حديث المبادرة ... بقلم محمد حسنين هيكل
تكملة لمحاولة تجميع ما يمكن ، من وثائق عن الأحداث التاريخية ، لا بد من أن لا ننسي الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل ، وما دونه في كتبه
فيما يلي حديث المبادرة ... بقلم محمد حسنين هيكل
د. يحي الشاعر
حديث المبادرة: واحد من مصر
طوال الشهور الأربعة الأخيرة فرضت على نفسى نوعاً من الصمت غير الذهبى.
أعنى أنه لم يكن من ذلك النوع الذى تدعونا إليه الحكمة القائلة بأنه "إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب".
كان آخر ما كتبته قبل أربعة شهور، وكان موضوعه البحث عن إستراتيجية عربية. فقد كان يزعجنى كما يزعج غيرى بالقطع ذلك الضياع الذى تردت إليه أوضاعنا وقضايانا العربية، والذى كان مرجعه فى رأيى إلى انعدام الرؤية السليمة للمنهج والهدف فى سياساتنا.
وبينما حاولت أن أقدم تصوراً لما يمكن عمله تحت عنوان "بدلاً من الظلام شمعة"، فقد وجدتنى فى نفس الوقت أحذر من أننا فى غيبة التصميم على وشك تسليم أقدارنا للمصادفات تلعب بها كما تشاء الأهواء - ما لم نسارع بحزم إلى تدارك خطانا وتصحيح مسارنا..
كان ذلك آخر ما كتبته قبل أربعة شهور، وبعدها ذهبت إلى رحلة أوروبية قادتنى فى البداية إلى أثينا للمشاركة فى ندوة دولية عن مستقبل الديمقراطية، ثم إلى فلورنسا أحاول أن أتابع القلق الإيطالى العنيف فى الشمال الذى أوشك أن يتحول إلى ساحة حرب أهلية، ثم إلى زيورخ أتقصى مصير ومآل أموال البترول العربى، وأخيراً إلى لندن التى مازالت فى نظرى أنسب مركز لمتابعة الاتجاهات الغربية خصوصاً فيما يتعلق بأمور الشرق الأوسط.
كانت رحـلة عمل طويلة قصدت فيها إلى آفاق أستطيع عليها أن أرى أوسع، وأن أفهم أدق، وأن أجلو فكرى عن طريق الاحتكاك مرة أخرى بأفكار وتيارات ومجتمعات فوارة بالحرية والحركة.
وعدت إلى القاهرة بعد غياب سبعة أسابيع وفى تقديرى أن أستأنف الكتابة، بحثت عن مشكلة الديمقراطية فى العالم الثالث وهو الموضوع الذى كان من نصيبى أن أعرضه تفصيلاً فى ندوة أثينا الدولية عن مستقبل الديمقراطية، ثم أتبعه بأحاديث أخرى عن موازين القوى المتغيرة فى جنوب أوروبا متخذاً ما يجرى فى إيطاليا اليوم نموذجاً حياً، وعملياً له، وعن مصير ومآل أموال البترول العربى، وأخيراً عن "آخر تطورات أزمة الشرق الأوسط" على ضوء مناقشات واتصالات ومعلومات توفرت لى فى العاصمة البريطانية.
كان ذلك تقديرى!
لكنى لم أكد أبدأ محاولة الكتابة حتى انفجر اقتراح الرئيس السادات باستعداده للذهاب إلى الكنيست الإسرائيلى، ثم تطورت الحوادث بسرعة مذهلة، وإذا أبعد الأشياء عن الظن هو أقربها إلى الوقوع على حد تعبير الكاتب الفرنسى الأشهر "أندرييه موروا"!
وتلاشى اهتمامى بمشكلة الديمقراطية فى العالم الثالث، وتلاشى اهتمامى بغيرها من المشاكل، وبدت لى هذه المشاكل كلها وكأنها مجرد بقايا مترسبة على طبقة جيولوجية من التكوين السحيق لطبقات الأرض..
وتوقفت عن الكتابة أو محاولتها، ورحت بكل حواسى أتابع المسرح الجديد الذى تركزت عليه كل الأضواء، وازدحمت فوقه كل الألوان، وتدافعت حوله كل الأصوات وأصبح فى طرفة عين استعراضاً لم يسبق له مثيل، ويحار مشاهدوه فى نسبته للمجال الذى ينتمى إليه: وهل هو مجال السياسة، أو هو مجال الفن؟
ينبغى أن أقول ومنذ لحظة مبكرة من هذا الحديث أننى لم أكن من المتحمسين لهذا الاستعراض الذى بدا لى غريباً ممعناً فى غرابته، وحاولت أن أكون منصفاً فاتهمت نفسى بأننا قد نكون أمام شىء جديد قصرت مداركنا عن استيعاب حكمته، خصوصاً إذا كنا من مدرسة فى السياسة ترى أن الصراعات بين الأمم والشعوب تناقضات حقيقية فى أسباب المصالح وفى ضرورات الأمن، ثم إن حل هذه التناقضات لا يكون بالقفز فوقها، ولكن بمواجهة دواعيها وعللها وأن ذلك يتحقق بترتيب موازين القوة الذاتية وبحشد التوازنات الإقليمية والدولية المساعدة، ولا يتحقق بحشد أكبر عدد من ميكرفونات الإذاعة وعدسات التليفزيون!
وقلت إننى اتهمت نفسى، ومن هذا السبب وأسباب أخرى غيره، فقد رحت أغالب مشاعرى وأرد فهمى لطبائع الأشياء أن يدفعنى إلى المسارعة بإنكار ما لا أفهم، مقدراً أن الحقيقة فى كل الأحوال أكبر من كل ما نراه منها..
لكن الإنسان - أى إنسان - لا يستطيع أن ينكر نفسه ولا أن يهدر تجربته، وإذا لم يكن صادقاً مع الاثنين فإنه لا يمكن أن يصدق مع غيرهما..
هكذا كنت أريد أن أتكلم، وفى نفس الوقت كنت أريد أن أنتظر.
وتوصلت أخيراً إلى حل وسط هو أن أتكلم وفى نفس الوقت لا أكتب.
أى أبدى تحفظاتى على ما يجرى بالكلمة المنطوقة، وفى نفس الوقت أنتظر على الكلمة المكتوبة حتى تنكشف الصورة وتنجلى مساحات الضوء والظل على رقعتها، ومنذ بدأ هذا الذى اصطلحنا على تسميته - مبادرة السلام - فإنى تكلمت ولكنى هذه اللحظة فقط أكتب..
وأعود إلى بعض ما قلته وقتها كمجرد تمهيد لما أكتبه الآن، وذلك لكى يكون السجل واضحاً وتتابع المواقف فى ترتيبه الصحيح..
تكلمت لأول مرة يوم الاثنين 14 نوفمبر، وكان ذلك بعد خمسة أيام بالضبط من إعلان المبادرة وكان كلامى أمام عدسات التليفزيون لمحطة "أى. بى. سى" وهى أكبر محطات التليفزيون الأمريكية، وكان حديثى مع مندوبها فى الشرق الأوسط "جون سنايدر".
وأستأذن فى أن أنقل الحوار عن نص منقول من التسجيل الأصلى بعثت به إلى - فيما بعد بناءً على طلبى - محطة "أى. بى. سى" وكانت قد أذاعته كاملاً على كل شبكاتها فى الولايات المتحدة مساء يوم الثلاثاء 15 نوفمبر منقولاً بالقمر الصناعى من القاهرة.
بدأ جون سنايدر بسؤالى:
ما هو رأى الشعب المصرى فيما يجرى الآن؟
وقلت:
- إننى بالطبع لا أعرف رأى الشعب المصرى ولا أعطى نفسى حق الحديث نيابة عنه، وكل ما أستطيع أن أبديه هو رأيى الشخصى فقط...
وعدل "جون سنايدر" صيغة سؤاله واتصل الحوار على النحو التالى بالنص:
سؤال: إذن ما هو رأيك أنت؟
جواب: أعترف أننى لا أفهم هذا الذى يجرى الآن، وكل ما أرجوه أن يكون صادراً عن مخطط واضح ومدروس يستهدف استعادة السلام القائم على العدل، وإذا كان الأمر كذلك فإنى أرجو له النجاح، ومع ذلك فلابد أن أعترف أننى لا أستطيع أن أرى كيف يمكن لهذا النجاح أن يتحقق؟!
دعنى أعترف أيضاً أننى شعرت بالقلق عندما سمعت الرئيس السادات يقول إنه لم يستشر فى مبادرته أحداً، وأن جميع مستشاريه لم يعرفوا بها إلا عندما قام بإعلانها..
كنت أفضل أن تكون الأمور على غير هذا النحو، إن عملية صنع السلام عملية هامة، وجادة، وخطيرة... وبأمانة فإننى كنت أفضل أن تجرى عملية صنع السلام فى جنيف.
إن السلام لا تصنعه إرادة رجل واحد مهما كانت الثقة فيه.. ثم إن صنع السلام يحتاج إلى اقتناع كل الناس وبالدرجة الأولى اقتناع كل الدول العربية، فالقضية هى قضية الأمة العربية كلها.
لهذا فإننى كما قلت لك لا أفهم ما يجرى ولا أستطيع أن أتحمس له..
سؤال: هل تخشى من ردود فعل عكسية... أو خطيرة...؟
جـواب: الحقيقة إننى لا أعرف ماذا يمكن أن يحدث، ولكن الذى يشغلنى هو ما حدث فعلاً. إننى حتى الآن لا أعرف ما هو الدافع إلى هذه الزيارة المقترحة للقدس..
هذا الصباح كان عندى هنا فى مكتبى عدد من السفراء العرب، وبالطبع فإننا كنا نتحدث عن آخر التطورات، وكانت هذه النقطة بالذات مثار مناقشاتنا..
أحدهم قال لنا إنه فهم من بعض المصادر القريبة من صنع القرار أن سبب هذه الزيارة هو أن الرئيس السـادات بلغته معلومات عن نوايا هجوم إسرائيلى فأراد استباق الهجوم وإجهاضه بزيارة القدس.
والحقيقة إن ذلك لم يكن مقنعاً لى، لقد كانت هناك تقارير فى الصحافة العالمية أخيراً عن الاستعداد العسكرى الإسرائيلى، وكان أبرز هذه التقارير تقريراً كتبه جيم هوجلاند فى صحيفة الواشنطن بوست - ولكن جيم هوجلاند لم يكن يتحدث عن نوايا إسرائيل القريبة، وإنما كان يتحدث عن مستقبل بعيد..
وإذا ناقشنا نظرية استباق هجوم إسرائيلى وشيك، فإنى أرى أن هذه النظرية لا تثبت لأى مناقشة جادة
لماذا؟
سياسياً: لأنه لابد لأى طرف يذكر فى هجوم أو يقوم به أن يعطى نفسه أرضية سياسية، ومثل ذلك غير متاح لإسرائيل فى الوقت الراهن على الأقل، فقد كان الحديث فى المنطقة كلها وفى العواصم المهتمة بالأزمة وواشنطن بينها بالذات عن مؤتمر جنيف والترتيب له، ومن الذى يحضره، وإجراءات الحضور إلى آخره، وليست هذه أرضية يستغلها أى طرف ويبدأ بهجوم عسكرى، وإلا عرض نفسه للوقوف ضد الدنيا كلها..
وعملياً: فأنا لا أعرف لماذا تقوم إسرائيل الآن بهجوم مباغت على الجبهة المصرية وهى جبهة فى الوقت الحاضر هادئة خالية من أى نوع من أنواع التوتر الساخن.
وفضلاً عن ذلك فكيف يمكن أن يحدث هجوم مباغت وبين الجيشين المصرى والإسرائيلى على الجبهة المصرية مناطق عازلة، ومراكز رقابة يعمل فيها خبراء أمريكيون وذلك إلى جانب منطقة الفصل بين القوات التى تحتلها كتائب الأمم المتحدة.
إن الترتيبات الموضوعة لتنفيذ اتفاقية سيناء الثانية تفرض على كل طرف من الطرفين، حتى فى حالة تحريك قواته لإجراء مناورة مهما كانت صغيرة، أن يبلغ الجنرال سيلاسفو كبير مراقبى الأمم المتحدة، وهو يبلغه ليس فقط بموعد المناورة ولكن بنوعية القوات المشتركة فيها، وحجمها، واتجاهات حركتها، ومن جانبه فإن الجنرال سيلاسفو ينقل هذه المعلومات إلى الطرف الآخر.
فمن أين تأتى المباغتة واحتمال الهجوم الوشيك؟ ومع ذلك فلنفرض أن هذا الاحتمال كان وارداً فهل يتحقق استباقه وإجهاضه بالذهاب إلى القدس المحتلة؟
أتصور أى شىء إلا الذهاب إلى القدس.
أتصور مثلاً أن يذهب الرئيس السادات بمفرده إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ويقوم من فوق منبرها بفضح المخطط الإسرائيلى أمام العالم كله.. وربما خرج من الأمم المتحدة فى نيويورك يقصد إلى البيت الأبيض فى واشنطن ليقابل الرئيس كارتر ويضع الولايات المتحدة أمام مسئولياتها.
ذلك أو غيره يجوز تصوره..
سؤال: ربما كان السبب هو الضغوط الاقتصادية؟
جواب: لا أظن ذلك أيضاً... لو كان ذلك هو الدافع لكان الأولى بالزيارة أن تكون إلى الرياض مثلاً، أو إلى الكويت..
دعنى أعود إلى ما كنت أتحدث فيه عن اللقاء الذى كان هنا فى مكتبى، واشترك فيه بعض السفراء العرب.
أحدهم كان رأيه أنه ربما أراد الرئيس السادات أن يساعد الرئيس كارتر ضد جماعات الضغط الصهيونى.
وكان رأيى: ربما، ولكن ذلك باهظ التكاليف بالنسبة له بالطبع إلا إذا كانت لديه ضمانات مسبقة بإتمام الانسحاب وقيام الدولة الفلسطينية، ففى مثل هذه الحالة يختلف الأمر، ومع ذلك فقد كان الأفضل أن يتم لقاء مباشر - إذا كان ذلك ضرورياً فى جنيف..
سؤال: إذن ما هو الدافع؟
جواب: الحقيقة إننى لا أعرف... هناك دوافع بالتأكيد جعلت هذا التغير فى المواقف ممكناً..
عندما كان الرئيس السادات فى الولايات المتحدة فى الربيع الماضى تحدثوا معه عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وكان رده أن ذلك شىء لن نراه فى جيلنا وربما تحقق فى أجيال لاحقة، وكان فى ذلك على حق.
كان أقصى ما أبدى الاستعداد له هو إنهاء حالة الحرب فى مقابل الانسحاب وقيام الدولة الفلسطينية، وذلك فيما أظن كان منطقياً..
كذلك تحدثوا مع الرئيس السادات فى الربيع الماضى عندما كان فى أمريكا عن المفاوضات المباشرة، وكان رأيه أنه لا يرى إمكانية لذلك طالما الأرض محتلة وكان فى ذلك على حق. كيف تغيرت المواقف؟ ولماذا؟ لا أعرف.
هناك شىء ما حدث، وأنا أعترف بجهلى به، ولكن جهلى به لا ينفى حدوثه.
سؤال: هل تتوقع مقاومة من الشعب المصرى ضد الزيارة المرتقبة؟
جواب: إننى كما قلت لا أستطيع أن أتحدث عن الشعب المصرى، ثم إنه لم يمض وقت كاف على المبادرة بحيث يمكن إجراء رصد دقيق لاتجاهات الشعب.
ولكنى عندما أتحدث عن نفسى فإنى أتحدث فى الواقع عن مواطن مصرى، وبطبيعة الحال يمكن أن ما أشعر به قريب على نحو أو آخر مما يشعر به الآخرون من أفراد الشعب.
وأكثر ما أحس به أنا شخصياً هو الشعور بالحيرة.
إننى عندما أعلنت المبادرة لم آخذ موضوعها جداً فى البداية، وتصورت المسألة كلها زلة لسان، وكانت هناك بعض الشواهد المشجعة على هذا الظن، لكن التطورات سارت فى اتجاه آخر، فقد التقطت إسرائيل الخيط ووجهت دعوة، وتوالت الخطى المتبادلة.
واكتسبت القصة كلها قوة فعل ذاتية بدا صعباً إيقافها.. إننى أمس فقط بدأت أعتقد أن هذه الزيارة سوف تحـدث، وأنا فى حيرة بالنسبة للدافع إليها، ثم إننى متخوف بالنسبة لما يمكن أن تسفر عنه.
لأكثر من ثلاثين سنة كان الصراع العربى الإسرائيلى هو الصراع الرئيسى فى حياتنا، ودعنى أقول لك أنه بالقياس إليه فإن صراعكم مع الشيوعية لا يزال مجرداً فيما يتعلق بكم.
إن صراعنا مع إسرائيل ليس مجرداً، وإنما هو خطر واقع.
إن أحداً لم يمس وحدة أراضيكم... ولا شرد ملايين من أمتكم... ولا خاض ضدكم خمسة حروب متوالية بهدف السيطرة والتوسع.
إننا حتى فيما يتعلق بمصر وحدها لم نستعد بحرب أكتوبر وباتفاقيات سيناء الأولى والثانية إلا ما مساحته سبع أراضى سيناء، ومعنى ذلك أن ستة أسباع سيناء مازالت تحت الاحتلال، هذا بالطبع غير هضبة الجولان السورية ثم الأراضى المحتلة من فلسطين وفى مقدمتها القدس.
دعنى أقول إننى لم أفهم أيضاً سر الذهاب إلى القدس. منذ أيام كما تذكر كان - بلومنتال وزير المالية الأمريكية يزور إسرائيل وأراد تيدى كوليك عمدة القدس أن يصحبه فى زيارة للقدس الشرقية، ولكن بلومنتال - وهو يهودى أمريكى - رفض دعوة تيدى كوليك - لأن حكومة الولايات المتحدة لا تعترف بالسيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية وتسبب ذلك فى أزمة.
كل هذه أشياء لا أفهمها، وأتصور قياساً على شعورى أن هناك غيرى لا يفهمونها.
سؤال: هل أنت متفائل بنتائج هذه الرحلة، أو أنت متشائم؟
جواب: الموضوع ليس موضوع تفاؤل، أو تشاؤم وإنما الموضوع حساب تقديرات... وفى تقديرى أن المواقف الأساسية لم تتغير، على الأقل بتغير الموقف الإسرائيلى، وأمس فقط قرأت رد مناحيم بيجن رئيس وزراء إسرائيل فى الترحيب باقتراح زيارة الرئيس السادات.. إن بيجن حتى وهو يرحب بالزيارة حدد شروطه الأساسية وركز على نقطتين:
الأولى: إن إسرائيل، لن تقبل بمبدأ الانسحاب إلى خطوط ما قبل يونيو سنة 1967.
والثانى: إن إسرائيل لن تسمح بقيام دولة فلسطينية..
وإذن فهو قد بادر إلى تحديد إطار المحادثات المقبلة، وأنا لا أعتبر هذا الإطار مقبولاً، إننى أريد بأمانة أن أكون متفائلاً ولكنى لسوء الحظ لا أجد أساساً مهما كان واهياً أبنى عليه تفاؤلى.
إننى أرى من حولى ما يشبه مهرجان الفرح، ومن العيب أن يتحدث الإنسان بالشؤم فى ليلة الزفاف، ولكنى مع الأسف لا أعتبرها ليلة الزفاف...
وكانت تلك أول مرة أبديت فيها رأيى بالكلمة المنطوقة، وكان ذلك كما قلت يوم الاثنين 14 نوفمبر أى بعد خمسة أيام من إعلان المبادرة.
وفى يوم الخميس 17 نوفمبر، وجدت نفسى أمام عدسات تليفزيون هيئة الإذاعة البريطانية أرد على أسئلة يوجهها إلـى - جوناثان ديمبلباى - وهو من ألمع نجوم الجيل الجديد فى القناة الثانية من التليفزيون البريطانى.
وقد أذيع حوارنا مساء يوم 24 نوفمبر فى برنامج "هذا الأسبوع" تحت عنوان "قرارات صعبة وجذرية"، ومرة أخرى أنقل عن النص المكتوب للحوار كما بعثه إلى جوناثان ديمبلباى نقلاً حرفياً عن التسجيل..
سؤال: ما هو رأيك فى النتائج التى يمكن أن تسفر عنها الزيارة القادمة التى يزمع الرئيس السادات أن يقوم بها إلى القدس..؟
جواب: لابد أن أقول لك بكل موضوعية إننى حتى الآن مازلت مذهولاً لهذه الزيارة.. إنها فى رأيى تجىء على عكس كل شىء من أسس سياساتنا قبلها حتى فى عهد الرئيس السادات نفسه.
كيف يمكن عبور الخطوط إلى الناحية الأخرى؟ ذلك أمر يفوق قدرتى على التصور.
هناك حالة حرب مازالت قائمة... وهناك أجزاء من وطننا محتلة... وهناك أجزاء من عالمنا العربى محتلة. والخصم الذى نعبر الخطوط إليه يقول لنا صراحةً أنه لن يقبل تحت أى ظرف من الظروف أن ينسحب إلى ما وراء خطوط سنة 1967، ولن يقبل تحت أى ظرف من الظروف بقيام دولة فلسطينية.
إننى لا أعرف للرحلة المنتظرة سابقة أخرى فى التاريخ.
ومن سوء الحظ أننى قرأت فى إحدى الصحف المصرية استشهاداً تاريخياً برحلات السلام التى يمكن مقارنتها برحلة القدس.. ومبعث سوء الحظ أن الباحثين فى التاريخ من كتاب الصحف المصرية لم يجدوا ما يقارنون به هذه الرحلة إلا سابقتين عليها هما رحلة "نيفل تشمبرلين" رئيس وزراء بريطانيا إلى ميونيخ لمقابلة "هتلر" سنة 1938، ثم طيران "رودلف هيس" نائب هتلر إلى أسكتلندا فى سنة 1941 لمقابلة "تشرشل"..
وأظن أن المقارنة مزعجة، والحقيقة أننى أعتبرها ظلماً للرئيس السادات..
سؤال: غير معقول... هل قالوا ذلك فعلاً... هل أجروا هذه المقارنة..؟
جواب: إن الصحيفة التى نشرت هذا الكلام على مكتبى فى الغرفة المجاورة وتستطيع أن تأخذها إذا أردت..
سؤال: إذن لماذا هذه الرحلة؟
جواب: أنا شخصياً لا أعرف... ولكنى أدعو الله أن يكون هناك من يعرف أكثر منى وإلا فنحن فى مشكلة خطيرة.. لابد أن يكون ما يعرفه الآخرون خطيراً وحاسماً... لابد أن تكون لديهم أسباب من الثقة تجعلهم مطمئنين إلى نتائج مثل هذه المغامرة الخطيرة.. أما أنا فأعترف بجهلى ولا أخجل من ذلك..
سؤال: هل تتصور أن رد الفعل فى العالم العربى خارج مصر - وهو حتى الآن مصاب بالدهشة والذهول - سوف يفيق مما أصابه ويغير موقفه، خصوصاً سوريا..؟
جواب: أخشى أن الأمر سيكون عكس ذلك.. إن الدهشة والذهول سوف يزولان، ولكنى أعتقد أنه سيحل محلها شعور عميق بالمرارة... إننى سمعت رأياً يقول أن بعض رد الفعل الذى نسمعه الآن من العالم العربى خارج مصر سبق لنا سماعه بعد اتفاقية سيناء الثانية، ومن ثم فليس فى الأمر جديد..
أخشى أن أقول أن المقارنة ليست دقيقة. أنا الآن أمام شىء جديد تماماً...
إن اتفاقية سيناء الثانية كانت على نحو، أو آخر استمراراً للمنطق الذى عقدت به اتفاقية سيناء الأولى..
أما الآن فنحن أمام منطق مختلف تماماً..
سؤال: هل تظن أن هناك فرصة كما أوحى الرئيس السادات بأن ذلك سوف يفتح الطريق أمام مؤتمر جنيف..؟
جواب: إننى لا أدرى كيف يمكن أن يحدث ذلك.. لقد كنا نريد أن نذهب إلى جنيف كوفد عربى موحد، وكان هذا ضرورياً لأسباب عديدة.. والآن فإننى لا أتصور أن إمكانية تشكيل وفد عربى موحد لا تزال قائمة.. إن عقلى لا يستطيع أن يتصور مثل ذلك الاحتمال..
سؤال: إذن فأنت ترى استحالة عقد مؤتمر جنيف..؟
جواب: هذا صحيح.. وأظننا نحتاج الآن إلى جنيف عربية قبل حاجتنا إلى جنيف مع الإسرائيليين..
ورأيت أن أمتنع حتى عن الكلمة المنطوقة مع قرب إتمام الزيارة، بل إننى غادرت القاهرة إلى الإسكندرية لأبتعد عن مركز الحوادث منتهزاً فرصة إجازة العيد، لكن ما يجرى كان له تأثير المغناطيس فى قوة جذبة مهما حاولت الابتعاد، وهكذا وجدتنى على شاطئ البحر فى الإسكندرية وأمامى طوال الوقت جهاز راديو أنتقل بمؤشره بين إذاعات العالم".
وأعترف على استحياء أننى لم أتمالك نفسى ذات مرة حين سمعت إذاعة القاهرة تتحدث عن ترتيبات وصول الرئيس السادات إلى القدس مساء يوم 19 نوفمبر، وتقول أول ما تقول أن سرباً من مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلى سوف يخرج للقاء طائرة الرئيس السادات.
لم أتمالك نفسى ولا أعرف لماذا لحظتها، فإذا أنا أغطى عينى بكفى وأجهش فى بكاءٍ لم أعرفه منذ تلك اللحظة الرهيبة التى وقفت فيها بجوار فراش جمال عبد الناصر وهو يجود بالنفس الأخير، ولم أستطع ضبط مشاعرى إلا عندما أحسست بيد تمس كتفى فى رفق والتفت لأجد طفلى الصغير يرقبنى بعينين تملؤها الدموع والدهشة شاعراً أن شيئاً أخيراً ألم بى، ولكن مداركه لا تسعفه بتفسير لهذا الذى لم يعهده فى من قبل..
وواصلت متابعة الأحداث كما فعل الملايين غيرى فى العالم العربى وخارجه، ولكنى أسلمت نفسى لصمت حزين أطبق على أياماً طويلة حتى بعد أن عدت إلى القاهرة، وانقضى ذلك المهرجان الغريب وانفض سامره، وإن بقيت أصداؤه من الآفاق.
ومرة أخرى ظللت أمسك نفسى عن الكتابة أنتظر النتائج.
ومرة أخرى لجأت إلى الكلمة المنطوقة، لأن الصمت الكامل كان مستحيلاً مهما كانت النتائج.
وأدليت بحديث إلى مجلة "الإكسبريس" الفرنسية، ثم بحديث إلى جريدة - الموند - الفرنسية أيضاً..
ثم بعث إلى "ويليام ريس موج" رئيس تحرير جريدة التايمز البريطانية يقترح على أن أدلى بحديث بوجهة نظرى إلى التايمز؛ لأن العالم كله لا يستطيع أن يسمع وجهة النظر الثانية من مصر. وكان "ويليام ريس موج" رقيقاً فى طلبه، فقد قال لى - إنه يقدر الظروف ولا يريد إحراجى.
ولكنه يعتقد أن الوقت مناسب لسماع كل وجهات النظر خصوصاً من مصر. ووافقت، وبتكليف منه جاءنى "إدوار مورتيمر" مراسل التايمز فى الشرق الأوسط ليقوم بإجراء الحديث معى.
واهتمت التايمز بما قلت، فأبرزت حديثى فى موضوعها الرئيسى فى صدر صفحتها الأولى على ثلاثة أعمدة ثم استكملته فى الصفحة الرابعة، وكان عنوان صفحتها الأولى:
- هيكل يحذر من مخاطر اتفاق بغير قبول عربى...
- تحذير من سلام مصنوع من ورق الكرتون...
قلت ونشرت "التايمز" يوم الثلاثاء 20 ديسمبر ما يلى:
- إننى لست ضد تسوية سلمية لأزمة الشرق الأوسط..
وربما كنت أخفف من معارضتى لزيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل لو أنها اقتصرت على مجرد كونها تحدياً للسلام تواجه به إسرائيل من الداخل.
إن الزيارة تحولت إلى شىء آخر.. تحولت إلى زيارة رسمية.. ثم اكتسبت الزيارة ديناميكية تطبيع العلاقات.. ثم جاء مؤتمر القاهرة - مينا هاوس - ليعزز هذه العملية.. ثم تجىء زيارة بيجن للإسماعيلية وتعززها أكثر وأكثر.
وفى ذلك الوقت فإن مصر فى حالة قطيعة كاملة مع الدول العربية التى تعارض المبادرة، وهى فى نفس الوقت على غير اتصال مثمر مع جبهة الدول المساندة التى تقدم لها الدعم.
حتى لو قبلت منطق الزيارة، فإننى لا أعرف لماذا لم نقل للعالم العربى بما ننوى أن نفعله متحملين مسئوليته من أجل السلام واعدين بعرض النتائج عليه فور إتمام الزيارة.
لم نفعل ذلك.. وبدلاً منه رحنا ندافع عن أنفسنا وتركنا الأمور تتصاعد ثم رحنا نهاجم فى كل الجبهات... العرب والاتحاد السوفيتى.
إننى أسلم أن المبادرة قبلت فى مصر ومن جانب شعبها بحماسة، ولكن ذلك فى ظنى حدث لأسباب أخرى لا علاقة لها بموضوعها، ومن هذه الأسباب الضيق بالحروب وتكاليفها.
ثم جاء تأثير التليفزيون وغيره من وسائل الإعلام التى شدت الشعب المصرى إلى متابعة مبهورة بما يجرى، والنتيجة أن الشعب المصرى أحس أنه شارك فيما جرى، وكان من أثر هذا الإحساس أنه جرف أية تحفظات عليه. ولكن صنع السلام أخطر من كل المؤتمرات التى يمكن أن يصنعها استعراض تليفزيونى ضخم..
إلى جانب ذلك فقد كان هناك الاعتقاد بأن السلام - لا أعرف أى سلام - سوف يؤدى إلى حل جميع مشاكل مصر الاقتصادية.. كان هناك أيضاً إحساس المصريين، بأن غيرهم من العرب ازدادوا غنى فى حين أنهم ازدادوا فقراً.
إن أحداً لا يعارض فى السلام، ولكن السلام يحتاج إلى دعائم قوية يقوم عليها.. بل إننى حتى وبرغم كل ما يقال لا أعتقد أن الاتحاد السوفيتى يعترض على السلام.. إن الاتحاد السوفيتى يحبذ - وكان طول الوقت يحبذ - الوصول إلى تسوية سلمية، وبالنسبة لهم فقد كان ذلك يجنبهم مخاطر صدام محتمل مع الولايات المتحدة.
كذلك فإنهم يريدون أن يوفروا على أنفسهم أعباء إمداد العرب بالأسلحة، ثم إنى أظنهم يتصورون أن جو السلام قد يواتيهم بما يتفق مع خططهم، فهم يتصورون أن انتهاء النزاع مع إسرائيل سوف يفتح الباب أمام ضرورات التغيير الاجتماعى فى العالم العربى..
إن سوء العلاقات بيننا وبين الاتحاد السوفيتى لا يقع علينا وحدنا ولكن الاتحاد السوفيتى نفسه له نصيب فيه، فقد تصرفوا فى كثير من الأحيان بطريقة غليظة، وأظنهم يستحقون بعض ما يجرى لهم الآن، ولكنى لا أعتقد أنهم يستحقونه كله.
كان يجب أن ننسق سياستنا مع الآخرين ولكننا لم نفعل.
وانتقدنا الآخرون فى العالم العربى وانفعلنا.
والآن فإن هناك موقفاً مؤسفاً فى العالم العربى.
هناك فوق مصر ضباب يحجب الرؤية السليمة ويحجب التقييم الصحيح لما قمنا به بسلبياته وإيجابياته، وهناك فى بقية العالم العربى نوع آخر من الضباب... ضباب العصبية التى لا ترى أى شىء إيجابى فيما قمنا به..
إننى لا أوافق على هذه الحملة المعادية للعرب التى نقوم بها الآن... إننا نريد أن نكسب معركة تاكتيكية فى داخل مصر من أجل الحصول على قبول الشعب المصرى لما حدث، ولكننا فى هذا السبيل ندمر بأيدينا عناصر إستراتيجية لقوتنا فى المنطقة كلها.
وليس يهمنى أن يقال بأننا هدمنا حاجزاً نفسياً كان يقوم بيننا وبين إسرائيل إذا كنا قد أقمنا بدلاً منه حاجزاً نفسياً بيننا وبين أمتنا العربية.
إن ذلك قد يمهد لعزلة مصر عن العالم العربى، وهذا أمر خطير بالنسبة للأمة كلها، من أنه سوف يفرض علينا - حتى لو لم نكن نريد ذلك أو نقصده - أن نجد أنفسنا أمام مخرج واحد، وهو عقد اتفاق منفرد مع إسرائيل، وذلك ما تريده إسرائيل.
وحتى لو اضطر بعض العرب إلى السكوت عما نقول به، فإن سكوتهم سوف يكون عناءً شديداً وسوف نفقد عنصر الرضا الاختيارى، وذلك ليس من السلام.. إن سلاماً على هذا النحو سوف يكون بناءً من ورق الكرتون، وسوف يقود إلى الكثير من المتاعب والمخاطر، لأن السلام لا تصنعه الهستيريا من جانب، أو لوى الأذرع من جانب آخر.
هكذا كنت كمن يحاول السير على الصراط المستقيم.
أريد أن أعطى نفسى الوقت اللازم لأفكر، وأقدر بالتزام، وموضوعية... وهكذا امتنعت عن الكلمة المكتوبة لمدة أربعة شهور.
وفى نفس الوقت فلقد كان الصمت مستحيلاً لأن الحقائق واضحة وضوح الشمس... وهكذا اعتمدت على الكلمة المنطوقة أعبر بها عن آرائى بينما التطورات تجرى، وتتلاحق وتهدر كأنها موجات فى أعقاب موجات..
وحين هاجمتنى إحدى صحف القاهرة واستشهدت بفقرات من بعض ما قلت لجريدة الإكسبريس الفرنسية ووضعته فى صفحتها الأولى تحت عنوان:
- واحد ضد مصر - فإنى لم أغضب، ذلك لأننى فى كل ما قلت لم أكن أشعر بأننى واحد ضد مصر، وإنما كنت طول الوقت أشعر أننى "واحد من مصر".