فلسفة الفتوحات الإسلامية
وأضواء على سياسة دفع الجزية في الإسلام
د. هوار بلو
قد يرى البعض أنّ الإسلام كان يحتل بلدان الناس بالسيف و يفرض عليهم سلطانه ، و أنّه كان ينتزع الجزية من أصحاب الديانات الاخرى بالقوة لمجرد أنّهم لا يؤمنون به .. لكن الصورة النظرية التي جاء بِها الإسلام لم تكن كذلك ، و قد اُسيء الفهم هكذا بسبب أخطاء ارتكبتها الأفراد و احتُسبت على الإسلام بعد ذلك .
إنّ شعوب الأرض في تلك الأيام كانت تعاني الظلم و تتجرع المرارة على أيدي حكّامها ، و كانت في أمسّ الحاجة الى طرف أقوى تستنجد به و تشكو إليه هوانَها لأنّ الأيام كانت قد أثبتت لها أنّ أهل هذا الدين لا يظلمون الناس و لا يجبرون أحداً على اعتناق عقيدتِهم .
إنّ الإسلام - كعقيدة - كان يستشعر المسؤولية الإلهية فلم يكن ليدخل بلداً من بلدان الناس إلاّ استجابة لدعوة ضمنية مِن أهلِها أو تلبية لواقع حالها الذي يستوجب التدخّل الطارئ ، فيزيل الفئات الطاغية المتسلّطة و يبث الحرية و الأمان .. هذه كانت الصورة النظرية التي انطلقت تحت مضامينها حروب التحرير و الفتوحات ، لكن الصورة التطبيقية تمخّضت عنها الكثير من الأخطاء و على أيدي الكثير من الفاتحين و في أزمنة متعددة ممّا أسفرت عن سوء فهم طويل الأمد لهذه الحروب .
إنّ الرحمة التي جاء بِها الإسلام و أقرّها الله له تقضي عليه أنْ لا يرى نفسه قوياً متمكناً و شعوب الأرض تعاني الظلم تحت سمعه و بصره .. و ربما لم تكن غالبية الشعوب المضطهدة تجرأ على الإفصاح بمعاناتِها و لكن واقع حالها كان ينطق بذلك ... و لذلك نجد الرسول (ص) حينما يبعث برسالة الدعوة الى عظيم الروم (هرقل) ، يقول له :
(.... فإن تولّيْت فإنّما عليك إثم الأريسين)
و الأريسين هم الخدم و الخول و العبيد الذين كانوا يعانون الظلم على يدَي (هرقل) .
حينما استردّ السلطان (مراد الثاني) عام (1431م) مدينة (سلانيك) من أيدي أمراء البندقية ، جاءه وفد مِن مدينة (يانيا) يرجو المثول بين يديه ... فتعجّب السلطان مِن أمرهم حيث لم تكن ثمّة علاقة تربطهم بِهذه المدينة التي كانت تحكمها إيطاليا آنذاك ، فأمر بإدخال الوفد عليه و دار الحديث ...
السلطان : ما الذي جاء بكم الى هنا ؟ و ماذا تريدون ؟
رئيس الوفد : أيّها السلطان العظيم .. جئنا نلتمس منك عوناً فلا تخيّب آمالنا ؟
السلطان : و كيف أستطيع ذلك ؟
رئيس الوفد : مولاي .. إنّ حكامنا يظلموننا و يتعاملون معنا كالعبيد و الخدم و يغتصبون أموالنا و يسوقوننا كرهاً للحروب الطاحنة ...
السلطان : و ماذا بوسعي أنْ أفعل ؟ إنّها مشكلتكم مع حكّامكم .
رئيس الوفد : أيّها السلطان ... نحن لسنا بمسلمين بل نحن نصارى ، و لكنّنا سمعْنا عنكم الكثير .. سمعنا عن عدالتكم و أنّكم لا تظلمون الرعية و لا تجبرون أحداً على إعتناق دينكم ، فلكلّ ذي حقّّ حقّه لديكم .. و لقد سمعْنا هذا من السيّاح و التُجّار الذين زاروا مملكتكم ، لذلك نرجوا منكم أنْ تشملونا برعايتكم و عدلكم و أنْ تحكموا بلادنا من فضلكم لتنقذوننا من ظلم حكّامنا !؟
ثم قدّموا للسلطان مفتاح المدينة الذهبي .. و استجاب السلطان لرجاء أهل المدينة و فتح لهم بلادهم في نفس السنة .
و رُبّ سائل يسأل :
لو كانت الصورة النظرية للإسلام تقضي بنشر الحرية و الأمان بين الشعوب ، فلماذا خوّلت هذه الصورة السلطات الإسلامية انتزاع الجزية و الضرائب من أهل الكتاب (أهل الذمة) الذين كانوا يعيشون تحت سقف الدولة الإسلامية ؟
يقول سبحانه و تعالى في القرآن الكريم :
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرّمون ما حرّم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ و هم صاغرون) (1)
و الشئ الجدير بالذكر هنا ، هو أنّ هذه الجزية كان لها فقط أنْ تؤخذ من أهل الكتاب الذين يسكنون داخل إطار الوطن الإسلامي و الذين اُطلق عليهم (أهل الذمة) و ليس الأمر كما يُساء الفهم على أنّ الإسلام كان يغزو بلدان الناس لأنّها كانت ترفض دفع الجزية الى المسلمين ، اذ لم تكن الجزية سبباً للفتوحات و لا دافعاً وراءها في معتقد الإسلام ... و أنّ هذه الجزية كانت بمثابة ضريبة للدفاع الوطني فالإنسان القادر على حمل السلاح و الذي يعيش تحت سقف الوطن الإسلامي عليه أنْ يؤدي خدمة الدفاع الوطني ، و الرافض لتأدية هذه الخدمة هو الملزم بدفع هذه الضريبة .. و لما كان أهل الذمة هم الذين يثقل عليهم تأدية هذه الخدمة ، فانّهم بذلك كانوا ملزمين بدفع الجزية عن يدٍ و هم صاغرون .
إنّ الجزية في الوطن الإسلامي لم تكن تؤخذ إلاّ مِن الذميّ القادر على حمل السلاح ممّن جاوزت أعمارهم الخامسة عشر ، إذ لم يكن يدفعها الطفل و لا الشيخ و لا المرأة و لا ذو العاهة البادية و لا أهل الصوامع و البيع ... يقول الكاتب (آدم متز) استاذ اللغات الشرقية بجامعة (بازل) بسويسره :
( و كانت هذه الجزية أشبه بضريبة للدفاع الوطني ، فكان لا يدفعها إلاّ الرجل القادر على حمل السلاح ، و لا يدفعها ذووا العاهات و لا المترهّبون و أهل الصوامع إلاّ اذا كان لهم يسار - أي غنى -)(2)
إنّ الوطن الإسلامي كان وطناً للجميع .. لا لفرد دون آخر .. و المنطق الذي فرض على المسلم أن يضحّي بحياته من أجل هذا الوطن هو نفسه المنطق الذي كلف الذمي بالمساهمة في الدفاع عن هذا الوطن و التضحية من أجله .. لأنّهم أبناء لوطن واحد ، يعيشون تحت سقفه و يأكلون من خيراته و يشربون من مياهه و يتنفسون من هوائه و يمارسون في ظله كافة حرّياتِهم .
و قد راعى الإسلام الإحساس المهزوم لهؤلاء الكتابيين و شعورهم المجروح ، فعفتْهم عن أداء هذا الواجب الوطني و ضمنت لهم فوق كل ذلك حياتَهم و أمنهم و كامل حرياتِهم مقابل ضريبة متواضعة يدفعونَها للسلطة أو دعماً للمجهود الحربية .
يقول (آدم متز) في كتابه المذكور ص96 : ( إنّ غالبية دافعي الجزية كانوا يدفعون الحدّ الأدنى)
و أخيراً ... فإنّ المسلمين هم ليسوا الوحيدين الذين فرضوا الضرائب على غيرهم ، فالروم كانوا يأخذون من اليهود و المجوس ديناراً في السنة ، و كذلك فرض النصارى على المسلمين الجزية لما فتحوا بلادهم (3).
(1) التوبة (29)
(2) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري / آدم متز / ص 96
(3) نفس المصدر / ص 96
عن رابطة أدباء الشام
وأضواء على سياسة دفع الجزية في الإسلام
د. هوار بلو
قد يرى البعض أنّ الإسلام كان يحتل بلدان الناس بالسيف و يفرض عليهم سلطانه ، و أنّه كان ينتزع الجزية من أصحاب الديانات الاخرى بالقوة لمجرد أنّهم لا يؤمنون به .. لكن الصورة النظرية التي جاء بِها الإسلام لم تكن كذلك ، و قد اُسيء الفهم هكذا بسبب أخطاء ارتكبتها الأفراد و احتُسبت على الإسلام بعد ذلك .
إنّ شعوب الأرض في تلك الأيام كانت تعاني الظلم و تتجرع المرارة على أيدي حكّامها ، و كانت في أمسّ الحاجة الى طرف أقوى تستنجد به و تشكو إليه هوانَها لأنّ الأيام كانت قد أثبتت لها أنّ أهل هذا الدين لا يظلمون الناس و لا يجبرون أحداً على اعتناق عقيدتِهم .
إنّ الإسلام - كعقيدة - كان يستشعر المسؤولية الإلهية فلم يكن ليدخل بلداً من بلدان الناس إلاّ استجابة لدعوة ضمنية مِن أهلِها أو تلبية لواقع حالها الذي يستوجب التدخّل الطارئ ، فيزيل الفئات الطاغية المتسلّطة و يبث الحرية و الأمان .. هذه كانت الصورة النظرية التي انطلقت تحت مضامينها حروب التحرير و الفتوحات ، لكن الصورة التطبيقية تمخّضت عنها الكثير من الأخطاء و على أيدي الكثير من الفاتحين و في أزمنة متعددة ممّا أسفرت عن سوء فهم طويل الأمد لهذه الحروب .
إنّ الرحمة التي جاء بِها الإسلام و أقرّها الله له تقضي عليه أنْ لا يرى نفسه قوياً متمكناً و شعوب الأرض تعاني الظلم تحت سمعه و بصره .. و ربما لم تكن غالبية الشعوب المضطهدة تجرأ على الإفصاح بمعاناتِها و لكن واقع حالها كان ينطق بذلك ... و لذلك نجد الرسول (ص) حينما يبعث برسالة الدعوة الى عظيم الروم (هرقل) ، يقول له :
(.... فإن تولّيْت فإنّما عليك إثم الأريسين)
و الأريسين هم الخدم و الخول و العبيد الذين كانوا يعانون الظلم على يدَي (هرقل) .
حينما استردّ السلطان (مراد الثاني) عام (1431م) مدينة (سلانيك) من أيدي أمراء البندقية ، جاءه وفد مِن مدينة (يانيا) يرجو المثول بين يديه ... فتعجّب السلطان مِن أمرهم حيث لم تكن ثمّة علاقة تربطهم بِهذه المدينة التي كانت تحكمها إيطاليا آنذاك ، فأمر بإدخال الوفد عليه و دار الحديث ...
السلطان : ما الذي جاء بكم الى هنا ؟ و ماذا تريدون ؟
رئيس الوفد : أيّها السلطان العظيم .. جئنا نلتمس منك عوناً فلا تخيّب آمالنا ؟
السلطان : و كيف أستطيع ذلك ؟
رئيس الوفد : مولاي .. إنّ حكامنا يظلموننا و يتعاملون معنا كالعبيد و الخدم و يغتصبون أموالنا و يسوقوننا كرهاً للحروب الطاحنة ...
السلطان : و ماذا بوسعي أنْ أفعل ؟ إنّها مشكلتكم مع حكّامكم .
رئيس الوفد : أيّها السلطان ... نحن لسنا بمسلمين بل نحن نصارى ، و لكنّنا سمعْنا عنكم الكثير .. سمعنا عن عدالتكم و أنّكم لا تظلمون الرعية و لا تجبرون أحداً على إعتناق دينكم ، فلكلّ ذي حقّّ حقّه لديكم .. و لقد سمعْنا هذا من السيّاح و التُجّار الذين زاروا مملكتكم ، لذلك نرجوا منكم أنْ تشملونا برعايتكم و عدلكم و أنْ تحكموا بلادنا من فضلكم لتنقذوننا من ظلم حكّامنا !؟
ثم قدّموا للسلطان مفتاح المدينة الذهبي .. و استجاب السلطان لرجاء أهل المدينة و فتح لهم بلادهم في نفس السنة .
و رُبّ سائل يسأل :
لو كانت الصورة النظرية للإسلام تقضي بنشر الحرية و الأمان بين الشعوب ، فلماذا خوّلت هذه الصورة السلطات الإسلامية انتزاع الجزية و الضرائب من أهل الكتاب (أهل الذمة) الذين كانوا يعيشون تحت سقف الدولة الإسلامية ؟
يقول سبحانه و تعالى في القرآن الكريم :
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرّمون ما حرّم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ و هم صاغرون) (1)
و الشئ الجدير بالذكر هنا ، هو أنّ هذه الجزية كان لها فقط أنْ تؤخذ من أهل الكتاب الذين يسكنون داخل إطار الوطن الإسلامي و الذين اُطلق عليهم (أهل الذمة) و ليس الأمر كما يُساء الفهم على أنّ الإسلام كان يغزو بلدان الناس لأنّها كانت ترفض دفع الجزية الى المسلمين ، اذ لم تكن الجزية سبباً للفتوحات و لا دافعاً وراءها في معتقد الإسلام ... و أنّ هذه الجزية كانت بمثابة ضريبة للدفاع الوطني فالإنسان القادر على حمل السلاح و الذي يعيش تحت سقف الوطن الإسلامي عليه أنْ يؤدي خدمة الدفاع الوطني ، و الرافض لتأدية هذه الخدمة هو الملزم بدفع هذه الضريبة .. و لما كان أهل الذمة هم الذين يثقل عليهم تأدية هذه الخدمة ، فانّهم بذلك كانوا ملزمين بدفع الجزية عن يدٍ و هم صاغرون .
إنّ الجزية في الوطن الإسلامي لم تكن تؤخذ إلاّ مِن الذميّ القادر على حمل السلاح ممّن جاوزت أعمارهم الخامسة عشر ، إذ لم يكن يدفعها الطفل و لا الشيخ و لا المرأة و لا ذو العاهة البادية و لا أهل الصوامع و البيع ... يقول الكاتب (آدم متز) استاذ اللغات الشرقية بجامعة (بازل) بسويسره :
( و كانت هذه الجزية أشبه بضريبة للدفاع الوطني ، فكان لا يدفعها إلاّ الرجل القادر على حمل السلاح ، و لا يدفعها ذووا العاهات و لا المترهّبون و أهل الصوامع إلاّ اذا كان لهم يسار - أي غنى -)(2)
إنّ الوطن الإسلامي كان وطناً للجميع .. لا لفرد دون آخر .. و المنطق الذي فرض على المسلم أن يضحّي بحياته من أجل هذا الوطن هو نفسه المنطق الذي كلف الذمي بالمساهمة في الدفاع عن هذا الوطن و التضحية من أجله .. لأنّهم أبناء لوطن واحد ، يعيشون تحت سقفه و يأكلون من خيراته و يشربون من مياهه و يتنفسون من هوائه و يمارسون في ظله كافة حرّياتِهم .
و قد راعى الإسلام الإحساس المهزوم لهؤلاء الكتابيين و شعورهم المجروح ، فعفتْهم عن أداء هذا الواجب الوطني و ضمنت لهم فوق كل ذلك حياتَهم و أمنهم و كامل حرياتِهم مقابل ضريبة متواضعة يدفعونَها للسلطة أو دعماً للمجهود الحربية .
يقول (آدم متز) في كتابه المذكور ص96 : ( إنّ غالبية دافعي الجزية كانوا يدفعون الحدّ الأدنى)
و أخيراً ... فإنّ المسلمين هم ليسوا الوحيدين الذين فرضوا الضرائب على غيرهم ، فالروم كانوا يأخذون من اليهود و المجوس ديناراً في السنة ، و كذلك فرض النصارى على المسلمين الجزية لما فتحوا بلادهم (3).
(1) التوبة (29)
(2) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري / آدم متز / ص 96
(3) نفس المصدر / ص 96
عن رابطة أدباء الشام