الانتشار العسكري والحرب العالمية
اذا كانت قضية السلام والحرب هي من اخطر القضايا التي عرفتها الانسانية منذ اقدم العصور وحتى اليوم، فانه من طبيعة الامور ان تتركز ابحاث ودراسات واجتهادات الخبراء والمهتمين بشؤون السلم والحرب على استنباط العوامل التي تنتقل بالشعوب من حياة السلم الى اتون الحرب او تعود بهذه الشعوب من جحيم الحروب الى نعيم الامن والسلام. وقد كان من حصاد الدروس المستخلصة من تجارب التاريخ، تقسيم العوامل المستخلصة وتصنيفها في مجموعتين: ١ - مجموعة الاسباب غير المباشرة مثل الاقتصاد والعامل الجغرافي او العامل السكاني الخ.. ٢ - مجموعة الاسباب المباشرة ونموذجها مصرع ولي عهد النمسا وزوجته الذي فجر الحرب العالمية الاولى، والممر البولوني الذي فجر الحرب العالمية الثانية. وكذلك مروحة الإَ اي التي فجرت حرب فرنسا لاستعمار الخزائر ١٨٣٠. فهل تغيرت نتائج هذه الابحاث بتأثير تطورات الثقافة والتسلح؟ ام ان مؤشرات هذه العوامل في الازمنة الحديثة تصلح لقرع اجراس الانذار من الاخطار الكامنة وراء الذرائع السياسية والتي وضعت شعوب الارض على حافة الحرب؟
التحديات التراكمية
كيف يمكن قراءة الواقع السياسي العالمي في الازمنة المعاصرة؟ وهل يمكن الوصول الى قراءة موحدة او متقاربة على الاقل - للاحداث المتلاحقة التي تعيشها شعوب الارض في ظل الصراعات السياسية والاضطرابات الامنية والحروب المتفجرة؟ ان مثل هذه التساؤلات الكثيرة تجعل من الصعب الاتفاق على تقويم واقعي وحقيقي لما يثير قلق ومخاوف الانسان المعاصر في مواجهة الازمات التي يعيشها في حاضره، فكيف يمكن لهذا الانسان قراءة او استخلاص ما هو محتمل وما هو متوقع حدوثه في حدود المستقبل المنظور؟ عودة عاجلة الى ما قبل عقدين من عمر الزمن، ففي العام ١٩٩١، تم التوقيع على معاهدة باريس - او انتهاء عصر الحرب الباردة - رسميا. واعلن عن انطلاقة النظام العالمي الجديد الواعد بالسلام العالمي والتنمية الاقتصادية والانفتاح لبناء علاقات دولية جديدة. وتنفس العالم انذاك الصعداء لتحرره من مخاوف الحروب بالوكالة والمنازعات القطبية والمنافسات الاقتصادية والمباريات السياسية والتي ميزت عصر الحرب الباردة مع ما حمله هذا التميز من خطر الانزلاق على منحدرات الحرب الباردة والوصول الى هاوية الحرب الساخنة جدا التي قد تسبب النار النووية.. ولكن سرعان ما تبخرت الاحلام الجميلة، فمنذ العام ١٩٩٦ ظهرت بواكير عودة الدول الكبرى الى سياساتها القديمة ولكن باساليب متجددة، بعد ان انجزت بنجاح متطلبات اعادة التنظيم للجبهات الداخلية والعلاقات الدولية للتكيف مع المتحولات العالمية: فقد انطلقت اوروبا للتوسع شرقا بضم دول اوروبا الشرقية سابقا الى الاتحاد الاوروبي، فارتفع عدد هذه الدول من ١٥ دولة الى ٢٨ دولة مرشحة للزيادة واصبحت حدود اوروبا الجديدة متاخمة لحدود روسيا الاتحادية وهو ما اعتبرته قيادة الكريملين تهديدا لامن بلادها، وقد يكون الامر كذلك. اما اميركا فقد انطلقت بدورها لنشر المزيد من قواعد حلف شمال الاطلسي في اوروبا واسيا الوسطى. ومقابل ذلك، خرجت روسيا من اعادة التنظيم بمكاسب كبيرة، اذ حصلت على دعم اميركي واوروبي لتجاوز مرحلة الانتقال من النظام الاشتراكي الى النظام الرأسمالي - وامكن لها اقتحام كل المواقع التي لم يكن باستطاعتها الوصول اليها في عهد الاتحاد السوفياتي السابق. واصبحت علاقات روسيا مع كل دول العالم وفي كل القارات، قادرة على التطور باستمرار وبخاصة في افريقيا واسيا. والاهم من ذلك توثيق عرى التعاون مع اوروبا واميركا في مجالات الاقتصاد والثقافة. وفي ظل هذا الانتشار الجديد، اقامت روسيا تحالفا استراتيجيا مع الصين ومع الهند، ونظمت قواعدها في بيونغ يانغ وطهران وفنزويلا وبوليفيا في اميركا الجنوبية واصبحت محاور التحرك للاساطيل والقوات الروسية مفتوحة على كل البحار والمحيطات، وقد شكلت هذه التحولات مصدر تهديد لواشنطن وعواصم الغرب الاوروبي. فتشكلت عوامل جديدة للاحتكاك يمثلها الدرع الصاروخي الاميركي وقواعده في اوروبا.
عادت الحرب الاعلامية لمواكبة هذه التحولات الجديدة واصبح السؤال المطروح على الفكر السياسي - العسكري في العالم هو: هل يعتبر المعسكر الاميركي - الاوروبي هو المسؤول عن ضياع الاستقرار العالمي، وتعريض السلم لاخطار الحروب؟ ام ان المعسكر الآسيوي الروسي - الصيني هو الذي يتحمل مسؤولية ابتعاد الامن والاستقرار عن آفاق العالم المعاصر؟ لقد كانت خطوط التماس والاحتكاك محددة وواضحة طوال عصر الحرب الباردة. اما في عصر النظام العالمي الجديد. فقد اصبحت هذه الخطوط متداخلة ومتشابكة ومعقدة وشاملة لكل اقطار العالم. فهل يمكن السيطرة على هذا الانتشار الواسع للقوى والاسلحة بكل صنوفها؟ واذا كان من الصعب مثلا حمل روسيا او الصين على فرض سيطرتهما للحد من الانتشار النووي. وانتشار الاسلحة التقليدية فكيف يمكن ضمان السلم العالمي والاستقرار الدولي؟ وهل يعتبر الدور المعطل الذي تمارسه روسيا والصين عبر حلفائها الاستراتيجيين هو عامل استقرار ام عامل اضطراب ذو ابعاد غير محدودة؟
لقد اكدت مسيرة الاحداث وتطوراتها، ان الصراعات القطبية بين كل الدول القطبية الكبرى قد حققت كثيرا من اهدافها على حساب الدور الاميركي، وعلى حساب علاقات اميركا مع حلفائها التقليديين الاوروبيين واليابانيين ودول جنوب شرق آسيا، ودول آسيا الوسطى وحتى الصين والدول الافريقية. وقد تولت روسيا الاتحادية قيادة التحالف ضد السياسات الاميركية: مستفيدة في ذلك من اخطاء وانحرافات السياسات الاميركية في سنوات ٢٠٠١ - ٢٠٠٨ او عهد الرئيس السابق جورج بوش ومستمثرة تحالفاتها مع دول النسق الاول للمواجهة وهي دول كوريا الشمالية بيونغ يانغ، وطهران وفنزويلا وبوليفيا بالدرجة الاولى. فامكن لقادة الكريملين بذلك تشكيل جبهة ضاغطة قوية لتغيير مسارات سياسة الادارة الاميركية الجديدة الرئيس باراك اوباما بما يتوافق مع مصالح روسيا وبما يحقق اطماعها العالمية، وكانت التهديدات والتحذيرات هي وسيلةروسيا والدول المتحالفة معها لتغيير مسارات السياسات الاميركية التي اعلنها الرئيس الاميركي، ونموذج ذلك ما صدر عن بكين وموسكو يوم ٢٦ شباط - فبراير - ٢٠٠٩ بمناسبة صدور تقرير حقوق الانسان في العالم عن وزارة الخارجية الاميركية، فكان رد فعل بكين على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية فاجا وتشو ما يلي: "اننا نطلب من الولايات المتحدة الكف عن فرض نفسها بصفة حارس لحقوق الانسان في لعالم. وعليها الاهتمام بمشكلاتها الخاصة في مجال حقوق الانسان".
اما وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف فقد صرح بما يلي: "ان روسيا على استعداد لمناقشة قضية حقوق الانسان في العالم، مع الشركاء الاوروبيين وغيرهم، مع التقيد الصارم بالاجراءات القانونية في هذا المجال - دون تمييز ولا تسييس، وان روسيا تعير اهتماما كبيرا لمسألة حقوق الانسان في البلاد الاخرى - وبالدرجة الاولى من وجهة نظر المغتربين الروس في الخارج والاقليات القومية" وقد اصبح معروفا في العالم كله ان قادة الكريملين يمسكون بيدهم وعبر حلفائهم مفاتيح ادارة الازمات مثل صواريخ بيونغ يانغ والملف النووي الايراني والامدادات بالطاقة البترول والغاز الى اوروبا وتنظيم التقارب بين حلفاء روسيا لتبادل الدعم ولتنظيم التعاون لدعم قضايا روسيا العالمية. والامثلة كثيرة منها ما اعلن في طهران يوم ٤ نيسان - ابريل - ٢٠٠٩ بما يلي: "اكد الرئيسان الايراني محمود احدي نجاد والفنزويلي هوغو شافيز ضرورة ايجاد خطة لتنمية العلاقات الثنائية في كل المجالات وهناك طاقات كبيرة للتعاون الثنائي، ولا سيما في اميركا الجنوبية، حيث ان هذه الفائدة تكون لمصلحة الجميع". ولا شك ان تنظيم التعاون الشامل على صعيد العالم ودون تسييس او تمييز من شأنه تكوين ضامن للامن والسلام العالمي. ولكن تعارض الجهود لن يضمن الامن ولا السلام.
التناقضات في المواقف
القى الرئيس الاميركي باراك اوباما كلمة امام حضور قادة الاميركيتين رؤساء دول اميركا الشمالية والجنوبية يوم ١٧ نيسان - ابريل ٢٠٠٩ جاء فيها: "يجب عدم اتهام الولايات المتحدة الاميركية بالمسؤولية عن كل ما حدث من اخطاء وما وقع من انحرافات". وكان ذلك يعني بوضوح تام، وببساطة وقوع مسؤولية اخطاء الماضي القريب وانحرافاته على كاهل كل الدول، ولو بمقادير مختلفة. وكان ذلك يعني ايضا، ان حجم الاخطاء والانحرافات قد شكل ركاما ضخما لا يجوز تجاهله او الاستمرار في عدم التعرض لمجابهته والتعامل معه، حتى لا تتطور الامور لما هو خطر يتهدد امن العالم وسلامه واستقراره. وقد يكون من المناسب هنا اخذ نموذج صواريخ بيونغ يانغ، والملف النووي الايراني. وتناقض المواقف منهما، حتى اصبحا خطرا حقيقيا يتهدد العالم. ومن المعروف ان تسلح كوريا الشمالية بيونغ يانغ بالاسلحة الصاروخية البعيدة المدى، وبالاسلحة النووية قد شكل تهديدا لمنطقة الشرق الآسيوي، اليابان وكوريا الجنوبية خصوصا، وامكن بعد مباحثات وجهود دولية واميركية الوصول الى اتفاق مع كوريا الشمالية لايقاف عمل الافران النووية والامتناع عن التسلح النووي بموجب معاهدة ١٩٩٤. وتم تشكيل لجنة سداسية ضمت اليابان وكوريا بالجنوبية وكوريا الشمالية والصين وروسيا للوصول الى اتفاق نهائي يتم بموجبه تقديم مساعدات بالتقانة والطاقة والاقتصاد واعادة توحيد الجزيرة الكورية، لكن كل الجهود كانت تصل الى حائط مسدود، يعيد القضية الى بداياتها الاولى.
لا بد من تجاوز كل المراحل الماضية للتوقف عند احدث التطورات في هذا المجال، ففي يوم ٦ نيسان"ابريل ٢٠٠٩ اطلقت كوريا الشمالية صاروخا حمل قمرا صناعيا الى الفضاء الخارجي، وذلك رغم كل التحذيرات الاميركية واليابانية والكورية الجنوبية سيوول. وسارعت اليابان لطلب عقد جلسة لمجلس الامن لمناقشة الموقف، واعلنت موسكو انها ترصد قمرا صناعيا كوريا في المدار، وبتأثير معارضة روسيا والصين فشل مجلس الامن في اتخاذ قرار بادانة بيونغ يانغ. ولكن مجلس الامن تابع جهوده من اجل فرض عقوبات على بيونغ يانغ لانتهاكات المعاهدات الدولية بهذا الشأن. وظهر انقسام واضح وحاد في المجتمع الدولي ممثلا بمجلس الامن وهو ما افادت منه كوريا الشمالية لتطلق تحذيراتها من ان فرض اي عقوبة هو: "انتهاك لسيادة كوريا الديمقراطية". وفي يوم ١٠ نيسان - ابريل صدر عن مجلس الامن بيان اكد فشل الدول الاعضاء الدائمين في المجلس بادانة قمر بيونغ يانغ. واثناء ذلك مارست موسكو وبكين ضغوطا قوية على اليابان. وارغمتاها على التراجع عن موقفها تجاه تجربة القمر الصناعي الكوري ولم يبقَ امام مجلس الامن مجال لاي بحث فاكتفى باصدار بيان رئاسي "ادان كوريا وطلب اليها احترام القرارات الدولية".
تأتي بعد ذلك قصة الملف النووي الايراني والتسلح الصاروخي الايراني وهي قصة لا تختلف في منطلقاتها وتطوراتها عن قصة صواريخ بيونغ يانغ. وقد تجاوز عمر هذه القصة عشر سنوات ونيف وهي تتصدر وسائل الاعلام العالمية والاقليمية، وتستقطب اهتمام اصحاب القرارات الدولية وغير الدولية وبخاصة دول الطوق الايراني اذ تركزت التهديدات الايرانية على دول الجوار في منطقة الخليج العربي. وعلى كل حال، فلا بد من تجاوز تراكمات الملف النووي الايراني وتفاعلاته وتعقيداته السياسية. والتوافق عندما اعلنه الرئيس لايراني محمود احمدي نجاد يوم ٩ نيسان"ابريل ٢٠٠٩ في اصفهان وسط ايران بمناسبة تدشين معمل لانتاج الوقود النووي حيث تضمن الاعلان ما يلي: "لقد اصبحت ايران قادرة على انتاج دورة الوقود النووي بشكل كامل، وبخبرات ايرانية، حيث امكن لها اختبار نموذجين جديدين من اجهزة الطرد المركزي اكثر كفاءة. وبذلك فشلت كل محاولات عرقلة تقدم ايران في مجال امتلاك التقانة النووية".
وقد يكون من الضروري وضع هذا الاعلان الى جانب تصريح اعلنه الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد يوم ١٨ نيسان"ابريل ٢٠٠٩ امام منصة العرض العسكري للقوات الايرانية بمناسبة يوم الجيش. وجاء فيه: "ان ايران تمتلك القوة لضمان الامن والاستقرار في المنطقة". ولم تكن هذه هي المرة الاولى التي اكدت فيها القيادات الايرانية اقتران القوة العسكرية الايرانية التقليدية وغير التقليدية بالدور الايراني المحوري في المنطقة متجاهلا في ذلك القدرات العربية لضمان الامن والاستقرار الاقليمي والقطري ومتجاهلا ايضا وجود دول لها وجودها في المنطقة وفي طليعتها مصر وتركيا. والمهم في الامر هو ان التأكيد الايراني المستمر على اقتران القدرة العسكرية الايرانية بالدور الايراني في المنطقة قد اصبح مرتبطا بالسياسات الروسية - الصينية كمثل ما هو مرتبط بين صواريخ بيونغ يانغ وبين روسيا والصين اذ لولا المظلة الروسية - الصينية لما كان باستطاعة بيونغ يانغ او طهران فرض تحدياتهما على العالم من خلال توجيه التهديدات الاقليمية او حتى العالمية. ومما يجدر ذكره - او تذكره - هو ان ايران قد سبق ان اعلنت في اكثر من مناسبة، انها مستعدة للبحث في ملفها النووي مقابل دور اقليمي في المنطقة. اما روسيا فقد افادت من اعلان طهران النووي لتوجيه رسالة الى الرئيس الاميركي اوباما يوم ٨ نيسان"ابريل ٢٠٠٩ تضمنت ما يلي: "لا تتذرع بايران لاستكمال نشر الدرع الصاروخي الاميركي في اوروبا" والاعلان مجددا ايضا: "بأن برنامج ايران النووي هو برنامج سلمي". وكان موقف بكين مطابقا لموقف موسكو فهل من الغريب ان تستمر تجارة الاقطاب بالملفات النووية وغير النووية خلال العقود المقبلة، مع ما يسببه ذلك من التراكمات على طريق الحرب؟
حوارات الحرب
قد يكون الحديث عن حرب عالمية ثالثة في ظل اخطار اسلحة الدمار الشامل بمثابة حديث غريب وغير معقول ولا مقبول ليس ذلك فحسب بل ان احاديث الحروب بالوكالة والحروب المحدودة لم تعد احاديث مقبولة على ضوء ما قيل عن تجارب الحرب ضد الارهاب في افغانستان والعراق وفلسطين ولبنان ودارفور حيث اقترنت نتائج هذه الحروب بكوارث لم تكن ابدا متوقعة. وهذا ما يجب ان يدفع اصحاب قرارات الحروب في دوائر صناعة القرار الدولي للسلم والحرب لاعادة النظر في سياساتهم وفي مسؤولياتهم تجاه شعوبهم وتجاه مستقبل العالم. كذلك لا بد لقادة الحروب الاقليمية من اعادة التفكير ايضا في سياساتهم العسكرية غير المسؤولة. اذ ان تجاهل المحاسبة والمسؤولية لا يعني الامعان في ممارسة العبث بأمن الشعوب. ومن هنا يبدو ان حوارات الحرب وعلى ما تتضمنه من اخطار هي حوارات سيناريوات تتشكل في فراغ لتكون قاعدة للعمل في بناء خطط الحروب المحتملة. وتشير تطورات التقانة والتسلح الى ان هناك سيناريوات لحروب قطبية وسيناريوات لحروب تابعة او بالوكالة تمارسها القوى الصغرى. وبالمستطاع تسمية او تشبيه طائفة الحروب الاولى القطبية بحروب التناوش عن بعد. اما حروب الطائفة الثانية الصغرى والمحدودة فهي مثل نموذج قتال الديكة التي يمارسها الجنود في رياضاتهم العسكرية.
ويمكن على ضوء هذه النظرية القول بان استراتيجيات التناوش عن بعد وقتال الديكة قد اخذت طريقها الى الممارسات العملية عبر السياسات العسكرية الراهنة منذ تموز"يوليو ٢٠٠٦. ومن امثولاتها الصراعات القطبية على تراب جمهوريات آسيا الوسطى. ففي يوم ٥ نيسان"ابريل ٢٠٠٩ اعلنت وزارة الدفاع القرغيزية ان افراد وطواقم القاعدة العسكرية الجوية الروسية في قاعدة كانط في قيرغيزيا سيشاركون في المناورات القيادية التعبوية المقرر اجراؤها على اراضي قيرغيزيا يومي ٢٤ و٢٥ نيسان"ابريل تحت عنوان الامن ٢٠٠٩. وستشارك قوات برية وبحرية وجوية قيرغيزية في المناورات بالذخيرة الحية بدعم من القاعدة الجوية الروسية في كانط.
وجدير بالذكر ان قيرغيزيا سبقت ذلك بالطلب الى القوات الاميركية والقوات المتحالفة الجلاء عن القاعدة القيرغيزية التي كانت قد استأجرتها الولايات المتحدة في بداية الحرب على افغانستان والمعروفة باسم قاعدة ماتاس. وتظاهرت روسيا بانه لا علاقة لها باخراج القوات الاميركية من قيرغيزيا.. ولكن هذه المزاعم لم تلق القبول من احد لا سيما بعد الحرب الروسية في جورجيا، واجتياح روسيا لجورجيا قبل فترة وجيزة. وتبع ذلك في يوم ١٠ نيسان - ابريل - ٢٠٠٩. اجتياح العاصمة الجورجية تبليسي تظاهرات عنيفة نظمتها المعارضة المرتبطة بموسكو. مطالبة باسقاط النظام الاصلاحي الذي يقوده الرئيس الجورجي ميخائيل ساكا شفيلي. واقترن ذلك بتحذير الى واشنطن اطلقه وزير الخارجية الروسي وقال فيه: "يجب على واشنطن تجنب منافسة روسيا للسيطرة على الدول المتحالفة معها - منذ ايام الاتحاد السوفياتي السابق. ويجب على واشنطن وموسكو الامتناع عن اعطاء الخيار لأي من دول الاتحاد السوفياتي السابق بالانضمام الي اي من الطرفين الاميركي او الروسي". ولكن واشنطن - وقوات حلف ناتو عملت على تنفيذ مناورة عسكرية في جورجيا يوم ١٦ نيسان"أبريل وردت على ذلك الخارجية الروسية بالقول: "ان هذه المناورات هي عمل خطير يهدد الأمن القومي الروسي".
هنا تبرز مجموعة من الأسئلة مثل: "هل يحق لروسيا ان تعتبر مناورات القوات الاميركية على ارض جورجيا هي تهديد للأمن القومي الروسي - ولا تعتبر مناورات القوات الروسية البحرية والجوية على شواطىء فنزويلا وبوليفيا وسواحل اميركا الجنوبية بأنها تهديد للأمن القومي الأميركي؟" ثم هل يحق لروسيا ان تستمر في فرض استعمارها على دول آسيا الوسطى ودول اوروبية أخرى - وان يمنعها من ممارسة سيادتها والاستقلال عن روسيا - بالانضمام الى التحالف الذي تريده، ان تتصرف بحق السيادة - الوطنية والقومية بما يتوافق مع مصالحها وتطلعاتها؟
المهم في الأمر هو ان هذا التناوش من مكان بعيد بين روسيا ومنافسيها او حلفائها انما هو تأكيد على استمرار سياسات عصر الحرب الباردة، وتطوير لسياسات السير على حافة الهاوية. فهل هناك ضمانات كافية بعدم الانزلاق نحو الحرب؟ لقد اعلن الرئيس الأميركي باراك اوباما يوم ٥ نيسان "ابريل ٢٠٠٩ مشروعه "لبناء عالم خال من الأسلحة النووية". وكانت روسيا قد رفعت في مناسبات سياسية هذا الشعار، الذي كان قاعدة لاتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية ستارت ١ فلماذا لم تلق هذه الدعوة استجابة مناسبة من جانب الدول النووية الكبرى - وفي طليعتها روسيا؟ ليس ذلك فحسب، بل ان التحرك على محور خلق عالم خال من الأسلحة النووية سيلغي الصراع على قضية نشر الدروع الأميركية المضادة للأسلحة الصاروخية - وهو ما تطالب به روسيا فهل من سياسات روسيا العمل باستمرار على صناعة متطلبات التناوش من مكان بعيد. وزج الدول والتنظيمات في رياضة قتال الديكة ولكن بعد تسليمها بمخالب قاتلة حتى يكون للصراع فائدة أكبر.
البحث عن قيادات مسؤولة
ألقى البابا بنديكتوس السادس عشر كلمته بمناسبة عيد الفصح يوم ١٢ نيسان"ابريل ٢٠٠٩ امام عشرات آلاف المصلين ممن غصت بهم ساحة القديس بطرس بالفاتيكان - على اتساع الساحة. وتضمنت الكلمة ما يلي: "هناك ضرورة بالتأكيد لتحقيق الأمن والسلام في منطقة الشرق الأوسط والعالم أجمع. ومن اجل ذلك لا بد من تحقيق المصالحة والأمن لبناء المستقبل المشترك - ومضاعفة الجهود لانهاء الصراع العربي - الاسرائيلي وأناشيد العالم اجمع من اجل مواجهة ازمة الغذاء والأزمة المالية والتغييرات المناخية ووضع حد للعنف والارهاب. واستلهام معاني عيد الفصح المجيد والقيم الروحية والأخلاقية للعيد، اذ لا بد من التوقف عند حجم المعاناة التي تعيشها افريقيا، واستمرار الصراعات والجوع والفقر والمرض".
تعتبر هذه الموعظة الجامعة المانعة توصيفاً دقيقاً لواقع العالم المعاصر ومشكلاته المعقدة، ومتطلباته لبناء الأجيال القادمة ومنها:
أولاً - ان حجم المشكلات القائمة الصراعات والفقر والجوع والمرض يشكل تحدياً قوياً للعالم. بمجموعه - ودونما استثناء - وهذا التحدي يتطلب قيادات تمتلك القدرة للوصول الى الاستجابة الصحيحة والمناسبة.
ثانياً - ان تحقيق الأمن والسلام في العالم قد اصبح ضرورة حتمية، فقد تعب العالم من مشاهدة مسلسلات الحروب المدمرة والتي وصلت بالعالم الى حافة الافلاس، وقادمة نحو منزلقات الدمار، ولن تستطيع قيادة دولة من الدول مهما توافر لها القدرة ان تضطلع وحدها ببناء عالم المستقبل والأمن والسلام، ولا بد من تعاون اقطاب العالم الذين لم يرتفعوا حتى الآن الى الحد الأدنى من مسؤولياتهم.
ثالثاً - ويعرف البابا اكثر مما يعرفه اي مسؤول عالمي - علاقة الوطن العربي الشرق الأوسط بقضية مستقبل السلم العالمي وأمنه، ولهذا فهو يطلب الى قادة العالم - دون التعرض لذكرهم - لتوطيد السلام وتسوية الصراع العربي - الاسرائيلي، لأن هذا هو المدخل الصحيح للسلام.
رابعاً - وفي عالم الازدواجية في المقاييس والمعايير، يؤكد البابا في موعظته، على ضرورة الالتزام بثقافة السلام المقترنة بالقيم الروحية والأخلاقية والتي من شأنها التعامل مع عوامل تشكل الارهاب والصراعات وهي التي تتمثل بالثالوث القديم المتجدد الفقر والمرض والجهل وبايجاز شديد فهناك اعتراف عالمي بأنه من المحال ضمان الأمن وتحقيق السلام العالمي بصورة مجزأة وبوحدات منعزلة، ولا بد من ان يكون السلام تاماً وشاملاً في عالم تتزايد قوة روابطه بتأثير الثقافة يوماً بعد يوم. وبالتالي، فمن المحال ضمان الأمن والأستقرار في العالم ما لم يتجاوز قادة العالم، اصحاب قرارات السلم والحرب، حدود مشكلاتهم الضيقة وأساليبهم القديمة ومماحكات التناوش من مكان بعيد وأساليب تكتيك قتال الديكة.
لقد اصبح الانتشار العسكري بكل مكوناته وقواعده وتنظيماته وثقافته واسلحته التقليدية منها وغير التقليدية مصدر قلق شديد لشعوب الارض. وافضل برهان على هذه الحقيقة مواقف شعوب العالم وقياداته من تجارب بيونغ يانغ النووية والصاروخية. والتي شغلت اجهزة الاعلام منذ اطلاق كوريا الشمالية قمرها في ٦ نيسان - ابريل - ٢٠٠٩ وحتى مطلع حزيران - يونيو - ٢٠٠٩ عندما اطلقت روسيا - صاروخها السادس. وكانت اليابان وكوريا الجنوبية سيؤول من اكثر دول العالم حذرا من تجارب بيونغ يانغ الاستفزازية، اذ رغم انقضاء ٦٥ عاما تقريبا على احتراق اليابان بالنار النووية فانها ما زالت تعيش الام حروقها وجروحها ولهذا لم يكن غريبا ان تتولى اليابان قيادة حملة عالمية لمنع الانتشار النووي والعمل على تخليص العالم من السلاح النووي. وجاءت استجابتها الواضحة هذه في الرد على موقف الرئيس الاميركي باراك اوباما الذي طرح يوم ١٣ نيسان - ابريل - ٢٠٠٩ مبدأ تخليص العالم من الاسلحة النووية. ورحبت موسكو بدورها بالعمل على حظر انتشار الاسلحة النووية ولكن على قاعدة اعادة النظر في توقيع معاهدة جديدة تحمل اسم ستارت - ٢ ويعني ذلك تقليص اعداد الرؤوس النووية - وبالتالي الحد من الانتشار النووي.
لقد اكدت هذه المواقف وسواها ان الخوف من الانتشار النووي ليس متعلقا بالترسانة النووية الاميركية - الروسية قدر تعلقه باطراف نووية. او اطراف تسعى للحصول على تقانة التسلح النووي وتحتل القدرة الكورية الشمالية المرتبة الاولى في اثارة القلق العالمي. ولقد جاءت تجارب كوريا الشمالية الحديثة لتدعم الولايات المتحدة والحلفاء الاوروبيين في نشر الدروع الصاروخية المضادة للصواريخ حيث اعلنت بولندا يوم ١٨ - ايار - مايو ٢٠٠٩ انها ستعمل على نشر الدرع الصاروخي الاميركي على اراضيها في نهاية العام ٢٠٠٩. وكان لزاما التساؤل هل نشر الدرع الصاروخي الاميركي هو للوقاية من صواريخ بيونغ يانغ وقنابلها النووية؟ ام هو للوقاية من صواريخ ايران واستعداداتها النووية؟ ام هو للوقاية من صواريخ المظلة النووية الروسية - الصينية التي تحمي بظلالها معظم القوى النووية السلمية وغير السلمية؟ بايجاز شديد: هل هو الخوف من انتشار القوى في المحيطات والبحار والقارات ام هو الخوف من الاقمار الصناعية في القضاء الخارجي، ام هو الخوف مما يكمن من اسلحة في اعماق المحيطات ما بين القطب الشمالي والقطب الجنوبي. ام هو اولا وآخرا الخوف من قيادات تفتقر للحكمة والتوازن في ادارة شؤون العالم، وفي التعامل مع قضايا الشعوب - مما يسمح بالعودة لعصر القبيلة المسلحة، حيث الاحتكام للسلاح هو الطريق الاقصر للوصول الى الحسم، ولكن سلاح اليوم ليس تقليديا وانما هو سلاح ذو اسنان نووية.
اذا كانت قضية السلام والحرب هي من اخطر القضايا التي عرفتها الانسانية منذ اقدم العصور وحتى اليوم، فانه من طبيعة الامور ان تتركز ابحاث ودراسات واجتهادات الخبراء والمهتمين بشؤون السلم والحرب على استنباط العوامل التي تنتقل بالشعوب من حياة السلم الى اتون الحرب او تعود بهذه الشعوب من جحيم الحروب الى نعيم الامن والسلام. وقد كان من حصاد الدروس المستخلصة من تجارب التاريخ، تقسيم العوامل المستخلصة وتصنيفها في مجموعتين: ١ - مجموعة الاسباب غير المباشرة مثل الاقتصاد والعامل الجغرافي او العامل السكاني الخ.. ٢ - مجموعة الاسباب المباشرة ونموذجها مصرع ولي عهد النمسا وزوجته الذي فجر الحرب العالمية الاولى، والممر البولوني الذي فجر الحرب العالمية الثانية. وكذلك مروحة الإَ اي التي فجرت حرب فرنسا لاستعمار الخزائر ١٨٣٠. فهل تغيرت نتائج هذه الابحاث بتأثير تطورات الثقافة والتسلح؟ ام ان مؤشرات هذه العوامل في الازمنة الحديثة تصلح لقرع اجراس الانذار من الاخطار الكامنة وراء الذرائع السياسية والتي وضعت شعوب الارض على حافة الحرب؟
التحديات التراكمية
كيف يمكن قراءة الواقع السياسي العالمي في الازمنة المعاصرة؟ وهل يمكن الوصول الى قراءة موحدة او متقاربة على الاقل - للاحداث المتلاحقة التي تعيشها شعوب الارض في ظل الصراعات السياسية والاضطرابات الامنية والحروب المتفجرة؟ ان مثل هذه التساؤلات الكثيرة تجعل من الصعب الاتفاق على تقويم واقعي وحقيقي لما يثير قلق ومخاوف الانسان المعاصر في مواجهة الازمات التي يعيشها في حاضره، فكيف يمكن لهذا الانسان قراءة او استخلاص ما هو محتمل وما هو متوقع حدوثه في حدود المستقبل المنظور؟ عودة عاجلة الى ما قبل عقدين من عمر الزمن، ففي العام ١٩٩١، تم التوقيع على معاهدة باريس - او انتهاء عصر الحرب الباردة - رسميا. واعلن عن انطلاقة النظام العالمي الجديد الواعد بالسلام العالمي والتنمية الاقتصادية والانفتاح لبناء علاقات دولية جديدة. وتنفس العالم انذاك الصعداء لتحرره من مخاوف الحروب بالوكالة والمنازعات القطبية والمنافسات الاقتصادية والمباريات السياسية والتي ميزت عصر الحرب الباردة مع ما حمله هذا التميز من خطر الانزلاق على منحدرات الحرب الباردة والوصول الى هاوية الحرب الساخنة جدا التي قد تسبب النار النووية.. ولكن سرعان ما تبخرت الاحلام الجميلة، فمنذ العام ١٩٩٦ ظهرت بواكير عودة الدول الكبرى الى سياساتها القديمة ولكن باساليب متجددة، بعد ان انجزت بنجاح متطلبات اعادة التنظيم للجبهات الداخلية والعلاقات الدولية للتكيف مع المتحولات العالمية: فقد انطلقت اوروبا للتوسع شرقا بضم دول اوروبا الشرقية سابقا الى الاتحاد الاوروبي، فارتفع عدد هذه الدول من ١٥ دولة الى ٢٨ دولة مرشحة للزيادة واصبحت حدود اوروبا الجديدة متاخمة لحدود روسيا الاتحادية وهو ما اعتبرته قيادة الكريملين تهديدا لامن بلادها، وقد يكون الامر كذلك. اما اميركا فقد انطلقت بدورها لنشر المزيد من قواعد حلف شمال الاطلسي في اوروبا واسيا الوسطى. ومقابل ذلك، خرجت روسيا من اعادة التنظيم بمكاسب كبيرة، اذ حصلت على دعم اميركي واوروبي لتجاوز مرحلة الانتقال من النظام الاشتراكي الى النظام الرأسمالي - وامكن لها اقتحام كل المواقع التي لم يكن باستطاعتها الوصول اليها في عهد الاتحاد السوفياتي السابق. واصبحت علاقات روسيا مع كل دول العالم وفي كل القارات، قادرة على التطور باستمرار وبخاصة في افريقيا واسيا. والاهم من ذلك توثيق عرى التعاون مع اوروبا واميركا في مجالات الاقتصاد والثقافة. وفي ظل هذا الانتشار الجديد، اقامت روسيا تحالفا استراتيجيا مع الصين ومع الهند، ونظمت قواعدها في بيونغ يانغ وطهران وفنزويلا وبوليفيا في اميركا الجنوبية واصبحت محاور التحرك للاساطيل والقوات الروسية مفتوحة على كل البحار والمحيطات، وقد شكلت هذه التحولات مصدر تهديد لواشنطن وعواصم الغرب الاوروبي. فتشكلت عوامل جديدة للاحتكاك يمثلها الدرع الصاروخي الاميركي وقواعده في اوروبا.
عادت الحرب الاعلامية لمواكبة هذه التحولات الجديدة واصبح السؤال المطروح على الفكر السياسي - العسكري في العالم هو: هل يعتبر المعسكر الاميركي - الاوروبي هو المسؤول عن ضياع الاستقرار العالمي، وتعريض السلم لاخطار الحروب؟ ام ان المعسكر الآسيوي الروسي - الصيني هو الذي يتحمل مسؤولية ابتعاد الامن والاستقرار عن آفاق العالم المعاصر؟ لقد كانت خطوط التماس والاحتكاك محددة وواضحة طوال عصر الحرب الباردة. اما في عصر النظام العالمي الجديد. فقد اصبحت هذه الخطوط متداخلة ومتشابكة ومعقدة وشاملة لكل اقطار العالم. فهل يمكن السيطرة على هذا الانتشار الواسع للقوى والاسلحة بكل صنوفها؟ واذا كان من الصعب مثلا حمل روسيا او الصين على فرض سيطرتهما للحد من الانتشار النووي. وانتشار الاسلحة التقليدية فكيف يمكن ضمان السلم العالمي والاستقرار الدولي؟ وهل يعتبر الدور المعطل الذي تمارسه روسيا والصين عبر حلفائها الاستراتيجيين هو عامل استقرار ام عامل اضطراب ذو ابعاد غير محدودة؟
لقد اكدت مسيرة الاحداث وتطوراتها، ان الصراعات القطبية بين كل الدول القطبية الكبرى قد حققت كثيرا من اهدافها على حساب الدور الاميركي، وعلى حساب علاقات اميركا مع حلفائها التقليديين الاوروبيين واليابانيين ودول جنوب شرق آسيا، ودول آسيا الوسطى وحتى الصين والدول الافريقية. وقد تولت روسيا الاتحادية قيادة التحالف ضد السياسات الاميركية: مستفيدة في ذلك من اخطاء وانحرافات السياسات الاميركية في سنوات ٢٠٠١ - ٢٠٠٨ او عهد الرئيس السابق جورج بوش ومستمثرة تحالفاتها مع دول النسق الاول للمواجهة وهي دول كوريا الشمالية بيونغ يانغ، وطهران وفنزويلا وبوليفيا بالدرجة الاولى. فامكن لقادة الكريملين بذلك تشكيل جبهة ضاغطة قوية لتغيير مسارات سياسة الادارة الاميركية الجديدة الرئيس باراك اوباما بما يتوافق مع مصالح روسيا وبما يحقق اطماعها العالمية، وكانت التهديدات والتحذيرات هي وسيلةروسيا والدول المتحالفة معها لتغيير مسارات السياسات الاميركية التي اعلنها الرئيس الاميركي، ونموذج ذلك ما صدر عن بكين وموسكو يوم ٢٦ شباط - فبراير - ٢٠٠٩ بمناسبة صدور تقرير حقوق الانسان في العالم عن وزارة الخارجية الاميركية، فكان رد فعل بكين على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية فاجا وتشو ما يلي: "اننا نطلب من الولايات المتحدة الكف عن فرض نفسها بصفة حارس لحقوق الانسان في لعالم. وعليها الاهتمام بمشكلاتها الخاصة في مجال حقوق الانسان".
اما وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف فقد صرح بما يلي: "ان روسيا على استعداد لمناقشة قضية حقوق الانسان في العالم، مع الشركاء الاوروبيين وغيرهم، مع التقيد الصارم بالاجراءات القانونية في هذا المجال - دون تمييز ولا تسييس، وان روسيا تعير اهتماما كبيرا لمسألة حقوق الانسان في البلاد الاخرى - وبالدرجة الاولى من وجهة نظر المغتربين الروس في الخارج والاقليات القومية" وقد اصبح معروفا في العالم كله ان قادة الكريملين يمسكون بيدهم وعبر حلفائهم مفاتيح ادارة الازمات مثل صواريخ بيونغ يانغ والملف النووي الايراني والامدادات بالطاقة البترول والغاز الى اوروبا وتنظيم التقارب بين حلفاء روسيا لتبادل الدعم ولتنظيم التعاون لدعم قضايا روسيا العالمية. والامثلة كثيرة منها ما اعلن في طهران يوم ٤ نيسان - ابريل - ٢٠٠٩ بما يلي: "اكد الرئيسان الايراني محمود احدي نجاد والفنزويلي هوغو شافيز ضرورة ايجاد خطة لتنمية العلاقات الثنائية في كل المجالات وهناك طاقات كبيرة للتعاون الثنائي، ولا سيما في اميركا الجنوبية، حيث ان هذه الفائدة تكون لمصلحة الجميع". ولا شك ان تنظيم التعاون الشامل على صعيد العالم ودون تسييس او تمييز من شأنه تكوين ضامن للامن والسلام العالمي. ولكن تعارض الجهود لن يضمن الامن ولا السلام.
التناقضات في المواقف
القى الرئيس الاميركي باراك اوباما كلمة امام حضور قادة الاميركيتين رؤساء دول اميركا الشمالية والجنوبية يوم ١٧ نيسان - ابريل ٢٠٠٩ جاء فيها: "يجب عدم اتهام الولايات المتحدة الاميركية بالمسؤولية عن كل ما حدث من اخطاء وما وقع من انحرافات". وكان ذلك يعني بوضوح تام، وببساطة وقوع مسؤولية اخطاء الماضي القريب وانحرافاته على كاهل كل الدول، ولو بمقادير مختلفة. وكان ذلك يعني ايضا، ان حجم الاخطاء والانحرافات قد شكل ركاما ضخما لا يجوز تجاهله او الاستمرار في عدم التعرض لمجابهته والتعامل معه، حتى لا تتطور الامور لما هو خطر يتهدد امن العالم وسلامه واستقراره. وقد يكون من المناسب هنا اخذ نموذج صواريخ بيونغ يانغ، والملف النووي الايراني. وتناقض المواقف منهما، حتى اصبحا خطرا حقيقيا يتهدد العالم. ومن المعروف ان تسلح كوريا الشمالية بيونغ يانغ بالاسلحة الصاروخية البعيدة المدى، وبالاسلحة النووية قد شكل تهديدا لمنطقة الشرق الآسيوي، اليابان وكوريا الجنوبية خصوصا، وامكن بعد مباحثات وجهود دولية واميركية الوصول الى اتفاق مع كوريا الشمالية لايقاف عمل الافران النووية والامتناع عن التسلح النووي بموجب معاهدة ١٩٩٤. وتم تشكيل لجنة سداسية ضمت اليابان وكوريا بالجنوبية وكوريا الشمالية والصين وروسيا للوصول الى اتفاق نهائي يتم بموجبه تقديم مساعدات بالتقانة والطاقة والاقتصاد واعادة توحيد الجزيرة الكورية، لكن كل الجهود كانت تصل الى حائط مسدود، يعيد القضية الى بداياتها الاولى.
لا بد من تجاوز كل المراحل الماضية للتوقف عند احدث التطورات في هذا المجال، ففي يوم ٦ نيسان"ابريل ٢٠٠٩ اطلقت كوريا الشمالية صاروخا حمل قمرا صناعيا الى الفضاء الخارجي، وذلك رغم كل التحذيرات الاميركية واليابانية والكورية الجنوبية سيوول. وسارعت اليابان لطلب عقد جلسة لمجلس الامن لمناقشة الموقف، واعلنت موسكو انها ترصد قمرا صناعيا كوريا في المدار، وبتأثير معارضة روسيا والصين فشل مجلس الامن في اتخاذ قرار بادانة بيونغ يانغ. ولكن مجلس الامن تابع جهوده من اجل فرض عقوبات على بيونغ يانغ لانتهاكات المعاهدات الدولية بهذا الشأن. وظهر انقسام واضح وحاد في المجتمع الدولي ممثلا بمجلس الامن وهو ما افادت منه كوريا الشمالية لتطلق تحذيراتها من ان فرض اي عقوبة هو: "انتهاك لسيادة كوريا الديمقراطية". وفي يوم ١٠ نيسان - ابريل صدر عن مجلس الامن بيان اكد فشل الدول الاعضاء الدائمين في المجلس بادانة قمر بيونغ يانغ. واثناء ذلك مارست موسكو وبكين ضغوطا قوية على اليابان. وارغمتاها على التراجع عن موقفها تجاه تجربة القمر الصناعي الكوري ولم يبقَ امام مجلس الامن مجال لاي بحث فاكتفى باصدار بيان رئاسي "ادان كوريا وطلب اليها احترام القرارات الدولية".
تأتي بعد ذلك قصة الملف النووي الايراني والتسلح الصاروخي الايراني وهي قصة لا تختلف في منطلقاتها وتطوراتها عن قصة صواريخ بيونغ يانغ. وقد تجاوز عمر هذه القصة عشر سنوات ونيف وهي تتصدر وسائل الاعلام العالمية والاقليمية، وتستقطب اهتمام اصحاب القرارات الدولية وغير الدولية وبخاصة دول الطوق الايراني اذ تركزت التهديدات الايرانية على دول الجوار في منطقة الخليج العربي. وعلى كل حال، فلا بد من تجاوز تراكمات الملف النووي الايراني وتفاعلاته وتعقيداته السياسية. والتوافق عندما اعلنه الرئيس لايراني محمود احمدي نجاد يوم ٩ نيسان"ابريل ٢٠٠٩ في اصفهان وسط ايران بمناسبة تدشين معمل لانتاج الوقود النووي حيث تضمن الاعلان ما يلي: "لقد اصبحت ايران قادرة على انتاج دورة الوقود النووي بشكل كامل، وبخبرات ايرانية، حيث امكن لها اختبار نموذجين جديدين من اجهزة الطرد المركزي اكثر كفاءة. وبذلك فشلت كل محاولات عرقلة تقدم ايران في مجال امتلاك التقانة النووية".
وقد يكون من الضروري وضع هذا الاعلان الى جانب تصريح اعلنه الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد يوم ١٨ نيسان"ابريل ٢٠٠٩ امام منصة العرض العسكري للقوات الايرانية بمناسبة يوم الجيش. وجاء فيه: "ان ايران تمتلك القوة لضمان الامن والاستقرار في المنطقة". ولم تكن هذه هي المرة الاولى التي اكدت فيها القيادات الايرانية اقتران القوة العسكرية الايرانية التقليدية وغير التقليدية بالدور الايراني المحوري في المنطقة متجاهلا في ذلك القدرات العربية لضمان الامن والاستقرار الاقليمي والقطري ومتجاهلا ايضا وجود دول لها وجودها في المنطقة وفي طليعتها مصر وتركيا. والمهم في الامر هو ان التأكيد الايراني المستمر على اقتران القدرة العسكرية الايرانية بالدور الايراني في المنطقة قد اصبح مرتبطا بالسياسات الروسية - الصينية كمثل ما هو مرتبط بين صواريخ بيونغ يانغ وبين روسيا والصين اذ لولا المظلة الروسية - الصينية لما كان باستطاعة بيونغ يانغ او طهران فرض تحدياتهما على العالم من خلال توجيه التهديدات الاقليمية او حتى العالمية. ومما يجدر ذكره - او تذكره - هو ان ايران قد سبق ان اعلنت في اكثر من مناسبة، انها مستعدة للبحث في ملفها النووي مقابل دور اقليمي في المنطقة. اما روسيا فقد افادت من اعلان طهران النووي لتوجيه رسالة الى الرئيس الاميركي اوباما يوم ٨ نيسان"ابريل ٢٠٠٩ تضمنت ما يلي: "لا تتذرع بايران لاستكمال نشر الدرع الصاروخي الاميركي في اوروبا" والاعلان مجددا ايضا: "بأن برنامج ايران النووي هو برنامج سلمي". وكان موقف بكين مطابقا لموقف موسكو فهل من الغريب ان تستمر تجارة الاقطاب بالملفات النووية وغير النووية خلال العقود المقبلة، مع ما يسببه ذلك من التراكمات على طريق الحرب؟
حوارات الحرب
قد يكون الحديث عن حرب عالمية ثالثة في ظل اخطار اسلحة الدمار الشامل بمثابة حديث غريب وغير معقول ولا مقبول ليس ذلك فحسب بل ان احاديث الحروب بالوكالة والحروب المحدودة لم تعد احاديث مقبولة على ضوء ما قيل عن تجارب الحرب ضد الارهاب في افغانستان والعراق وفلسطين ولبنان ودارفور حيث اقترنت نتائج هذه الحروب بكوارث لم تكن ابدا متوقعة. وهذا ما يجب ان يدفع اصحاب قرارات الحروب في دوائر صناعة القرار الدولي للسلم والحرب لاعادة النظر في سياساتهم وفي مسؤولياتهم تجاه شعوبهم وتجاه مستقبل العالم. كذلك لا بد لقادة الحروب الاقليمية من اعادة التفكير ايضا في سياساتهم العسكرية غير المسؤولة. اذ ان تجاهل المحاسبة والمسؤولية لا يعني الامعان في ممارسة العبث بأمن الشعوب. ومن هنا يبدو ان حوارات الحرب وعلى ما تتضمنه من اخطار هي حوارات سيناريوات تتشكل في فراغ لتكون قاعدة للعمل في بناء خطط الحروب المحتملة. وتشير تطورات التقانة والتسلح الى ان هناك سيناريوات لحروب قطبية وسيناريوات لحروب تابعة او بالوكالة تمارسها القوى الصغرى. وبالمستطاع تسمية او تشبيه طائفة الحروب الاولى القطبية بحروب التناوش عن بعد. اما حروب الطائفة الثانية الصغرى والمحدودة فهي مثل نموذج قتال الديكة التي يمارسها الجنود في رياضاتهم العسكرية.
ويمكن على ضوء هذه النظرية القول بان استراتيجيات التناوش عن بعد وقتال الديكة قد اخذت طريقها الى الممارسات العملية عبر السياسات العسكرية الراهنة منذ تموز"يوليو ٢٠٠٦. ومن امثولاتها الصراعات القطبية على تراب جمهوريات آسيا الوسطى. ففي يوم ٥ نيسان"ابريل ٢٠٠٩ اعلنت وزارة الدفاع القرغيزية ان افراد وطواقم القاعدة العسكرية الجوية الروسية في قاعدة كانط في قيرغيزيا سيشاركون في المناورات القيادية التعبوية المقرر اجراؤها على اراضي قيرغيزيا يومي ٢٤ و٢٥ نيسان"ابريل تحت عنوان الامن ٢٠٠٩. وستشارك قوات برية وبحرية وجوية قيرغيزية في المناورات بالذخيرة الحية بدعم من القاعدة الجوية الروسية في كانط.
وجدير بالذكر ان قيرغيزيا سبقت ذلك بالطلب الى القوات الاميركية والقوات المتحالفة الجلاء عن القاعدة القيرغيزية التي كانت قد استأجرتها الولايات المتحدة في بداية الحرب على افغانستان والمعروفة باسم قاعدة ماتاس. وتظاهرت روسيا بانه لا علاقة لها باخراج القوات الاميركية من قيرغيزيا.. ولكن هذه المزاعم لم تلق القبول من احد لا سيما بعد الحرب الروسية في جورجيا، واجتياح روسيا لجورجيا قبل فترة وجيزة. وتبع ذلك في يوم ١٠ نيسان - ابريل - ٢٠٠٩. اجتياح العاصمة الجورجية تبليسي تظاهرات عنيفة نظمتها المعارضة المرتبطة بموسكو. مطالبة باسقاط النظام الاصلاحي الذي يقوده الرئيس الجورجي ميخائيل ساكا شفيلي. واقترن ذلك بتحذير الى واشنطن اطلقه وزير الخارجية الروسي وقال فيه: "يجب على واشنطن تجنب منافسة روسيا للسيطرة على الدول المتحالفة معها - منذ ايام الاتحاد السوفياتي السابق. ويجب على واشنطن وموسكو الامتناع عن اعطاء الخيار لأي من دول الاتحاد السوفياتي السابق بالانضمام الي اي من الطرفين الاميركي او الروسي". ولكن واشنطن - وقوات حلف ناتو عملت على تنفيذ مناورة عسكرية في جورجيا يوم ١٦ نيسان"أبريل وردت على ذلك الخارجية الروسية بالقول: "ان هذه المناورات هي عمل خطير يهدد الأمن القومي الروسي".
هنا تبرز مجموعة من الأسئلة مثل: "هل يحق لروسيا ان تعتبر مناورات القوات الاميركية على ارض جورجيا هي تهديد للأمن القومي الروسي - ولا تعتبر مناورات القوات الروسية البحرية والجوية على شواطىء فنزويلا وبوليفيا وسواحل اميركا الجنوبية بأنها تهديد للأمن القومي الأميركي؟" ثم هل يحق لروسيا ان تستمر في فرض استعمارها على دول آسيا الوسطى ودول اوروبية أخرى - وان يمنعها من ممارسة سيادتها والاستقلال عن روسيا - بالانضمام الى التحالف الذي تريده، ان تتصرف بحق السيادة - الوطنية والقومية بما يتوافق مع مصالحها وتطلعاتها؟
المهم في الأمر هو ان هذا التناوش من مكان بعيد بين روسيا ومنافسيها او حلفائها انما هو تأكيد على استمرار سياسات عصر الحرب الباردة، وتطوير لسياسات السير على حافة الهاوية. فهل هناك ضمانات كافية بعدم الانزلاق نحو الحرب؟ لقد اعلن الرئيس الأميركي باراك اوباما يوم ٥ نيسان "ابريل ٢٠٠٩ مشروعه "لبناء عالم خال من الأسلحة النووية". وكانت روسيا قد رفعت في مناسبات سياسية هذا الشعار، الذي كان قاعدة لاتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية ستارت ١ فلماذا لم تلق هذه الدعوة استجابة مناسبة من جانب الدول النووية الكبرى - وفي طليعتها روسيا؟ ليس ذلك فحسب، بل ان التحرك على محور خلق عالم خال من الأسلحة النووية سيلغي الصراع على قضية نشر الدروع الأميركية المضادة للأسلحة الصاروخية - وهو ما تطالب به روسيا فهل من سياسات روسيا العمل باستمرار على صناعة متطلبات التناوش من مكان بعيد. وزج الدول والتنظيمات في رياضة قتال الديكة ولكن بعد تسليمها بمخالب قاتلة حتى يكون للصراع فائدة أكبر.
البحث عن قيادات مسؤولة
ألقى البابا بنديكتوس السادس عشر كلمته بمناسبة عيد الفصح يوم ١٢ نيسان"ابريل ٢٠٠٩ امام عشرات آلاف المصلين ممن غصت بهم ساحة القديس بطرس بالفاتيكان - على اتساع الساحة. وتضمنت الكلمة ما يلي: "هناك ضرورة بالتأكيد لتحقيق الأمن والسلام في منطقة الشرق الأوسط والعالم أجمع. ومن اجل ذلك لا بد من تحقيق المصالحة والأمن لبناء المستقبل المشترك - ومضاعفة الجهود لانهاء الصراع العربي - الاسرائيلي وأناشيد العالم اجمع من اجل مواجهة ازمة الغذاء والأزمة المالية والتغييرات المناخية ووضع حد للعنف والارهاب. واستلهام معاني عيد الفصح المجيد والقيم الروحية والأخلاقية للعيد، اذ لا بد من التوقف عند حجم المعاناة التي تعيشها افريقيا، واستمرار الصراعات والجوع والفقر والمرض".
تعتبر هذه الموعظة الجامعة المانعة توصيفاً دقيقاً لواقع العالم المعاصر ومشكلاته المعقدة، ومتطلباته لبناء الأجيال القادمة ومنها:
أولاً - ان حجم المشكلات القائمة الصراعات والفقر والجوع والمرض يشكل تحدياً قوياً للعالم. بمجموعه - ودونما استثناء - وهذا التحدي يتطلب قيادات تمتلك القدرة للوصول الى الاستجابة الصحيحة والمناسبة.
ثانياً - ان تحقيق الأمن والسلام في العالم قد اصبح ضرورة حتمية، فقد تعب العالم من مشاهدة مسلسلات الحروب المدمرة والتي وصلت بالعالم الى حافة الافلاس، وقادمة نحو منزلقات الدمار، ولن تستطيع قيادة دولة من الدول مهما توافر لها القدرة ان تضطلع وحدها ببناء عالم المستقبل والأمن والسلام، ولا بد من تعاون اقطاب العالم الذين لم يرتفعوا حتى الآن الى الحد الأدنى من مسؤولياتهم.
ثالثاً - ويعرف البابا اكثر مما يعرفه اي مسؤول عالمي - علاقة الوطن العربي الشرق الأوسط بقضية مستقبل السلم العالمي وأمنه، ولهذا فهو يطلب الى قادة العالم - دون التعرض لذكرهم - لتوطيد السلام وتسوية الصراع العربي - الاسرائيلي، لأن هذا هو المدخل الصحيح للسلام.
رابعاً - وفي عالم الازدواجية في المقاييس والمعايير، يؤكد البابا في موعظته، على ضرورة الالتزام بثقافة السلام المقترنة بالقيم الروحية والأخلاقية والتي من شأنها التعامل مع عوامل تشكل الارهاب والصراعات وهي التي تتمثل بالثالوث القديم المتجدد الفقر والمرض والجهل وبايجاز شديد فهناك اعتراف عالمي بأنه من المحال ضمان الأمن وتحقيق السلام العالمي بصورة مجزأة وبوحدات منعزلة، ولا بد من ان يكون السلام تاماً وشاملاً في عالم تتزايد قوة روابطه بتأثير الثقافة يوماً بعد يوم. وبالتالي، فمن المحال ضمان الأمن والأستقرار في العالم ما لم يتجاوز قادة العالم، اصحاب قرارات السلم والحرب، حدود مشكلاتهم الضيقة وأساليبهم القديمة ومماحكات التناوش من مكان بعيد وأساليب تكتيك قتال الديكة.
لقد اصبح الانتشار العسكري بكل مكوناته وقواعده وتنظيماته وثقافته واسلحته التقليدية منها وغير التقليدية مصدر قلق شديد لشعوب الارض. وافضل برهان على هذه الحقيقة مواقف شعوب العالم وقياداته من تجارب بيونغ يانغ النووية والصاروخية. والتي شغلت اجهزة الاعلام منذ اطلاق كوريا الشمالية قمرها في ٦ نيسان - ابريل - ٢٠٠٩ وحتى مطلع حزيران - يونيو - ٢٠٠٩ عندما اطلقت روسيا - صاروخها السادس. وكانت اليابان وكوريا الجنوبية سيؤول من اكثر دول العالم حذرا من تجارب بيونغ يانغ الاستفزازية، اذ رغم انقضاء ٦٥ عاما تقريبا على احتراق اليابان بالنار النووية فانها ما زالت تعيش الام حروقها وجروحها ولهذا لم يكن غريبا ان تتولى اليابان قيادة حملة عالمية لمنع الانتشار النووي والعمل على تخليص العالم من السلاح النووي. وجاءت استجابتها الواضحة هذه في الرد على موقف الرئيس الاميركي باراك اوباما الذي طرح يوم ١٣ نيسان - ابريل - ٢٠٠٩ مبدأ تخليص العالم من الاسلحة النووية. ورحبت موسكو بدورها بالعمل على حظر انتشار الاسلحة النووية ولكن على قاعدة اعادة النظر في توقيع معاهدة جديدة تحمل اسم ستارت - ٢ ويعني ذلك تقليص اعداد الرؤوس النووية - وبالتالي الحد من الانتشار النووي.
لقد اكدت هذه المواقف وسواها ان الخوف من الانتشار النووي ليس متعلقا بالترسانة النووية الاميركية - الروسية قدر تعلقه باطراف نووية. او اطراف تسعى للحصول على تقانة التسلح النووي وتحتل القدرة الكورية الشمالية المرتبة الاولى في اثارة القلق العالمي. ولقد جاءت تجارب كوريا الشمالية الحديثة لتدعم الولايات المتحدة والحلفاء الاوروبيين في نشر الدروع الصاروخية المضادة للصواريخ حيث اعلنت بولندا يوم ١٨ - ايار - مايو ٢٠٠٩ انها ستعمل على نشر الدرع الصاروخي الاميركي على اراضيها في نهاية العام ٢٠٠٩. وكان لزاما التساؤل هل نشر الدرع الصاروخي الاميركي هو للوقاية من صواريخ بيونغ يانغ وقنابلها النووية؟ ام هو للوقاية من صواريخ ايران واستعداداتها النووية؟ ام هو للوقاية من صواريخ المظلة النووية الروسية - الصينية التي تحمي بظلالها معظم القوى النووية السلمية وغير السلمية؟ بايجاز شديد: هل هو الخوف من انتشار القوى في المحيطات والبحار والقارات ام هو الخوف من الاقمار الصناعية في القضاء الخارجي، ام هو الخوف مما يكمن من اسلحة في اعماق المحيطات ما بين القطب الشمالي والقطب الجنوبي. ام هو اولا وآخرا الخوف من قيادات تفتقر للحكمة والتوازن في ادارة شؤون العالم، وفي التعامل مع قضايا الشعوب - مما يسمح بالعودة لعصر القبيلة المسلحة، حيث الاحتكام للسلاح هو الطريق الاقصر للوصول الى الحسم، ولكن سلاح اليوم ليس تقليديا وانما هو سلاح ذو اسنان نووية.