دروس من التاريخ
شاوشيسكو.. سقوط طاغية
محمد فاروق الإمام
كانت نهاية الديكتاتور الروماني نيوكلاي شاوشيسكو وزوجته إيلينا، درامية ومفجعة بكل المقاييس. ففي ليلة عيد الميلاد لعام 1989 اقتيد الزوجان معصوبي الأعين إلى أحد معسكرات الجيش الروماني خارج العاصمة بوخارست، وهناك أُعدما.
قبل أسبوع واحد من هذه النهاية المأساوية كان شاوشيسكو هو الديكتاتور الذي لا ينازعه أحد. وقد بلغت درجة الكراهية له، درجة أن تطوع 300 روماني لتنفيذ حكم الإعدام به وبزوجته رمياً بالرصاص بينما كان العدد المطلوب ثلاثة فقط.
كان الدافع لهذه النهاية اقتصادياً في الأساس، فمن أجل سداد ديون بلاده التي كانت تبلغ عشرة مليارات دولار، خصص شاوشيسكو كل المنتجات الرومانية للتصدير. وكانت النتيجة جوعاً عارماً ومتاجر خاوية.
ظل شاوشيسكو متمسكاً بخط شيوعي متشدد حتى بعد انهيار سور برلين. وانتقد رفاقه في الأحزاب الشيوعية بشرق أوروبا لأنهم أضعفوا حلف وارسو. وظل رغم كل الاضطرابات مقتنعاً بأنه يمكنه النجاة بنظامه دون تغيير.
عقد المؤتمر للحزب الشيوعي الروماني في بوخارست - والذي جرى فيه إعادة انتخاب شاوشيسكو – كما هي العادة.. فهو الرئيس الملهم والضرورة - لفترة رئاسية جديدة لمدة خمس سنوات أخرى، وربما شعر شاوشيسكو قبيل انعقاد المؤتمر أن هناك شيئاً "غير مريح" في الأفق، فقد لاحظ الدبلوماسيين الأجانب أن المؤتمر قد عقد وسط حراسة أمنية مشددة لم يسبق لها مثيل، ومع ذلك ظل شاوشيسكو يخطب لمدة خمس ساعات متواصلة.
ولو نظرنا إلى حال الاقتصاد الروماني، حيث يقف الناس طوابير طويلة أمام المتاجر لشراء احتياجاتهم، ونظام الترشيد يقضى بحصول المواطنين على الكهرباء لبضع ساعات في اليوم، وكانت الحكومة أصدرت قانون "التغذية العلمية" الذي يحدد كمية الأغذية التي يحتاجها الجسم في اليوم لكل فرد حتى لا يتناول أكثر من ثلاثة آلاف سعر حراري في اليوم، وأقنع الشعب – مكرهاً أخاك لا بطل - إذا زادت السعرات فسوف يصاب بأمراض فتاكة، وبذلك حدد القانون الحصة الرسمية من السكر لكل أسرة بنصف كيلو شهرياً ومن الزيت لترين.
والحقيقة الصعبة أن الاقتصاد الروماني أصبح هشاً، ولعل الطاغية أخطأ في تقدير قدرة الشعب الروماني أو أي شعب على الاحتمال، ونسي السيد الرئيس أن الشعب أدرك أو يدرك أنه هو الوحيد الذي يتحمل هزة المجاعة والضغوط الشديدة والكل يسرق من حوله،
وأن التقشف يجب أن يسود الجميع، فالشعب يرى غير ذلك فهو وحده الذي يتحمل،
غير أن أهم ما كان يزعج المواطنين تلك الشائعات التي تتردد هنا وهناك عن حياة البذخ التي يعيشها سيادة الرئيس هو وأسرته وكبار المسؤولين بالدولة وحرسه ورجال أمنه.
وقد بدأت الأحداث في رومانيا بحادث بسيط لم يثر اهتمام أحد، ومعظم النار من مستصغر الشرر، فقد حاولت قوات الأمن اعتقال شخص من أصل مجرى، وذلك بسبب معارضته الصريحة للحكم، فسارع المواطنين بعمل سلسلة بشرية لمنع قوات الأمن من اقتحام بيته، وتطور الأمر وزاد العدد إلى مظاهرة غاضبة ضد الحكومة تطالب بالإصلاح وحرية التعبير، وتطورت الأحداث ووقع النظام في
حيص بيص، وأصدر الرئيس لجيشه الخاص الأمر بالضرب في المليان، وسقط القتلى واندفع الأطفال يقودون المظاهرات، فقتل الأطفال وتقدمت الأمهات من الصفوف الخلفية وزادت المظاهرات واستدعى شاوشيسكو وزير دفاعه وأمره أن يزيد من كثافة النيران، وكان رد وزير الدفاع مفاجئاً للسيد الرئيس: إن الجيش لا يستطيع قتل الشعب كله.. ونفض الجيش يده تماماً.
ووسط مشاعر الإحباط قرر شاوشيسكو الفرار كما فعل من كان حوله من جيشه الخاص الذي دربه على قهر المواطنين وإلهاب ظهورهم بسياطه وملاحقتهم وسوقهم إلى المحاكم العسكرية والاستثنائية والمعتقلات والسجون والمقابر الجماعية والمنافي بسياطه.. ولكن أين المفر؟!
وقبض على الطاغية وحوكم في 25 كانون الأول عام 1989 أمام محكمة عسكرية استثنائية مثل المحاكم التي كان يعقدها لمعارضيه، فتجرع من نفس الكأس (كما تدين تدان)
وجاء الحكم باسم الشعب باسم القانون (كما كان يفعل):
(حكمت المحكمة حضوريا بإعدام السيد الرئيس وعائلته).. فهل يعتبر الطغاة الأحياء ممن سبقهم من الطغاة الذين طواهم الموت وقد ظنوا أنهم خالدون وفي مأمن من الموت؟!
عن موقع رابطة أدباء الشام
شاوشيسكو.. سقوط طاغية
محمد فاروق الإمام
كانت نهاية الديكتاتور الروماني نيوكلاي شاوشيسكو وزوجته إيلينا، درامية ومفجعة بكل المقاييس. ففي ليلة عيد الميلاد لعام 1989 اقتيد الزوجان معصوبي الأعين إلى أحد معسكرات الجيش الروماني خارج العاصمة بوخارست، وهناك أُعدما.
قبل أسبوع واحد من هذه النهاية المأساوية كان شاوشيسكو هو الديكتاتور الذي لا ينازعه أحد. وقد بلغت درجة الكراهية له، درجة أن تطوع 300 روماني لتنفيذ حكم الإعدام به وبزوجته رمياً بالرصاص بينما كان العدد المطلوب ثلاثة فقط.
كان الدافع لهذه النهاية اقتصادياً في الأساس، فمن أجل سداد ديون بلاده التي كانت تبلغ عشرة مليارات دولار، خصص شاوشيسكو كل المنتجات الرومانية للتصدير. وكانت النتيجة جوعاً عارماً ومتاجر خاوية.
ظل شاوشيسكو متمسكاً بخط شيوعي متشدد حتى بعد انهيار سور برلين. وانتقد رفاقه في الأحزاب الشيوعية بشرق أوروبا لأنهم أضعفوا حلف وارسو. وظل رغم كل الاضطرابات مقتنعاً بأنه يمكنه النجاة بنظامه دون تغيير.
عقد المؤتمر للحزب الشيوعي الروماني في بوخارست - والذي جرى فيه إعادة انتخاب شاوشيسكو – كما هي العادة.. فهو الرئيس الملهم والضرورة - لفترة رئاسية جديدة لمدة خمس سنوات أخرى، وربما شعر شاوشيسكو قبيل انعقاد المؤتمر أن هناك شيئاً "غير مريح" في الأفق، فقد لاحظ الدبلوماسيين الأجانب أن المؤتمر قد عقد وسط حراسة أمنية مشددة لم يسبق لها مثيل، ومع ذلك ظل شاوشيسكو يخطب لمدة خمس ساعات متواصلة.
ولو نظرنا إلى حال الاقتصاد الروماني، حيث يقف الناس طوابير طويلة أمام المتاجر لشراء احتياجاتهم، ونظام الترشيد يقضى بحصول المواطنين على الكهرباء لبضع ساعات في اليوم، وكانت الحكومة أصدرت قانون "التغذية العلمية" الذي يحدد كمية الأغذية التي يحتاجها الجسم في اليوم لكل فرد حتى لا يتناول أكثر من ثلاثة آلاف سعر حراري في اليوم، وأقنع الشعب – مكرهاً أخاك لا بطل - إذا زادت السعرات فسوف يصاب بأمراض فتاكة، وبذلك حدد القانون الحصة الرسمية من السكر لكل أسرة بنصف كيلو شهرياً ومن الزيت لترين.
والحقيقة الصعبة أن الاقتصاد الروماني أصبح هشاً، ولعل الطاغية أخطأ في تقدير قدرة الشعب الروماني أو أي شعب على الاحتمال، ونسي السيد الرئيس أن الشعب أدرك أو يدرك أنه هو الوحيد الذي يتحمل هزة المجاعة والضغوط الشديدة والكل يسرق من حوله،
وأن التقشف يجب أن يسود الجميع، فالشعب يرى غير ذلك فهو وحده الذي يتحمل،
غير أن أهم ما كان يزعج المواطنين تلك الشائعات التي تتردد هنا وهناك عن حياة البذخ التي يعيشها سيادة الرئيس هو وأسرته وكبار المسؤولين بالدولة وحرسه ورجال أمنه.
وقد بدأت الأحداث في رومانيا بحادث بسيط لم يثر اهتمام أحد، ومعظم النار من مستصغر الشرر، فقد حاولت قوات الأمن اعتقال شخص من أصل مجرى، وذلك بسبب معارضته الصريحة للحكم، فسارع المواطنين بعمل سلسلة بشرية لمنع قوات الأمن من اقتحام بيته، وتطور الأمر وزاد العدد إلى مظاهرة غاضبة ضد الحكومة تطالب بالإصلاح وحرية التعبير، وتطورت الأحداث ووقع النظام في
حيص بيص، وأصدر الرئيس لجيشه الخاص الأمر بالضرب في المليان، وسقط القتلى واندفع الأطفال يقودون المظاهرات، فقتل الأطفال وتقدمت الأمهات من الصفوف الخلفية وزادت المظاهرات واستدعى شاوشيسكو وزير دفاعه وأمره أن يزيد من كثافة النيران، وكان رد وزير الدفاع مفاجئاً للسيد الرئيس: إن الجيش لا يستطيع قتل الشعب كله.. ونفض الجيش يده تماماً.
ووسط مشاعر الإحباط قرر شاوشيسكو الفرار كما فعل من كان حوله من جيشه الخاص الذي دربه على قهر المواطنين وإلهاب ظهورهم بسياطه وملاحقتهم وسوقهم إلى المحاكم العسكرية والاستثنائية والمعتقلات والسجون والمقابر الجماعية والمنافي بسياطه.. ولكن أين المفر؟!
وقبض على الطاغية وحوكم في 25 كانون الأول عام 1989 أمام محكمة عسكرية استثنائية مثل المحاكم التي كان يعقدها لمعارضيه، فتجرع من نفس الكأس (كما تدين تدان)
وجاء الحكم باسم الشعب باسم القانون (كما كان يفعل):
(حكمت المحكمة حضوريا بإعدام السيد الرئيس وعائلته).. فهل يعتبر الطغاة الأحياء ممن سبقهم من الطغاة الذين طواهم الموت وقد ظنوا أنهم خالدون وفي مأمن من الموت؟!
عن موقع رابطة أدباء الشام