مصر: القاهرة ترسم خطوطاً حمراء واضحة مع اشتداد الحرب في السودان
لم تُزيّن القاهرة الأمر بعبارات دبلوماسية جوفاء.
في بيان شديد اللهجة صدر خلال زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان التي استغرقت يومًا واحدًا، أوضحت الرئاسة المصرية موقفًا لا يقل أهمية عن أمن مصر، إذ يتعلق ببقاء السودان. وكانت الرسالة واضحة لا لبس فيها: انهيار السودان ليس مأساة مجردة تتكشف خارج حدود مصر، بل هو تهديد مباشر للأمن القومي، وهناك حدود لن تسمح مصر بتجاوزها.
يتمحور البيان حول تجديد تأييد مساعي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المعلنة لتحقيق الاستقرار وخفض التصعيد في السودان. وقد صاغت القاهرة هذا الدعم ليس كتحالف من أجل التحالف فحسب، بل كجزء من جهد أوسع لوقف ما وصفته بـ"التصعيد الخطير" الذي يتسم بالمجازر والانتهاكات الممنهجة ضد المدنيين، مع التركيز بشكل خاص على الفاشر - التي أصبحت الآن واحدة من أكثر بؤر التوتر وحشية في الحرب.
هذا التركيز مهم. فباستهدافها الفاشر تحديداً، أقرت مصر ضمنياً بما تجنبه العديد من الفاعلين الدوليين: أن الحرب لم تعد مجرد صراع على السلطة بين فصائل عسكرية متنافسة، بل أصبحت حملة عنف ضد المدنيين، حيث أعاد الاستهداف العرقي والفظائع الجماعية تشكيل المشهد الأخلاقي والسياسي للصراع.
لكن الجزء الأكثر أهمية في البيان يكمن في تحديد مصر لـ "الخطوط الحمراء".
كان موقف القاهرة واضحاً لا لبس فيه. فوحدة السودان وسلامة أراضيه أمران لا يقبلان المساومة. وأي محاولة لتقسيم البلاد، سواء أكانت عبر الانفصال الرسمي، أو التقسيم الفعلي، أو إنشاء سلطات سياسية أو عسكرية موازية، مرفوضة رفضاً قاطعاً. ولا يترك هذا الموقف مجالاً للغموض: فالاعتراف بكيانات حكم بديلة، من وجهة نظر مصر، من شأنه أن يُعرّض سيادة السودان للخطر المباشر، ويُهدد تفكك الدولة نفسها.
هذا تحذيرٌ مباشرٌ للجهات الفاعلة الإقليمية والخارجية التي تُغازل ترتيبات الوكالة، أو الإدارات المدعومة من الميليشيات، أو مناطق النفوذ غير الرسمية. تُشير مصر إلى أن السودان لا يمكن تقسيمه تحت غطاء البراغماتية أو الضرورة الإنسانية. وتؤكد القاهرة أن التفتيت لن يُحقق الاستقرار في السودان، بل سيُرسّخ الفوضى.
ومما يثير الدهشة أيضاً إصرار مصر على الحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية. ففي الوقت الذي تدور فيه بعض النقاشات الدولية بهدوء حول سيناريوهات "ما بعد الدولة" أو تقاسم السلطة بالتفاوض مع الجماعات المسلحة، يظل موقف القاهرة ثابتاً: إن تقويض المؤسسات الأساسية للدولة السودانية يُعدّ تجاوزاً للخطوط الحمراء. والدلالة واضحة - فالشرعية، من وجهة نظر مصر، لا تزال قائمة على هياكل الدولة الرسمية في السودان، لا على الحركات المسلحة التي تسعى إلى الاعتراف بها بالقوة.
ولم تكتف القاهرة بالخطابة.
يؤكد البيان على "حق مصر الكامل" في اتخاذ جميع التدابير اللازمة، مستنداً إلى القانون الدولي واتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والسودان. وهذا ليس كلاماً عابراً، بل يُشير إلى استعداد مصر لتجاوز الدبلوماسية إذا رأت أن تفكك السودان يُهدد أمنها، لا سيما على طول حدودها الجنوبية وحوض النيل.
في الوقت نفسه، وازنت مصر بين موقفها الأمني المتشدد ودعوتها المتجددة للعمل الإنساني. وأكدت القاهرة مجدداً التزامها بالعمل ضمن إطار اللجنة الرباعية لضمان هدنة إنسانية، والدفع نحو وقف إطلاق النار، وإنشاء ملاذات آمنة وممرات للمدنيين. والأهم من ذلك، شددت مصر على ضرورة تنسيق أي ترتيبات إنسانية مع مؤسسات الدولة السودانية، مؤكدةً بذلك رفضها التام لأي سلطات موازية تعمل خارج نطاق الدولة.
يعكس البيان، في مجمله، نفاد صبر إقليمي متزايد إزاء الحلول الجزئية والغموض والشلل الدولي. وتسعى مصر إلى ترسيخ مكانتها كطرف معنيّ ذي مصالح واضحة وحدود محددة، ومستعد للتحرك في حال انتهاك هذه الحدود.
بالنسبة للسودان، فإنّ التداعيات مُقلقة. لم تعد الحرب محصورة داخل حدوده، بل تُعيد تشكيل حسابات الأمن الإقليمي. رسالة مصر هي أن مصير السودان لا ينفصل عن استقرار وادي النيل الأوسع وممر البحر الأحمر، وأن السماح بتفكك البلاد سيفتح باباً واسعاً للمشاكل ذات عواقب تتجاوز حدود الخرطوم.
بالنسبة للمجتمع الدولي، يبدو بيان القاهرة بمثابة تحدٍ: التوقف عن إدارة الأزمة بالخطابات والبدء في مواجهة محركاتها الأساسية - التشرذم، وحكم الميليشيات، وتآكل سلطة الدولة.
استمرت الحرب في السودان وسط تصريحات لا تنتهي من القلق. أما مصر، على الأقل، فتوضح موقفها بوضوح، وما لن تتسامح معه.
Egypt warns Sudan’s war threatens regional security, rejects fragmentation, and signals readiness to act as al-Burhan visits Cairo.
mesobjournal.com