المهلب بن أبي صفرة الأزدي : قاهر الخوارج

FOX.AE

عضو
إنضم
19 ديسمبر 2011
المشاركات
618
التفاعل
927 27 2
الدولة
United Arab Emirates

المهلب بن أبي صفرة الأزدي


هو المهلب بن أبي صفرة (ظالم بن سراق العتكي الأزدي) قائدٌ عربي مسلم من أشهر قادة العصر الأموي. وُلِد سنة 8 هـ في منطقة دبا لعائلة من قبيلة الأزد العريقة. عُرف بشجاعته وحنكته العسكرية منذ صغره، وأسندت إليه مهام قيادية في الفتوحات الإسلامية بالمشرق. اشتهر خاصةً بدوره الكبير في محاربة الخوارج خلال أواخر القرن الأول الهجري، حيث خاض ضدهم حروبًا طويلة انتهت بالقضاء على أخطر فرقهم كالأزارقة. كما تولّى ولاية خراسان وبلاد ما وراء النهر، وفتح أجزاء واسعة منها لصالح الدولة الأموية. فيما يلي عرض مفصّل لسيرته وظروف عصره وحروبه مع الخوارج، مع تحليل لأفكار تلك الفرق قديمًا ومقارنة بامتداداتها الفكرية حديثًا


سيرة المهلب​


نسبه ومولده: ينتسب المهلب إلى الأزد القحطانية، وهو أزدي من فرع العَتْك. اسمه الكامل المهلب بن أبي صفرة وكنيته أبو سعيد. والدته عَناق بنت حاصر بن مالك بن شهاب من بني الحدّان بن نصر الزهراني الأزدي، وهي بذلك من قبيلة زهران إحدى بطون الأزد. وُلد المهلب في سنة 8 هـ/629م (عام فتح مكة على الأرجح) في مدينة دبا. نشأ في أسرة أزدية معروفة؛ فجده الأعلى العتيك بن الأزد وهو جدٌ مشترك لفروع أزد. يُذكر أن والده أبو صفرة (واسمه ظالم) كان صبيًا صغيرًا إبّان حروب الردّة في عُمان. وقد شارك قومه في تمرد معركة دبا ضد خليفة المسلمين أبو بكر الصديق، ولما هُزموا وقع أبو صفرة أسيرًا. جاء في رواية الواقدي: «لما قُدّم سبي أهل دبا وفيهم أبو صفرة غلام لم يبلغ الحُلم... همّ أبو بكر بقتل المقاتلة، فقال له عمر بن الخطاب: يا خليفة رسول الله، قومٌ مؤمنون إنما شَحُّوا على أموالهم، فأطلقهم. فقال أبو بكر: انطلقوا إلى أي البلاد شئتم فأنتم قوم أحرار». فخرج أبو صفرة وقومه إلى العراق واستقرّوا في البصرة. وهكذا انتقلت أسرة المهلب إلى البصرة في نشأة الدولة الإسلامية الأولى.


ملامح مبكرة: ظهرت على المهلب منذ حداثته أمارات النجابة والشجاعة. يُروى أن والده قدم به مع إخوته إلى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب في المدينة، وكان المهلب أصغر الأبناء، فنظر إليه عمر وقال لأبيه: «هذا سيّد ولدك». وقد صدقت فراسة الفاروق؛ إذ بزغ نجم المهلب عسكريًّا وهو شاب. بدأ مشاركاته في الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان: فالتحق بحملة عبد الرحمن بن سمرة لغزو سجستان سنة 42 هـ، ثم شارك في فتوح ثغر السند بعد ذلك بعامين، وغانم هناك، كما غزا مناطق في عمق الهند سنة 44 هـ. أثبت المهلب كفاءة قتالية ودهاءً حربيًا مبكرًا؛ إذ تُسجّل له المصادر إنقاذه جيش المسلمين من كمين في إحدى معارك تركستان. يروي الطبري ضمن حوادث سنة 50 هـ أن جيش المسلمين بوادي جبل الأشهل كاد يُباد لانعدام خبرتهم بالمسالك، فتولى المهلب زمام القتال بحنكة، واحتال حتى أسر أحد عظماء العدو وأجبره على إرشاد الجيش للخروج من المضيق، فنجا المسلمون وغنموا غنائم عظيمة. واشتهر أن المهلب فقد إحدى عينيه خلال فتح سمرقند في عهد معاوية بن أبي سفيان (حوالي سنة 56 هـ)؛ فقد قاتل مع سعيد بن عثمان بن عفان هناك فأصابت عينه ضربة، لكنه واصل القتال قائلاً أبياته المشهورة يفخر بأنه إن ذهبت عينه فقد بقيت نفسه للشجاعة.


استمر صعود المهلب في ظل الدولة الأموية. ففي خلافة يزيد بن معاوية سافر مع القائد سلم بن زياد والي خراسان آنذاك سنة 61 هـ/680م لغزو أطراف تركستان. وتميّز في تلك الحملة حين فتح حصون خوارزم وخاض المعارك شتاءً (وهو أمر غير معتاد وقتها)، حتى صالحه أهل خوارزم على جزية ضخمة بلغت خمسين مليون (خمسين ألف ألف)، مما أكسبه تقدير والي خراسان. وتوالت انتصارات المسلمين بعد ذلك في مناطق ما وراء النهر (تركستان)، حيث سقطت مدن كبرى مثل بخارى وصغد تباعًا. وهكذا صار المهلب أحد أبرز قادة الفتوح في المشرق الإسلامي.


دوره في الفتن والصراعات الداخلية: بعد وفاة يزيد بن معاوية سنة 64 هـ اندلعت الفتنة الثانية واضطراب الأمر بين الأمويين وعبد الله بن الزبير. انحاز المهلب في البداية إلى عبد الله بن الزبير الذي أعلن نفسه خليفة في مكة، فبايعه أهل العراق وخراسان واليمن وغيرهم. عهد ابن الزبير إلى المهلب بإمرة منطقة خراسان سنة 65 هـ وأبقاه واليًا عليها. في تلك الفترة اشتعلت أيضًا العصبيات القبلية في المشرق بين اليمنية (القحطانية) والمضرية (العدنانية)، مما جعل الأوضاع السياسية هشّة وقلقة. آثر المهلب النأي بنفسه عن نزاعات القبائل، فترك خراسان مؤقتًا عائدًا إلى البصرة. وبالفعل شهدت تلك السنوات تقلبات سريعة؛ فالأمويون أعادوا إحكام السيطرة على العراق والشام بقيادة الخليفة عبد الملك بن مروان وحجّاجه الثقفي، بينما ضعف أمر ابن الزبير وقتل سنة 73 هـ. خلال تلك المرحلة الحرجة برز اسم المهلب كصاحب دور محوري في محاربة أكبر خطر داخلي واجه الدولة: حركة الخوارج.


الخلفية السياسية والدينية لعصره​


مثل زمن المهلب ذروة صراع سياسي وعقائدي في الدولة الإسلامية. فعلى الصعيد السياسي، كان القرن الأول الهجري حافلًا بالفتن والثورات: من مقتل عثمان ثم حرب علي ومعاوية (الفتنة الأولى)، إلى واقعة كربلاء، ثم تمرد ابن الزبير في الحجاز وما تلاه من صراع بين الأمويين والزبيريين. وشهدت تلك الفترة أيضًا انقسامات قبلية حادة في الأمصار بين أنصار القيسية وأنصار اليمانية. هذه الاضطرابات أضعفت القبضة المركزية وأوجدت فراغًا استغلته الحركات المعارضة.


على الصعيد الديني والفكري، كانت أخطر تلك الحركات هي حركة الخوارج التي خرجت ابتداءً على الخليفة علي بن أبي طالب عقب التحكيم في صفين (37 هـ). اتسم الخوارج بتطرف في الموقف الديني: تبنّوا منهج التكفير الصارم، فعدّوا مرتكب الكبيرة كافرًا، واعتزلوا جماعة المسلمين الذين خالفوا رأيهم. آمن الخوارج بوجوب الخروج المسلّح على الحُكّام الذين لا يحكمون بالعدل الكامل بحسب فهمهم ورفعوا شعار «لا حكم إلا لله». كما رفضوا أفضلية قريش في الخلافة، ورأوا أن الإمامة شورى بين المسلمين ويجوز أن يتولاها أي مؤمن تقي ولو لم يكن قرشيًا. بل إن فرقة النجدات من الخوارج ذهبت إلى عدم لزوم نصب إمام أصلاً إذا صلُح حال الناس بدون إمام. كان الخوارج عُبّادًا متشددين في الدين، فهم يقومون الليل ويصومون النهار، لكنهم في المقابل استباحوا دماء مخالفيهم من عموم المسلمين متأوّلين النصوص.


خلال حقبة المهلب، تفاقم خطر الخوارج مستغلين ضعف السلطة المركزية أثناء النزاع بين ابن الزبير والأمويين. انقسم الخوارج آنذاك إلى فرق عدة، أبرزها فرقة الأزارقة بزعامة نافع بن الأزرق ثم قطري بن الفجاءة، وفرقة النَّجدات بزعامة نجدة بن عامر الحنفي، وكذلك الصفرية والعجاردة وغيرهم. انتشر الخوارج في أرجاء واسعة من الدولة؛ سيطرت الأزارقة على أجزاء من فارس والأهواز وكرمان، وبسطت النجدات نفوذها على إقليم اليمامة والبحرين بل وصلوا إلى بعض مناطق اليمن. شكّلت هذه الحركات دولة داخل الدولة، فجبوا الضرائب وأقاموا حكمًا موازيًا لفترة من الزمن. لقد كان الخطر الخارجي كبيرًا جدًا على كيان الدولة الإسلامية، إذ "عَظُمَ أمرهم وانتشروا في البصرة والأهواز وما وراء فارس حتى خيف على الأمصار من شوكتهم". ويمكن القول إن تلك الحقبة مثّلت صراعًا فكريًا حول مفهوم الحاكمية والإمامة وحدود التكفير، وهو ما جعل مواجهة الخوارج ضرورة ملحّة حفاظًا على وحدة الأمة.


تفاصيل الحروب مع الخوارج​


عُيِّن المهلب قائدًا لجيوش مواجهة الخوارج ابتداءً من عهد ابن الزبير، ثم استمر تكليفه بذلك طوال عهد عبد الملك بن مروان. بدأت القصة حوالي سنة 65 هـ عندما زحفت فرقة الأزارقة نحو البصرة بقيادة نافع بن الأزرق. كان الأزارقة من أشد الخوارج تطرفًا؛ فقد كفّروا عامة المسلمين واستحلّوا دماء من لا ينضم إليهم، وأثاروا الرعب بأعمالهم الدموية أي أشبه بداعش اليوم. أصاب البصريين هلع شديد عند اقتراب الأزارقة، فنزح كثير من الأهالي، واستنجد وجهاء البصرة كالأحنف بن قيس بواليها الحارث بن أبي ربيعة لحل الأزمة. قرّر الوالي والأحنف اختيار المهلب بن أبي صفرة لقيادة الحرب ضد الخوارج لما عُرف به من حكمة وشجاعة. تردد المهلب في قبول المهمة الخطيرة أول الأمر، فاحتال أهل البصرة بأن كتبوا له رسالة مزوَّرة على لسان ابن الزبير يطلب منه التصدي للأزارقة. وإزاء إلحاحهم اشترط المهلب لضمان نجاح الحملة عدة شروط: قال «لا أسير إليهم إلا أن تجعلوا لي ما غلبتُ عليه (أي ما أفتحه يكون لي حكمه)، وتُعطوني من بيت المال ما أقوّي به من معي، وأنتخب من فرسان الناس وذوي الشرف من أحببت». وافق أهل البصرة على شروطه، فقام المهلب بتنظيم جيش قوي من نخبة المقاتلين، وجهّزه بالإمدادات اللازمة من بيت المال.


انطلق المهلب بجنوده لمواجهة الأزارقة حول البصرة. وتمكّن بسرعة من دحرهم وإبعاد خطرهم عن المدينة دون أن يدع لهم مجالاً للاستقرار. تذكر الروايات أنه “لم يُقاتِل الأزارقة أحدٌ أشدّ عليهم من المهلب؛ إذ طردهم من البصرة شر طرد”. وقد استمرّت المعارك بين المهلب والخوارج الأزارقة أعوامًا طويلة في كرّ وفرّ مستمر. فبعد طردهم باتجاه الأهواز وفارس، أعاد الأزارقة تجميع صفوفهم بقيادة قطري بن الفجاءة (الذي خلَف نافع بن الأزرق بعد مقتله). أقام قطري دولة خوارج مصغرة في مناطق أصبهان وكرمان وفارس، وجبى الأموال وتكاثر أتباعه، حتى أصبح يتطلع لمهاجمة البصرة من جديد لاستباحتها. لكن المهلب واصل مطاردته لهم على مدى يقرب من عقدين؛ فلم يسمح لهم بالتوسع غربًا نحو العراق. يذكر المؤرخون أن المهلب ظلّ يحارب الخوارج الأزارقة طيلة تسع عشرة سنة حتى قضى على شوكتهم تمامًا. وقد خاض المهلب في هذه الفترة عشرات المعارك والوقائع ضد قطري وجماعته، شاركه فيها أبناؤه وقوّاده من بني الأزد. وأخيرًا نحو سنة 78 هـ تمكّن جيش المهلب، بدعم من ولاة الخليفة عبد الملك، من تفكيك تجمّع الأزارقة. قُتل زعيمهم قطري بن الفجاءة سنة 78 أو 79 هـ في إحدى المعارك (قيل قتله أحد قادة عبد الملك وهو سفيان بن الأبرد الكلبي)، وبذلك أنهِي خطر الأزارقة تمامًا.


أما فرقة النجدات الخارجة في إقليم اليمامة والبحرين، فقد كانت تنشط بالتزامن مع حرب المهلب للأزارقة، لكن المهلب نفسه لم يقاتل النجدات مباشرة لأن نطاقهم الجغرافي بعيد عن خراسان. تولّى أمر النجدات ولاة أمويون آخرون، وتمكنوا من القضاء عليهم في نهاية المطاف حوالي سنة 69 هـ بعد مقتل زعيمهم نجدة بن عامر ثم خليفته أبو فديك. جدير بالذكر أن النجدات كانوا أقل تشددًا من الأزارقة في بعض المسائل الفكرية (مثلاً لم يُكفّروا أصحاب الكبائر إطلاقًا)، ولكنهم مع ذلك خاضوا تمردًا مسلحًا واحتلوا أجزاء من جزيرة العرب إلى أن أُخمدوا. وكذلك ظهرت فرقة الصفرية في العراق والمغرب، وكانت تقارب الأزارقة في تكفير العصاة مع تخفيف طفيف (أنكر بعضهم قتل النساء والأطفال مثلاً)، وقد حاربهم ولاة بني أمية حتى تفرقوا. بهذا يمكن القول إن الفترة ما بين 65 هـ و 85 هـ شهدت سلسلة حروب ضارية قضت على معظم فرق الخوارج المتطرفة، وكان للمهلب بن أبي صفرة النصيب الأكبر في هذا الإنجاز العسكري والسياسي للدولة الأموية.


بعد فراغ المهلب من أمر الأزارقة، أنعم عليه الخليفة عبد الملك بن مروان بتعيينه واليًا على إقليم خراسان سنة 78 هـ، تقديرًا لجهوده. فانتقل المهلب بجيشه إلى الشرق ليواصل الفتوحات الإسلامية في ما وراء النهر. وقد نجح خلال فترة ولايته (78–82 هـ) في فتح مدن ومناطق مهمة مثل إقليم الصغد (سمرقند وما حولها)، وواصل توغله فافتتح جُرجان وطبرستان على بحر قزوين. وأسهمت هذه الفتوحات في ترسيخ سلطة المسلمين في بلاد ما وراء النهر، ومهدت لظهور مراكز حضارية إسلامية هناك فيما بعد (كخرازم وبخارى وغيرها). بقي المهلب واليًا ناجحًا على خراسان حتى وفاته. تُوفي في مدينة مرو سنة 82 هـ/702 م عن عمر يناهز 74 عامًا، تاركًا سيرة ناصعة كأحد أعظم قادة عصره. وقد خلفه في ولاية خراسان ابنه يزيد بن المهلب، لكن لم يكن يبلغ حكمة أبيه، إذ دخل لاحقًا في صراعات مع ولاة بني أمية أدت لمقتله. واشتهر نسل المهلب (بنو المهالب) فيما بعد في تاريخ البصرة وخراسان، وظلّت ذكراه باعتباره “قاهر الخوارج” وبطلاً شعبيًا تتناقل الروايات حنكته وشجاعته.

أبرز ماقيل عنه :

قطري بن الفجاءة أمير الخوارج ( الأزارقة ): «المهلب من عرفتموه: إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر: يمده إذا أرسلتموه ويرسله إذا مددتموه ولا يبدؤكم إلا أن تبدؤوه، لا أن يرى فرصة فينتهزها فهو الليث المبر والثعلب الرواغ والبلاء المقيم».
وقال عنه أبو إسحاق السبيعي: «لم أر أميرا أيمن نقيبة ولا أشجع لقاء ولا أبعد مما يكره ولا أقرب مما يحب من المهلب»


وقد أثنى عليه الصحابة رضوان الله عليهم، لما وجدوا فيه من كريم الخلال فقد قال عبدالله أبن الزبير عن المهلب «هذا سيد أهل العراق».

1. قطري بن الفجاءة (زعيم الخوارج الأزارقة)​


«ما رأيت رجلاً أدهى من المهلب، ولا أصدق في الحرب من جنده.»

كان قطري خصمه الأكبر، وقد حاربه أكثر من عشرين سنة.
هذه العبارة نُقلت عنه حين قالها لأصحابه بعد إحدى المعارك التي انسحب فيها المهلب بذكاء، فقال قطري غاضبًا:


«قاتلك الله يا مهلب! ما أضعفنا أمام حيلك!»

أسماء وأفكار جماعات الخوارج قديمًا وحديثًا​


انقسم الخوارج عبر التاريخ إلى فرق عديدة تباينت في شدّة تطرفها وبعض معتقداتها، ولكنها اشتركت في الأصول العامة كالتكفير بالخطيئة والخروج على السلطة. من أبرز جماعات الخوارج في التاريخ الإسلامي المبكر ما يلي:


  • المحكِّمة الأولى (الخوارج الأوائل): وهم أتباع ذو الخويصرة التميمي ثم جماعة حروراء الذين خرجوا على الخليفة علي رضي الله عنه بعد التحكيم سنة 37 هـ. هؤلاء هم أصل الخوارج، رفعوا شعار «لا حكم إلا لله» محتجين على قبول التحكيم، وكفّروا عليًّا ومعاوية ومن والاهما. قاتلهم عليّ في النهروان وقضى على معظمهم سنة 38 هـ، لكن نجا بعضهم وانتشر فكرهم.
  • الأزارقة: أتباع نافع بن الأزرق الحنفي ثم قطري بن الفجاءة. كانوا أشد فرق الخوارج غلوًا؛ كفّروا جميع مخالفيهم من المسلمين بلا استثناء، حتى من لم ينضم إليهم عدّوه مشركًا حلال الدم. ابتدعوا امتحان الداخل في جماعتهم بأن يقتُل أسيرًا لديهم لإثبات ولائه، فإن رفض قتلوه هم بتهمة النفاق. اعتزلوا بقية المسلمين الذين سموهم “أهل الضلالة” وهاجروا إلى معاقل لهم في الأهواز وكرمان وفارس، واستباحوا قتل نساء وأطفال خصومهم باعتبارهم مشركين. أقام الأزارقة دولة إرهابية خلّفت الدمار، ولم ينجُ المسلمون من شرهم إلا بالقضاء عليهم على يد المهلب سنة 78 هـ تقريبًا.
  • النَّجدات: أتباع نجدة بن عامر الحنفي في اليمامة والبحرين. كانوا أقل غلوًّا نسبيا؛ أنكروا وجوب نصب إمام على الناس إذا لم تدعُ الحاجة، وخففوا حكم التكفير عن أصحاب الكبائر فقالوا بعدم كفر صاحب الكبيرة إلا في بعض الحالات. مع ذلك شاركوا سائر الخوارج في تكفير الأمويين والخروج المسلّح. أسسوا دولة في أجزاء من جزيرة العرب (شملت اليمامة والبحرين بل وبلغت صنعاء باليمن فترة قصيرة). قُتل زعيمهم نجدة سنة 69 هـ ثم انقسموا وضعفوا إلى أن أُبيدوا تمامًا في زمن عبد الملك بن مروان.
  • الصَفَرية: نسبة إلى زياد بن الأصفر (وقيل عبد الله بن صفّار). كانوا على عقيدة التكفير بارتكاب الكبائر مثل الأزارقة، لكنهم خالفوا الأزارقة بعدم قتل نساء وأطفال المخالفين. ظهرت لهم زعامات في العراق (كشوذب الخارجي) وفي المغرب لاحقًا، واستمروا خلال العصر الأموي والعباسي المبكر قبل أن ينقرضوا تدريجيًا.
  • الإباضية: أتباع عبد الله بن إباض التميمي. يُعتبرون من أخف فرق الخوارج اعتدالًا، فلم يُكفّروا مرتكب الكبيرة كفرًا مخرجًا من الملّة بل قالوا منزلة بين المنزلتين. كما تجنبوا الخروج المسلح إلا نادرًا. أسسوا إمامات مستقلة لاحقًا في عُمان وشمال أفريقيا. الإباضية هي الفرقة الوحيدة من الخوارج القديمة التي لا تزال باقية حتى اليوم، لكن أتباعها المعاصرين ينفون انتسابهم للخوارج الأوائل ويبرؤون من غلو الأزارقة والنجدات، ويعتبرون تلك الصفحات الدموية تشويهًا تعرض له الخوارج المنتصرون كتبوه في التاريخ.

إلى جانب هذه الفرق الرئيسية، انبثقت عن الخوارج تاريخيًا جماعات فرعية أخرى مثل العجاردة (أتباع عبد الكريم بن عجرد)، وانقسمت العجاردة إلى شعب مثل الميمونية وغيرها، وكذلك الثعالبة والأخنسية... لكن كل هذه الفرق اندثرت ولم يعد لها وجود بعد القرن الثاني للهجرة.


امتداد فكر الخوارج في العصر الحديث: كثيرًا ما يلجأ العلماء والدعاة في العصر الحالي إلى عقد مقارنات بين الخوارج القدماء وبعض الجماعات المتطرفة الحديثة. فقد وصف عدد من علماء أهل السنة جماعات عنف معاصرة مثل تنظيم داعش والقاعدة بأنهم على منهج الخوارج أو “خوارج هذا العصر”. أوجه الشبه التي يذكرونها تشمل: التكفير المستسهَل للمخالفين، سفك دماء المسلمين باسم الدين، الخروج المسلح على حكام المسلمين، واستغلال الشعارات الدينية للوصول إلى السلطة. وقد أصدر الأزهر الشريف وهيئات إسلامية فتاوى وتصريحات عديدة في الأعوام الأخيرة تصف داعش وأمثالها بالخوارج لتشديد النكير عليهم. بالمقابل، فإن تلك الجماعات نفسها ترفض هذا الوصف وتنكر انتسابها لفكر الخوارج، وتدّعي أنها وحدها الجماعة المسلمة الحقة وأن خصومها هم “مرجئة” أو منافقون. لا شك أن مصطلح “الخوارج” بات وصمة مذمومة تاريخيًا لدى عموم المسلمين، لذلك تُطلقه الحكومات والعلماء على كل من يسفك الدم الحرام ويتبنى فكر التكفير المتطرف لنزع الشرعية عنه وحرمانه من أي تعاطف شعبي. ومع أن بعض الباحثين المعاصرين يشيرون إلى اختلاف السياق الاجتماعي والسياسي بين الخوارج القدامى وهذه الحركات الحديثة، فإن التشبيه من حيث النهج العام قائم: فكل من يُكفّر جماعة المسلمين ويستحل دماءهم ويشق عصا الطاعة على الأمة يُعدُّ في نظر الشرع متصفًا بصفات الخوارج وإن اختلف الزمان.

 
عودة
أعلى