اغتيال كريم بلقاسم

الحاج سليمان 

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
5 سبتمبر 2007
المشاركات
7,692
التفاعل
21,150 288 38
الدولة
Algeria
IMG_0992.jpeg


اغتيال كريم بلقاسم، من الفاعل؟

لا أخفي عليكم أن اغتيال كريم بلقاسم قضية قد أثارت فضولي منذ فترة بعيدة جدا، فمن جهة كان عمي رحمة الله عليه، يكلمني كثيرا عن هذا الرجل، الذي التحق بجبال الجرجرة سنين قبل اندلاع الثورة، ليبدأ التحضير لحرب، ستنهي 132 سنة من الاستعمار الغاشم، كما كان كثير الكلام على صديقه كريم بلقاسم ذلك السياسي المحنك والخطيب المفوه، والزعيم الثوري الذي لا يشق له غبار، ولعل أكثر أحاديثه وهو يتجرع مرارة الواقعة، حين كان يكلمني عن ظروف هروبه للخارج، ليعيش فارا متنقلا بين الدول، وكيف تمكن منه الأعداء فاغتالوه بطريقة مشينة، ليموت موتة لا تليق برجل مثله. نعم أقولها علنا ولا أخفيها، كان عمي رحمة الله عليه، صديقا مقربا من كريم بلقاسم أثناء الثورة، لكن الاستقلال فرق بينهما، ففي الوقت الذي ترك فيه كريم بلقاسم المجموعة، ليشق طريقه بمفرده، التحق عمي بمجموعة وجدة، واختار بن بلة صديقه القديم من أيام النضال في الكشافة الإسلامية الجزائرية وحزب الشعب، على البقاء وفيا للرجل الذي اشتغل معه لسنين طويلة في وزارة القوات المسلحة، ثم الداخلية، فوزارة الخارجية قبل الاستقلال بمدة وجيزة.
أثناء زياراتي المتكررة والمستمرة لعمي خصوصا خلال فترة مرضه التي سبقت وفاته بمدة، كنت أمضي معه ساعات طوال في الحديث عن كل شيء يتعلق بالجزائر، انطلاقا من حزب الشعب الجزائري، مرورا بثورة التحرير، ووصولا لمرحلة الاستقلال، التي فرقت بين الإخوة لتجعلهم أعداء، لم يتوانوا في ضرب بعضهم البعض تحت الحزام، ذلك الكم الهائل من المعلومات التي حصلتها من خلال احتكاكي بعمي رحمة الله عليه، أثارت فضولي ودفعتني دفعا للبحث في قضية اغتيال رئيس وفد جبهة التحرير الوطني خلال مفاوضات إيفيان، وأحد أقوى قادة الثورة، وأحد أكبر زعمائها، ليبدأ سؤال واحد يطرح نفسه علي باستمرار وهو:
معلوم ان الرئيس بومدين كان ينبذ العنف والقتل، والدليل على ذلك هو عفوه على الذين أطلقوا عليه النار فيما هو معروف بمؤامرة قصر الحكومة أو مؤامرة أبريل 1968، كما تطابقت الكثير من المصادر عندي على أنه كان رجلا لا يلجئ لاستعمال القوة إلا عند الضرورة الشديدة، فهل من الممكن أن يكون بومدين هو من أمر بتصفية كريم بلقاسم، كما هو مروج له؟ ثم لماذا ضمن ذلك العدد الهائل من المعارضين الذين انشقوا عنه وهربوا للعيش في الخارج مثل: أحمد محساس، البشير بومعزة، محمد لبجاوي، وغيرهم، لماذا لم تتم تصفية إلا ثلاث عناصر اثنان في فترة حكم الرئيس بومدين وهما: محمد خيضر عام 1967، ثم كريم بلقاسم عام 1970، وعنصر واحد فقط لا غير خلال فترة حكم الرئيس الشاذلي هو علي مسيلي رحمهم الله جميعا؟ بينما كان بإمكان قاصدي مرباح تصفية جميع المعارضين جملة واحدة؟ كل هذه الأسئلة دفعتني لإجراء بحث معمق وطويل على مدار 5 سنوات ونصف، لم أترك خلالها أي شخص له علاقة بالموضوع إلا واتصلت به طالبا شهادته، فمنهم من تهرب وقطع الاتصال منذ أول لقاء، ومنهم من كان سخيا في شهادته مثل المجاهد الطاهر تينويلين، بينما تحفظت الأغلبية، مما صعب من عملي وجعله شبه مستحيل التحقيق.
كدت أن أتوقف نهائيا عن البحث في الموضوع بسبب شح المعلومة، وتهرب الفاعلين عن تقديم شهاداتهم حتى التقيت صدفة بالعقيد قاصدي مرباح الذي كان حينها قد ترك السلطة، وأسس حزبا سياسيا معارضا، أثناء اللقاء الذي جمعني به، أعجب قاصدي مرباح باقدامي ورغبتي الجامحة في البحث، فأكد لي ثلاث نقاط أساسية:
أولها: أن الرئيس بومدين، والنظام ككل بريء من دم كريم بلقاسم.
ثانيا: أن كريم زج به في قضية كبيرة جدا كان الهدف منها ضرب الاستقرار والأمن الوطني في صميمه.
ثالثا: أن الرئيس بومدين كلف رئيس المكتب المركزي للتعاون الدولي برئاسة الجمهورية النقيب (ب ب) بمهمة الاتصال بكل المعارضين في الخارج وعلى رأسهم كريم بلقاسم، ليعرض عليهم اختيار واحد من اثنان: العودة للجزائر والعيش بشرف، وفق الشروط التي يتم تحديدها بين الطرفين، ثانيا: البقاء في الخارج مع التكفل بهم ماديا فإذا احتاجوا أي مساعدة مالية فالجزائر أولى بتقديمها لهم، وكان الهدف من ذلك حمايتهم من أي ابتزاز أو اغراء مالي تقدمه أجهزة المخابرات الأجنبية.
لقد فتح لي قاصدي مرباح بابا وضعني في مركز القضية، مما شجعني على الاتصال بذلك الضابط الذي كان قمة في التربية والثقافة والآدب، ليقص علي العقيد (ب ب) حيثيات القضية، ويقدم لي البراهين الساحقة الماحقة، على أن المخابرات الإسرائيلية هي من تقف خلف عملية اغتيال كريم بلقاسم.
فبالمختصر المفيد، بعد حرب الستة أيام عام 1967، قدم الرئيس هواري بومدين دعما ماليا لكل من مصر وسوريا قدر حينها بـ200 مليون دولار، يمثل هذا الغلاف المالي، ميزانية الجزائر المخصصة لتمويل مشاريع المخطط الرباعي الأول 1967-1970، بفضل ذلك المال اعادت مصر وسوريا بناء قواتها المسلحة التي دمرت خلال حرب 67، كما أشرف الرئيس بومدين بنفسه على المفاوضات مع قيادة الاتحاد السوفيتي، لتمرير صفقات شراء الأسلحة لصالح الجيشين المصري والسوري، ثم أرسل حوالي 14 طائرة حربية التي كانت تمثل حينها القوة الجوية الجزائرية فأهداها لمصر لمساعدتها على إعادة بناء سلاحها الجوي الذي دمر 90 % منه خلال تلك الحرب.
كل هذه المعطيات، جعلت من الرئيس بومدين شخصية سياسية عربية يجب التخلص منها سريعا، لأنه أصبح يهدد الأمن القومي الإسرائيلي، فوضع اسمه (أي اسم الرئيس بومدين) في قائمة الشخصيات العربية الواجب تصفيتها ضمن عملية القيثارة الهادئة.
خلال الفترة الممتدة بين عام 1967 إلى 1970، تعرض الرئيس بومدين لمحاولة انقلابية فاشلة عرفت بحركة 14 ديسمبر 1967، التي كان على رأسها العقيد الطاهر الزبيري، ثم محاولة اغتياله باستعمال الرصاص الحي عند خروجه من اجتماع مجلس الوزراء بقصر الحكومة بتاريخ 25 أبريل 1968، ليتم اكتشاف في نهاية عام 1968 عملية خطيرة جدا كان الهدف منها اسقاط الرئيس بومدين من خلال انقلاب عسكري دموي، ليُحَالَ جميع المتهمين ضمن هذه القضية أمام المحكمة الثورية بوهران في شهر أبريل عام 1969، ويصدر حكما بالإعدام في حق كريم بلقاسم.
كان من بين المتهمين الرئيسيين في هذه القضية (قضية التخطيط لقلب نظام الحكم عام 1969) شخص عرفته عن قرب، وكنت كثير التردد على بيته هو المجاهد (ب ح ح) الذي قص علي بالتدقيق، كيف اتصل كريم بلقاسم سرا بالمسمى (ب ت م) عن طريق صديق مشترك بينهما هو المجاهد (ح ل)، ليبلغه أن كريم يريد منه ان يوفد له على جناح السرعة، شخصية موثوق فيها لأمر مهم جدا؛ اتصل (ب ت م) بـ (ب ح ح) وطلب منه زيارته في بيته بمدينة مستغانم لأمر مهم ومستعجل، فما كان من (ب ح ح ) إلا ان انتقل من وهران نحو مستغانم للقاء (ب ت م).
خلال لقائهما أبلغ (ب ت م) صديقه ورجل ثقته (ب ح ح) أن كريم بلقاسم طلب منه زيارته في باريس، أو ايفاد له شخصية موثوق فيها لأمر مهم، وبما ان الأول (أي ب ت م) كان مراقب من طرف الأمن العسكري، اتفق الاثنان على أن يسافر (ب ح ح) لباريس قصد استطلاع الأمر، على أن يؤخر قضية سفره لفرنسا مدة أسبوع عن الأقل حتى لا تربط أجهزة الأمن، بين اللقاء الذي تم بين الرجلين، و سفره السريع نحو فرنسا.
كان المرحوم (ب ح ح) صديقا مقربا من السياسي السويسري جون زيغلر، فحتى لا يثير انتباه أجهزة الأمن، انتقل أولا نحو سويسرا قصد زيارة صديقه السالف الذكر، ثمن من سويسرا توجه سرا وبجواز سفر مزور، نحو العاصمة الفرنسية باريس، للقاء كريم بلقاسم الذي كان مرفوقا بسليمان عميرات، ومحفوظ عبدو.

يتبع
 
IMG_0993.jpeg



اغتيال كريم بلقاسم، من الفاعل؟
الجزء الثاني
أثناء ذلك اللقاء أبلغ كريم بلقاسم زائره (ب ح ح) أنه بصدد التحضير لحركة عسكرية، ستطيح بنظام الرئيس بومدين، هدفها الأساسي إعادة بناء الجمهورية على أسس ديمقراطية، ليضيف أن الحركة الديمقراطية من أجل التجديد الجزائري (MDRA) قد تحصلت على وشك الحصول على دعم من جهات لم يحددها، هذا الدعم سيفور الأسلحة والأموال لقلب نظام الحكم، والمطلوب من (ب ت م) أن يأمر كل أتباعه، في جميع أنحاء الجزائر، التنسيق مع جماعة كريم بلقاسم، لحمل السلاح في الوقت التي سيتفقون عليه، لقلب نظام الحكم بالقوة (1).
هذا الكلام أثار حفيظة (ب ح ح)، الذي اكتفى بالقول انه سيبلغ الرسالة كاملة لصديقه (ب ت م)، وتوجه نحو سويسرا ومنها عاد للجزائر، ليتم القبض عليه لحظة وصوله لمطار العاصمة، ومن المطار اقتيد مباشرة نحو إحدى ثكنات الأمن العسكري (2).
يقول المرحوم (ب ح ح) أنه: لم يتعرض لأي تعذيب جسدي، بل وضع في زنزانة لمدة أسبوع، ثم أخرج ليجد أمامه ضابط أمن يعرفه غير معرفة أثناء ثورة التحرير، هو النقيب (ن د ز)، الذي اخذ يتلوا ما جاء في تقرير وضعه أمامه، ذكر حيثيات القضية بالتفصيل، ومما جاء في كلام الضابط السالف الذكر: أن محفوظ عبادو بناء على توجيهات من كريم بلقاسم اتصل بالمجاهد (ح ل)، وطلب منه ربط الاتصال بــ (ب ت م) لتحديد معه موعدا في العاصمة باريس، فما كان من المجاهد (ح ل) إلا أن اتصل بقاصدي مرباح وأبلغه بالأمر، فكان رد مرباح أن ينفذ ما طلبه منه محفوظ عبادو، بدون أي تردد، وتحت مسئوليته الشخصية، حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، مما يعني أن تحركات (ب ت م) و (ب ح ح) كانت مرصودة منذ البداية، وأن أجهزة الأمن العسكري علمت بالمؤامرة، لتبدأ في عميلة اختراقها وافشالها (3).
أضاف النقيب (ن د ز) أن مكتب الأمن العسكري في سويسرا، تابع تنقلات (ب ح ح) منذ وصول لمدينة جنيف، ثم انتقاله بجواز سفر مزور نحو العاصمة الفرنسية باريس، كما تتبعوه في باريس أثناء تنقله للقاء كريم بلقاسم في مطعم ملك لأحد أنصار كريم في فرنسا يقع في (le 16éme arrondissement)، وقدمه له مجموعة من الصور حتى يبين له صحة ما يقول، ثم طلب منه من باب الزمالة التي جمعتها خلال ثورة التحرير، أن يقدم له تقريرا مكتوبا فيها تفاصيل اللقاء الذي جمعه بكريم بلقاسم، ليقدم له قلم ودفتر ثم يتركه ليعاد للزنزانة التي كان فيها (4).
كتب (ب ح ح) كل ما دار بينه وبين كريم بلقاسم وسليمان عميرات، ومحفوظ عبادو في الدفتر الذي سلم له، وفي اليوم الموالي عاد النقيب (ن د ز) ليأخذ اقوال (ب ح ح)، ثم ابلغه أن الرئيس بومدين قرر الافراج عنه فورا، شريطة التكتم التام على كل ما حدث (5).
عند خروجه من الثكنة التي كان محتجزا فيها لمدة 8 أيام، وجد (ب ح ح) في انتظاره سيارة كان على متنها اثنان من معارفه، قادوه مباشرة للقاء صديقه (ب ت م) في مستغانم، الذي أبلغه أن السلطات على علم بكل ما حدث، وأنهما قد حشرا في قضية خطيرة جدا، تتعلق بقلب نظام الحكم فالمطلوب، قطع كل اتصال بكريم بلقاسم، ورد مرسليه بلطف إذا أعاد الاتصال بهما (6).
ينبغي الإشارة هنا، أن كريم بلقاسم قام بتاريخ 18 أكتوبر 1967 بتأسيس الحركة الديمقراطية من أجل التجديد الجزائري (Mouvement démocratique pour le renouveau algérien) المعروف اختصارا باسم (MDRA) (7)، وكان من بين أهم أهدافها:
1- قلب نظام حكم العقيد هواري بومدين.
2- وضع أسس دولة ديمقراطية.
3- احترام الحريات الفردية والجماعية.
4- اعتماد نظام التعددية الحزبية، وانهاء هيمنة الحزب الواحد.
لتحقيق هدفه، دخل كريم بلقاسم في اتصالات مع جميع المعارضين السياسيين الجزائريين الموجودون في أوروبا، باستثناء جبهة القوى الاشتراكية التي كان على رأسها الحسين آيت أحمد، بسبب الخلافات الشديدة بين الرجلين، وتناقض وجهات النظر بينهما. ونظرا لأن كريم بلقاسم لم يكن مؤمنا بفعالية العمل السياسي وحده للقضاء على حكم الرئيس بومدين، أصر على ضرورة تكوين جناح مسلح، يتولى مهمة اسقاط النظام بالقوة، لأن نظام الرئيس بومدين لن يسقط إلا بالقوة (08).
خلال حركة 14 ديسمبر 1967، تأكد بعض المصادر أن مجموعة العقيد الطاهر الزبيري (9)، اتصلت سرا بجماعة كريم بلقاسم، عن طريق صهر هذا الأخير، لتعرض عليه الالتحاق بها، من أجل إعادة الأمور إلى نصابها، بعد سقوط نظام العقيد هواري بومدين، إلا أن الانقلاب فشل، وهرب العقيد الطاهر الزبيري نحو تونس ثم انتقل لفرنسا، قبل أن يستقر نهائيا في المغرب (10).
خلال الفترة الوجيزة التي فصلت بين فشل حركة 14 ديسمبر 1967، وشهر جانفي من عام 1968، أشرف كريم بلقاسم بنفسه على تدريب مجموعة صغيرة من الأوفياء، كلفهم بالدخول للجزائر، لتكوين خلية مهمتها تصفية كبار القادة الجزائريين، لتكون أول عملية تقوم بها هذه الخلية في 23 جانفي 1968، حين استهدفت موكب المنسق الوطني لجهاز الحزب قايد أحمد، في العاصمة ومرة ثانية في تيزي وزو، أين كان متجها لإجراء اجتماع حزبي، بعد فشل العملية، وصلت معلومات مؤكدة لمصالح الأمن العسكري، مفادها ان مجموعة مشبوهة تتخذ من حانة اسمها (Bar Alicante) الواقعة بشارع الإخوة بناصر (Ex Rue Levachet)، انتقل رجال الأمن العسكري بسرعة البرق للمكان المطلوب، أين تمكنوا بعد ملاحقة طويلة عبر شوارع الجزائر الوسطى من القاء القبض على كل من :
1- سايجي مولود.
2- أومقران مولود.
3- جوادي أحسن.
سايجي مولود كان يحمل معه مسدس محشو بعيارات نارية حية، هي نفسها التي استعملت في إطلاق النار على موكب قايد احمد، فلم يكن أمام المقبوض عليهم من سبيل سوى الاعتراف بجريمتهم، والكشف عن الشبكة التي كونها كريم بلقاسم وأهدافها ومخططاتها كاملة (11).
في الوقت الذي أودع فيه المتهمين الثلاثة للسجن العسكري، بدأت جماعة ثانية تخطط لاغتيال الرئيس بومدين، هي جماعة الرائد علي ملاح، مساعد العقيد الطاهر الزبيري، وأحد المهندسين الرئيسيين لحركة 14 ديسمبر 1967، الذي ضل هاربا في الجزائر العاصمة، بنية اغتيال الرئيس بومدين، ليتمكن بتاريخ 25 أبريل 1968، من تنفيذ عملية نجا منها الرئيس بومدين بأعجوبة، إثر تعرضه لوابل من الرصاص أطلقه عليه اثنان من أعوان الأمن المكلفين بحراسة مدخل قصر الحكومة، حيث توجه الرئيس بومدين لحضور اجتماع لمجلس الحكومة، إلا أن أحد العنصرين وقع له خلل في سلاحه فلم يمكن من اطلاق النار، بينما أفرغ عون الأمن الثاني كل ذخيرته في اتجاه الرئيس بومدين، الذي أصيب ببعض الجروح، لأن سائقه الشخصي أمسكه وسحبه بكل قواه نحو اسفل السيارة، مما انجاه من موت أكيد (12).
يتبع.
ملاحظة: سأنشر كل المصادر عند نهاية الملف
.
 
اغتيال كريم بلقاسم، من الفاعل؟
الجزء الثالث
بداية حرب سرية بين الجزائر وإسرائيل

لم يحمل الرئيس بومدين مسئولية ما حدث لأجهزة الأمن، لأن الخطأ في الأصل هو خطأ ارتكبه هو بنفسه، فالذي حدث بالضبط، أن النقيب قاصدي مرباح بعد حركة 14 ديسمبر 1967، تقدم لمكتب الرئيس بومدين ليبلغه، أن مصالحه تتوفر على معلومات أكيدة وسرية للغاية، مفادها أن أجهزة الأمن الإسرائيلية، بدأت تتحرك لفعل شيئا ما في الجزائر كرد فعل طبيعي على موقف الرئيس بومدين خلال حرب الستة أيام، الذي رفض الاستسلام، وطالب الدول العربية جميعها بمواصلة الحرب ضد العدو الإسرائيلي، كما كان أول رئيس عربي ينتقل للاتحاد السوفيتي، ليطلب من القادة السوفييت تموين الجيشين المصري والسوري بما فقدوه من أسلحة، واضعا صكا بـ 200 مليون دولار لتغطية نفقات الصفقة، وأيضا لسحب البساط من تحت أقدام القيادة السوفيتية، ودحر كل حجة يحاول الاتحاد السوفيتي استعمالها، للبقاء بعيدا عن الصراع العربي الإسرائيلي (1).
خلال ذلك الاجتماع، أبلغ النقيب قاصدي مرباح، الرئيس هواري بومدين، أن تنقلاته بدون حراسة حقيقية يمكن أن تفتح مجالا يستغل لاغتياله، كما أن تنقله لقصر الحكومة لحضور اجتماعات مجلس الحكومة، شيء غير منطقي، لأن البروتوكول يقتضي أن يأتي الوزراء لمقر رئاسة مجلس الوزراء (رئاسة الجمهورية حاليا) لحضور اجتماع مجلس الحكومة، وليس العكس، إلا أن الرئيس بومدين لم يكترث لما قاله النقيب مرباح، وأكمل تنقلاته تماما كما كانت، فكان يركب في مقدمة سيارته قرب السائق، يصطحب أحيانا شخصا واحدا من كبار مسئولي الدولة معه، بينما تتبعه سيارة واحدة فقط فيها أربعة حراس مسلحين تسير على مسافة معقولة من السيارة التي يستقلها الرئيس (2).
بعد فشل محاولة الاغتيال، وجه الرئيس بومدين تعليمة لمصالح الأمن الربعة (3)، حث فيها الجميع على بذل قصارى جهدهم، لحماية الجزائر وشعبها ومؤسساتها من أي محاولة للاختراق، كما أشار إلى ضرورة توسيع دائرة العمل، لتشمل تحركات المعارضين في الخارج، لأن تلك المعارضة هي الحلقة الضعيفة الوحيدة التي يمكن للاستخبارات الغربية أن تخترقها، وتحولها لغرفة عمليات خلفية، لضرب الجزائر (4).
أخذت الأمور تتجه نحو الهدوء التدريجي، لغاية منتصف ليل 23 جويلية 1968، ففي ذلك التوقيت أقلعت طائرة إسرائيلية من نوع بووينغ 707، تابع للشركة الإسرائيلية للطيران العال (EL AL)، كانت متجهة من مطار ليناردو دافنتشي قرب العاصمة الإيطالية روما، نحو مدينة اللد في إسرائيل، على متنها 38 راكبا وطاقم قيادة الطائرة المتكون من 10 عناصر. بعد إقلاع الطائرة المذكورة بأقل من نصف ساعة، قامت ثلاث عناصر فدائية، تابعن للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بالاستيلاء على قمرة القيادة، وأرغموا قائد الطائرة على إبلاغ مركز المراقبة الجوية في روما، أن الرحلة الجوية رقم 426، قد تم تحويلها من طرف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين نحو العاصمة الجزائرية (5).
أبلغت السلطات الإيطالية الخارجية الجزائرية بأن طائرة إسرائيلية تم تحويلها من طرف مجموعة فدائية فلسطينية، وهي متجهة نحو مطار الدار البيضاء، فأوفد الرئيس بومدين فور بلوغه الخبر كلا من وزير النقل رابح بيطاط، ومدير الأمن العسكري النقيب قاصدي مرباح، المدير العام للأمن الوطني أحمد دراية، للإشراف على العملية، وربط الاتصال بالفاعلين قصد الاستفسار عن طلباتهم، وأكد على ضرورة ضمان سلامة الركاب إسرائيليين أو غير إسرائيليين (6).
وصل خبر تحويل الطائرة الإسرائيلية لمركز العمليات الجوية في إسرائيل، في حدود الساعة الثانية صبحا ليتم إيقاظ كل من الرئيس المدير العام لشركة الطيران (العال) مردخاي بن عاري، ووزير النقل موشيه كارمال اللذين انتقلا على جناح السرعة لمطار بن غريون الدولي، قصد متابعة تطورات القضية، ليلتحق بهما وزير الدفاع موشيه ديان وقائد سلاح الجو الحربي الإسرائيلي الجنرال مردخاي هود صبيحة نفس اليوم، وكونوا خلية أزمة لمتابعة تطورات القضية (7). ليجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي في جلسة طارئة مساء نفس اليوم بحضور الرئيس المدير العام لشركة (العال).
خلال اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي، اتخذت الحكومة الإسرائيلية جملة من القرارات منها:
1- كلفت السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة بتقديم طلب لدى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، تطالب فيه بضرورة التحرك الفوري، لاستعادة الطائرة الإسرائيلية المحتجزة في الجزائر، مع كافة ركابها وطاقمها، مع ضمان سلامتهم جميعا.
2- وجهت الحكومة الإسرائيلية شكوى لدى منظمة الملاحة المدنية الدولية ضد الجزائر.
3- حركت اللوبيات الاسرائيلية داخل النقابة العالمية لقادة الطائرات المدنية، لمقاطعة الخطوط الجوية الجزائرية لمدة 3 أيام، لأن الحكومة الجزائرية متعاونة مع الخاطفين.
رغم الضغط الرهيب الذي تعرضت له السلطات الجزائرية، من طرف الكثير من القوى الغربية، قام الرئيس بومدين، عن طريق خلية الأزمة التي شكلها، بالدخول في مفاوضات مع المجموعة التي خطفت الطائرة، وأقنعهم بالسماح لطاقم طبي بالصعود للطائرة قصد التأكد من أن جميع الركاب على أحسن حال، ولم يتعرضوا للتعنيف، فكان تقرير الفريق الطبي الجزائري أن هناك حالة عنف واحدة فقط تعرض لها نائب قائد الطائرة، حين دخل أحد الفدائيين لقمرة القيادة، وأبلغ الطاقم أنهم قد استولوا على الطائرة، والمطلوب منهم الامتثال للأوامر حتى لا يقع أي عنف، قام نائب القائد ماوز فيريز بمحاولة لخطف المسدس من يد الفدائي الفلسطيني، إلا أن هذا الأخير كان أسرع منه فوجه له ضربة قوية بمقبض المسدس على مستوى الرأس فصرعه، إلا أن الجرح كان طفيفا جدا بينما باقي الركاب في صحة جيدة، ولم يتعرضوا لأي نوع من أنواع العنف (08).
بعد التأكد من سلامة جميع الركاب، طلبت خلية الأزمة من الفدائيين السماح لعنصرين من عناصر الأمن العسكري الجزائري غير مسلحين، بالصعود للطائرة قصد التأكد من هوية جميع الركاب، ليقوم عناصر الأمن العسكري بضبط قائمة بأسماء وجنسيات جميع الركاب، فكان تقريرهم كالتالي:
1- عدد ركاب الطائرة 38 شخص.
2- عدد الإسرائيليين 15 مسافرا يضاف إليهم طاقم الطائرة المتكون من 10 عناصر.
3- عدد الركاب من جنسيات أخرى 23 راكب، من بينهم 5 رهبان مسيحيين كانوا متجهين لزيارة الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين.
طلب الرئيس بومدين من خلية الأزمة، أن تطالب بتحرير الرهائن غير الاسرائيليين، لأنهم غير معنيين بالخلاف الفلسطيني الإسرائيلي، فتم للجزائر ذلك، لتتكفل الخطوط الجوية الجزائرية بعملية نقلهم نحو العاصمة الفرنسية باريس (9).
بعد مفاوضات عسيرة دامت أربعة أيام، تمكنت خلية الأزمة من الاتفاق مع الفدائيين الفلسطينيين على تحرير النساء والأطفال الإسرائيليين، الذي كان عددهم عشرة (10)، لتتكفل بهم الخطوط الجوية السويسرية التي نقلتهم نحو مطار زوريخ بتاريخ 28 جويلية 1968 (11)، ومن مطار زوريخ توجه النساء والأطفال إلى مطار بن غريون في إسرائيل، أين استقبلتهم السلطات الإسرائيلية بحفاوة كبيرة.
بعد أن برهنت المجموعة الفدائية عن حسن نواياها، من خلال إفراجها عن أكثر من ثلثي الركاب، بدون شروط مسبقة، بقي عندها 12 أسيرا (12)، فعقد الفدائيون ندوة صحفية اشترطوا من خلالها على إسرائيل، الإفراج عن مجموعة من المعتقلين الفلسطينيين التابعيين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (13).
في البداية، رفضت السلطات الإسرائيلية الاستجابة لمطلب الفدائيين، واعتبرت الجزائر مشاركة في تلك العملية، لأن للرئيس بومدين علاقات طيبة جدا بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما أنها لم تتعامل بالحزم المطلوب مع الفدائيين (14).
نظرا لأنها أول عملية اختطاف طائرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، بما أنها جاءت بعد عام واحد على تاريخ حرب 06 جوان 1967، أعادت الحكومة الإسرائيلية النظر في موقفها، لتقرر الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع الحكومة الجزائرية، لحل الاشكال والافراج عن الرهائن الباقين واستعادة الطائرة المحتجزة (15)، لتدخل الحكومتان في مفاوضات غير مباشرة، عن طريق وسائط فرنسية إيطالية وأمريكية.
لم تستسلم الجزائر لا للإغراءات ولا للتهديدات، واعتبرت أنها تقوم بعمل انساني، وضعت فيه مجبرة ولا يد لها فيها، فمن جهة رفضت تسليم الفدائيين الفلسطينيين، لأنهم يجاهدون في سبيل تحرير بلادهم، وحتى تلك اللحظة لم يرتكبوا أي عمل اجرامي، لا ضد الأشخاص ولا ضد الطائرة المحتجزة.
استمرت المفاوضات بين إسرائيل والجزائر لمدة 39 يوما، لتنتهي بقبول إسرائيل تحرير 24 فلسطينيا كانوا أعضاء في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مقابل استرجاع الطائرة وباقي المحتجزين لدى الفدائيين (16).
في الفاتح من سبتمبر عام 1968، أقلعت طائرة سويسرية من مطار الدار البيضاء بالجزائر العاصمة، وعلى متنها 12 إسرائيليا تم تحريرهم من قبل الفدائيين الفلسطينيين، في صفقة تبادل للأسرى تحت إشراف جزائري، لتكون الجزائر أول دولة ترغم إسرائيل على الافراج عن 24 معتقلا فلسطينيا، مما أثار استياء الحكومة الإسرائيلية، التي اعتبرت الجزائر دولة خطيرة على أمنها، واعتبرت الرئيس بومدين زعيما عربيا يجب التخلص منه مهما كان الثمن.
يتبع
الهوامش:
1- راجع التقارير الإسرائيلية حول الدور الجزائري في إعادة بناء القوات المسلحة المصرية والسورية، أو كتاب "إسرائيل والمغرب العربي منذ البادية لغاية أوسلو" صفحة 241.
2- راجع شهادة قاصدي مرباح في وثائقي "على أثر الرئيس بومدين"، إنتاج المؤسسة الوطنية للتلفزيون.
3- كان الرئيس بومدين يرتكز على أربعة أجهزة أمن هي: الأمن العسكري، الدرك الوطني، المديرية العامة للأمن الوطني، وكانت له خلية أمن خاص على مستوى رئاسة مجلس الوزراء يشرف عليها بنفسه ومكلفة بالمهام الخاصة.
4- مصدر خاص.
5- راجع الصحافة الوطنية والدولية الصادرة بتاريخ 24 جويلية 1968.
6- راجع جريدة يديعوت أحرنوت (آخر الأخبار) الصادرة بتاريخ 28 جويلية 1968، نسخة من المقال مرفقة بالمنشور.
7- منشور إسرائيلي في الموضوع منشور بتاريخ 12 سبتمبر 2024.
8- نفس المصدر السابق.
9- مصدر خاص.
10- كان على متن الطائرة حسب التقرير الجزائري 7 نساء و3 أطفال هم: السيدة توفا بيتال رفقة أطفالها الثلاثة، صارا شيمن، ميشال بالي (ممرضة) شايا شيكورين، بالإضافة لثلاث مضيفات وهن: ياهوديت أفنات، نيرا أفنيل وأخيرا إدنا باشراس.
11- تم نقلهم على متن طائرة سويسرية من نوغ بوينغ 720 رقم الرحلة 414، قادمة من زوريخ، وعادة لنفس الوجهة.
12- بقي 12 رهينة: سبعة من طاقم الطائرة و5 رجال كلهم إسرائيليين.
13- الندوة الصحفية كانت بطلب من الفدائيين، وغطتها الصحافة الوطنية والدولية.
14- منشور إسرائيلي في الموضوع.
15- نفس المصدر السابق.
16- راجع جريدة لوموند الفرنسية الصادرة بتاريخ 03 سبتمبر 1968.
 
اغتيال كريم بلقاسم، من الفاعل؟
الجزء الرابع
الجزائر في مركز المخططات الإسرائيلية

إنها حرب ضد إسرائيل وليست ضد اليهود
الرئيس بومدين للنقيب سليمان هوفمان نوفمبر 1965

لم تستسغ الحكومة الإسرائيلية الضربة الموجعة التي تلقتها، حين قام ثلاث عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بتحويل طائرة نقل إسرائيلية عن وجهتها، لتحط في مطار جزائري، فتلك هي أول مرة تتعرض فيها شركة طيران إسرائيلية لعملية قرصنة جوية، أجبرت إسرائيل وهي في عز قوتها، ولم تستيقظ بعد من نشوة انتصارها على العرب في حرب 5 يونية 1967، على تحرير 24 معتقلا فلسطينيا، مقابل استعادة الطائرة المحجوزة، وتحرير اثنا عشر رهينة، كانوا رهن الاعتقال في الجزائر (1).
كان أول رد فعل إسرائيلي على هذه الإهانة، هو تأسيس وحدة أمن الطيران المدني، مع الحاقها بجهاز الشرطة، كما تم في نفس اليوم الذي حرر فيه الرهائن (01 سبتمبر 1968) انهاء مهام مدير جهاز الموساد الإسرائيلي مائير عميت (2)، وتعيين تسفي زمير (3) بدلا عنه.
بالموازاة مع ذلك، فتحت الحكومة الإسرائيلية تحقيقا من شقين، الأول لتحديد ظروف اختطاف الطائرة، وملابسات تحويلها نحو الجزائر، والثاني حول الدور الجزائري في القضية، ليكشف التحقيق أن الفدائيين قدموا من لبنان نحو إيطاليا بجوازات سفر مزورة على أساس أنهم رعايا إيرانيون، ثم اتصلوا بوكالة سفر إيطالية، وقاموا بشراء تذاكر سفر للتوجه نحو إسرائيل، مقدمين لوكالة السفر تأشيرة دخول سياحية (مزورة)، وبما أن الطائرة المتجهة لإسرائيل كانت شبه فارغة (38 مسافر + 10 من طاقم الطائرة) قامت وكالة السفر بالحجز في تلك الرحلة لتستفيد من تخفيض في أسعار التذاكر (4)، ليتم تحويل الطائرة، وارغام إسرائيل على قبول صفقة لتبادل الأسرى.
أما بالنسبة للدور الجزائري، فقد أجمعت التحقيقات الإسرائيلية، على أن الجزائر رغم بعدها الجغرافي عن الشرق الأوسط، إلا أنها إحدى أكثر الدول العربية عداءً، وخطورة على الأمن الإسرائيلي، وقد تجلى ذلك خلال ثورة تحرير الجزائر، ففي جانفي عام 1958، أوفدت الوكالة اليهودية العالمية، اثنان من أعضائها للجزائر، قصد تنظيم عملية تهجير اليهود الجزائريين، الراغبين في الهجرة لإسرائيل، في فبراير 1958، انتقل الموفدان الإسرائيليان نحو مدينة الأغواط، ومنها أرادوا الاتجاه نحو مدينة غرداية أين كانت جالية يهودية متكونة من 3 ألاف شخص تعيش هناك، أظهروا كلهم الرغبة في الهجرة لإسرائيل، إلا أنهم وقعوا في كمين نصبه جيش التحرير، فتم اسرهم، بعد التأكد من هويتهم، ارسل قائد الكتيبة برقية لقائد الولاية الخامسة العقيد هواري بومدين، الذي أمر بوضعهم في مكان آمن، في انتظار الفصل في أمرهم، ثم فتح العقيد هواري بومدين اتصالا سريا بممثلي الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة عن طريق عبد القادر شندرلي ممثل الجزائر في الأمم المتحدة (ضمن ممثلي الجمهورية العربية المتحدة) ليدخل الطرفان في مفاوضات، انتهت بوعد أمريكي أنه إذا سلمت جبهة التحرير الوطني، الرهينتان الاسرائيليتان للقنصلية الأمريكية العامة في الرباط، فإن الولايات المتحدة تعد بمنح ممثلي جبهة التحرير في الأمم المتحدة صفة ملاحظين، إلا أن المخابرات الفرنسية بسبب وشاية، تمكنت من معرفة فحوى الاتفاق بين العقيد هواري بومدين و الولايات المتحدة الأمريكية، ليقوم الجيش الفرنسي بطحن أي تحرك للمجاهدين نحو الحدود المغربية، وحدث أن الكتيبة التي كلفت بنقل الأسيرين الإسرائيليين نحو مدينة وجدة، وقعوا في كمين انتهى بمقتلهم جميعا، بما فيهم الأسيران الاسرائيليان، ثم اتهمت فرنسا جبهة التحرير الوطني، و من خلفها جيش التحرير بتصفية الأسيرين الإسرائيليين، وأعلن ذلك رسميا في إسرائيل، مما أثار اليهود عالميا ضد الجزائر(5).
ثم من خلال مواقف الجزائر المستقلة الذي أظهرت عداء شديد لإسرائيل منذ الأيام الأولى للاستقلال، حين أعلن الرئيس بن بلة في أحد تصريحاته الصحفية: أن الجزائريين لا يعتبرون ثورهم قد انتهت ما لم يتم تحرير فلسطين (6)،وحتى بعد الإطاحة بالرئيس أحمد بن بلة، إثر حركة 19 جوان 1965، لم تغير الجزائر من موقفها اتجاه إسرائيل، بل بالعكس صارت السياسة الجزائرية الخارجية، أكثر صرامة وحدة اتجاه الكيان، ففي نفس السنة 1965، كانت الجزائر خلف عملية التغيير على رأس منظمة التحرير الفلسطينية، ليطرح ياسر عرفات، كبديل لقائد منظمة التحرير الفلسطينية أحمد أسعد الشقيري، ثم جاءت المواقف الجزائرية الصلبة والخطيرة على أمن إسرائيل بعد حرب 6 أيام، حين اشرف الرئيس بومدين بنفسه على عملية المفاوضات مع الاتحاد السوفيتي لإعادة تسليح الجيشين المصري و السوري بأموال جزائرية (7)، ثم جاء تصريح الرئيس بومدين في 31 أكتوبر 1967، الذي دعا فيه الدول العربية لاعتماد سياسة حرب العصابات لإرهاق والقضاء على القدرات القتالية للجيش الإسرائيلي (8)، كما سجل تقرير الموساد الإسرائيلي، العلاقة بين الرئيس بومدين والجالية اليهودية في الجزائر، حيث كان يعتمد في ذلك على أسقف الجزائر الكردينال دوفال (Le Cardinal Duval) (9)، ومن جهة أخرى على أحد اخلص مساعديه النقيب سليمان هوفمان، الذي كان جزائري يهودي (10)، وأشرف بنفسه على ضبط الاتصال بين الجالية اليهودية التي بقيت في الجزائر بعد الاستقلال والرئيس هواري بومدين، الذي كان دائما يكرر للنقيب سليمان هوفمان قائلا: حربنا ضد إسرائيل وليست ضد اليهودي (11).
على ضوء المعطيات التي تقدم بها تيسفي زمير، قررت الحكومة الإسرائيلية، إطلاق يد الموساد لاختراق الجزائر، وتحديد الطريقة المثلى لزعزعة استقرارها (12)، ليطرح ملف ضرب الجزائر في عمقها لأول مرة على أعلى مستويات قيادة الموساد الإسرائيلي، التي رأت أن أفضل طريقة للخروج برؤيا واضحة ومحددة لضرب الجزائر تكمن في القيام بتحقيق معمق للوصول لمزيد من المعلومات، معلومات قد تساعد في فهم النظام الجزائري، و فهم رجال ذلك النظام، نقاط قوتهم، نقاط ضعفهم، كما فتح تحقيق موازي حول المعارضين لنظام الرئيس بومدين، ولم يستثنى منهم أحد، خصوصا وأن أغلبيتهم العظمى تعيش في المنفى، في دول غربية، تستطيع الموساد دخولها والخروج منها دون ان يشكل ذلك خطرا على عملائها، يضاف إلى ذلك أن وجود هؤلاء المعارضين في الخارج، يمنح إمكانية الاتصال بهم، بعيدا عن انظار المخابرات الجزائرية، ويفتح المجال لاختراق الجزائر بطريقة تبقى الاستخبارات الإسرائيلية بعيدة عن أي شكوك (13).
أوكلت مهمة اختراق المعارضة الجزائرية لمصلحة (تصومات) (بالعبري צומת) (14)، التي استفادت كثيرا من الخبرة التي اكتسبتها فرق المسغارات )מסגרת( (15)، أثناء حرب التحرير الجزائرية، لتقوم باستدعاء عدد من الضباط الذين سبق لهم، أن عملوا على الملف الجزائري أثناء الثورة، ضمن فرق المسغارات السالفة الذكر، للعمل مرة أخرى على نفس الملف، وبما أن أغلبية المعارضين للنظام الجزائري كانوا مقيمين في فرنسا والمغرب على وجه الخصوص، تقرر تكليف مكتب الموساد العامل في فرنسا بتلك المهمة.
يتبع
الهوامش :
1- راجع الجزء الثالث من هذه الدراسة، فيه تفاصيل هذه القضية كاملة.
2- مائير عميت: مدير الموساد الإسرائيلي من 1963 إلى 1968، عرفت مرحلة قيادته للموساد بحدوث الكثير من النكسات، انتهت بإقالته بعد تحرير رهائن الطائرة المختطفة عام 1968.
3- تيسفي زمير: مدير الموساد الإسرائيلي من 1968 إلى 1973، في مرحلة قيادته للموساد الإسرائيلي بدأ التخطيط الفعلي لضرب الجزائر.
4- مصدر إسرائيلي متوفر على شبكة الانترنت باللغة العبرية.
5- راجع الجزائر والصور المرفقة بالملف.
6- راجع الجرائد المرفقة.
7- قدرت الهبة الجزائرية لإعادة بناء الجيشين المصري والسوري بــ 200 مليون دولار، راجع تصريحات ياسر عرفات في وثائقي على أثر بومدين انتاج المؤسسة الوطنية للتلفزيون عام 1989.
8- راجع كتاب المغرب العربي وإسرائيل من البداية حتى أوسلو صفحة 241.
9- الكردينال ليون إتيان دوفال : أسقف الجزائر من 1954 إلى 1988، وأحد أقرب المقربين للرئيس بومدين ولصديقه مسعود زغار.
10- سليمان هوفمان: مواطن جزائري، مجاهد وضابط سامي في الجيش الوطني الشعبي، شغل مناصب كثيرة جدا منها والي للجزائر العاصمة من 1970 إلى 1974، ومستشار للرئيس بومدين.
11- راجع كتاب العلاقات الجزائرية الإسرائيلية للكاتب محمد تاملت صفحة 57.
12- نشرت إسرائيل أجزاء من هذا التقرير على الانترنت ثم قامت بسحبه سريعا.
13- ستثبت الأحداث المتلاحقة أن الموساد الإسرائيلي لم يأخذ بالمخابرات الجزائرية مؤخذ الجد، وقد ندموا على ذلك.
14- كلمة (تصومات) بالعبري تعني ملتقى أو مفترق الطرق، وهي مصلحة تابعة لمديرية العمليات بالموساد الإسرائيلي، مهمتها تجنيد والاشراف على العملاء التابعين المخابرات الإسرائيلية. راجع موقع ويكيبيديا.
15- المسغارات : هي وحدات دفاع ذاتي شكلها الموساد الإسرائيلي بين عامي 1952 إلى 1962 للدفاع عن الجاليات اليهودية في كل من المملكة المغربية، الجزائر، وتونس
.
 
عودة
أعلى