بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول: الملك الحكيم (هندسة الإمبراطورية والقبضة الحديدية)
في عام 41 هـ (عام الجماعة)، طوى العالم الإسلامي صفحة "الفتنة العمياء"، ودخل في حقبة جديدة تماماً. لم يعد معاوية بن أبي سفيان مجرد والٍ متمرد في الشام، بل أصبح "أمير المؤمنين" وملك العرب الذي دانت له الرقاب من حدود الصين شرقاً إلى شواطئ الأطلسي غرباً.
اتخذ معاوية قراره الاستراتيجي الأول بنقل عاصمة الخلافة من الكوفة (المدينة القلقة التي غدرت بعلي وحاولت اغتيال الحسن) إلى دمشق، معقله الآمن وحاضنته الوفية التي تدين له بالولاء المطلق. ومن داخل "قصر الخضراء" بدمشق، بدأ معاوية ينسج خيوط دولة لا تشبه دولة الخلفاء الراشدين في بساطتها وتقشفها، بل تشبه دول الأكاسرة والقياصرة في تنظيمها وهيبتها، مع الحفاظ على روح الإسلام وشعائره.
أولاً: الثورة الإدارية (من "البساطة" إلى "المؤسسية")
أدرك معاوية أن الدولة اتسعت جداً، وأن "البساطة العمرية" لم تعد تكفي لضبط ملايين البشر من أعراق مختلفة، فدشن نظماً إدارية لم يعرفها العرب من قبل:
- ديوان الخاتم (حماية مال الدولة):وقصته طريفة تكشف دهاء معاوية؛ فقد أمر لأحد الأشخاص بمبلغ من المال في كتاب مفتوح، فقام الرجل بفك طيات الكتاب وتزوير المبلغ (زاده أضعافاً) وصرفه من بيت المال. اكتشف معاوية الثغرة، فأسس "ديوان الخاتم".الآلية: كل رسالة تخرج من الخليفة، تُنسخ نسخة منها للحفظ (أول أرشيف دولة في الإسلام)، ثم تُطوى الرسالة وتخيط وتُختم بالشمع الأحمر، فلا يمكن فتحها إلا بكسر الختم، لضمان عدم التزوير.
- ديوان البريد (عيون الخليفة التي لا تنام):لم يكن البريد لنقل الرسائل فقط، بل كان جهاز "استخبارات" ومراقبة دقيقاً. وضع معاوية محطات خيول على طول طرق الإمبراطورية. يركض الفارس بالرسالة لمحطة، ويسلمها لآخر، وهكذا.كان الخبر يخرج من مكة أو الكوفة أو مصر فيصل لدمشق في أيام معدودة. كان معاوية يرى مملكته ويسمع دبيب النمل فيها وهو جالس على سريره في الشام.
- المقصورة والحرس (نهاية عصر البساطة):بعد أن طعنه الخارجي "البرك بن عبد الله" في صلاة الفجر (في الليلة التي استشهد فيها علي)، قرر معاوية ألا يكرر خطأ عمر وعلي (الذين كانوا يصلون وسط الناس بلا حراسة).بنى "المقصورة" في المسجد (غرفة مرتفعة محصنة يصلي فيها ويسمع الناس صوته ولا يصلون إليه)، واتخذ "الحرس" الخاص الذي يحيط به ليل نهار. هنا انتهى فعلياً عصر "الخليفة الذي يمشي في الأسواق وحيداً".
ثانياً: سياسة "الشعرة" (فن ترويض الكبار)
لم يحكم معاوية بالسيف فقط، بل حكم بلسانه ودهائه وماله. سياسته الشهيرة "شعرة معاوية" كانت منهج حياة: "لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت.. إن مدوها خليتها، وإن خلوها مددتها".
كيف تعامل مع "المعارضة الصامتة" (آل البيت والصحابة)؟كانت علاقة معاوية ببقايا كبار الصحابة وأهل البيت (الحسن، الحسين، ابن الزبير، ابن عمر) علاقة دقيقة جداً، قائمة على معادلة "الاحترام الكامل + الإغراق بالمال = الصمت السياسي".
- مع الحسن والحسين: كان يعلم مكانتهما في قلوب الناس، فكان يبالغ في إكرامهما. خصص لهما عطاءً سنوياً ضخماً (قيل مليون درهم لكل منهما)، وكان يقضي ديونهما مهما عظمت. وإذا دخل الحسن أو الحسين عليه في دمشق، أجلسهما معه على السرير، ورحب بهما ترحيب الملوك، وقال: "أهلاً بابن بنت رسول الله". كانت رسالته الصامتة: "لكم التبجيل والمال والجاه، ولي الحكم والسلطة".
- مع عبد الله بن الزبير: كان ابن الزبير هو "العقدة" التي يخشاها معاوية. كان يرى في عينيه طموحاً لا ينكسر. ومع ذلك، لم يمسسه بسوء، بل كان يداريه ويقول عنه واصفاً خطره: "إن ابن الزبير يربض ربوض الأسد، ويراوغ مراوغة الثعلب".
ثالثاً: الذراع الحديدية (قصة زياد بن أبيه)
إذا كان معاوية هو "العقل الحليم" في دمشق، فقد كان زياد بن أبيه هو "السيف الباطش" في العراق.كان العراق (الكوفة والبصرة) بركان ثورات، يعج بالخوارج وشيعة علي واللصوص وقطاع الطرق. فشل الولاة العاديون في ضبطه، فاحتاج معاوية إلى "داهية" مثله، ولكن بقلب أقسى.
1. قصة "الاستلحاق" الجريئة
كان زياد رجلاً مجهول الأب (يُقال زياد بن سمية)، لكنه كان أعجوبة زمانه في الفصاحة والذكاء الإداري. كان والياً لعلي على فارس، وحفظها بذكاء نادر.أراد معاوية استمالته لصفه، فلعب ورقة خطيرة هزت المجتمع العربي: "استلحاق النسب".جمع معاوية الناس، وأحضر شهوداً من الجاهلية شهدوا أن أبا سفيان كان قد ألمَّ بـ "سمية" (أم زياد) في الجاهلية، وأن زياداً هو ابنه. فأعلن معاوية رسمياً: "هذا زياد بن أبي سفيان، أخي".ضجت المدينة، واعترضت أم المؤمنين عائشة، واعترض ابنه يزيد، لكن معاوية لم يبالِ. كان بحاجة إلى "رجل دولة" لا "رجل نسب"، وقد كسب الرهان.
2. ولاية العراق والخطبة البتراء
ولى معاوية أخاه الجديد "زياداً" على البصرة، ثم ضم له الكوفة، ليصبح "والي العراقين" (أول من جمعت له الولايتان في التاريخ).دخل زياد البصرة، والناس في فوضى والفساد يعم. صعد المنبر وخطب خطبة لم يحمد الله فيها ولم يصلِّ على النبي (لشدة غضبه وعجلته)، فسُميت "البتراء". ألقى فيها دستور الحكم الأموي للعراق:
نفذ زياد وعيده بدقة مرعبة. فرض حظر تجوال صارماً، وطارد اللصوص والخوارج بلا رحمة، حتى استتب الأمن في العراق لدرجة قيل فيها: "كانت المرأة تبيت وبابها مفتوح في العراق لا تخاف إلا الله". لقد كسر زياد شوكة التمرد العراقي، وملأ خزائن دمشق بأموال العراق."إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة.. وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والصحيح بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انجُ سعد فقد هلك سعيد.. وإني لا أعدكم وعداً إلا أنجزته.. فإياي ودلج الليل (الخروج ليلاً)، فمن وجدته بعد العشاء ضربت عنقه".
رابعاً: الفتوحات.. إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس
لم يشغل التنظيم الداخلي معاوية عن "الجهاد". بل إن عهده كان "عصر فتوحات" ذهبي، أعاد للأذهان أيام عمر بن الخطاب، وأثبت للناس أن بني أمية حماة للإسلام.
1. الجبهة الشمالية (حصار القسطنطينية الأول)
لم ينسَ معاوية ثأره القديم مع الروم وحلمه بالبحر. جهز جيشاً ضخماً (براً وبحراً) لغزو عاصمة الروم القسطنطينية.جعل على هذا الجيش ابنه "يزيد بن معاوية" (ليقدمه للناس كقائد)، وكان في الجيش كبار الصحابة مثل ابن عمر و ابن الزبير و أبو أيوب الأنصاري.حاصر المسلمون المدينة الحصينة، لكنهم لم يفتحوها لشدة أسوارها و "النار الإغريقية".هناك، مرض الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري، وأوصى أن يُدفن عند أقرب نقطة من أسوار العدو. نفذ المسلمون وصيته، ودُفن تحت أسوار القسطنطينية، ليصبح قبره رمزاً للإصرار الإسلامي، ورسالة رعب للروم بأن المسلمين سيعودون.
2. الجبهة الغربية (عقبة بن نافع وأسطورة إفريقية)
في إفريقيا (المغرب العربي)، كان هناك بطل آخر يصنع التاريخ. عقبة بن نافع الفهري (ابن خالة عمرو بن العاص).أرسله معاوية والياً، فانطلق كالإعصار. في سنة 50 هـ، وقف وسط الأحراش والسباع في تونس، وغرس رمحه وقال: "هنا القيروان". بنى المدينة لتكون قاعدة انطلاق وجيش ومسجد، وهي أول مدينة إسلامية في المغرب العربي .لم يتوقف عقبة، بل واصل زحفه غرباً حتى وصل إلى المحيط الأطلسي، وهناك خاض بفرسه في الموج ورفع يده للسماء وقال قولته الخالدة التي أبكت التاريخ:
"يا رب، لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك، أقاتل من كفر بك".
3. الجبهة الشرقية (عبور النهر)
وفي الشرق، عبرت جيوش الأمويين "نهر جيحون" لأول مرة في تاريخ الإسلام، ووصلت إلى "بخارى" و"سمرقند" (أوزبكستان حالياً)، وبدأت طلائعهم تقرع أبواب الصين والهند، حاملين راية بني أمية ومعها راية الإسلام.
انتهت العشرون عاماً من حكم معاوية والدولة في قمة مجدها:
- داخلياً: استقرار أمني (بفضل زياد في العراق)، ورخاء اقتصادي، ونظام إداري محكم (الدواوين والبريد).
- خارجياً: جيوش تضرب أسوار القسطنطينية، وخيول تشرب من المحيط الأطلسي.
- سياسياً: المعارضة (آل البيت والصحابة) تم احتواؤها بالحلم والمال، والولاة يدينون بالولاء المطلق.
