بين ضحية إغراءات التجنيس والتجريد من الهوية:
منذ أن بسطت فرنسا نفوذها الاستعماري على بلدان المغرب العربي في القرن التاسع عشر، لم يكن مشروعها مجرد احتلالٍ عسكري أو اقتصادي، بل كان مشروعًا حضاريًا استيطانيًا هدفه الأساسي تفكيك النسيج الاجتماعي والهوية الثقافية للأمة المغاربية.
وفي هذا السياق، مثّلت الطائفة اليهودية إحدى الأدوات الحساسة في السياسة الاستعمارية الفرنسية، حيث وُضعت بين فكيّ إغراءات "التجنيس الفرنسي" من جهة، وتهديد "الاقتلاع من الجذور العربية الإسلامية" من جهة أخرى.
فرنسا واليهود: مشروع إدماج إستعماري خادع:
في الجزائر خصوصًا، شكّل مرسوم كريميو لسنة 1870 محطة فاصلة في العلاقة بين اليهود والاستعمار. فقد منحت فرنسا بموجبه الجنسية الفرنسية الكاملة ليهود الجزائر، بينما أبقت على المسلمين الجزائريين في مرتبة “الرعايا الأصليين” المحرومين من المواطنة.
كان هذا الإجراء سياسيًا بامتياز، هدفه إحداث شرخ طائفي داخل المجتمع الجزائري، وتحويل فئة من السكان الأصليين إلى أداةٍ للهيمنة الفرنسية، تُستخدم كوسيط إداري وثقافي واقتصادي بين المستعمر والمجتمع المحلي.
غير أن هذا “الامتياز” كان في حقيقته فخًا استعماريًا مزدوجًا: فقد جعل اليهود "فرنسيين بالقانون" لكنهم ظلّوا "أجانب في وجدانهم" لا يُقبلون تمامًا من قبل المستعمر ولا من قبل أبناء وطنهم الأصليين.
وهكذا وجدوا أنفسهم ضحايا تجنيسٍ أفقدهم هويتهم التاريخية دون أن يمنحهم انتماءً حقيقيًا.
التجريد من الهوية الجماعية:
مع مرور الزمن، أخذت فرنسا تعمل على طمس كل الروابط الروحية والثقافية التي كانت تجمع اليهود بمحيطهم العربي والإسلامي.
ففي المدارس الاستعمارية فُرضت اللغة الفرنسية بدل العبرية والعربية، وأُعيدت كتابة التاريخ على مقاس “الرسالة الحضارية الفرنسية”، حيث صُوِّر اليهود كمجموعة منفصلة، "متحضرة"، تحتاج إلى حماية فرنسا من “البيئة الإسلامية المتخلفة” كما كانت تصفها الدعاية الاستعمارية.
بهذه السياسات، تحولت الطائفة اليهودية في المغرب العربي من مكوّنٍ أصيلٍ في المجتمعات المحلية إلى عنصرٍ متمايزٍ ثقافيًا ومصلحيًا، ما سهّل على القوى الصهيونية لاحقًا استقطابها نحو المشروع الإسرائيلي بعد نهاية الاستعمار، خاصة مع انهيار الثقة بينها وبين الشعوب المغاربية إثر الممارسات الاستعمارية التي نُسبت إليها ظلمًا أو طوعًا.
شعور اليهود بفقدان هويتهم الموسوية:
مع مرور الزمن، بدأ اليهود المجنّسون في المغرب العربي يشعرون بأنهم فقدوا جوهرهم الموسوي الحقيقي.
لقد تخلّوا عن توراتهم القديمة في الروح والأخلاق، واستبدلوا قيمها بتعاليمٍ غربية مادية زرعتها المدرسة الفرنسية. تحول الإنسان اليهودي الذي كان متشبّعًا بالإيمان والعمل والهوية إلى إنسانٍ غربيٍّ بلا روح ولا دين ولا أخلاق، يعيش ازدواجية حادة بين أصلٍ ديني مطموس وانتماءٍ قومي زائف.
هذا الانسلاخ الروحي جعلهم في النهاية غرباء حتى عن أنفسهم، لا يجدون سكينة في اليهودية ولا اعترافًا في الفرنسية، فصاروا رموزًا لضياع الهوية في معركة الاستعمار الثقافي.
التجنيس كسلاح إستعماري:
لم يكن التجنيس الفرنسي عملًا إنسانيًا أو قانونيًا بريئًا، بل كان سلاحًا ناعمًا للاستعمار يهدف إلى خلق “نخب وسيطة” تدافع عن مصالح فرنسا من داخل المجتمع المستعمر.
وقد استُنسخت هذه السياسة لاحقًا في تونس والمغرب بصيغٍ أخرى، من خلال منح امتيازات اقتصادية وإدارية ليهودٍ موالين، مقابل إضعاف سلطة العلماء والزوايا والمؤسسات الإسلامية التي كانت تشكّل عماد الهوية الوطنية.
في المقابل، ظلّ جزءٌ من اليهود المغاربيين أوفياء لأرضهم، رافضين التجنيس والانفصال عن محيطهم. شارك بعضهم في حركات التحرر الوطني، خاصة في الجزائر حيث سُجِّل انخراط يهود وطنيين في صفوف جبهة التحرير الوطني، مؤكدين أن الانتماء للأرض أسمى من الإغراءات الاستعمارية.
من التجنيس إلى التهجير:
مع استقلال دول المغرب العربي، برزت نتيجة أخرى لتلك السياسة الاستعمارية: تهجير جماعي ليهودٍ فقدوا الانتماءين معًا — ففرنسا لم تعد تعتبرهم فرنسيين كاملي الحقوق، والدول المغاربية رأت فيهم بقايا سياسة استعمارية مشبوهة.
وفي هذا السياق، تحوّل كثيرٌ منهم إلى رهائن بين ولاءٍ مفقودٍ للماضي الفرنسي، وارتباطٍ مصطنعٍ بالمشروع الصهيوني الذي استغل هشاشة هويتهم لجرّهم نحو الهجرة إلى فلسطين المحتلة.
من ضحايا التجنيس والتهجير إلى أدوات السيطرة وخدمة فرنسا الإستعمارية إلى اليوم:
إنّ تجربة اليهود في ظل فرنسا الاستعمارية بالمغرب العربي ليست مجرّد فصلٍ ديني أو سوسيولوجي، بل صفحة من صفحات الحرب النفسية والثقافية التي شنّها الاستعمار لتدمير هوية الأمة.
لقد استخدمت فرنسا سياسة التجنيس لا لتكريم اليهود، بل لتجريدهم من هويتهم الدينية والوطنية، وتحويلهم إلى طائفة وظيفية تخدم مصالحها الاستعمارية.
فمن جماعةٍ دينية عاشت قرونًا جنبًا إلى جنب مع المسلمين والعرب والأمازيغ في تفاعل حضاري واحد، تحوّل اليهود بفعل السياسة الفرنسية إلى جسم غريب داخل أوطانهم، مرتبطٍ بالمستعمر أكثر من ارتباطه بالأرض أو بالتراث اليهودي الحقيقي.
وهكذا، خسر اليهود المغاربيون مكانتهم التاريخية الأصيلة، وتحوّلوا في نهاية المطاف إلى أداةٍ سياسية في يد فرنسا الاستعمارية، لا لخدمة أوطانهم ولا لهويتهم الدينية، بل لخدمة المشروع الإمبراطوري الذي اغتالهم ثقافيًا قبل أن يغتال شعوبهم سياسيًا.