عمرو بن العاص والي مصر
يُعد عمرو بن العاص واحدًا من ابرز القادة في التاريخ الإسلامي والعربي ورجلًا جمع بين الذكاء السياسي والبراعة العسكرية
وكان له الدور الأكبر في دخول الإسلام إلى مصر وتحويلها من ولاية بيزنطية إلى ولاية إسلامية لتصبح بعد ذلك
إحدى أهم أركان الدولة الإسلامية الكبرى.
أولًا : نسبه وأصوله العربية
وُلِد عمرو بن العاص بن وائل السهمي في مكة المكرمة قبل الهجرة بنحو خمسين عامًا وينتمي إلى قبيلة قريش
وهي من أعرق القبائل العربية وأعلاها مكانة وكان عمرو قبل الإسلام من رجال قريش البارزين في التجارة والسياسة
وكان معروفًا بدهائه وحكمته وقد سافر إلى الشام مرارًا في رحلات التجارة مما اكسبه معرفة واسعة بجغرافية المنطقة
وشعوبها وهي معرفة كان لها أثر كبير في نجاحه العسكري لاحقًا.
اسلم عمرو بن العاص في العام الثامن للهجرة في نفس العام الذي شهد فتح مكة وكان من الذين دخلوا الإسلام بإيمان صادق
بعد أن تبين لهم صدق دعوة النبي محمد ﷺ ومنذ ذلك الحين أصبح من قادة المسلمين الكبار واشتهر بذكائه الفطري
وقدرته على اتخاذ القرار السريع والحاسم.
ثانيًا: التخطيط لفتح مصر
بعد أن فتح المسلمون الشام في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقدم عمرو بن العاص بطلب إلى الخليفة
بالسماح له بالتوجه إلى مصر وكان يرى ان مصر ذات أهمية استراتيجية واقتصادية كبرى فهي بلد خصيب وغني بالموارد
كما انها مفتاح البحر المتوسط وامتداد طبيعي لبلاد الشام.
في البداية تردد عمر بن الخطاب في الموافقة لحرصه على جنوده ولكن دهاء عمرو وحججه القوية اقنعت الخليفة فوافق
بعد ان كتب له رسالة يجيزه فيها بالتحرك إن لم يتجاوز حدود العريش بعد تلقي الرسالة , وكان عمرو قد انطلق بسرعة ودهاء
قبل وصول الرسالة ، حتى إذا وصلته وهو داخل حدود مصر قال مقولته المشهورة :
“أمضينا في سبيل الله، ولن نتراجع”.
ثالثًا : قيادة الجيش وفتح مصر
قاد عمرو جيش قوامه نحو اربعة آلاف مقاتل ثم امده الخليفة عمر بتعزيزات إضافية حتى بلغ عدد جيشه قرابة اثني عشر الف
بدأ بفتح مدينة الفرما على حدود سيناء ثم تقدم إلى بلبيس حيث واجه جيش الروم بقيادة القائد البيزنطي ارتاباس.
وبعد معارك شديدة انتصر عمرو وتقدم إلى حصن بابليون قرب الفسطاط (القاهرة حاليًا)
وهو الحصن الحصين الذي اعتُبر مفتاح مصر.
استمر الحصار عدة اشهر واظهر عمرو ابن العاص في هذه المعارك صبرًا عظيمًا وحنكة عسكرية إذ استخدم أسلوب المناورة
والمفاوضة مع القادة البيزنطيين حتى استطاع دخول الحصن سنة 641م ثم تحرك عمرو بن العاص شمالًا نحو الإسكندرية
في حملة عسكرية كبيرة وكانت المدينة محصنة باسوار مزدوجة وبحر من جهة الغرب والبحر المتوسط شمالًا.
استمر القتال عدة أشهر حتى تم فتح الإسكندرية
وبذلك تم فتح مصر كاملة لأن الإسكندرية كانت آخر معقل للروم ودخلها المسلمون دون تدمير او انتقام فحافظوا على حياة الناس
وممتلكاتهم , وهو ما جعل المصريين يرحبون بالحكم الجديد بعد ان عانوا من ظلم الروم والضرائب القاسية والاضطهاد.
رابعًا : توليه ولاية مصر
بعد الفتح عين الخليفة عمر بن الخطاب عمرو بن العاص واليًا على مصر فبدأ مرحلة جديدة من حياته هي مرحلة البناء والإدارة
أظهر عمرو براعة في تنظيم شؤون البلاد فأسس نظام إداري محكمًا حافظ على استقرار مصر ومن أبرز إنجازاته :
تأسيس مدينة الفسطاط :
اختار موقعًا استراتيجيًا على الضفة الشرقية للنيل ليبني فيه عاصمته الجديدة وسُمّيت بالفسطاط لأنها نشأت حول خيمته التي نُصبت هناك واصبحت الفسطاط اول عاصمة إسلامية في إفريقيا ومنها انطلقت الحملات إلى شمال إفريقيا والأندلس لاحقًا.
تنظيم الخراج والضرائب بعدل :
وضع نظامًا اقتصاديًا لا يرهق المصريين وحافظ على حقوقهم فازدهرت الزراعة والتجارة.
حماية أهل الذمة (المسيحيين الأقباط) :
احترم عمرو ديانتهم وكنائسهم وسمح لهم بممارسة شعائرهم بحرية مما جعلهم يشعرون بالأمان بعد قرون من الاضطهاد الروماني.
بناء الجيوش والأسطول المصري :
بدأ نواة قوة بحرية إسلامية في البحر المتوسط لحماية سواحل مصر من الروم.
خامسًا : صفاته وذكاؤه
اشتهر عمرو بن العاص بـالدهاء السياسي والذكاء الفطري حتى قال عنه عمر بن الخطاب :
"ما ينبغي لأبي عبدالله ان يمشي على الأرض إلا اميرًا."
وكان سريع البديهة واسع الحيلة دقيق الملاحظة جمع بين الشجاعة العسكرية والحكمة الإدارية وكان رجل دولة بكل معنى الكلمة
كما تميز بعلاقته الطيبة مع اهل مصر إذ كان متواضعًا قريبًا من الناس ويفصل في المظالم بالعدل والرحمة.
ترك عمرو بن العاص ارثًا عظيمًا في التاريخ الإسلامي فقد ادخل مصر إلى دائرة الحضارة الإسلامية وجعلها منارة علم
وثقافة وجيشًا قويًا وظل اسمه يُذكر باعتباره مؤسس مصر الإسلامية ورائد الإدارة العادلة ورمزًا للذكاء العربي الفذ.
في الختام
سيرة عمرو بن العاص والي مصر تمثل نموذج رائع للقائد العربي المسلم الذي جمع بين الإيمان والذكاء والسياسة والعسكرية
كان رجلًا عربياً مسلماً من طراز فريد دخل مصر فاتحًا لا غازيًا وبنى فيها دولة لا مستعمرة وارسى فيها أسس العدل والإصلاح
وبفضل حكمته وحنكته اصبحت مصر بعده ركيزة في العالم الإسلامي ومركز إشعاع حضاري استمر اثره حتى اليوم.




