لكل الاحتمالات، ولكننا قد نجد أنفسنا فجأة أمام ظروف تختلف عن ظروف اليوم، وأمام إرادات قد تكون لها آراء معاكسة.

ولذلك فإن حالة "السلام الأقصى" لابد أن توضع للاختبار فترة عشر سنوات على الأقل قبل أن تفكر إسرائيل فى التخلى عن بعض الميزات الحقيقية التى تمسك بها الآن"!

ما الذى نستنتجه من هذا الكلام كله عن التصورات الإسرائيلية للسلام؟

أظن أن النقط التالية يمكن أن تكون استقراءً معقولاً لكل ما سمعناه من كلامهم حتى الآن:

1- أن التصور الإسرائيلى للسلام ليس مستعداً للتنازل فى موضوع الأرض: القدس خارج أية مناقشة، والضفة الغربية وغزة معرضة كلها إما للضم الكامل بالنسبة لبعض الأجزاء، أو السيطرة المطلقة - دون ضم - بالنسبة لأجزاء أخرى.

والشىء نفسه بالنسبة لهضبة الجولان.

نفس الشىء بالنسبة لسيناء، خصوصاً فيما يتعلق بالمناطق الواقعة إلى الشرق من خط العريش - رأس محمد.

2- أن التصور الإسرائيلى للسلام ليس مستعداً لقبول دولة فلسطينية مستقلة على أى بقعة من أرض فلسطين. وأقصى ما يمكن الوصول إليه - سياسياً - فى الضفة الغربية وغزة هو نوع من الإدارة الذاتية. وليس هناك ما يمنع الضم الكامل إلى إسرائيل غير الرغبة فى الاحتفاظ بـ "النقاء اليهودى" - !! - لدولة إسرائيل - من ناحية - وصعوبة تفريغ الضفة الغربية والقطاع من سكانهما فى وقت قريب - من ناحية أخرى.

3- أن التصور الإسرائيلى للسلام ليس فى عجلة من أمره، فهو يتصور عملية طويلة - ما بين 25 إلى 30 سنة - يتخذها فترة تجربة يختبر خلالها ترتيبات الأمن ونوايا الآخرين وقدرتهم على التأقلم مع متطلبات السلام الإسرائيلى. ثم إن هذه الفترة أيضاً ضرورية - فى تقديره - للحكم على شرعية النظم التى يتعامل معها وقدرتها على البقاء، أو التأكد من هوية واتجاهات ما قد يجىء بعدها، إذا حدث وتعرضت هذه النظم لأية مفاجآت - هكذا!!

4- أن التصور الإسرائيلى للسلام يرى ضرورة أن يحصل - فور الوصول إلى اتفاق - على كامل مزايا السلام عند الحد الأقصى. وعلى العرب أن ينتظروا نهاية فترة الاختبار فيما يتعلق بحصولهم على مقابل مزايا سلام الحد الأقصى الذى يقدمونه لإسرائيل. أى أن إسرائيل تريد أن تحصل على ما تريده فوراً، وتريد أن تدفع للعرب بمقابله - كما تقدره هى - بالتقسيط المريح وطويل الأجل، على أن يكون هذا التقسيط مسبوقاً بفترة سماح!


5- أن التصور الإسرائيلى للسلام يربط نفسه - إلى النهاية - بمطلب التفوق العسكرى الكامل لإسرائيل وحدها ضد كل العرب، وهذا هو الأساس الذى أعدت خطط تسليح وتطوير وتدريب القوات المسلحة الإسرائيلية لفترة الثمانينات، وهى خطة لا تأخذ فى اعتبارها احتمال أية تسوية من أى نوع، فهى خطة مستقلة قائمة وحدها، والفلسفة التى تقوم عليها هى أن التفوق العسكرى مطلب للسلام كما هو مطلب للحرب!

وربما كان أكثر ما يدل على جموح التصور الإسرائيلى للسلام أنه مازال حتى الآن يرفض المشروع الأمريكى للتسوية. وهو مشروع أعتقد - وهذا رأى شخصى - أنه بالغ السوء، مع التقدير الكامل لنوايا أصحابه وأصدقائهم.

وربما كان مفيداً أن أضع الآن نصوص مشروع التسوية الذى تعرضه الولايات المتحدة الآن على الأطراف، وأظنه كان موضوع المناقشة الأساسى فى حوار "بيجن" الأخير مع "كارتر".

خطوط المشروع الأمريكى كما يلى:

وصاية الأمم المتحدة على الضفة الغربية وقطاع غزة لمدة ثلاث إلى خمس سنوات طبق ما تسفر عنه نتيجة المفاوضات.

تقسم مهام الأمن فى الضفة الغربية وقطاع غزة. ويقوم الأردن بالمهام الموكولة للبوليس، وتقوم إسرائيل بالمهام التى يقوم بها الجيش، وتحتفظ إسرائيل بحق المطاردة النشيطة "للإرهابيين" إلى أى مكان.

تجرى انتخابات بلدية يشارك فيها كل الذين تثبت إقامتهم فى المنطقة لمدة سنة كاملة قبل الموعد الذى يتقرر لها.

تقوم لجان مشتركة إسرائيلية - فلسطينية للاتفاق على مشاكل الحياة اليومية - كطبيعة الحدود المفتوحة، والتجارة، والأيدى العاملة، ومصادر المياه، وسعر الصرف، والإجراءات الصحية.

فى نهاية مدة الوصاية تجرى انتخابات لاختيار ممثلين ينضمون إلى وفود مصر والأردن وإسرائيل فى المفاوضات من أجل الوصول إلى معاهدة، أو تكون هذه الانتخابات بقصد اختيار مجلس شعبى يختار بدوره مجلساً تنفيذياً يعين الأعضاء الذين يشتركون فى المفاوضات.

كل العناصر فى أى اتفاق يمكن التوصل إليها تبقى لمدة خمس وعشرين سنة غير قابلة للتغيير إلا بموافقة إجماعية لكل الأطراف التى اشتركت فى المفاوضات، حتى يمكن التأكد من عدم تحول الإدارة الذاتية إلى دولة فلسطينية مستقلة. وإذا كانت الرغبة - فى نهاية المدة - تتجه إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، فهذه الدولة لا يمكن أن تقوم إلا إذا تأكد أنها طرف فى التسوية.

أى طرف يقوم بأى إخلال بأحكام ما يتم الاتفاق عليه يعتبر مرتكباً لعمل من أعمال الحرب، ويتعرض للنتائج المترتبة على ذلك.

تصورات لم تجرؤ الولايات المتحدة أن تفكر فيها فضلاً عن أن تتقدم بها - حتى فى أعقاب هزيمة سنة 1967 - ومع ذلك فإن إسرائيل ترفض هذه التصورات حتى الآن، تمسكاً بتصوراتها هى للسلام.

وهكذا...

مصداقاً للمثل المصرى الشائع: "رضينا بالهم، والهم بنا غير راض"!

وأسأل الآن: ألم يأت الوقت لتكون لنا تصورات سلام عربى نطرحها فى مواجهة تصورات السلام الإسرائيلى من حده الأدنى إلى حده الأقصى؟

وأليس غريباً أنهم - فى تصوراتهم للسلام - يصلون إلى حد التنبه لاحتمالات التفاعل الاجتماعى فى العالم العربى ويحتاطون لها، بينما نحن غارقون حتى الذقون فى الخليط المشوش؟

هل يعقل أننا لم نطرح فى تصوراتنا للسلام قضية الاتصال البرى بين عرب آسيا وعرب أفريقيا؟ ندعى أننا أمة واحدة، ونسمح لعازل غير عربى أن يقطع الاتصال العضوى بين شعوب الأمة الواحدة؟

هل يعقل أننا لم نطرح فى تصوراتنا للسلام قضية وقف الهجرة إلى إسرائيل؟ وهل هناك فى الدنيا من يقبل بالتعامل على أساس السلام مع دولة لا نعرف حدودها ولا نعرف من هو شعبها؟

هل يعقل أننا لم نطرح فى تصوراتنا للسلام قضية الأسلحة النووية فى إسرائيل، ولم نسأل كيف نقبل فى وسـطنا - ونحن عزل من الأسلحة النووية - بوجود دولة تملك قرابة عشرين قنبلة نووية، ثم هى فوق ذلك تطالبنا بضمانات للأمن تصل إلى حد ضم بعض أراضينا؟

وهل يعقل؟ وهل يعقل؟ واللامعقول كثير.

أوليس بين هذا اللامعقول أننا نتصور وجود حوار، بينما الحوار معطل، أو هو ضائع؟

الكلمات مختلفة، وكذلك القيم، وكذلك المنطق.

والتصورات كل منها فى واد!
 
(1) نظرة جديدة على الناحية الأخرى
الخلط بين الفلسفة والسياسة!

لا أظنه بقى أمامنا - أو أمام سوانا - مفر من الاعتراف بأن زيارة القدس المحتلة، التى اصطلح على وصفها باسم "مبادرة السلام"، قد استنفدت نفسها. كأنها "نيزك" تساقط من نجم بعيد، وشق أفق الليل مندفعاً متوهجاً وسط الظلام، حتى أمسكت به قوانين الجاذبية فهوى ما تبقى منه مرتطماً بالأرض محدثاً دوياً عالياً. ثم ما لبث بعدها أن استحال إلى كتلة خامدة من معادن مختلطة! وربما حاول بعض المتشائمين منا أن يسحبوا هذا التشبيه إلى الآخر، بقولهم إن كتلة المعادن المختلطة لم تقع فى الربع الخالى، وإنما انقضت على نافوخ أزمة الشرق الأوسط - ولكنى لست متشائماً إلى هذا الحد!

........

والحقيقة أن هذه النتيجة للمبادرة ليست شيئاً غريباً، وإنما كان الغريب أن تكون هناك نتيجة أخرى، ذلك لأن الصراعات السياسية - شأنها شأن ظواهر الطبيعة - لها قوانين تحكم حركتها وتضبط مسارها. وليس من شك أن الإرادة الإنسانية تملك فى شأن الصراعات السياسية ما لا تملكه فى شأن ظواهر الطبيعة، ولكن ذلك لا يكون عن طريق تجاهل القوانين والضوابط، وإنما يكون عن طريق حسن استخدامها، والمقدرة على الاستفادة من حركتها، والكفاءة فى إدارة التفاعلات الناجمة عن هذه الحركة. وبغير ذلك فإن النظام يختلط بالفوضى، والاجتهاد يختلط بالارتجال، وتضيع الحدود بين القرار الإستراتيجى وبين "الخاطر العابر" فى لحظة بعينها!

........

وليست هناك مشكلة أبدية حتى فى "خاطر عابر" حاول ولم يصل، ولكن المشكلة تتعقد وتستعصى حين يكون هناك الإصرار على أن النيزك مازال نجماً، وعلى أن الوهج لم ينطفئ، وعلى أن كتلة المعادن المختلطة لم تعد خامدة بلا حرارة أو إشعاع!

ومن هنا فإنه ليس مفيداً - على سبيل المثال - أن يقال - كما يقول بعض كتاب الصحف - إن المبادرة نجحت لأنها أصبحت ملكاً للإنسانية وللتاريخ؛ ذلك لأن العمل السياسى يختلف عن الفكرة الفلسفية. فالعمل السياسى استجابة لموقف، والفكرة الفلسفية استجابة لأمل.

وهكذا فإن "النجاح إزاء تحد" هو وحده معيار الحكم على أى عمل سياسى - فى حين أن "القيمة فى حد ذاتها" هى معيار الحكم على أى فكرة فلسفية.

إن "نيفل تشمبرلين" رئيس وزراء بريطانيا كان يقصد إلى إنقاذ السلام العالمى حينما ذهب للقاء "أدولف هتلر" فى "ميونيخ" سنة 1938. وبرغم أن الدنيا كلها أيدت مسعى "تشمبرلين" من أجل "السلام فى زماننا" - كما سماه هو وقتها - فإن الحكم النهائى على تصرفه لم يكن على أساس نواياه، ولكن على أساس أن مسعاه لم ينجح. فالعمل السياسى ملك ظروفه، وليس ملك الأبدية بدعوى الإنسانية أو بدعوى التاريخ.

وعكس ذلك تماماً مجال الفلسفة. فحلم أفلاطون بـ "المدينة الفاضلة" يبقى أملاً ملهماً، حتى وإن لم يتحقق فى قرن واحد أو فى عشرات القرون. ذلك لأن قيمته باقية للإنسانية عبر كل عصور التاريخ. و"قيمته فى حد ذاتها" هى معيار الحكم عليه، بصرف النظر عن الوصول أو عدم الوصول.

هكذا. لأن السياسى يبدأ من "الواقع" ولا شىء غيره، فى حين أن الفيلسوف يبدأ من "المجرد" ولا شىء قبله... هذا من ناحية المنطق.

وأما من الناحية العملية، فليس هناك أدل على أن المبادرة لم تحقق هدفها - أكثر من أن الموقف عاد بعدها - وفى ظرف أسابيع - إلى ما كان عليه قبلها، وهو انتظار الضغط الأمريكى على إسرائيل يقنعها بالانسحاب وبحقوق الشعب الفلسطينى.

وكان مبرر المبادرة الوحيد لدى المتحمسين لها أن مجرد القيام بها سوف يقلب الموقف رأساً على عقب، وسوف يسقط كل الحجج القديمة، ويهدم كل الأسوار الباقية - عملية كانت أو نفسية.

وكان القول وقتها لكل المترددين إزاءها:

- "تكلموا منذ الآن فى أى شىء آخر غير أزمة الشرق الأوسط، فهذه جرى حلها، وأصبحت قضاياها فعلاً ماضياً، لا مضارع له ولا مستقبل"!

وحين انجلى مزيج السحاب والدخان والبخور الذى انعقد فى أجواء المبادرة - فلقد استبان أن الأزمة مازالت على حالها وأسوأ:

كان الطرف الإسرائيلى قبلها يفصح عن مطامعه بالإشارة، فأصبحت فصاحته الآن بالقول والفعل...

وكان الطرف العربى فى مواجهة إسرائيل قبلها موقفاً - أو شبه موقف - فأصبح الآن شظايا - أو بقايا - موقف...

وكانت خشيتنا من مأزق البطء إذا نحن أخذنا الطريق الطويل إلى جنيف - فإذا نحن أمام مأزق الجمود بعد أن أخذنا الطريق المختصر إلى القدس المحتلة...

هكذا لم يعد باقياً غير انتظار الضغط الأمريكى، وهو ما كان عليه الحال قبل المبادرة، مع العلم بأن الدوافع الأمريكية إلى ممارسة مثل هذا الضغط لا تتصل بالمبادرة، وإنما تتصل بالمصالح الأمريكـية فى البترول العربى وفوائض أمواله، خصوصاً فى السعودية وما حولها من دول الخليج العربى، وهى جميعاً من دول الصمت إزاء المبادرة!

لا فائدة إذن من الإصرار على خلط السياسة بالفلسفة، ومن ناحية أخرى فليست هناك فيما أظن جدوى من الإلحاح على أن "خاطراً عابراً" حاول ولم يصل - وضعنا أمام مشكلة أبدية بغير نهاية وبغير حل.

وإذن ما العمل؟

أتصور أننا مطالبون الآن، وقبل أى شىء آخر، بأن نلقى نظرة جديدة على الناحية الأخرى، وأن نعيد دراسة الموقف الإسرائيلى، مستمدين ضوءاً كاشفاً مما حدث. وإذا كانت المبادرة قد عجزت عن تحقيق أية فائدة عملية فلقد تكون لها - رغم كل شىء - فائدة علمية.

والواقع أنه من حقنا - ومن حق الدنيا كلها - أن نتساءل فى دهشة وذهول:

- كيف تسمح إسرائيل لهذه الفرصة التى أتيحت لها من السماء أن تضيع وأن تتسرب من قبضة يدها كحفنة من رمال.. لقد جاءها ما لم تكن تحلم به... ووضعت أمامها على طبق من ذهب كافة مطالبها وزيادة. ومع ذلك ترددت وأحجمت؟!

كيف؟ ولماذا؟ وهل يدخل ذلك فى عقل أى عاقل؟

والرد - فيما أظن - يبدأ من هنا تماماً، ذلك أن "عقل أى عاقل" ليس هو المفتاح الصحيح لفهم إسرائيل، لأن إسرائيل كيان خاص وغريب لا يدركه العقل وحده، وإنما لابد بجانب العقل من وسائل أخرى تصطدم مع العقل أحياناً! ولست أظن المجال مناسباً هنا لدراسة مستفيضة عن التركيب الخاص والغريب لإسرائيل، خصوصاً من الناحية العقلية، ولهذا فإنى أكتفى بالإشارة إلى لمحات معينة نستطيع أن نلحظها بسرعة فى هذا التركيب الإسرائيلى الخاص والغريب...

سوف نلحظ على الفور ما يلى:

* نحن هناك أمام أخلاط نصف أوروبية، لم تكن بعد شعباً واحداً إلا على سبيل المجاز، ثم أنه ليست لهذه الأخلاط فى المنطقة جذور، وبالتالى فهى لا تفهم البيئة المحيطة بها، وليس يكفيها أن تكون لديها الأرقام الدقيقة عما حولها، لأن القصة الإنسانية لا ترويها الأرقام وحدها!

* إن الأسطورة هى التى تبقى هذه الأخلاط المتعددة فى إطار شعب، والقوة وحدها هى التى تحميه، ومزيج الأسطورة والقوة مزيج بالغ الخطورة، يكاد يصل أحياناً إلى إلغاء التاريخ، وأحياناً إلى إلغاء الواقع!


* إن هذا الشعب محكوم بقلق عميق أورثته إياه تجربة تاريخية طويلة ومريرة، وقد سحبها معه إلى الشرق الأوسط دون أن تكون لأرضه أو لتاريخه علاقة بها. وكان من أثر التجربة التاريخية الطويلة والمريرة عقدة اضطهاد يشعر بها هذا الشعب ولا يخفيها. وكان من أثر براءة الشرق الأوسط من وزر هذه التجربة - رغم سحبها إلى أرضه وتاريخه - عقد ذنب يشعر بها هذا الشعب ولكنه يخفيها!

* إن هناك ازدواجية مخيفة تمزق وجدان هذا الشعب، فهو يعيش فى منطقة لا يريد أن ينتمى إليها، وينتمى إلى مناطق لم يستطع أن يعيش فيها. وسئل "مناحم بيجن" يوماً عن الدعاوى الإسرائيلية التى تواجه أوروبا فتزعم أن وطن اليهود فى فلسطين، وفى نفس الوقت تواجه شعوب الشرق الأوسط فتزعم أن سكان إسرائيل شىء آخر غير شعوب المنطقة لأن منشأهم أوروبى - وكان رد "بيجن" الغريب على السؤال المنطقى:

- لقد ولدت "طبيعياً" فى بولندا... ولكننى "تاريخياً" من مواليد القدس!

* إن ذلك الشعب فى إسرائيل يعيش فى حالة حصار مزعجة، وهو حصار لم يفرضه عليه العرب وحدهم، وإنما يشارك هو نفسه فى فرضه على نفسه، فهو لا يملك يقيناً يطمئنه حتى على أساس وجوده، وإذا كان الشك ينخر عند الأساس، فمن المؤكد أن هذا الشك ينعكس بعد ذلك على كل شىء، ومن هنا فإنهم فى إسرائيل ليسوا على استعداد لقبول أى تصرف تجاههم على ظاهر ما يوحى به. ومرة أخرى فقد كان تعبير "بيجن" عن ذلك كاشفاً حين قال:

- إن الفارق بين المعتدلين العرب والمتشددين العرب كما يلى:

المعتدلون العرب يريدون إغراق شعب إسرائيل فى بحر الوجود العربى الواسع.

والمتشددون العرب يريدون إغراق شعب إسرائيل فى البحر الحقيقى.

"هذا هو الفارق"!

* إن هذا الشعب فى إسرائيل يستشعر - حتى بالغريزة - موازين القوى فى المنطقة وتطوراتها المحتملة - وربما الحتمية - ولهذا فهو يدرك عقلانياً أنه لا يستطيع ضمان استمرار بقائه فى هذه المنطقة بغير الاعتماد على علاقة خاصة مع قوة عظمى تواصل إمداده باحتياجات حياته وأمنه طول الوقت، وتستطيع نجدته بسرعة إذا طرأت ظروف. ولكنه فى نفس الوقت - غريزياً - يشعر بالحاجة إلى التمرد على هذه الحماية، وقصارى ما يريده: أن يعطيه الآخرون مساعداتهم وأن يكفوا عنه نصائحهم - لأن أمنه النهائى لا يستطيع أن يضمنه غيره، ولو حتى بالقوة النووية تدمر الكل - وهو فيهم - إذا لم يكن هناك مفر!

إن هذه الخصائص الغريبة فى التركيب الإسرائيلى كانت هى المسئولة بالدرجة الأولى عن حالة النشوة الفوارة التى استقبلت ما وصف بأنه "مبادرة السلام المصرية"، والتى ظهرت فى الطريقة التى انفعل بها "الرجال والنساء والأطفال" فى إسرائيل وهم يستقبلون زائرهم فى القدس.

لأول وهلة بدا وكأن كل ما طلبوه جاء إليهم: الاعتراف والقبول، الطمأنينة واليقين، وأكثر من ذلك جاءهم الاعتراف بأنهم - بعد كل ما حدث! - فى حاجة إلى نوع خاص من الأمن، وكانت تلك عجيبة العجائب: "أن تعترف دولة غير نووية بضرورة نوع خاص من الأمن لدولة نووية!"

وربما كانت هناك أشياء أخرى عقلانية فى النشوة الفوارة التى استقبلت "مبادرة السلام":

- لعلها أخيراً أن تكون نهاية للدماء اليهودية التى سفحت بغزارة منذ بدأت حرب الاستنزاف العظيمة سنة 1968 حتى جاءت حرب أكتوبر المجيدة سنة 1973.

لكن هذه النشوة الفوارة لم تعش طويلاً.

لم تعش طويلاً لسببين:

* السبب الأول: أن الوساوس الدفينة - من الخصائص الغريبة فى التركيب الإسرائيلى - كانت أقوى وأعمق من أى حدث طارئ، مهما كانت درجة الدراما والمسرحة فيه.

* والسبب الثانى: وهو سبب عقلانى - أن الشعوب المتحضرة - ولا جدال أنهم فى إسرائيل على درجة من الحضارة - تتحرك بعواطفها بطريقة تلقائية وعفوية، ولكنها عندما تريد أن تتحرك بإرادتها فإنها تفعل ذلك بطريقة ليست تلقائية ولا عفوية... أى بطريقة منظمة.

هكذا فإن الدوافع إلى حالة الفوران كانت هى نفسها المسئولة - إلى حد كبير - عن تراجع حالة الفوران.

ثم أضيف إليها السبب العقلانى عن التحرك بالإرادة المنظمة!

إن جماهير "الرجال والنساء والأطفال" التى مزقت أكفها وحناجرها حماسة فى شوارع القدس المحتلة، وأتعبت أيديها من كثرة ما لوحت بالإعلام، وأرهقت شفاها من كثرة الابتسام - هذه الجماهير عبرت عن عواطفها بطريقة تلقائية وعفوية، ولكنها عندما أرادت فى اليوم التالى أن تعبر عن إرادتها السياسية استدارت من الشوارع والشرفات عائدة إلى مؤسسات الانتماء والتعبير، وإلى قنواتها الطبيعية... أى أنها عادت إلى أحزابها وجماعاتها وإلى برامجها وسياساتها الرسمية.

لقد صفقوا وهتفوا ولوحوا وابتسموا بعواطفهم تلقائياً وعفوياً.

ولكنهم عندما أرادوا أن يفكروا ويقرروا لم يعد هناك مجال للتلقائية والعفوية.

وهكذا وضعوا أنفسهم مرة أخرى حيث كانت ولاءاتهم السياسية المحددة والثابتة.

عادوا إلى مجموعة ليكود - حيروت والأحرار والمركز المستقل - وبرامجها وسياساتها، أو عادوا إلى مجموعة المعراخ - الماباى والمابام ورافى - وبرامجها وسياساتها، أو عادوا إلى غير ذلك من الأحزاب الدينية أو الشيوعية وبرامجها وسياساتها...

وكان مستحيلاً أن يكون غير ذلك فى مجتمع متحضر.

وهكذا نجد أنفسنا - فى هذا الحديث الذى نحاول فيه إلقاء نظرة جديدة على الناحية الأخرى ودراسة الموقف الإسرائيلى - أمام سؤال جاء وقته، وهو:

- ما هى النقطة أو النقط التى يلتقى عليها إجماع كل الأحزاب فى إسرائيل؟

وإذا طرحنا هذا السؤال، فإن الإجابة عليه سوف تكون كما يلى:

- إن جميع الأحزاب الإسرائيلية - باستثناء الحزب الشيوعى، وتأثيره محدود إلى أقصى درجة - تتفق كلها على ثلاث نقط واضحة وقاطعة:

* رفض الانسحاب إلى خطوط ما قبل يونيو 1967.

*رفض قيام دولة فلسطينية على أى بقعة من التراب الفلسطينى.

* رفض التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية تحت أى ظرف.

وكانت هذه هى المواقف التى عادت إليها جماهير "الرجال والنساء والأطفال" الذين ضاقت بحشودهم شوارع القدس وامتلأت أجواؤها بأصواتهم.

كان للعاطفة لحظتها تلقائية وعفوية، وأما ما بعد هذه اللحظة فقصة أخرى.

نتقدم فى البحث وإعادة الدرس بعد ذلك خطوة.

إن أية برامج أو سياسات يضعها حزب - أو أحزاب - فى مواجهة صراع معين لا يمكن أن تعبر إلا عن رؤية معينة لهذا الصراع.

وإذا كانت الأحزاب السياسية كلها فى إسرائيل قد التقت عند ثلاث نقط محددة فى مواجهة الصراع مع العرب - إذن فمعنى ذلك أنهم جميعاً يلتقون عند رؤية مشتركة لمخاطر هذا الصراع.

وهكذا نجد أمامنا سؤالاً حيوياً آخر فى سياق هذا الحديث:

ما هى الرؤية الإسرائيلية المشتركة للخطر العربى... ما هى فى تقديرهم مصادر ومكامن هذا الخطر؟!

إننى لا أقدم إجابة من عندى على هذا السؤال، ولا أحاول ذلك لأن الإجابة أو محاولتها من جانب أى طرف عربى سوف تظل نوعاً من الاجتهاد المعلق بالظنون، فى حين أن المطلب الضرورى هو إجابة راسخة فى علمها بالعقل الإسرائيلى.


وهكذا أستشهد بواحد من أبرز الخبراء الإسرائيليين - الأمريكيين (جنسية مزدوجة)، وهو "آموس برلموتر"، وهو أستاذ علوم سياسية يكتب ويحاضر فى إسرائيل وفى الولايات المتحدة، ثم هو إلى جانب ذلك مستشار لعدد من الشخصيات السياسية فى إسرائيل، وكان آخرها "مناحم بيجن" نفسه الذى كلفه - بعد نجاح حزبه فى انتخابات الكنيست - بأن يذهب إلى الولايات المتحدة ويستطلع باسمه - اسم "بيجن" - آراء "سيروس فانس" وزير الخارجية الأمريكية، و"زبجنيو برجينسكى" مستشار "كارتر" للأمن القومى.

هو إذن رجل يعرف... لا معرفة اجتهاد أو ظن، وإنما معرفته من النوع المباشر ومن عند المنبع نفسه. إن الأستاذ "آموس برلموتر" أجاب عن هذا السؤال بالذات - رؤية صانع القرار الإسرائيلى للخطر العربى ومصادره ومكامنه - ضمن دراسة نشرها عن السياسة الخارجية لإسرائيل فى شهر نوفمبر الماضى، وكان تقديره على النحو التالى: "إن الخطر العربى بالنسبة لإسرائيل له ثلاثة مصادر أساسية، وهى:

1- تيار القومية العربية.

2- دول عربية مجاورة لإسرائيل - مصر وسوريا.

3- الفلسطينيون منظمين سياسياً ومسلحين.

هذا هو تقدير "برلموتر"، وأعتقد أنه أشار بإصبعه فيه إلى قلب الحقيقة! إن المصدر الأول من مصادر الخطر العربى بالنسبة لإسرائيل يستحق منا وقفة طويلة... إن هذا المصدر كما رأينا - فى تحديد "برلموتر" - هو تيار القومية العربية... أى الفكرة العربية والحركة التاريخية لهذه الفكرة... هذا هو الخطر قبل أى دولة عربية بالذات، مهما كان تعداد سكانها ومصانعها وحقولها وجيوشها وترسانات سلاحها.

إن إسرائيل تعرف أنه ليس هناك أقوى من فكرة جاء وقتها، ومن تيار بدأت حركته.

إن التعامل مع دولة بالذات له حساباته المعروفة التى يمكن تقديرها... وأما التعامل مع تيار تاريخى فإن الحسابات مجهولة والمفاجآت قائمة فى أى وقت وفى أى مكان.

إن "أبا ايبان" وزير خارجية إسرائيل الأسبق يقول فى مذكراته التى نشرها أخيراً إن "دافيد بن جوريون" - وهو مؤسس إسرائيل الفعلى - لم يكن يشعر بالانقباض إلا فى تلك الفترة من نهاية الخمسينات إلى منتصف الستينات حين كان تيار القومية العربية يندفع كالإعصار يغير خريطة الشرق الأوسط.

... حينما حدثت الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1958.... حينما وقعت ثورة العراق سنة 1958... حينما بدأت محادثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق فى إبريل سنة 1963 - بل إن "أبا ايبان" يذكر أنه حينما بدأت هذه المحادثات للوحدة الثلاثية، وصلت حالة الاكتئاب بـ "دافيد بن جوريون" إلى حد أنه كتب رسائل إلى عدد من رؤساء الدول الكبرى - وبينهم "كيندى" و"ديجول" - يبدى لهم قلقه على مستقبل وجود إسرائيل.

فى مثل هذه الظروف أحس "دافيد بن جوريون" أن إسرائيل لا تواجه قوة دولة عربية أو مجموعة دول، وإنما تواجه قوة حركة تاريخية، وكان هذا يؤرقه ويفزعه!

إن التاريخ يقـدم لنا نماذج حية لهذا النوع الفريد من القوة، وأشهر نموذج له دولة الفاتيكان. ولقد أصبح "جوزيف ستالين" مثار سخرية الدنيا كلها حينما حذروه من قوة الفاتيكان فتساءل:

كم فرقة عسكرية يملكها البابا فى الفاتيكان؟!

وذهل الذين سمعوه، وأجابوه بأن البابا لا يملك فرقاً عسكرية... بل إن دولة الفاتيكان كلها ليس فيها دبابة أو مدفع أو حتى مسدس واحد... ومع ذلك فإن القوة التى يملكها بابا الفاتيكان واصلة إلى كل أطراف الأرض ومؤثرة!

ولقد كان هذا النوع من القوة - مع اختلاف الظروف بالطبع - هو مصدر قيمة مصر الحقيقية فى الخمسينات والستينات... كانت قيمتها أن الفكرة... التيار... الحركة التاريخية تجسدت فيها.

لم تعد مصر مجرد دولة تحكم على ضفاف النيل.. وإنما أصبحت مصر قوة - غير محددة وغير محدودة - تؤثر فى منطقة شاسعة بين المحيط والخليج.

وربما قلت إن "هنرى كيسنجر" - وزير الخارجية الأمريكية السابق - كان واحداً من الذين رأوا هذه القضية بوضوح وعمق، وساعدته الظروف على النفاذ إلى تحقيق هدف عجز غيره عن تحقيقه.

قبل "هنرى كيسنجر" كان هناك من رأوا غيره خطورة الفكرة.. التيار... الحركة التاريخية، وكذلك رأوا تجسيدها فى مصر.

وبينما حاول من سبقوه إلى رؤية الخطر أن يعزلوا الفكرة... التيار... الحركة التاريخية عن مصر - فإن أسلوبه هو كان يختلف... كان أسلوبه هو أن يعزل مصر عن الفكرة... التيار... الحركة التاريخية.

وأتذكر إننى كنت أحاوره مرة وأقول له:

- أنت هنا تتعامل مع قوة أوسع من حدود دولة... أنت تتعامل مع فكرة.. وتيار.. وحركة تاريخية".

وقال كيسنجر:

- ذلك منطق لا أوافق عليه.... إننى أريد أن أتعامل مع القوى الظاهرة... وليس مع القوى الكامنة... إننى أريد أن أتعامل مع دول أستطيع حساب مواقفها التفاوضية بوضوح... قل لى كيف أستطيع أن أتفاوض مع فكرة... أو تيار... أو حركة تاريخية"!

ولم يكن "كيسنجر" يجهل، وإنما كان يعرف، وكتاباته كلها تؤكد. بل إنه كان واحداً من الذين استشهدوا بالقصة الذائعة عن سؤال "ستالين" عن عدد الفرق التى يملكها بابا الفاتيكان.

ولكن ذكاء "كيسنجر" وكفاءته جعلاه يختار أسلوبه فى تناول أزمة الشرق الأوسط.

أول مهمة تواجهه - طبقاً لتقديره - أن يتخلص من ضغط الفكرة.. التيار... الحركة التاريخية، وأن يحول مصر من تجسيد لهذا كله إلى دولة لها حدود وإمكانيات يمكن حسابها: تعداد سكان - درجة تعليم - طاقة إنتاج زراعى وصناعى - متوسط دخل - حجم قوات مسلحة - درجة تسليح.

إن "كيسنجر" أدرك أنه إذا ظلت مصر فكرة وتياراً وحركة تاريخية - فإنه هو سيكون فى حاجة إليها لحل أزمة الشرق الأوسط.

وإذا استطاع أن يحول مصر إلى حدود، وتعداد سكان، ودرجة تعليم، وطاقة إنتاج زراعى وصناعى، ومتوسط دخل، وحجم قوات مسلحة، ودرجة تسليح، فإن مصر هى التى ستكون فى حاجة إليه لحل أزمة الشرق الأوسط.

وكان "كيسنجر" يقدر أنه إذا استطاع أن ينزع عن مصر تجسيدها لتيار القومية العربية، فإنه سيجد نفسه أمام الدولة المصرية بما لها وما عليها - وفى نفس الوقت، فإن التيار نفسه - وهو مصدر الخطر - سوف يتعثر فى حالة من الضياع بحثاً عن بديل يجسده، وليس ذلك سهلاً، فمن ناحية تركز هذا التيار سنوات طويلة فى القاهرة إلى حد أن حركته اقترنت باسمها، ومن ناحية أخرى فليست هناك دولة أو قوة فى العالم العربى الآن جاهزة لتجسيد التيار.

وهنا نصل إلى نقطة يحسن بالبعض منا هنا فى القاهرة أن يحسن فهمها. إن البعض منا يتحدثون عن القاهرة باعتبارها مفتاح السلم أو الحرب فى الشرق الأوسط.

وهذا صحيح، ولكن أى قاهرة؟

القاهرة التى تملك مفتاح السلم والحرب هى القاهرة التى تجسد الفكرة والتيار والحركة التاريخية.




وأما القاهرة بوصفها عاصمة الدولة المصرية فإن سلطتها باتساع حدودها، وما تملكه فى هذه الحالة لا يصبح مفتاح السلم أو الحرب فى المنطقة، وإنما يصبح مفتاح القبول - أو الرفض - لصلح بينها وبين إسرائيل.

ولقد كان هذا هو الخيار المطروح على القيادات الإسرائيلية بعد المبادرة، وحوله تدور الآن كل المناقشات وتحتدم كل الخلافات فى إسرائيل.

الكل يسلم أن الفكرة... التيار... الحركة التاريخية جميعها فى حالة غياب.

والكل يرى أن الطرف الذى يواجههم عبر مائدة المفاوضات هو: الدولة المصرية بحدودها وإمكانياتها وحساباتها.

والكل - مع ذلك - يرى أن مصر بحدودها وإمكانياتها وحساباتها مازالت أكبر دولة عربية، وإخراجها منفردة من حلبة صراع الشرق الأوسط يغير موازينه، وأهم من تغيير الموازين ضمـان أن لا تؤدى تعقيدات الصراع مع بقاء مصر فى الحلبة إلى ظروف يمكن معها للفكرة... التيار... الحركة التاريخية أن تعود وتتجمد فيها.

ولو أننا أصخنا السمع جيداً إلى الحوار الدائر فى إسرائيل اليوم، ودققنا بعض الشىء فى معانيه وإشاراته، لاستطعنا أن نفهم أكثر مما يبدو علينا أننا نفهم. الحوار الدائر فى إسرائيل اليوم يكاد يجرى - تقريباً - على النحو التالى:

* يقول "بيجن":

- "إن الحكومة المصرية لا تملك تفويضاً من غيرها، وهى تملك كل الصلاحية لتتفاوض فى مشاكلها معنا، وقد عرضت عليها ما أتصور أنه عرض سخى".

ويرد معارضوه:

- "كان يجب أن تكون أكثر سخاءً. إن إخراج مصر من دائرة الصراع بصلح منفرد يساوى أكثر مما عرضته عليها... صحيح أن الفكرة والتيار والحركة التاريخية فى حالة ضياع، ولكن مصر مازالت أكبر بلد عربى، ثم إن خطر التعطيل يمكن أن يخلق ظروفاً لا نستطيع تقديرها".

* ويقول "بيجن":

- "إننا نحاول أن نبقى الباب مفتوحاً.. وليس يهم أن يضيع بعض الوقت... لماذا لا نتصور أن الوقت الضائع هو وقت مكسوب يعمق عزلة مصر عن العالم العربى، ويستبقى الفكرة... التيار... الحركة التاريخية - فى حالة ضياع إلى أطول فسحة ممكنة، وربما تحول الضياع المؤقت إلى يأس كامل، خصوصاً فى غيبة قوى تستطيع تجسيد الفكرة... التيار... الحركة التاريخية. كان الفلسطينيون فى وقت من الأوقات يستطيعون التجسيد - ولو بالرمز - ونحن الآن نركز عليهم من كل ناحية، وهكذا فإن كل شىء محكوم، وليس هناك ما يدعو إلى القلق.

ومع ذلك فلست أعـرف كيف أكون أكثر سخاءً مع مصر.. هل نفك مستعمرات سيناء"؟

ويرد معارضوه:

- "لم يطالبك أحد هنا بفك مستعمرات سيناء... وتذكر أن الذين يعارضونك الآن هم الذين قاموا بإنشائها، ومع ذلك فلابد أن يوجد حل... هذه فرصة نادرة، وإذا ضاعت فلن تعود، ولسنا نحن الذين نرى ذلك وحدنا، ولكن يراه معنا الأمريكيون... هل تستطيع أن تقف إلى النهاية أمام الولايات المتحدة التى تحاول الإمساك بالفرصة النادرة"؟

* ويقول "بيجن":

- "إن الأمريكيين لا يفهمون المنطقة... إن الفرصة النادرة لم تكن من صنعهم، وإنما نحن الذين صنعناها بمواصلة الضغط، إنهم قلقون من أجل البترول العربى وهذه مسألة تخصهم... فى صراع الشرق الأوسط هناك ورقة واحدة رابحة، وهذه الورقة هى الأرض المحتلة، وهذه الورقة فى يدنا ولن نتركها لغيرنا إلا على شروطنا".

والحوار مازال مستمراً - وهذا إطاره - ولكننا لا نسمع، وحتى عندما نسمع فإننا لا نفهم، لأننا مازلنا نخلط بين السياسة والفلسفة!!
 
(2) نظرة ثانية على الناحية الأخرى
هذا هو الرد.. مناحم بيجن شخصياً
فى هذه المحاولة لإلقاء نظرة جديدة على الناحية الأخرى، ولإعادة دراسة الموقف فى إسرائيل - أتصور أنه قد يكون من الضرورى الآن توجيه بعض الاهتمام إلى "مناحم بيجن"، الذى أصبح منذ توليه رئاسة الوزارة فى إسرائيل أبرز شخصية على مسرحها السياسى، وأول مسئول فيها عن إدارة الجانب الإسرائيلى من صراع الشرق الأوسط الطويل والمرير والدامى.

وأعترف أننى لا أتمالك نفسى من الدهشة فى كل مرة أسمع فيها البعض منا يقولون:

- إن إسرائيل لم تقم حتى الآن بالرد على المبادرة المصرية، ومازالت التطورات المقبلة فى أزمة الشرق الأوسط تنتظر هذا الرد...

ومبعث دهشتى أن الرد جاهز أمامنا منذ اللحظة الأولى، وربما من قبل تلك اللحظة الأولى.

"الرد هو مناحم بيجن شخصياً".

هكذا فإن توجيه بعض الاهتمام إلى "مناحم بيجن" قد يكون بمثابة قراءة ثانية لفحوى الرد الذى وصل ونحن لا ندرك بعد أنه وصل!

إننى لا أنوى - بالطبع - عرض قصة حياة "مناحم بيجن"، فهذه القصة لها رواة غيرى أكتفى بالتركيز على بعض المقاطع، كما يفعل أحدنا حين يقرأ شيئاً فيختار فقرات منه يضع تحتها خطوطاً تذكره بالعلامات البارزة فى سياق ما يقرأه.

وإذا فعلنا ذلك، فسوف يلفت نظرنا أن "مناحم بيجن" بولندى يهودى، وبهاتين الصفتين فإنه عاش تجربة الحرب العالمية الثانية فى أوروبا، وتشكل فى الظروف التى رافقت هذه التجربة - أى أنه عاش المحنة البولندية التى مزقت الأرض والشعب بين الإمبراطوريات التى تنازعت السيادة بين شرق أوروبا وغربها، ثم إنه عاش المحنة اليهودية التى بدأت بمعاداة السامية فى أوروبا وانتهت بإحراق اليهود تحت أعلام النازية الألمانية.

لقد كانت هذه هى الظروف التى أظهر فيها عدد من الشبان اليهود قدراتهم فيما بعد على أن يتولوا زمام القيادة فى إسرائيل.

كانت مأساتهم - وبيجن أبرزهم - أنهم وسط محنة الاضطهاد تعلموا من جلادهم أكثر مما تعلموا من مخلصهم.

هكذا فإن "بيجن" اتجه إلى الصهيونية عقيدة، وإلى الإرهاب سلاحاً لهذه العقيدة، وحين اختار موقعه فى العمل من أجل تحقيق "أسطورة العودة" - فإنه اختار أكثر المواقف معاداة للتاريخ، فوقف وراء "جابوتنسكى" فى خلافه الشهير مع "وايزمان" و"بن جوريون" وأولهما مؤسس الدولة الصهيونية روحياً، والثانى مؤسسها عملياً.

لكن دور "بيجن" لم يأخذ مكانه على الساحة إلا بعد وصوله إلى فلسطين سنة 1943.

والغريب أن "مناحم بيجن" وصل إلى فلسطين محامياً بالمهنة.

وعن طريق المحاماه اكتسب اهتماماً بالصياغات والإجراءات وفنون المرافعات بما فيها الرغبة فى التأثير المواتى على الآخرين - لكنه فى فلسطين هجر الصياغات والإجراءات والمرافعات إلى المسدس والقنبلة والمدفع الرشاش، وتقرر أن يكون تأثيره على الآخرين عن طريق سفك دمائهم.

وفى السنوات الحاسمة من الأربعينات وقبل تأسيس الدولة احتدم الخلاف.

كان "بن جوريون" - مؤيداً بنفوذ "وايزمان" يقبل تقسيم فلسطين على أساس أن عودة "شعب إسرائيل" إلى جزء من "وطنه" هى الممكن الواقعى فى تلك الظروف، ولهذا ينبغى القبول بقرار التقسيم.

وكان رأى "بيجن" - مؤيداً بالخيالات المحمومة لـ "جابوتنسكى" - أن إسرائيل وأرض إسرائيل هما شىء واحد، ولهذا فإنه يجب رفض التقسيم، واستمرار الكفاح المسلح حتى يحصل اليهود على كامل أرض إسرائيل!

وانتصر رأى "بن جوريون" وقامت إسرائيل وفق قرار التقسيم كنقطة بداية، ولكن "بيجن" ظل وحده ممثلاً لمطلب "كامل أرض إسرائيل"، وثبت فى المعارضة وحده طوال ثلاثين سنة من قرار التقسيم سنة 1947 إلى الفوز فى انتخابات الكنيست سنة 1977.

وكانت فترة المعارضة الطويلة على رأس حزبه "جيروت" - اختباراً لعناد "بيجن" فقد تساقط من حوله الأعوان والأنصار، لأنه من الصعب على أى حزب سياسى أن يعيش عمره فى المعارضة، وكانت النتيجة أن ما تبقى من الحزب أصبح حفنة من غلاة المتشددين، فوقهم جميعاً رجل واحد هو بالنسبة لهم "الفيلسوف" و"المحارب" فى ذات الوقت.

ومع اختفاء الحرس القديم - بالموت كما فى حالة "بن جوريون" أو بالتقاعد كما فى حالة "جولدا مائير" - فإن "مناحم بيجن" أصبح الوحيد الباقى من جيل "الرواد" الذين ولدوا فى التيه وقادوا أسطورة "العودة"!

ومع موجة التشدد التى سادت إسرائيل بعد حرب سنة 1973 فإن حزب "بيجن" الأصلى "حيروت"، والتنظيمات التى تحالفت معه، أصبح مركز جذب لكل جماعات الصقور، وهكذا تكونت جبهة "ليكود" التى قادها "مناحم بيجن" فى انتخابات الكنيست سنة 1977.

وحين خرجت جبهة "ليكود" من انتخابات سنة 1977 كأكبر تجمع حزبى فى إسرائيل من حيث عدد المقاعد فى الكنيست، لم يكن من حق أحد - سواء هؤلاء الذين تحمسوا للمبادرة أو أولئك الذين تحفظوا عليها - أى سبب يدعوه إلى الخطأ أو يغفر له الوقوع فيه.

كان "مناحم بيجن" أمام الكل كتاباً مفتوحاً، وكانت هناك ثلاث وثائق رسمية تفصح عن آرائه وخططه كاملة، وأهم من ذلك كله تحدد ارتباطه أمام الذين انتخبوه وحتى الذين لم ينتخبوه.

كان هناك برنامج حزبه الدائم، وكان هناك البرنامج الموحد لجبهة "ليكود" الذى دخل به انتخابات الكنيست سنة 1977، ثم كان هناك خطابه الرسمى فى جلسة الحصول على ثقة الكنيست عندما ذهب إليه ليقدم وزارته الجديدة ويطلب الثقة.

كان برنامج حزبه يتحدث عن ثلاث نقط أساسية بالنسبة للصراع العربى الإسرائيلى:

1- حق الشعب اليهودى فى أرض إسرائيل غير قابل للطعن، ولابد من رفض كل مشروع يسفر عن تقسيم أرض إسرائيل المحررة بصورة قانونية.

2- السلام معناه توقيع معاهدات سلام يمكن الوصول إليها فقط عن طريق مفاوضات مباشرة بين الأطراف، وشروط أمن إسرائيل جزء لا يتجزأ من معاهدات السلام مع الدول العربية، وهذه الشروط مرتبطة - من خلال التجربة والحق - بممارسة السيطرة الإسرائيلية على مناطق استخدمها العدو ويمكن أن يستخدمها فى المستقبل قواعد للعدوان.

3- إن الاستيطان الواسع النطاق فى يهودا والسامرة وغزة والجولان وسيناء قضية لها أهمية حيوية.

واستعداداً للانتخابات سنة 1977 أتفقت جبهة "الليكود" على برنامج موحد تخوض الانتخابات على أساسه، وكانت نقط البرنامج الموحد نقلاً حرفياً عن برنامج "بيجن" التقليدى، غير أنه أضاف لها بعض التفاصيل:

1- السيادة الإسرائيلية بين البحر ونهر الأردن لا تناقش، أرض إسرائيل للشعب اليهودى وليست لغيره.

2- إن العرب سيبدءون فى التفكير بجدية فى إقامة سلام حقيقى معنا عندما يتوصلون إلى استنتاج قاطع بأنه ليس بإمكانهم تدمير إسرائيل لا دفعة واحدة ولا على مراحل.

3- لابد من دعوة العرب إلى مفاوضات حول سلام تعاقدى فى اجتماعات تعقد وجهاً لوجه، وتجرى فى عواصمنا بالتناوب، ويتناوب الطرفان رئاسة جلساتها دون وصاية طرف ثالث.

4- إن الرئيس الأمريكى "جيمى كارتر" يعـرف من قراءته للتوراة من هم أصحاب فلسطين، ثم إن إسرائيل هى مصلحة قومية أمريكية فى المنطقة، سواء من ناحية عسكرية أو من ناحية صد الشيوعية.

ثم يجىء أخيراً بيان طلب الثقة من الكنيست، وهو أحدث هذه الوثائق جميعاً وأقربها إلى الذاكرة، فتاريخه هو الحادى والعشرين من شهر يونيو "حزيران" سنة 1977، والملفت للنظر أن "مناحم بيجن" حدد فيه وجهة نظره فى أمور سببت فيما بعد ذلك بشهور دهشة للذين سمعوها منه مباشرةً، وكأنه لم يقلها من قبل على مسمع من الدنيا كلها.


وكان بين ما قاله "بيجن" فى هذه الجلسة - 21 يونيو 1977 - وما كان يجب أن نسمعه جيداً ونعى معانيه:

1- "إنى أعلن أن حكومة إسرائيل لن تطلب من أى أمة قريبة أو بعيدة، صغيرة أو كبيرة، أن تعترف بحقنا فى الوجود، الحق فى الوجود؟ هل يخطر على بال أى بريطانى أو فرنسى، بلجيكى أو هولندى، روسى أو أمريكى، أن يطلب الاعتراف بحق شعبه فى الوجود؟ إن وجودهم هو حقهم، وينطبق نفس الشىء على إسرائيل أننا لا ننتظر من أحد أن يطلب من أجلنا الاعتراف بحق وجودنا، وإنما المطلوب اعتراف آخر: اعتراف بسيادتنا على أرض إسرائيل".

2- "إن أرض إسرائيل غير قابلة للمناقشة، وأريد أن أذكر الكنيست بما قاله "جابوتنسكى":

قبل قدومنا إلى أرض إسرائيل لم نكن شعباً ولم نكن موجودين، على تراب أرض إسرائيل نشأ الشعب العبرى.. على تراب أرض إسرائيل ترعرعنا، وعليها أصبحنا مواطنين، وسمعنا عقيدة الرب، وتنشقنا أريج البلاد فى أعمالنا، وفى نضالنا من أجل الاستقلال والحكم أحاط بنا جوها، وغدت أجسادنا الحيوية التى نمت على أرضها... فى أرض إسرائيل تطورت أفكار أمنياتنا، وفيها تردد أول مرة نشيد الإنشاد.

إن كل ما هو عبرى فينا منحتنا إياه أرض إسرائيل، وكل ما عدا ذلك لدينا فهو عبرى، وإن إسرائيل وأرض إسرائيل هما شىء واحد!".

3- "إننا سنسعى إلى تعميق الصداقة بيننا وبين الولايات المتحدة.

إن ما يوجد بين إسرائيل والولايات المتحدة ليس فقط المشاعر العميقة والإيمان بالقيم الأخلاقية والديمقراطية المشتركة، بل أيضاً بحسب إدراكنا المصالح المشتركة الحقيقية والعميقة.

إن المشاعر والمصالح المشتركة أبقى من أى نظام وأقوى من أى ظروف سياسية مؤقتة.

وأنا واثق من أن الشعب والإدارة فى أمريكا لن يقبلا لنا إلا ما نقبله لأنفسنا، ففى علاقات المشاعر والمصالح ليس هناك ضغط يمارسه طرف إزاء طرف، وإن هذا النوع من العلاقات يقوم أساساً على الاحترام المتبادل".

كانت هذه الوثائق كلها أمامنا من وقت مبكر، ولكننا فيما يبدو لم نقرأ، وإذا كنا قرأنا فنحن بالتأكيد لم نفهم، أو أننا تصورنا الأمور بمقياس ما نفعله أحياناً وليس ما يفعله الآخرين الذين يعتبرون مواثيقهم خططاً وبرامج وارتباطات يكون على أساسها - وعلى أساسها وحده - حساب التنفيذ والآراء والوفاء!

إن كثيرين خارج إسرائيل - فى العالم العربى وبعيداً عنه - فوجئوا بفوز "مناحم بيجن" فى الانتخابات ودعوته إلى تشكيل الوزارة، ولكن مناحم بيجن نفسه لم يفاجأ، وأظنه وضع فوزه فى إطاره الصحيح، فلم يبالغ فيه حيث يجد نفسه فى النهاية معزولاً عن الرأى العام الإسرائيلى.

كان تقديره أن نجاحه يعود إلى الأسباب التالية:

أولاً: أن الناس فى إسرائيل قد صدموا بصور الفساد التى تكشفت بعد ثلاثين سنة من حكم تحالف أحزاب العمل.

ثانياً: أن هناك تطلعاً عاماً إلى ضرورة التغيير.

ثالثاً: وهذه نقطة مهمة: أن الرأى العام الإسرائيلى لم يصل إلى قرار بشأن موضوع الأراضى المحتلة، وهل يكون هناك انسحاب منها أو لا يكون إطلاقاً؟ وإذا جاز أن يكون هناك انسحاب، فإلى أية خطوط؟

إن الرأى العـام الإسرائيلى يدرك أن "الأراضى" هى مفتاح كل شىء فى أزمة الشرق الأوسط، وهذا المفتاح لا ينبغى اللعب به أو تضييعه.

وعلى أساس هذه الحيرة لدى الرأى العام الإسرائيلى، فإنه اختار أن يضع فى الحكم هؤلاء الذين يثق فى أنهم سوف يحتفظون فى أيديهم بمفتاح الأراضى مهما كانت الظروف.. وإلى حين يستقر الرأى العام فى إسرائيل على قناعة ثابتة دائمة.

وكان تقدير "بيجن" "أنه يستطيع فى الحكم تشكيل قناعة الشعب الإسرائيلى الثابتة والدائمة فى اتجاه الاحتفاظ بالأراضى".

رابعاً: وهذه أيضاً نقطة مهمة: فإن الرأى العام الإسرائيلى كان يحس أن القوة الوحيدة القادرة على الضغط للتخلى عن جزء من الأراضى هى الولايات المتحدة، وبانتخابه لـ "مناحم بيجن" فإنه اختار أكثر الأحزاب السياسية استعداداً لمقاومة احتمال الضغط الأمريكى على إسرائيل.

"ولعلى أحدد أننى اعتمدت فى شرح رؤية "مناحم بيجن" لمعنى فوزه فى انتخابات الكنيست على وقائع جلسة مغلقة حضرها أخيراً فى واشنطن مع مجموعة منتقاة من أعضاء "مجلس الرؤساء اليهود" فى الولايات المتحدة.

وكانت الجلسة جلسة عمل داخلى دعت إليها لجنة أمريكا - إسرائيل العامة وهى اللجنة التى تشرف على توجيه وتنسيق النشاط الإسرائيلى اليهودى فى القارة الأمريكية، والتى يدير أعمالها "موريس أميتاى" الذى يعتبرونه السفير الخفى - وربما الحقيقى - لإسرائيل فى واشنطن.

وكانت بعض التفاصيل من وقائع هذه الجلسة قد وصلتنى فى القاهرة عن طريق مصدر أوروبى وثيق الاطلاع.

ولقد قصدت إلى هذا التحديد لأنى سوف أستشهد ببعض ما جرى فى هذه الجلسة فى بعض المواقع من بقية هذا الحديث".

إن "مناحم بيجن" اعتبر أن زيارته الأولى للولايات المتحدة الأمريكية هى أول اختبار لابد له أن يجتازه بنجاح، وفى هذه الجلسة المغلقة التى حضرها مع بعض أعضاء مجلس الرؤساء اليهود فى أمريكا، فقد شرح "بيجن" أهمية تلك الزيارة بالنسبة له قائلاً:

"إننى عندما جئت إلى هنا فى المرة الأولى بعد أن توليت مسئولية رئاسة الوزارة فى إسرائيل، كنت أعرف أهمية الولايات المتحدة الحيوية بالنسبة لإسرائيل. والمسألة ليست التعرف على الرئيس "كارتر" وكبار مساعديه فقط، ولكن الالتقاء معكم أنتم بما تمثلونه لإسرائيل هنا وبما تمثلونه للولايات المتحدة هناك.

إننى جئت إلى الولايات المتحدة قبل ذلك مرات عندما كنت فى المعارضة، وبعضكم كانت له تحفظات إزائى.

كان هؤلاء البعض متأثرين مما سمعوه عنى من أصدقائنا فى حزب العمل.

لثلاثين سنة كان زعماء حزب العمل الذين تحملوا مسئولية الحكم فى البلاد هم بالنسبة لكم إسرائيل.

وكنتم تسمعون منهم أحياناً عنى.

ولم يكن كلامهم طيباً باستمرار.

لقد صوروا لكم أننا نرفض السلام تحت أى شروط، وأننا نطالب بحرب إلى النهاية.

وكان ذلك يثير قلقكم.

عندما جئت فى المرة الأولى كان هدفى أن أقدم لكم نفسى، وأشرح لكم هموم إسرائيل، وأضع أمامكم برنامجى، لأنى أعلم أننا قد نواجه ظروفاً صعبة سيكون عليكم فيها أن تتحملوا مسئولية تاريخية إزاء شعب إسرائيل وأرض إسرائيل.

إننى أريد سلاماً، ولكن سلاماً بالقطارة على طريق الخطوة خطوة لا يصل بنا إلى سلام حقيقى، وإنما يؤدى بنا إلى سلسلة من التنازلات تبدو جزئية فى كل مرة، ولكنها فى النهاية تتراكم على بعضها، ويمكن أن تشكل كارثة على الأمن القومى لإسرائيل.

كان العرب فى البداية يتصورون أن لديهم القدرة على مواجهة إسرائيل، والآن فقد اقتنعوا أنهم لا يستطيعون ذلك.

وفى مرحلة من المراحل كان العرب يتصورون إمكانية الاستعانة بالاتحاد السوفيتى لمواجهة إسرائيل، ولكن حالة العلاقات بين العرب والاتحاد السوفيتى أزاحت هذه الإمكانية -على الأقل فى الوقت الحاضر.

والآن يتصور العرب أنهم يستطيعون استعمال الولايات المتحدة فى الضغط على إسرائيل، وينبغى أن تفشل هذه المحاولة.

إننا جعلنا العرب ييأسون من أنفسهم... ثم جعلناهم ييأسون من الاتحاد السوفيتى... والآن لابد أن نجعلهم ييأسون من الضغط علينا بواسطة الولايات المتحدة، وعندما يتم ذلك فسوف يدركون أنه ليست أمامهم وسيلة غير التوجه إلى إسرائيل مباشرةً وقبول ما تعرضه عليهم".

بهذا النوع من الأفكار فى ذهنه أخذ "بيجن" مبادرة السادات - عندما وقعت - بالمنطق الوحيد الذى يستطيع استساغته.


وقد روى "شيمون بيريز" رئيس حزب العمل الإسرائيلى وزعيم المعارضة فى إسرائيل - لبعض أعضاء الوفد الفرنسى فى الاجتماعات الدولية الثانية التى عقدت أخيراً فى فيينا أن "مناحم بيجن" أصابه نوع مخيف من الغرور والاستعلاء بعد زيارة الرئيس السادات للقدس.

وكان بين ما قاله "شيمون بيريز":

- من سوء الحظ أن هذه المبادرة تأخرت جداً، فلم تحدث إلا و"بيجن" فى الحكم.

ولقد أخذها "بيجن" باقتناع كامل أن شخصيته وسياسته هما اللتان جعلتا العرب فى النهاية يذهبون إلى إسرائيل، لأنهم أدركوا أنه ليس أمامهم غير ذلك سبيلاً.

ولم يكن مستعداً لأن يسمع نصيحة أحد. فقد كان أول رئيس وزراء إسرائيلى يستقبل زعيماً عربياً فى عاصمة إسرائيل.

وأعود إلى حديث "بيجن" فى جلسة العمل المغلقة مع مجموعة الرؤساء اليهود فى الولايات المتحدة.

وكان بين ما قاله "بيجن" فى تلك الجلسة الخطيرة:

- "إن الرئيس السادات جاء إلى القدس وكان بغير شك على اطلاع كامل بالنسبة لسياسة الحكومة، ولقد أعدت تأكيد خطوط هذه السياسة فى نفس الوقت الذى وجهت فيه الدعوة إليه، لأنى لم أشأ أن أترك شيئاً للمصادفات.

وكان معنى مجيئه بالنسبة لى أنه نظر فى شروطنا وأعجبته، ومن ناحيتى فقد أعجبنى أن شروطنا أعجبته.

ولقد اندهشت أن الرئيس السادات قال إنه لا يريد حلاً منفرداً مع إسرائيل، وكان رأيى أنه ليس أمامنا شىء آخر، فهو لم يكن يحمل - حين جاءنا - تفويضاً من الآخرين، بل إن الآخرين كانوا يهاجمون زيارته لنا".

"وكان رأيى أن الرئيس السادات سوف يرى الحقيقة الموضوعية فى الموقف بعد فترة من التجربة، ولهذا فإن تعليماتى إلى وفدنا الذى ذهب إلى محادثات القاهرة كانت محددة بقصر المناقشة على العلاقات المصرية الإسرائيلية، ولم تكن هناك إمكانية حقيقية لبحث أى شىء غير ذلك".

"وفى اجتماعات القاهرة ظهرت فكرة إعلان المبادئ، وكان الوفد الأمريكى هو الذى تحمس لها على أساس أنها تطمئن السعودية وتعطى تغطية كافية لاشتراك وفد من الأردن فى هذه المحادثات، حتى لا تظل بيننا وبين مصر وحدنا. ونحن كنا راغبين فى حضور الملك حسين. ولكن أى إعلان للمبادئ نشترك فيه لا يمكن أن يتعدى سياساتنا المرسومة، ولذا واجهنا كثيراً من المشاكل لم نستطع بعد ذلك حلها فى الإسماعيلية".

"إنكم تذكرون أننى - قبل الإسماعيلية - جئت إلى هنا ومعى مشروع كامل للسلام، وقد عرضته على الرئيس "كارتر" وكبار مستشاريه، وكان رأيهم أنه إيجابى، وأنه خطوة كبيرة على طريق السلام.

ولكن ذلك لم يكن كافياً ليحل العقد فى الإسماعيلية".

"إننى - قبل الإسماعيلية - أرسلت وزير الدفاع "وايزمان" إلى مصر ومعه خريطة لسيناء تحمل مواقع المستعمرات التى ننوى الاحتفاظ بها هناك فى حماية جيش الدفاع الإسرائيلى لضرورات أمن إسرائيل، ولم نسمع اعتراضاً عليها".

"وفى الإسماعيلية فإن بعض موظفى وزارة الخارجية المصرية لدغهم ثعبان عندما رأوا هذه الخريطة وعندما سمعوا بمقترحاتنا لإعلان المبادئ. كانوا يفكرون بعقلية الماضى، ولم يتطوروا إلى درجة فهم الواقع والمستقبل".

ثم وصل "بيجن" قرب نهاية حديثه فى تلك الجلسة الخطيرة مع "الرؤساء اليهود فى الولايات المتحدة" إلى الجزء الحيوى والحساس فى حديثه على النحو التالى:

"إننى اعتقد أن مصر سوف تصل فى النهاية إلى التأكد من أن الطريق الوحيد للتقدم هو عقد اتفاق سلام منفرد مع إسرائيل. وبعض الناس فى الإدارة الأمريكية يختلفون معى فى ذلك، ولكنى قلت لهم: إننى واثق مما أقول.

وحين اعترضوا على بأن ما يعرفون عن موقف المصريين يختلف مع ما أقول، كان ردى عليهم:

"إننى لا أختلف معهم فى شأن ما يسمعونه من المصريين.

ولكن إذا درسوا المسألة جيداً فسوف يعرفون أن القيام بزيارة القدس كان فى وقت من الأوقات يبدو أكثر استحالة من قبول اتفاق سلام منفرد"، هذه عبرة الحوادث نفسها، ولا شأن لها بما يقوله أحد أو ما يسمعه أحد.

ولكن الأمريكيين يستطيعون - بعدم فهمهم لعبرة الحوادث - أن يعطلوا الأمور بدلاً من أن يدفعوها.

"إننى غيرت سياسة الحكومة الإسرائيلية عما كانت عليه وقت من سبقونى من حزب العمل.

كانوا يصرون على التنسيق المسبق مع الولايات المتحدة لنتقدم نحن وهم إلى العرب بموقف واحد، ولكنى رأيت أن هذا الحال يضع الولايات المتحدة فى مشاكل مع العرب، ويضعنا نحن فى مشاكل مع الولايات المتحدة، ولهذا فإننى اقترحت - وقبلوا - أن تكون مواقف كل منا هى مواقفه، نتفق حين تتوافق آراؤنا وحين تختلف آراؤنا فإننا نستطيع أن نتفق على أن لا نتفق".

"إننا ندرك ونهتم بمصالح الولايات المتحدة لدى العرب، ولكننا لا نريد ولا نستطيع أن نجعل من هذه المصالح وسيلة للضغط علينا.

إن أصدقائنا الأمريكيين يقولون لنا أنهم يمارسون الضغط على الطرفين لكى يصلوا إلى مواقف معقولة، ولكن المشكلة أنهم حين يضغطون على العرب فقصارى ما سوف يحصلون عليه هو تعهدات كلامية من حكومات تعرفون جميعاً ظروفها، وأما حين يضغطون على إسرائيل فإن ما سوف يحصلون علـيه - لولا قدر الله ونجح الضغط - ليس مجرد تعهدات كلامية وإنما ميزات حقيقية: أراضى".

"إن العرب يحاولون الآن أن يأخذوا بالدبلوماسية ما عجزوا عن أخذه بالحرب، وذلك ببساطة غير ممكن.

إن أحد مستشارى الرئيس "كارتر" عندما سمعنى أتحدث عن أمن إسرائيل، قال لى:

إنك تتحدث وكأن هناك فى الدنيا شىء اسمه "الأمن المطلق" لطرف من الأطراف.

إن ما يجب أن تسعى لتحقيقه هو الأمن النسبى، وأما الأمن المطلق فإنه صعب التحقيق وإذا تحقق فإنه سوف يكون بالضرورة على حساب الآخرين. وكان ردى عليه أن طلبت منه أن ينظر إلى خريطة ليرى مساحة العالم العربى وليرى مساحة إسرائيل... ثم يتذكر عدد سكان العالم العربى وعدد سكان إسرائيل".

"إن لديهم عشرين دولة مستقلة، وإسرائيل دولة واحدة".

"وهم مائة وخمسون مليوناً، ونحن ثلاثة ملايين فقط".

"إنهم بعد ذلك سألونى: هل يطمئننى إلى أمن إسرائيل أن تعقد الولايات المتحدة معها معاهدة دفاع مشترك؟".

"وكان ردى:

إننى أفضل أن تعتمد إسرائيل على نفسها فى ضمان أمنها، ومع ذلك فإنى أقبل معاهدة الدفاع المشترك إذا كان الرئيس "كارتر" على استعداد لعقدها للفترة التى أريدها".

"وسئلت عن الفترة التى أريدها، فقلت: ألفى سنة..

ودهشوا وتساءلوا: لماذا ألفى سنة؟

وكان ردى أن هذا هو عدد السنين - أو عدد القرون - عشرون قرناً عاشها الشعب اليهودى فى التيه قبل أن يعود إلى أرض إسرائيل".

ماذا بقى ليقال الآن بعد ذلك كله؟

وهل مازلنا فى انتظار الرد الإسرائيلى على المبادرة؟

كان رأيى - ومازال ذلك رأيى - أن الرد أمامنا، الرد هو:

"مناحم بيجن" شخصياً؟
 
(3)
نظرة ثانية على الناحية الأخرى
سوء الحظ أو هو شىء آخر؟!

على منتصف الطريق الممتد بحذاء ساحل البحر الأبيض بين الإسكندرية ومرسى مطروح، وإلى الغرب قليلاً من قرية العلمين التى شهدت واحدة من أعظم معارك الحرب العالمية الثانية - تبرز من الأرض على أحد جانبى الطريق لوحة من رخام أبيض تحدد أقصى نقطة تقدمت إليها الجيوش الإيطالية والألمانية - جيوش المحور - فى محاولتها الفاشلة لغزو مصر سنة 1942.

كانت لوحة الرخام الأبيض شاهداً أقيم بأمر من الماريشال "جرازيانى" - القائد العام الإيطالى لقوات المحور - الذى أمر أيضاً بأن تحفر على وجهها جملة مأثورة تحمل توقيعه تحتها - تقول ما ترجمته بالنص عن الإيطالية: "لم تكن تنقصنا الشجاعة... ولكن الحظ"‍‍!

ويبدو أن الماريشال الإيطالى أراد أن يترك وسط الصحراء تسجيلاً باقياً أمام الدنيا وأمام التاريخ يشرح - أو يبرر - وجهة نظره فى سبب هزيمته.

وأتذكر أن الماريشال "مونتجمرى" - القائد البريطانى الذى انتصر فى معركة العلمين - كان هو الذى لفـت نظرى إلى لوحة "جرازيانى" عندما ذهبت معه إلى زيارة مواقع حرب الصحراء الغربية، فى مناسبة ذكرى مرور خمسة وعشرين سنة عليها - سنة 1967. ويومها كنا ثلاثة فى سيارة "مونتجمرى": الجنرال "دى جينجان" رئيس أركان حربه وقت المعركة، والسيد "دنيس هاملتون" رئيس مجلس إدارة "التايمز" الآن وكان من أقرب معاونى "مونتجمرى" وقت الحرب ومن أقرب أصدقائه بعدها، ثم أنا.

وعندما توقفت السيارة بجانب لوحة الرخام، ونزل الماريشال "مونتجمرى" ونزلنا معه، وقف أمام اللوحة وأشار بعصا الماريشالية فى يده إلى نقوشها، وسألنا باسماً:

- "هل رأيتم "أظرف" من هذا الأثر الذى تركه لنا جرازيانى؟"

واستطرد "مونتجمرى" يقول:

- لكم أن توافقوا أو لا توافقوا على كفاءة "جرازيانى" العسكرية... ولكن لا يستطيع أحد أن يختلف معى فى أن الماريشال الإيطالى كان "فناناً".

لابد أن يكون فناناً ذلك الذى يتذكر قبل انسحاب جيوشه، وفى زحمة القرارات التى كان عليه إصدارها - أن يطلب عمال قطع الرخام وحفره وأن يسرح بخياله فيختار جملة لها هذا الرنين الدرامى لكى يسجلوها له على صفحة الحجر... "لم تكن تنقصنا الشجاعة... ولكن الحظ"!

ورحنا جميعاً نتطلع إلى اللوحة فى صمت، والماريشال "مونتجمرى" يواصل تأملاته قائلاً:

- إيطالى فقط هو الذى يملك الحاسة التى تجعله يترك مثل هذا الأثر فى هذه الصحارى... ومع ذلك فنزعة الهرب من المسئولية ليست إيطالية فقط وإنما هى إنسانية... لا أحد على استعداد للاعتراف بسوء التقدير، وهكذا فلابد من دفع المسئولية إلى سوء الحظ"!!

ولست أعرف لماذا تعود هذه الواقعة إلى فكرى عندما أقرأ ما ينشره بعض الكتاب الآن عن "الفرص التى أضاعها سوء الحظ" لحل أزمة الشرق الأوسط:

* لو أن "ريتشارد نيكسون" بقى فى رئاسة الولايات المتحدة إلى نهاية مدته الطبيعية، ولم تسقطه القوى الشريرة التى دبرت مؤامرة "ووترجيت"، لكانت أزمة الشرق الأوسط الآن قد وجدت حلها - هكذا يقولون مثلاً.

* لو أن "جيرالد فورد" نجح فى انتخابات سنة 1976، وعاد إلى البيت الأبيض ومعه "هنرى كيسنجر" وزيراً للخارجية، لكانت أزمة الشرق الأوسط الآن قد وجدت حلها - هكذا يقولون أيضاً.

* لو أن "جولدا مائير" هى التى تتولى الآن رئاسة الوزارة فى إسرائيل، أو لو أن حزب العمل هو الذى يحكم الآن تحت زعامة "شيمون بيريز"، لكانت أزمة الشرق الأوسط الآن وجدت حلها، أو على الأقل طريقها إليه - هكذا يقولون أخيراً.

سوء الحظ وحده فى تقديرهم هو الذى ذهب بـ "نيكسون" و"فورد" و"كيسنجر"، وجاء بـ "مناحم بيجن" إلى رئاسة الوزارة فى إسرائيل.

والغريب أننا لا نتوقف لنسأل أنفسنا:

- أى أمل كان لنا مع رئيس أمريكى خان أمانة منصبه؟ ومع ذلك فما الذى فعله "ريتشارد نيكسون" أكثر من أنه كان الرئيس الأمريكى الذى حصلت إسرائيل فى عهده على سلاح من الولايات المتحدة لم تحصل عليه من قبل عهده... ولم يكن هناك بين قوى العالم جميعها من يستطيع تقديمه لها غير الولايات المتحدة... ثم أليس "ريتشارد نيكسون" هو صاحب الجسر الجوى لإمداد إسرائيل أثناء حرب أكتوبر، وهو الجسر الذى نقول أنه جعلنا نوقف الحرب بمنطق "أننا لا نستطيع أن نحارب أمريكا"!

والغريب أيضاً أننا لا نتوقف لنسأل أنفسنا:

- أى أمل كان لنا مع "فورد" و"كيسنجر"؟ وأليس "كيسنجر" هو الرجل الذى أوصل الموقف التفاوضى العربى إلى حيث هو الآن... ارتباكاً وضعفاً؟ وصحيح أنه ليس من حقنا أن نلومه لأنه تصرف على النحو الذى يراه محققاً لمصالح الولايات المتحدة أولاً وأخيراً. هذا واجبه. ولكن ذلك شىء، وأن نندب الحظ العاثر الذى حرمنا منه شىء أخر... أليس كذلك؟!

والغريب أخيراً أننا لا نسأل أنفسنا:

- هل صحيح أن بسمة الحظ غابت عنا بغياب السيدة "جولدا مائير"، وهل صحيح أن أملنا فى حل أزمة الشرق الأوسط خاب - بسوء الحظ - مع خيبة "شيمون بيريز" فى أن يقود حزب العمل إلى أغلبية فى انتخابات الكنيست الإسرائيلى؟

هل هذا صحيح؟ أو هل هو مما يجوز لنا تصوره؟ وعلى أى أساس؟!

هل يمكن أن نكون قد نسينا التاريخ وفقدنا الذاكرة إلى هذا الحد؟

* كانت "جولدا مائير" - بلحمها وشحمها - رئيسة لأغلبية فى الكنيست من حزب العمل ورئيسة للوزراء فى الفترة التى أقيمت فيها المستعمرات فى الضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء - وكان يقال للعرب صراحةً:

- إذا أردتم أن تعرفوا خريطة إسرائيل الجديدة، فانظروا إلى مواقع المستعمرات الجديدة.... خطوطها هى نفس خطوط حدود إسرائيل"!

* وكانت "جولدا مائير" - بلحمها وشحمها - رئيسة لأغلبية فى الكنيست من حزب العمل ورئيسة للوزراء خلال سنوات طويلة حاول فيها الملك "حسين" - عن طريق الولايات المتحدة وغيرها - أن يجد حلاً للضفة الغربية، ولم يجد أمامه غير "مشروع آللون". وهو مشروع يعطى الأردن بعض مظاهر الوجود الإدارى فى الضفة الغربية، ولكنه يحتفظ عليها بسيطرة المستعمرات الإسرائيلية، محمية بقوة الجيش الإسرائيلى. وكانت القدس خارج أى نقاش. ورفض الملك حسين لسبع سنوات متصلة، وحين طلب إليه أن يخلى مسئوليته عن الضفة الغربية فى مؤتمر الرباط، فإنه وقف ليسجل ما كان معروضاً عليه ورفضه، وتمنى التوفيق للآخرين!

* وكانت "جولدا مائير" - بلحمها وشحمها - رئيسة لأغلبية فى الكنيست من حزب العمل ورئيسة للوزراء حين بعثت إلى الرئيس السادات فى فبراير سنة 1971- عن طريق مبعوث الأمم المتحدة المكلف بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242، وهو السفير "جونار يارنج" - تقول له:

- لو أن ردك على يارنج تضمن ما يعنى قبول مصر لاتفاقية سلام مع إسرائيل، لانتهت المشكلة".

وصدرت التعليمات بأن يتضمن رد مصر وقتها كلمة "اتفاقية سلام"، وكان تعليق "جوناريارنج" - حينما قرأ الرد المصرى ووجد فيه كلمة "اتفاقية سلام" - هو قوله: "لم تبق لدى السيدة حجة"... ومع ذلك فقد بقيت لدى السيدة حجج!!


ويقول أنصار مذهب "الحظ" فى السياسة وإدارة الصراعات: "إن ذلك كله كان قبل المبادرة، وأما بعد المبادرة فقد تغير كل شىء"!

وهذا اعتراض يستحق المناقشة. ومن حظنا - ولا أعرف لحسنه أو لسوئه - أن آراء "شيمون بيريز" الذى حل محل السيدة "جولدا مائير" فى رئاسة حزب العمل، ومقترحاته البديلة للمفاوضات على أساس المبادرة - موجودة أمامنا ومنشورة، فقد أفضى بها "شيمون بيريز" بنفسه إلى "ويليام بيتشر" مساعد وزير الدفاع الأمريكى الأسبق الذى كتب تقريراً عنها نشرته جريدة "البوسطن جلوب" الأمريكية.

كان لقاؤهما فى مكتب زعيم المعارضة فى الكنيست الإسرائيلى.

ولم يكن "شيمون بيريز" يتحدث مع صحفى عادى، وإنما كان يتحدث مع صديق قديم سبق له أن تعامل معه تعاملاً حميماً عندما كان "بيتشر" مساعداً لوزير الدفاع الأمريكى، وكان "شيمون بيريز" مساعداً لوزير الدفاع الإسرائيلى ووزيراً للدفاع الإسرائيلى فيما بعد.

فى بداية هذه المقابلة نقل "ويليام بيتشر" عن "شيمون بيريز" قوله:

"إن حزب العمل لا يرى أن المقترحات المعروضة الآن من "مناحم بيجن" يمكن أن تؤدى إلى نتيجة، ولكن الحزب سوف ينتظر فترة من الوقت ليرى ما إذا كانت هذه المقترحات قادرة على إرضاء مصر، أو على إغراء الأردن لكى ينضم إلى مفاوضات السلام. إننى متشائم، ولكنى أوثر الانتظار قبل تقديم أية مقترحات بديلة".

وكان طبيعياً أن يسأله "بيتشر" عن تصوره للمقترحات البديلة، وكانت إجابة "شيمون بيريز" كما يلى - نقلاً حرفياً عن تقرير "بيتشر" كما ظهر فى "البوسطن جلوب":

- بالنسبة للخطوة الأولى، فإن مشروعى يتفق مع مشروع "بيجن" فيما يتعلق بالضفة الغربية وقطاع غزة، ووجهة نظرنا أن يقوم فيهما نظام إدارة ذاتية لمدة خمس سنوات، وبعد هذه السنوات الخمس فإننا سوف نكون على استعداد لأن نتفاوض من جديد مع الأردن حول الاعتراف بالسيادة الأردنية على أجزاء من هذه المناطق، على أن الحدود الجديدة سوف يجرى تحديدها عن طريق المفاوضات". "إن مشروع "مناحم بيجن" لا يسلم بمبدأ أى سيادة غير إسرائيلية على هذه المناطق، حتى بعد انتهاء فترة السنوات الخمس، وأما نحن فعلى استعداد للتخلى عن السيادة على أجزاء منها".

وهنا سأل "بيتشر":

- أليس ذلك هو مشروع "آللون"؟

وقال "بيريز":

- بالضبط.. هذه هى الخطوط العريضة لمشروع آللون، ولكنها سوف تفتح الباب لاحتمالات مفاوضات على حدود جديدة.

وعاد "بيتشر" يسأل:

- ولكن ما الذى يدعو الملك حسين إلى تغيير رأيه؟ ولماذا يقبل الآن مشروع آللون الذى كان يرفضه من قبل؟.

ورد "شيمون بيريز":

- إن مبادرة الرئيس السادات غيرت الموقف جوهرياً... فى الماضى كان الملك حسين سوف يتصرف - إذا تصرف - وحده. وأما الآن فإن الأردن - إذا قبل - لن يكون وحده. الآن سوف تكون مصر معه. وسوف تكون معه وجهة نظر عربية أوسع "تمثل نظرة جديدة للعلاقات مع إسرائيل".

(هكذا فإنه من وجهة نظر "بيريز" فإن المبادرة لم تكن ضغطاً على إسرائيل، وإنما هو يريدها- أو يتصورها - ضغطاً على بقية الأطراف العربية!!).

وينتقل "ويليام بيتشر" فى حواره بعد ذلك إلى قضية المستعمرات الإسرائيلية فى سيناء، ويرد زعيم حزب العمل بقوله:

- إن هذه المستعمرات تقوم فى منطقة حيوية بالنسبة لإسرائيل، فهذه المنطقة هى بوابات الدخول من سيناء إلى إسرائيل، ولهذا فإنه من الضرورى الاحتفاظ بها، وقد كانت حكومة حزب العمل هى التى أنشأت هذه المستعمرات ضمن تصورها لحل مشكلة الأمن فى ظل اتفاقية سلام.

ولكن "مناحم بيجن" أخطأ فى مشروعه الذى تقدم به.

هو أولاً تسرع فى تقديم اعترافه بالسيادة المصرية على كل سيناء مع رغبته فى الاحتفاظ بالمستعمرات وفقاً لترتيب أمن خاص.

إن السيادة لا تتفق مع بقاء هذه المستعمرات محمية بالجيش الإسرائيلى. إن بقاء هذه المستعمرات محمية بالجيش الإسرائيلى مسألة ضرورية وحيوية لأمن إسرائيل، ولكن كان على "مناحم بيجن" أن يختار أحد بديلين:

- إما أن يعرض على مصر قطعة أرض بديلة فى النقب تضمها إلى أراضيها فى مقابل هذه المستعمرات.

- وإما أن ينتظر مرحلة لاحقة فى المفاوضات يعرض فيها رسم حدود جديدة بين مصر وإسرائيل، بحيث يكون ما تحصل عليه مصر من سيناء بعد هذه الحدود الجديدة تحت سيادتها الخالصة بدون أية قيود".

(هكذا فإن مشروع حزب العمل يقوم إما على سلخ جزء من التراب المصرى وضمه إلى إسرائيل وفق خريطة حدود جديدة... وإما تعويض مصر - إذا أصرت - بقطعة من النقب، أى أن إسرائيل على استعداد لأن تعطى مصر قطعة من أرض فلسطين المحتلة مقابل قطعة من أرض مصر تضم إلى إسرائيل!!).

إن "ويليام بيتشر" لم يشأ أن يقتصر فى استطلاع رأى المعارضة الإسرائيلية على رأى زعيمها الرسمى "شيمون بيريز"، وإنما ذهب أيضاً فاستطلع رأى "إسحق رابين" رئيس الوزراء ورئيس حزب العمل السابق. وكان هو الآخر صديقاً لـ "ويليام بيتشر" من أيام عمله سفيراً لإسرائيل فى واشنطن، وكانت صلته بـ "ويليام بيتشر" - بوصفه مساعداً لوزير الدفاع الأمريكى وقتها - صلة وثيقة ومستمرة.

وكان مشروع "رابين" - كما أسر به إلى "بيتشر" - طبعة أخرى من مشروع "بيريز".

فقد قال "رابين" بالحرف: - إن مشروعى للسلام يقوم على العناصر التالية:

1- تؤجل مسألة السيادة على الأراضى المحتلة لفترة انتقالية مدتها ما بين خمس إلى عشر سنوات.

2- بالنسبة للضفة الغربية وغزة، تقوم إدارة ذاتية يديرها رسميون فلسطينيون.

3- تكون إسرائيل مسئولة عن الأمن.

4- يكون لإسرائيل الحق فى إقامة مستعمرات جديدة، ولكن على أساس يتفق عليه الطرفان - الأردن وإسرائيل.

5- فى نهاية فترة الانتقال، يكون كل شىء قابلاً للتفاوض!

6- بالنسبة لسيناء، فإن المستعمرات التى أقيمت فيها لازمة لأمن إسرائيل، ويمكن تعويض مصر عنها بجزء من النقب الجنوبى.

7- يبدأ العمل على الفور باتفاقيات سلام تتضمن تطبيع العلاقات، بحيث تكون تجربة التطبيع هى الحافز لإسرائيل على أن تكون سخية فى المفاوضات التى تعقب انتهاء مرحلة الانتقال"!

ويبدو أن "بيتشر" لم يناقش فى حواره مع "إسحاق رابين"- كما فعل مع "شيمون بيريز"- تفاصيل مشروعه بالنسبة للضفة الغربية وغزة، ولكنه ركز تساؤلاته حول ما إذا كانت مصر تستطيع قبول مبادلة جزء من سيناء بجزء من النقب الجنوبى، وكان رد "رابين":

- أن "بيجن" و"السادات" كلاهما رفضا هذه الفكرة حينما "انطلقت" فى الجو.

ولكن "بيجن" يجب أن يفكر فى هذا الموضوع جدياً لحل العقدة مع مصر، ومن ناحية أخرى فإن البروفيسور "يادين" - يقصد "ايجال يادين" نائب رئيس الوزراء الإسرائيلى - جس نبض مسئول مصرى كبير حولها، وأحس من الرد الذى تلقاه أن الفكرة يمكن أن تكون موضع بحث"!!

(وهذه هى المعارضة التى شاء سوء الحظ أن يقتلعها من الحكم قبل الأوان... والتى لو أنها كانت هناك لاختلفت الأمور وتغير مجرى التاريخ، ولكنه سوء الحظ - كما يقولون!!).

لكن القصة مع "الحظ" لم تتوقف عند هذا الحد، فمازالت هناك آمال معلقة، إذا حدث وهبت رياح مواتية - كما يقول القائلون.
وعلى سبيل المثال، فإن الحظ مفتوح الآن للحسن أو السوء - ! - إذا حدث واستطاعت الولايات المتحدة - وفق بعض الأقوال - أن ترغم "مناحم بيجن" على الخضوع.

واللافت للنظر أن هذه الأقوال لا تحدد نقط الخلاف بين "بيجن" والولايات المتحدة، ونقط الاتفاق بينهما، لكى يستطيع الآخرون أن يعرفوا ما هو هذا الذى تريد أمريكا أن ترغم "بيجن" عليه... وعلى فرض أنه أرغم، فهل هذا الذى أرغم عليه مقبول من وجهة النظر العربية أو هو غير مقبول.

وإذا جاز لنا أن نقبل شهادة "بيجن" فى نقط الاتفاق بينه وبين الولايات المتحدة، فسوف نجد - بشهادة "بيجن" - أن الاتفاق بين الاثنين كامل على ما يلى:

1- لا دولة فلسطينية مستقلة بين نهر الأردن والبحر الأبيض.

2- لا دور لمنظمة التحرير الفلسطينية فى أية مفاوضات.

3- أن القوات الإسرائيلية لابد لها من البقاء فى الضفة الغربية للأردن وفى قطاع غزة، حتى بعد إجراء استفتاء تراه الولايات المتحدة بعد خمس سنوات، ومهما كانت نتيجة هذا الاستفتاء الذى لا يعرف أحد ما هى الأسئلة التى سيطرحها، وإن كان "بيجن" يرفض فكرة الاستفتاء من أساسها.

أليس أن معرفة "المشروع الأمريكى" كاملاً ضرورية قبل أن ننتظر إرغام الولايات المتحدة لـ "بيجن" على شىء، أو فشلها فى إرغامه؟

لعلى أضيف هنا أننى واحد من الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة تستطيع أن تمارس بعض الضغط على إسرائيل، ولكن الضغط الأمريكى لا يتحرك وحده ومن تلقاء نفسه، وإنما هو يتحرك بفعل ضغوط أخرى عليه هو نفسه، وهذه الضغوط مصدرها عربى ودولى، وأعترف أننى لا أرى فى الساحة حتى الآن أثراً لها (وتلك قصة أخرى!).

لكن أنصار "الحظ" مازال عندهم أمل فى ريح مواتية أخرى... فى محاولة أمريكية لتغيير التحالف الحاكم الآن فى إسرائيل بتحالف آخر لا يرأسه "مناحم بيجن"، أو بالبحث عن تحالف جديد فى إطار انتخابات جديدة للكنيست تجرى فى إسرائيل.

ولست أعرف ما الذى يمكن أن يعرضه أى تحالف حاكم فى إطار نفس الكنيست القائم الآن - ولدينا مشروعات "بيريز" و"رابين" وغيرهما؟

كذلك فلست أعرف ما الذى يمكن أن تسفر عنه أية انتخابات لكنيست جديد، وخشيتى أننا سوف نجد أمامنا "مناحم بيجن" مرة أخرى معززاً بتفويض أقوى!

إن المشكلة فى إسرائيل ذاتها، وليست فى أى تحالف يحكمها. وإسرائيل تريد السلام بلا شك، ولكنها تريده سلامها.

وإسرائيل - مع السلام - تريد الأرض، سواء بدعوى التوسع أو بدعوى الأمن.

ونقطة الخلاف الجوهرية هى فى الواقع بين الذين يريدون الأرض بدعوى التوسع - أى كامل أرض إسرائيل - أو الذين يريدون الأرض بدعوى الأمن، وهكذا فإنهم يكتفون بمجرد طلب السيطرة عليها عن طريق الجيش الإسرائيلى. وواقع الخلاف أن الذين يطالبون بكامل أرض إسرائيل سوف يواجهون بمشكلة السكان العرب الذين يعيشون فى الضفة الغربية وقطاع غزة... وجود هؤلاء السكان سوف يؤثر فى "النقاء اليهودى للدولة"، وهو أساس الفكرة الصهيونية، وهذا ما يقوله أنصار المطالبة بالاكتفاء بالسيطرة عليها بوجود الجيش الإسرائيلى.

أى أن أنصار التوسع يرون للدولة اليهودية حدوداً واحدة، هى كامل أرض إسرائيل.

وأما أنصار الأمن فيرون للدولة اليهودية نوعين من الحدود: حدود الدولة اليهودية ذاتها، وحدود الأمن اللازمة لها.

وأنصار "الحظ" لا ييئسون، والحظ كما نعرف رمية زهر، وهكذا تجمع التصورات إلى احتمالات أخرى قد تجىء بها رياح مواتية.

ربما بقى التحالف الحاكم، وبقى "بيجن" على رأسه.

وربما جاء تحالف جديد، وعاد إليه "بيجن" أو لم يعد.

مازال هناك شىء آخر.

والغريب أن هذا الشىء الآخر ظاهر أمامهم فى إسرائيل، وقد ذهب به صحفى إسرائيلى بارز - يتردد كثيراً على القاهرة هذه الأيام - وطرحه أمام مسئول مصرى كبير.

وقال هذا الصحفى الإسرائيلى البارز لمحدثه:

- إن الحكومة فى إسرائيل ترى أنكم تقومون بمناورة لا يفهمونها.

فأنتم - فيما يبدو لهم - تتصورون أنه فى مقدوركم إحداث خلاف بين "بيجن" رئيس الوزراء وبين "ايزر وايزمان" وزير الدفاع. إن حدوث هذا الخلاف صعب، ليس لأن العلاقات بين "بيجن" و"وايزمان" وثيقة إلى أبعد حد...

لقد اختلف الاثنان من قبل، ويمكن لهما أن يختلفا اليوم وغداً وبعد غد.

"ولكن المشكلة أن آراء "وايزمان" لا تقل تشدداً عن آراء "بيجن". كل ما هناك أن "وايزمان" واحد من الذين يعتقدون أنه يمكن إخراج مصر من الصراع بصلح منفرد مع إسرائيل، إذا تركت له حرية فى التاكتيك. وقد تركوا له مثل هذه الحرية. ولهذا فإنه يجب عليكم أن تلعبوا أوراقكم بحذر".

وحين سئل الصحفى الإسرائيلى البارز:

- "وإذن، ما الذى تنصح بعمله؟"

كان رده:

- "لا "بيجن" ولا "وايزمان"... عليكم أن تعملوا على تغيير قناعات الرأى العام الإسرائيلى... لا تتركوا مظاهرة هنا أو مظاهرة هناك تؤثر عليكم.. إن العملية شاقة وطويلة... أمامكم عشر سنوات على الأقل من العمل للتأثير على الرأى العام الإسرائيلى، فهو الأساس الذى تقوم عليه كل الأحزاب ويعبر عنه كل الساسة".

وفجع المصرى المسئول، وقال مستنكراً:

- "عشر سنوات... عشر سنوات؟ هل هذا معقول؟"

وكان رد الصحفى الإسرائيلى البارز:

- "إن بيجن يقول للإسرائيليين كل يوم: إن صراع ثلاثين سنة لا ينتهى فى ثلاثة أيام أو ثلاثة شهور أو ثلاث سنين، ولهذا كفوا عن النظر إلى ساعاتكم..." وأنا أقترح أن تفعلوا أنتم أيضاً نفس الشىء.

وكان تعليقى على هذا الحوار، حين تناهت إلى أطراف منه:

- بدلاً من عشر سنوات لتغيير قناعات الرأى العام فى إسرائيل - فإن سنة أو سنتين هى فترة كافية لتغيير أوضاع العالم العربى، ولخلق موازين جديدة فيه.

"ذلك أدعى إلى التأثير وأقرب إلى الحل من كل ألعاب الحظ".

قلت ذلك، ومازلت أقوله، وأضيف إليه:

- على الأقل كان الماريشال "جرازيانى"... إيطالياً فناناً!!
 
(4)
نظرة ثانية على الناحية الأخرى
10 مستعمرات و3 مطارات وشرم الشيخ
فى أية محاولة لإلقاء نظرة جديدة على الناحية الأخرى - فإن قدراً كبيراً من الاهتمام يجب أن يتركز على جهاز القوة الإسرائيلى، أو المؤسسة العسكرية فى إسرائيل. والسبب البديهى لذلك أن القوة عنصر رئيسى من عناصر الحلم الصهيونى. فليس يمكن لأسطورة أن تعيش ضد الطبيعة والتاريخ بغير سند من القوة تفرض وتعزز، حتى وإن تدنت إلى مستوى العنف والإرهاب.

ومن هنا، فإن الجيش الإسرائيلى يصبح - من حيث المهام الموكولة إليه - ظاهرة غريبة فى نوعها، فهو جيش لا يدافع عن الحدود المرسومة لدولة معينة فحسب، ولكنه - إلى جانب ذلك - يحارب من أجل تصورات عقيدة مازالت تتشكل، ومازالت حدودها قابلة للاتساع. وقد يقال إن هناك جيوشاً عقائدية أخرى فى العالم غير إسرائيل، وهذا صحيح مع فارق خطير... ففى غير إسرائيل تتمثل العقيدة فى نظام اجتماعى تحميه القوات المسلحة داخل حدود الدولة، ولكن حالة إسرائيل تختلف، فالحلم العقائدى ليس نظاماً، وإنما هو أرض. وهنا صميم المشكلة!

وربما استطعنا - بنظرة سريعة على خطوط المواجهة مع إسرائيل - أن نكتشف مهام الأمن ومهام العقيدة بالنسبة للجيش الإسرائيلى.

فعلى جبهة سيناء وجبهة الجولان مهام أمن (مصادر الخطر المباشر على أمن الدولة).

وفى الضفة الغربية وغـزة والقدس مهام عقيدة (مجال التوسع المحتمل الذى تطلبه الصهيونية).

هذا مع العلم أن هناك تداخلاً - بالضرورة - بين مهام الأمن ومهام العقيدة. وسبب هذا التداخل أن الجيش الإسرائيلى المكلف بالمهمتين هو فى النهاية جيش واحد، ومن ناحية أخرى فإن العالم العربى الذى يواجه إسرائيل من كل ناحية يحركه تيار واحد.

وعلى هذا الأساس فإن نظرية العمل الإستراتيجى بالنسبة لإسرائيل قامت - منذ أول لحظة - على ضرورة تحقيق المطالب التالية:

1- إنهاء الوجود الوطنى المتماسك للشعب الفلسطينى. وإجهاض أية محاولة لتنظيم هذا الشعب سياسياً أو تسليحه عسكرياً، ولو كان ذلك فى المنفى. والمنطق فى ذلك أن أى وجود وطنى فلسطينى متماسك هو نفى من الأساس للعقيدة الصهيونية، أى أن فلسطين هى نفى لإسرائيل. وهذه قضية لا تقبل المساومة، وليست فيها أنصاف حلول!

2- عزل مصر سياسياً عن بقية الأمة العربية، باعتبارها الدولة المهيأة الآن لتجسيد حركة الوحدة العربية (وهى العدو الرئيسى بالنسبة لإسرائيل). فإذا استحال عزل مصر سياسياً عن بقية الأمة العربية، فإن البديل هو إنهاك القوة المصرية باستمرار، والبدء بتوجيه أقسى الضربات إليها فى حالة بدء المعارك - حتى تخرج مبكراً من الصراع، وحتى تتحول من "مثال" عربى إلى "أمثولة" للعرب!

3- إذا خرجت مصر - بعزلها سياسياً أو بضربها عسكرياً - فإن ذلك سوف يؤدى تلقائياً إلى تجميد موقف سوريا، فهى لا تستطيع مواجهة إسرائيل فى حرب على جبهة واحدة - علماً بأن الحرب على جبهتين كابوس يؤرق إسرائيل إذا فكرت فيه - يضاف إلى ذلك أن تجميد سوريا كفيل بتعطيل أية محاولة لإقامة أى نوع من أنواع التحالف الإقليمى على الجبهة الشمالية.

4- إذا خرجت مصر وإذا تجمدت سوريا، فإن فلسطين كلها - وهى مطمع العقيدة الصهيونية المطالبة بكامل أرض إسـرائيل - تصبح منطقة مفرغة من أى قوة عربية قادرة على التصدى. وهذا يعطى لإسرائيل حرية التصرف المطلقة من البحر إلى النهر، وربما وراء النهر أيضاً.

5- إن صلات إسرائيل ينبغى أن تكون مفتوحة بالعالم الواسع خارج النطاق العربى المحيط بإسرائيل، ولتحقيق ذلك فإن الطيران الإسرائيلى يجب أن يكون هو القوة المسيطرة على أجواء هذه المنطقة الحساسة التى تلتقى عندها أفريقيا وآسيا، ويتصل فيها البحر الأبيض بالبحر الأحمر.

وفى نفس الوقت فإن طريق البحر الأحمر يجب أن يظل مفتوحاً بالقوة الإسرائيلية. وفيما يتعلق بالبحر الأبيض فإن الأسطول الأمريكى السادس ومعه أساطيل بقية حلف الأطلنطى تستطيع أن تضمن الطرق البحرية فيه. إن الضرورات الاستراتيجية لأى طرف لا تتغير بتغير الفصول، وإنما الذى يتغير هو تطبيقاتها مع متابعة نفس الأهداف.

وليس من شك أن المتغيرات الكثيرة التى تلاحقت على المنطقة فى السنوات الأخيرة، وأبرزها النتائج السياسية التى انتهت إليها حرب أكتوبر، وظهور قوة البترول العربى وفوائض أمواله، وما سمى بمبادرة السلام - كل هذه المتغيرات تستوجب تطبيقات استراتيجية إسرائيلية جديدة - ولكننا نستطيع القول بأن البحث مازال مستمراً لأن الظروف كلها مازالت فى حالة سيولة. لكننا - برغم ذلك - نستطيع أن نلمح بعض المحاولات الإسرائيلية، ونستطيع من دراستها أن نحكم على اتجاهات التفكير وراءها. وبعض هذه المحاولات مزعج، وبعضه شبه مستحيل، ولكن مدارس التفكير الإستراتيجى الحديث تعتمد الآن على منطق "تجربة المستحيل، ففى بعض الظروف تكون المستحيلات أقرب الممكنات".

على هذا الأساس فإن بعض المحاولات الإسرائيلية تبدو الآن وكأنها تطرح أسئلة، وتروح تتابعها لتختبر إمكانياتها فى الحال وفى المستقبل - ومن ذلك على سبيل المثال ما يلى:

* هل يمكن إغراء مصر بصفقة تنقل بمقتضاها تركيزها من الشرق إلى الغرب... أى من آسيا إلى أفريقيا؟

* هل يمكن أن تقتنع مصر أن "مجالها الحيوى" هناك، وأن اتجاهها المشرقى لم يصل بها إلا إلى تورط فى الصراع العربى الإسرائيلى لم يعد عليها بفائدة، وإنما عاد عليها بالخسارة؟!

وفى الصيف الماضى - صيف سنة 1977 - وصلت إسرائيل إلى حد جعلها تتصل بطرف دولى ثالث تربطه علاقة بمصر، وتطلب إليه نقل رسالة منها إلى القاهرة مؤداها:

- إذا كانت القاهرة تريد تطوير عملياتها ضد ليبيا، وتخشى من أية محاولة إسرائيلية لاستغلال انشغال مصر بحدودها الغربية، فإن إسرائيل على استعداد لأن تقدم إليها ما تشاء من الضمانات".

ورفض هذا الطـرف الدولى الثالث نقل هذه الرسالة إلى القاهرة. وكانت نصيحته لإسرائيل: "أن الاشتباكات بين مصر وليبيا لها إطار محدود، وإن أية محاولة إسرائيلية للصيد فى المياه العكرة سوف تجىء بنتائج عكسية".

وفى هذا كله فإن إسرائيل لم تستطع أن تفهم أن توجه مصر نحو المشرق كان نتيجة انتماء قومى، ولم يكن عملية بحث عن "مجال حيوى"!

* هل يمكن أن يقوم محور جديد فى المنطقة بين طهران والقدس والقاهرة؟

هذه كلها - فى تصورات إسرائيل - مراكز غير عربية على حواف المنطقة العربية تقليدياً، وهى المشرق العربى. وإذا استطاعت هذه العناصر غير العربية أن تتعاون فيما بينها، فإنها تستطيع أن تحول نفسها من وضع الحافة إلى وضع الطوق:

"مصر وإسرائيل على الشاطئ الشرقى للبحر الأبيض، وقد يتعاون معهما موارنة لبنان.

وإيران هناك على رأس الخليج.

إن هذا الطوق يستطيع تحزيم كل بترول الشرق الأوسط، وبهذه الطريقة فإنه يستطيع أن يقدم نفسه للغرب الذى سوف يسره دون شك أن تستطيع قوة محلية أن تضمن له مصالحه الحيوية من داخل المنطقة وليس من خارجها".

أليس هذا هو المستحيل بعينه؟!




* هل يمكن انشغال السعودية - لأى سبب - عن الاهتمام المباشر بالصراع العربى الإسرائيلى؟ إن اهتمام السعودية بالصراع العربى الإسرائيلى هو الذى يؤدى إلى إدخال عنصر الضغط الأمريكى على إسرائيل فى أزمة الشرق الأوسط. إن انشغال السعودية هدف يساوى فى هذه المرحلة هدف عزل مصر.

وربما كان ضيق إسرائيل بصفقة طائرات "ف- 15" التى تطلبها الرياض من واشنطن راجعاً إلى هذه المسألة بالذات.

فالمخطط العسكرى الإسرائيلى لا يمكن أن يطمئن إلى وجود خمس وسبعين من هذه الطائرات فى المملكة العربية السعودية قرب إسرائيل - ولهذا فإن عليه أن يرسم من الآن عمليات لتدميرها فى الدقائق الأولى من الساعة الأولى فى أى حرب محتملة.

ومثل ذلك يقرب السعودية من ساحة الصراع العربى الإسرائيلى، بدل أن يشغلها عنه، وهو ما لا تريده إسرائيل، لأن معناه فى تقديرها أن البترول سوف يدخل المعركة على نحو أو آخر، وكذلك سوف تدخلها فوائض أمواله بوسيلة أو بأخرى، وذلك كله سوف يجىء بالولايات المتحدة إلى ساحة الصراع فى دور لا تستطيع إسرائيل أن تتحكم فيه.

إلى هذا الحد يجمح التفكير فى المستحيل؟!

وقد نتساءل، ونحن نلمح هذه المحاولات الإسرائيلية:

- إذا كان ذلك كله مما يجرى التفكير فيه - أو يمكن التفكير فيه - فكيف نستطيع تفسير موقف إسرائيل المتعنت - على سبيل المثال - تجاه مصر؟

وألم يكن الأولى بالمفاوض الإسرائيلى أن يكون أكثر مرونة معها فى شروطه، لكى يسهل لها عملية الخروج من دورها العربى؟

وما هى قيمة التمسك بعشر مستعمرات وثلاثة مطارات فى شمال سيناء، وبميناء صغير فى شرم الشيخ إلى الجنوب من شبه الجزيرة؟ ما هى قيمة تلك كلها إزاء المطلب الاستراتيجى الكبير الذى يهدف إلى إخراج مصر من الصراع العربى الإسرائيلى؟

والسؤال فى محله بغير جدال، والدليل على ذلك أن النقاش من حوله هو محور كل حديث فى إسرائيل الآن. لكن الرد - من وجهة نظر صانع القرار الاستراتيجى فى إسرائيل، ومن وجهة نظر المؤسسة العسكرية المسئولة عن تنفيذ هذا القرار على الأرض، وبالسلاح إذا لزم - رد جاهز وتحت الطلب. والرد هو:

- إن طلب المستحيل ممكن. ولكن الترتيبات العملية لقضية حيوية كقضية الأمن لا يمكن أن توضع على غير الواقع وحده. وعندما يتحقق المستحيل فإننا سوف نعيد التفكير من جديد، وقد نغير من ترتيباتنا على الأرض. وأما الآن فلا خيار، وأعترف أننى - قبل ما سمى بـ "مبادرة السلام" المصرية - كنت أظن أن إسرائيل لن تعاند إلى النهاية فى شأن سيناء: المستعمرات والمطارات وشرم الشيخ.

كان ظنى أن إسرائيل سوف تكون على استعداد لأن تعطى فيها بمقدار ما تأخذ من مصر فى دورها العربى والفلسطينى. ولم يكن ذلك حلاً سعيداً ولا موفقاً. ولم يكن لائقاً بمصر سياسياً، ولا حتى أخلاقياً، ولكنه كان يحوم كنوازل القدر، يتحسب الناس وقوعها ولا يملكون ردها!

هكذا فإننا حتى فى سيناء - وبصرف النظر عن كل المطلوب فى فلسطين لـ "مهام العقيدة" - سوف نواجه بمشاكل حقيقية وترتيبات يراد فرضها بدعوى "مهام الأمن" - وذلك يفرض علينا أن نلقى نظرة على التفكير العسكرى الإسرائيلى بالنسبة للمستعمرات والمطارات وشرم الشيخ - فى سيناء.

* ونبدأ بالمستعمرات: وهنا نجد أن التفكير العسكرى الإسرائيلى يثير النقط التالية:

1- إن المنطقة التى أقيم فيها ميناء "ياميت" ومجموعة المستعمرات المحيطة به فى شمال سيناء هى منطقة إستراتيجية خطيرة فى أهميتها، فهى تعتبر تقليدياً مدخل أى تقدم مصرى إلى فلسطين، وذلك باب لا تتركه إسرائيل لغيرها، كما أنها لا تتركه مفتوحاً. ومن ناحية أخرى يرى عدد من الخبراء العسكريين - وبينهم إسرائيليون - أن هذه المنطقة فى الواقع ليست بوابة مصر إلى فلسطين، وإنما هى بوابة أى داخل من فلسطين إلى مصر، فهى فى تقديرهم المدخل إلى ما يسمونه "صحن سيناء"، وهو مدخل لا تريد إسرائيل أن تجده مغلقاً أمامها فى أى وقت. فالظروف الراهنة فى المنطقة ليست مضمونة البقاء، وحالة الهدوء السائدة قد تتبدد غداً بفعل طارئ لم يكن فى الحسبان. ولهذا فإن الطريق يجب أن يكون سالكاً إلى "صحن سيناء" حيث تستطيع إسرائيل أن تنفذ إليه بسرعة وتواجه أى خطر فى منتصف الطريق بالأسلوب الذى تتقنه أكثر من غيره، وهو العمليات المشتركة بين الطيران والمدرعات، خصوصاً وأنها الآن درست الأرض وتمكنت من استيعاب خصائصها. وصحيح أن الاتفاقيات السارية الآن تحدد أقصى خط يصل إليه تواجد القوات المصرية بخط فك الاشتباك الثانى غرب المضايق، ولكن من يستطيع أن يضمن المفاجآت؟ وهكذا فإنه حتى تتمكن إسرائيل من تهيئة الأوضاع الملائمة لسلامها هى - بصرف النظر عن سلام الآخرين - فإن بوابة الدخول والخروج من سيناء وإليها لابد أن تكون تحت حراستها.

2- إن المستعمرات الإسرائيلية فى هذه المنطقة لها دور آخر لابد أن تقوم به، وهو دور الحاجز الذى يفصل بين آخر تجمع سكانى مصرى فى العريش وأول تجمع سكانى إسرائيلى فى قطاع غزة، وقطع الاتصال بين الشعبين - إلا تحت رقابة وسيطرة إسرائيلية - مطلب أساسى، خصوصاً بالنسبة لـ "مهام الأمن" فى قطاع غزة، حتى يتم فيه تنفيذ "مهام العقيدة"... إن هذا القطاع لابد له أن يعزل عزلاً مادياً عن أى اتصال بمصر. ومن ناحية أخرى فإن السكان المصريين فى سيناء يجب أن يتعودوا أنه عند نهاية خط حدود بلادهم يوجد هناك "إسرائيليون".

3- إن هذه المستعمرات - مع قبول إسرائيل لوجودها تحت السيادة المصرية الاسمية، وفى الحماية الفعلية لقوات الجيش الإسرائيلى، وهو تلاعب بالحقائق مثير - تستطيع أن تكون جهاز اختبار يومى لحسن التصرف وحسن النوايا المصرية تحت يد الإسرائيليين. وبتعبير ورد على لسان "وايزمان" وزير الدفاع الإسرائيلى:

- لا تأخذوا هذه المستعمرات عـلى أنها احتلال... سكانها لا يزيدون الآن على ثلاثة آلاف، ولست أظن أنه ستبقى معهم لحمايتهم أكثر من فصيلتين من الجيش الإسرائيلى. فهل يمكن أن يسمى ذلك احتلالاً؟... الحقيقة أنه يمكن اعتبار الوضع كله واحداً من ترتيبات الأمن التى تستهدف الإنذار المبكر، وذلك حتى يجىء السلام الكامل، فتكون هذه المستعمرات مجتمعات مدنية - زراعية أو صناعية أو تجارية - فى دائرة تشابك المصالح بين مصر وإسرائيل!!

* والآن إلى المطارات:

إن إسرائيل تمسكت حتى الآن - وبشكل متعنت - بثلاثة مطارات فى سيناء.

وهى مطار "ايتام" القريب من رفح، ومطار "اوفيرا" القريب من شرم الشيخ، ومطار "آتزيون" القريب من قلعة "طابا" القديمة على خليج العقبة (وربما بادرت إلى الاعتذار عن تسمية المطارات بأسمائها الإسرائيلية ولكن هذه هى الأسماء المكتوبة على الخرائط المستعملة على موائد المفاوضات!).

وهناك مطارات أخرى فى سيناء، أكبرها مطار "الجفجافة" الذى أطلقت عليه إسرائيل اسم "رافيديم" - ولكن إسرائيل فيما يظهر لا تتمسك بها، على عكس تمسكها حتى الآن بالمطارات الثلاثة التى أشرت إليها.


ووجهة نظر إسرائيل فى التمسك بالمطارات الثلاثة - "ايتام" و"اوفيرا" و"آتزيون" - طبقاً لكلام "ايزر وايزمان" - وهو رأس المؤسسة العسكرية الإسرائيلية الآن بوصفه وزير الدفاع، كما أن صلته الخاصة بأجواء ساحة الصراع وثيقة منذ كان قائداً لسلاح الطيران - وعلى أساس شرح قدمه فى الولايات المتحدة الأمريكية فى شهر مارس الأخير، وترددت أصداء له فى محادثاته مع بعض من التقى بهم من العرب - كما يلى:

1- إن المطارات الثلاثة ذات أهمية قصوى بالنسبة لإسرائيل، فمطار "ايتام" ضرورى لحماية طرق الاقتراب إلى غزو إسرائيل من سيناء - ! - وهو على هذا النحو جزء لا يتجزأ من نظام المستعمرات المقامة فى منطقة رفح. وأما مطارى "اوفيرا" و"آتزيون" فهما لازمان لحماية "ايلات" من ناحية، ولضمان حرية الملاحة فى خليج العقبة من ناحية ثانية، ومن ناحية ثالثة - خصوصاً بالنسبة لمطار "أوفيرا" - لحماية مسالك إسرائيل البحرية فى البحر الأحمر وحتى باب المندب. وبدون مطار "أوفيرا" - هكذا يقول "وايزمان" - فإن الطيران الإسرائيلى لا يستطيع الوصول - فضلاً عن العمل - فوق هذا المدخل الحيوى عند الجنوب للبحر الأحمر.

(ذكر "وايزمان" سامعيه بما كتبه فى مذكراته التى أصدرها بعنوان "على أجنحة النسور"، أنه فقد أعصابه يوم صدر الأمر سنة 1957 بالجلاء عن سيناء، لأنه كان يدرك حاجة الدفاع الإسرائيلى إلى مطاراتها. وكان "وايزمان" قد كتب فى مذكراته أنه فى ذلك اليوم قاد طائرة صغيرة فوق العريش، ونزل واطئاً حتى أصبح طيرانه بين رؤوس النخيل على شاطئ البحر، ثم وجد نفسه فجأة يصرخ فى الجو وحده: "سوف نعود... سوف نعود... تذكروا أننا سوف نعود).

2- إن مطارات سيناء ضرورية للسلاح الجوى الإسرائيلى فى أى حرب مقبلة فى الشرق الأوسط، حتى وإن لم تكن مصر بين المشتركين فيها، إن مطارات سيناء بعيدة عن أى ضربة جوية يمكن أن تقوم بها طائرات إحدى دول الجبهة الشرقية. وطبقاً لرأى "وايزمان" فإن إسرائيل لم يعد فى مقدورها توجيه ضربة واحدة قاضية ضد الأسلحة الجوية العربية بحيث تضمن السيطرة على الجو، ذلك لأن الدول العربية كلها درست وسائل الحماية والإخفاء التى اتبعتها مصر بعد سنة 1967، ومعظمها حصل على تصميمات دشم الطائرات التى توصلت إليها مصر سنة 1968، وبالتالى فإنها قادرة على العمل لفترة طويلة بعد بدء المعارك، ولهذا فإن الطيران الإسرائيلى يجب أن يأخذ حذره، ويجب أن ينتشر.

وليس هناك انتشار ممكن فى رقعة إسرائيل، وهى محدودة، خصوصاً مع التوسع الضخم فى السلاح الجوى الإسرائيلى، وفى الأسلحة الجوية للدول العربية، وبخاصة على الجبهة الشرقية كما هى الآن فعلاً، أو كما يمكن أن تكون احتمالاً.

وبالنسبة للتوسع يقول "وايزمان" إن إسرائيل كان لديها سنة 1967 قرابة مائتين من طائرات الخط الأول، والآن فإن لديها ستمائة طائرة، وهى تريد فى ظرف أربع سنوات - أى سنة 1982 - أن يصل العدد إلى ألف طائرة خط أول.

وفى مقابل ذلك فإن الدول العربية على الجبهة الشرقية تملك الآن أكثر من ألف طائرة، بينها ثمانمائة طائرة تملكها سوريا والعراق. يضاف إلى ذلك أنه ليس فى مقدور أحد أن يتنبأ - فى حالة حدوث معارك على الجبهة الشرقية - بالطريقة التى يمكن أن تتصرف بها المملكة العربية السعودية، خصوصاً فى حالة حصولها على طائرات "ف- 15". وصحيح أن الولايات المتحدة أكدت لإسرائيل أن هذه الطائرات سوف يتم تسليمها على فترة خمس سنوات، وأنها سوف تعمل من مطارات فى جنوب السعودية قرب منابع البترول، وليس فى شمالها قرب إسرائيل، وأن خبراء أمريكيين سوف يشتركون فى تشغيلها بما يكفل رقابة مباشرة على مجالات عملها، فضلاً عن تعهد قاطع بعدم جواز نقلها من السعودية إلى أى دولة عربية أخرى فى أى وقت وفى أى ظرف - صحيح هذا كله، ولكن إسرائيل تعرف بالتجربة أنه فى حالة بدء معارك فإن تصاعد المشاعر العربية يولد ضغوطاً تصعب مقاومتها مهما كانت التعهدات السابقة المعطاة بعكسها.

3- إن أجواء سيناء المحيطة بالمطارات مهمة لإسرائيل فى مجال التدريب، فضلاً عن مجال العمليات، فالمجال الجوى لإسرائيل ضيق، والمطارات الصالحة للتدريب فيها أربعة، بما فيها مطار "بن جوريون" الدولى، وحتى هذه المطارات الأربعة لا تملك من حولها مساحة كافية للانطلاق - فإن أى طيار إسرائيلى لا يكاد ينطلق شرقاً حتى يجد نفسه على وشك اقتحام المجال الجوى الأردنى، ولا يكاد ينطلق شمالاً حتى يجد نفسه على وشك اقتحام المجال الجوى السورى، ولا يكاد ينطلق غرباً حتى يجد نفسه فوق البحر الأبيض وأساطيل القوى الكبرى فيه - وأجواء سيناء وحدها هى التى تعطى للمجال الجوى الإسرائيلى عمقه الضرورى فى التدريب، وقد تعود الطيران الإسرائيلى عليها خلال السنوات العشر الماضية، إلى درجة أنه لم يعد يستطيع الاستغناء عنها - ! - ولم تعد هيئة أركان الحرب ولا قيادة السلاح الجوى قادرة على تصور التوسع الجارى فى قوة إسرائيل الجوية بغير مطارات سيناء.

ويقول "وايزمان" إن دولاً فى أوروبا الغربية حلت مشكلة الفضاء الجوى اللازم للتدريب بوسائل فادحة التكاليف، ومن ذلك مثلاً أن ألمانيا الغربية تبعث طياريها إلى "أريزونا" فى الولايات المتحدة ليتدربوا فى سماوات مفتوحة. وإسرائيل لا تستطيع أن تجارى ألمانيا الغربية. ثم لماذا تفعل ذلك وصحراء سيناء أقرب إليها من صحارى أريزونا؟!

هذا عن المطارات...

* وأخيراً تجىء قضية شرم الشيخ، وهى قصة طويلة ذائع أمرها فى تصورات الأمن الإسرائيلى وفى مهامه، إلى درجة تغنى عن أى تفصيل.

وهكذا نصل إلى طريق شبه مسدود... حتى فى سيناء!

إن إسرائيل ليست على استعداد لأى مغامرة فيما يتعلق بمهام العقيدة ومهام الأمن، حتى إذا كانت هذه المغامرة فى سبيل تسهيل تحقيق مطلب إستراتيجى هام بالنسبة لها كمطلب إخراج مصر من الصراع.

إن تجربة المستحيل ممكنة، ولكن الخطط توضع على الأمر الواقع وحده.

ونجد أمامنا هذا المشهد العجيب الذى نراه اليوم:

تحاول إسرائيل إغراء مصر بإخراجها، وفى نفس الوقت فإنها على غير استعداد للتضحية بعشر مستعمرات وثلاثة مطارات وميناء صغير فى شرم الشيخ.

............

............

وهكذا يفكرون وتحت أيديهم سلاح نووى!

ونحن؟ ماذا أقول؟!

تم بحمد الله وضع الكتاب كاملا


وشكرا جزيلا للإبن العزيز الأستاذ أحمد فرحات




د. يحي الشاعر
 
عودة
أعلى